الصادق النيهوم - عيد الاضحي والجوع والثورات العربية

عيد للذبح أم عيد للفداء
خليفة الله في الأرض ليس حيواناً اجتماعياً يفسد في الارض ويسفك الدماء لغرض التكاثر , بل هو أنساناً يحمل عقلاً من شأنه أن يكسر الحلقة المفرغة في عالم الغريزة ويخرج بالحياة من دائرة التكرار لهدف التكرار إلى دائرة مفتوحة قابلة للنمو المُطّرد في إتجاه الأفضل.
النيهوم

*

من الميزات التي تفردت بها هذه الأمة التي تنتسب للإسلام والتي ربما تكون قد أسهمت في جعلها خير أمةٍ أُخرجت للناس, هوأنها تفردت عن بقية أمم الأرض بأن جعلت للذبح عيد . صار الذبح والسلخ ومناظر الدماء المسفوكة ملامح ليوم عيدها . فخصصت يوماً كاملاً من أيام عامها الطويل لتجعله يوماً للدماء والقتل تدفع فيه تلك المخلوقات البرئيه ضريبة الأثام والسيئات المُتراكمة للمؤمنين الّذين يؤمنون بأنه لاشيء يطفئ غضب إله السموات والأرض إلا دماء تلك الخراف البريئه, صار التوحش وسفك الدماء شِرعة ومنسك مقدس لهذه الأمة تتقرب به إلى هذا الإله وتفعله على مرآى من أطفالها لتغرس فيهم نزعة التوحش والغِلظة .. وكيف لا وهي الأمة التي تفتري على نبيها وتنسب اليه القول بأنه قد جاءها بالذبح.
لم يتضمن النص القرآني أية أوامر للمؤمنين بالذبح والسلخ ولم يجعل الله من الذبح والسلخ طاعة تُقرب عباده إليه ولم يأتي ذكر النحر إلا في المواضع المُتعلقة بمناسِك الحج , وكل ما وجده الفقهاء في القرآن ليؤسسوا عليه تقاليد هذه العادة هو كلمة "النحر" الواردة في ايات سورة "الكوثر" والتي نُزلت على النبي الكريم لِتَرُد على قومه الّذين عَيّروه بأنه أبتر اي ليس له خِلفة من الدكور تحمل أسمه من بعده وتمنع إنقطاع ذكره في الناس بعد موته , لكن الموروث الفقهي الّذي تولى كِبَرَهٌ فقهاء الدولة القرشيه التي قامت بعد وفاة النبي عليه السلام والّذين أوكل اليهم حُكام تلك الدولة مهمة شغل الناس بتوافه الأمور وجعل هذه التوافه لُبَّ الدين ليتحول الدين إلى مجموعة طُقوس ينشغل بها الإنسان عما أُنزل اليه من أيات الحكمة والتي لم تتنزل إلا لتمجيده وإعلاء شأنه. كانت مهمة الفقيه جعل الإنسان المسلم ينهمك فيما تركه له حكام تلك الدولة من الدين, وهم لم يتركوا له منه إلا سفاسف الأمور بعد أن خصوا أنفسهم بعظائمها ليجعلوها حكراً عليهم وليحولها إلى سيوف تضرب أعناق الناس وإلى سياط تجلد ظهورهم.
استطاع الموروث الفقهي أن يؤسس على كلمة "النحر" المُنتزعة من سياقها لكل هذه العادات ويجعل لها أيام مقدسة في حين عَمِيت وتعامت عيون الفقهاء عن الاف الكلمات والأيات القرانيه التي تكررت ولعشرات المرات تَحُتُ الانسان على الإنتصار للحق ومُحاربة الظُلم والظَلَمة والوقوف في وجه الفساد في الأرض , غفلت عيون الفقيه أو تغافلت عن كل تلك التعاليم لأنها لم تكن تروق لحكام قريش الّذين جعلوا الدين ورِْثة يورثونها لاحبتهم في خلافتهم التي زعموا أنها كانت راشدة ومن بعد ذلك لابناءهم في ممالكهم التي تخلت عن رُشدها المزعوم.
لم يوصي الموروث الفقهي المؤمنين بتخصيص يوم أو حتى ساعة من عامهم الطويل للوقوف إلى جانب حق موضوع ليرفعوه أوباطل مرفوع ليضعوه ,لم يستنبطوا من كل أيات القرآن التي تنزلت لإعلاء الحق ما استنبطوه من كلمة "النحر" اليتيمة والتي وردت في سياقها المنتزعة منه مقترنة بالصلاة "فصلي لربك وانحر" .هذا الأقتران الّذي يحدد المعنى لها ويحصره في العطاء والإطعام للبائس الّذي لا يجد قوته , فتحولت بحسب الفهم الفقهي إلي عيد يغدي فيه الإنسان نزعات شهواته البهيميه ويحشو فيه معدته بأرطال اللّحم والشحم في حين يتضور الإنسان على حدود ممالكه "المؤمنة" جوعاً ويفطس دون أن يجد جرعة ماء نظيفة أو كسرة خُبز تنقده من موت محقق .
لا توجد إحصائيات تفيد بتعداد الملايين من الماشيه التي تُذبح في هذا اليوم العالمي للذبح , ولذا لا يمكن تقدير مايُنفق من أموال لإشباع الشهوة للّحم وما الّذي يمكن أن تُحدثه هذه الأموال المهدورة من فرق لو فَهِم الإنسان المُسلم دينه ووصايا ربه بعيداً عن شطحات الأسلاف وقرر أن يضع هذه الأموال في مكانها الصحيح وأن يتبرع بها لاغاثت الأرواح التي تقضي جوعاً وعطشاً ومرضاً على أطراف ممالكه وسلطاناته الشديدة الإيمان سواءاً في أفريقيا أوغيرها, لكن الإنسان "المُسلم" يتشبت بفهم فقهائه المتوارث عن أسلافهم لأنه يناسب طبيعته المُبغضة للعطاء والعاشقة لـ اناها المتضخمة حدَّ التورم .
يتشبت هذا الإنسان "المؤمن" بفهمه المتورارث ويترك للأمم "الكافرة بحسب زعمه" مهمة القفز من فوق ممالكه لتتولى مهام الإغاثه والإنقاذ . في كل مكان من هذا البلاد "الكافرة" تتظافر الجهود وتقام الحملات لجمع التبرعات لمساعدة الإنسان المنكوب في دارفور وبكستان وغيرها من البلاد التي تدين بالإسلام والتي يرتبط معها هذا المُسلم برابطة الأخوة في الله والإسلام ,هذه الأخوة التي تسقط بمجرد أن يعلم أنها تقتضيه فتح محفظة نقوده .
فمن الّذي فهم قصة الفداء فهماً صحيحاً وعمل بمقتضى وحيها ؟ هل فهمها الإنسان الّذي يبدل كل ما بوسعه ويُسَخر قدراته لحفظ الأرواح البشريه وفداءها , أم فهمها ذلك الإنسان الّذي ليس له من همّ إلا أن يملأ كرشه باللحم حدَّ التُخمة ويجلس لعرض براهيننه التي يثبت بها بنوته لإبراهيم وإسماعيل وأبوتهما المزعومة له . هل وعى معنى التضحيه ذاك الإنسان الّذي ضحى بملايين الأرواح حتى لا يستعبد روحه نازي أو فاشي مُغامر أم وعاها إنساننا المُسلم الّذي أسلم روحه لكل عُسيكري فاشي مغامروسمح له بأن يستعبد روحه ويعامله تماماً كما يعامل هو قطعان الماشيه التي يُضحي بها فيذبح منهم من يشاء ويسلخ جلد من يشاء ويورث بقاياهم لابناءه ليتعلموا فيهم حرفة الجِزارة . هل وعى معنى الفداء من عجز على أن يفتدي نفسه من ربقة العبوديه لكل جبار يعلو في الأرض بغير الحق.
العقل السلفي القاصر أعجز من أن يدرك المعاني الساميه لقصة الفداء الواردة في القرآن فهو لايستطيع تفسير أي نص بمعزل عن شهوة البطن والفرج ولذا كانت كل تأولاته للنص مُسطحة كعقول أؤلائك الأسلاف المُسطحه تماماً ونتج عن ذلك تسطيح النص القرآني إلى حدّ السذاجة مما اغرى كل غِر أراد النيل من الإسلام والطعن في النص القرآني لأنه وجد المنفد لنيل ما يريد من خلال تفسيرات الأسلاف التي تعكس إفلاس عقولهم وليس إفلاس النص الّذي زعموا أنهم يتصدون لتفسيره .
لم تكن قصة الفداء تهدف إلى إقامة أعياد للذبح والسلخ والشواء بل كانت تريد أن توصل للإنسان فكرة واضحة عن حُرمة دم الإنسان وقداسة روحه إلى الحدَّ الذي جعل السماء نفسها تتدخل وترسل فداءاً لروحه لتفتديه من الذبح حتى وإن كان هذا الذبح يتم كطاعة لله, فالله لايطاع بذبح أكرم مخلوقاته لديه . ولعل من يمتهن خوض المجادلات العقيمة سيطرح السؤال المُسطح كعقله فيقول.. لماذا يأمر الله إبراهيم بذبح ابنه ثم يتدخل لفدائه ؟ وهذا السؤال لا يستطيع الموروث الفقهي الإجابة عليه إلا بإتهام من يطرحه كالعادة بالكفر والإلحاد وتهديده بالويل والعذاب في الدنيا والآخرة ,لكننا نجد الإجابة سهلة ومبسطة وعميقة في نفس الوقت عند مُفكر عظيم أعمل عقله وقرأ القرآن بقلبه بعيداً عن سيطرت فرجه وبطنه ,نجدها عند مفكر مؤمن يكرهه الفقيه الّذي يدعي احتكاره للإيمان ويرميه بالإلحاد والخروج عن الملة ,نجد الإجابة عند الصادق النيهوم لنقدمها لذاك السائل.
لم يكن الهدف من قصة الفداء كما زعم الفقيه إختبار الطاعة العمياء لإبراهيم وإسماعيل وأمتثالهما للأمر الإلهي وإن كان منافياً للعقل والمنطق ,فلِما يأمر الله عبده المؤمن به والمتقرب اليه بأن يذبح فلذة كبده؟ ولماذا يمتثل هذا العابد لهذا الأمر دون أن يسأل نفسه لماذا يجزيه الله عن إحسانه بغير الإحسان , لم تكن العبر المستوحاة من قصة الفداء ما خلص اليه العقل السلفي من وجوب إلغاء العقل ليؤسس لنهج العَمى الّذي يوجب على المُسلم السمع والطاعة دون تدبر أو تبصر ليستغل الفقيه طاعته العمياء تلك لتسويق كل أوامر أمراء ه الظالمة التي استباحة أوطان الناس وأرواحهم وأعراضهم ويقدمها للمسلمين على أنها أوامر إلهيه لايجوز لهم الخوض فيها أو نقاشها وليضرب لهم الامثال بالدبيح وابيه , لكن الفقيه يفتري على الله, فالله لا يأمر عباده بما يخالف فطرتهم السويه التي يُقرها العقل ,الله لا يأمر بالفحشاء وليس هناك فحشاء أعظم من القتل وهذا ما وعاه إبراهيم وإسماعيل ,لقد إختبر الله نبيه إبراهيم في قصة الفداء ليعلم المؤمنين من بعده مدى إيمان إبراهيم المطلق بأن إرادة الله في الخير والنماء لا يمكن ابداً أن تأمر بالذبح أو القتل بغير حق وهذا ما أعطى إبراهيم عليه السلام هذه المكانة الرفيعة بين المؤمنين وجعله أهلاً لأبوة أنبياء الله من بعده . الثقة في الله في فطرة الخير والنماء هو خلاصة الحكمة من قصة الفداء التي استخلصها النيهوم والتي نعرضها هنا بقلمه كهدية من النيهوم لكل سائل وحائر لم يزده الموروث الفقهي إلا حيرة وضلال. نعرضها هنا ونحن نستذكر النيهوم اليوم في الذكرى السادسة عشر لتغييب الموت لجسده عنا في حين عجز الموت أن يُغيب إطلالة روحه علينا من خلال كل كلمة وكل رؤيا خطها يراعه الرائع , لتظل كلماته ورؤاه تتحدى الموت والفناء والغياب , ولتبقى بيننا تمنحنا اليقين بعظمة الكلمة الصادقة وصمودها في وجه الموت لانها كانت البدء وستظل البدء لكل بداية جديدة تشرق برؤيا جديدة تتجاوز تخاريف وأساطير الأولين.

*

قصة الفداء بقلم الصادق النيهوم
مشكلة التفسيرات أن لها مثال محدد في فهمنا لقصة فداء إسماعيل . إن القصة تحوي وراءها معنى بالغ العمق والنقاء , إنها تتجاوز أبعاد الذبيحة والقربان إلي أبعاد إسلاميه جديدة على العالم .فالقرآن الذي أشار إلي حادثة الخروج من الجنة باعتبارها اتجاهاً من الإنسان للخروج من طبيعته الناميه إلي تكرار شكله بالتكاثر الاجتماعي , لم يكن يُدين الحياة الاجتماعيه باعتبارها خطيئه في ذاتها بل كان يدين "التكرار " أذا كان هدفاً في ذاته. إن القرآن لا يرفض المجتمع بل يرفض أن يصبح التكاثر هو المجتمع.هذا المعنى يبسطه القرآن في قصة الفداء .
النبي إبراهيم الذي وعى معنى الحياة يرى على الفور أن "التكاثر" هو البديل عن النمو ويصبح من الواضح لديه أن الإنسان ذا الطبيعة الناميه لا يجوز له أن يكرر نفسه غريزياً . إنه يرى أن يذبح إسماعيل.

النمو ليس هو عدم التكرار
لكن إسماعيل ذات أخرى ,إنه ليس نسخة من والده كما يبدو الحيوان العادي نسخة من والده . إسماعيل إنسان آخر. والقرآن يشير إلى هذه الحقيقة في قوله "فأنظر ماذا ترى" إنه يسأله رأيه لأنه يعرف أنه إنسان آخر وأنه قد يملك رأياً مخالفاً.
لكن إسماعيل يقبل قرار الذبح . ليس لأنه لا يملك ذاتاً مختلفة.بل لأنه يملك ذاتاً مختلفة صابرة أي متقبلة لإرادة الله في الخير وإذاك يرى إبراهيم عليه السلام هذه الحقيقة رأي العين : إن الإنسان لا يكرر نفسه ولا يلغي حريته في الإختيار ولا يهرب من ذاته في الموت ما دام مؤمناً بالله . إنه يستطيع أن يوافقك لأنه يلتقي معك في الإيمان وليس لأنه لا يملك إرادة منفصلة عن إرادتك. إن التكرار نفسه يمكن أن يحدث دون أن يصبح تكراراً, ما دام منطلقاً من إرادة النمو الحقيقيه. هنا يختلف المجتمع الإنساني عن التجمع الحيواني حتى في ظاهرة التكرار.
إسماعيل لم يقل مرحباً بالموت بل قال "افعل ما تؤمر" إيماناً منه بأن فطرة النمو والخير لن تأمر بالموت.حتى عندما وضع والده السكين على رقبته لم يفارقه هذا الإيمان, لقد كان واثقاً بالله.
الذبح ليس خروفاً فقط
وفداه الله بذبحٍ عظيم. . الذبيح ليس القربان فقط. الذبيح مخلوق يعيش بغرائزه ويكرر نفسه لهدف التكرار ,إنه المخلوق الوحيد الذي لابد أن يموت. فالمبدأ الأصلي أنه من يثق بالله وبفطرة الخير والنمو يحيا حتى وهو بين أنياب الموت ومن يثق بغرائزه وبفطرة التكرار والجمود يكون ميت حتى إذا كان وسط الأحياء.
من هذا المبدأ صار المجتمع الإنساني مختلفاً عن التجمع الحيواني الذي يحكمه قانون التكاثر بالغريزة والعبوديه للتكرار. من هذا المبدأ لم يعد التشابه الاجتماعي أو عدم التشابه هو مقياس الإنسان بل صار مقياسه "الدافع النفسي" للفعل. لقد اتضح الفرق بين تجمُعات النمل وبين مجتمعات الناس ورأى إبراهيم عليه السلام أن إسماعيل ليس تكراراً له بل ذاتاً مختلفة عنه وأن هذا الاختلاف ليس ناجماً عن التكاثر بل ناجماً عن فطرة النمو. ولذا فإنه يصبح اتفاقاً كاملاً عند نقطة الإيمان بالنمو. هنا ولد المجتمع الإنساني الذي أشار إليه القرآن في قوله "فلما بلغ معه السعي" أي بدأ يمارس معه النشاط الاجتماعي المتمثل في السعي وراء سد حاجات الطعام والشراب والإنجاب.
التشابه بالطاعة
هذا المجتمع لا يحكمه الاختلاف لأنه مستحيل بدون التعاون الاجتماعي, لكن التعاون فيه ليس "خنوع" للتكرار بل الطاعة للنمو. إن الفرق بين الخنوع والطاعة هو الفرق بين نوع التشابه في التجمع الحيواني وبين نوع التشابه في مجتمع الإنسان.
لقد كان إسماعيل الابن البكر لإبراهيم , كان إسماعيل نقطة الفصل بين مجتمع قائم على التكاثر يرتبط أفراده بقطعة الأرض كما ترتبط قطعان الخراف, ويخضع كل واحد منهم لدائرة محكمة الإغلاق من السلوك المتكرر لغرض التكرار, وبين مجتمع إنساني يرتبط إفراده بأصل الحياة وطبيعتها الناميه, ويُطيع كل فرد منهم فطرته في النمو سواء تمثلت هذه الطاعة في تكرار أنماط السلوك أو في الخروج عنها. كان إسماعيل مفترق الطرق بين مجتمع مؤمن ومجتمع غير مؤمن, والاقتصار على فهم حادثة الفداء على أنها ذبيحة لغرض الذبيحة يشير بوضوح إلي أن المجتمع الإنساني يستطيع أحياناً أن يفتقد الجوهر في غمرة تكرار الشكل.

.
 
أعلى