خالد محمد عبده - الحبُّ والجمال: زكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ

في عدد خاص من مجلة الهلال صدر في يناير1978 حاملاً عنوان : الحب والجمال، اشتمل العدد على مقالات لكوكبة من مفكري مصر وأدبائها، أدباء كتبوا عن الحب والجمال والفلسفة واللذة والانفعال، وشارك في العدد كل من رشدي صالح، وجمال قطب، وسعاد الصباح، وعاطف مصطفى، وزكي نجيب محمود، ونجيب محفوظ، ومصطفى أمين، ومصطفى محمود، وكمال الملاخ، وصلاح طاهر، زكي مبارك، محمد طنطاوي، ومحمود العتريس، وعادل سلامة، وزكي شنودة، وشنودة الثالث، ومحمد الحديدي، وآخرين.

وجاءت عناوين المقالات على النحو التالي: الجمال نوع من الهندسة وما يربطنا به هو الحب -انفعال غامض يرشدني إلى الجمال-الحب أجمل من الأرض والسماء -اللذة في الحب...هل هي العذاب والألم؟الحب أبقى وأسمى والجمال لحظة ثم يفنى- الجمال...اتساق وانسجام في النسب والألوان -قالت وقلت في الحب!

سنختار من بين هذه المقالات مقال الأستاذ زكي نجيب محمود ومقال الأديب المصري نجيب محفوظ، لنقدّم للقارئ بعضًا من كلماتهما، عنون زكي محمود مقاله بـ: الجمال نوع من الهندسة وما يربطنا به هو الحب!

تحدث الأستاذ فيه عن مفهوم الجمال، وشرح ذلك بعبارة سلسلة وبسيطة، ضرب لنا أمثلة عدة كي تتضح فكرته، ومما جاء في مقاله:

(( الواقع أنني أكاد لا أرى علاقة بين الحبّ والجمال، على خلاف الفكرة الشائعة، لأن الحب قد يكون حيث لا نسب رياضية، ولا أي شيء من هذا القبيل.. وخذ الحبّ في شتّى أشكاله.. خذ حبّ الأم لطفلها، وحب الصوفي لله سبحانه وتعالى، وخذ حبّ الإنسان لظواهر الطبيعة، أو لثمرات الفنون. وحتى إذا أردنا أن نحصر حديثنا عن نوع واحد منها، وهو حبّ الرجل للمرأة، أو حبّ المرأة للرجل، فلعلنا جميعًا نلحظ الاختلافات البعيدة جدًّا بين ما يحبّه هذا عما يحبّه ذاك، ويدخل في ذلك اعتبارات كثيرة أولها مثلاً الألفة.. فالأسود يألف السوداء، والأبيض يألف البيضاء.

وقد عنّ لي ذات مرة أن أقضي يومًا في مطالعة التراث الشعري العربي الذي يصف المرأة كما يحبها الرجل، فوجدتُ أنها كلها صفات مختلفة عما يحبه الرجل اليوم، ولا سيما في أقوام أخرى غير العرب. فوجدتُ أنها على سبيل المثال تصف المرأة المحبوبة بشيء من الخمول وبطء الحركة واليقظة في ساعة متأخرة من النهار، لدرجة أنهم يستخدمون كلمة عليل (أي مريض) عندما يصفون الحركة البطيئة التي يحبونها، كأن العين الجميلة عين مريضة لا تستطيع أن تحدق بقوة فيما تراه، مع أننا نلاحظ الآن أن الشعراء إذا تغزّلوا في صبية، فإنما يتغزلون في قوة الحيوية وخفة الحركة ولمعان الذكاء، وغير هذه الصفات التي من هذا القبيل)).

أما مقال أديب الوجدان المصري نجيب محفوظ، فجاء بعنوان: انفعالٌ غامض يرشدني إلى الجمال، يقول فيه:

(( لو راجعتُ الذّاكرة لأمكن أن أمدّك بالعديد من النظريات الجمالية التي درسناها في فلسفة الجمال بقسم الفلسفة، ولكنني حريصٌ جدًا على أن تجيء إجابتي شخصية ... حميمية.

إني أقف طويلاً أمام شجرة ضخمة في شارع البرج، أو في حقل أزهار في حديقة الزهور أمام منظر السحب في الشتاء أو عند منعطف جسر الجلاء، فأنفعل انفعالاً قد يتعذر اجتلاء فحواه، قل إنه نوع من السرور والوجد والاندماج في الكلّ، وأشعر بنفس الشعور عند سماع أغنية (الأطلال) أو (من قد إيه كنا هنا) أو عندما أقرأ قصيدة أو قصة!

هذا الانفعال هو مرشدي إلى ما يسمّى بالجمال. إنه الجزء المشترك بين هذه الأشياء التي تستجيب له النفس، فيحدث هذه المشاعر.

الجمال في كلمة واحدة: التكوين الذي يجعل الدنيا والحياة موضعا للإعجاب والحب.

إن ما يربطنا بالجمال هو الحب، غير أن الحب يشمل الجميل والجليل، وما ليس جميلاً أو جليلاً.

الحبُّ أشمل، وأثره أبقى، هو خالق الحياة، خالق القيم والمُثل العليا، والنهضات والباب الأول إلى سر الكون سبحانه!

والأدب يعرض شتى ألوان الجمال وجمال المرأة وجمال الطبيعة وجمال الذكرى وجمال الخلق وجمال الوجد الصوفي إلخ ... يعرضه بالمباشرة الواقعية وبالرمزية، بل أنه يعرضه عندما يعرض القبح في السلوك والحياة، باعتباره الوجه الآخر من العملة.

وصور الحبِّ تتغير في الأدب تبعًا لتطور الكاتب وعلى مدى مدارج العمر، وليس نادرًا أن يبدأ شاعر، مثل أبي نواس بالحبِّ الشاذ، وينتهي بما يشبه التصوف والحكمة.. وفي تدرّجه هذا يعطي تطلعات النفس البشرية في كافة أعماقها ودرجاتها!

* باحث مصري متخصص في التصوف



.
 
أعلى