محيي الدين اللاذقاني - الفتنة القرطبية..

1[SIZE=6]
في الطريق الى بيت ولادة[/SIZE]

ان كنت تخاف على قلبك ان يذيبه الجمال فلا تذهب الى قرطبه في موسم تفتح اللوز ولا تعبر بمجلس عبدالرحمن الناصر بالزهراء فانك وان كنت غليظ الفؤاد ستبكي.

ويزعم المقري في نفخ الطيب نقلا عن اشياخه ان الزهراء جارية الناصر قالت له ذات جلسة انس وما اكثر جلسات الانس في قرطبه , اشتهيت لو بنيت لي مدينه تسميها باسمي , وتكون خاصة لي . فبناها تحت جبل العروس من قبله الجبل شمال قرطبه , فلما اتقن بناءها واحكم الصنعه فيها جعلها مستنزها ونقش صورتها على الباب , فلما قعدت الزهراء في مجلسها ونظرت الى بياض المدينه وحسنها في حجر الجبل الاسود قالت :
- الا ترى الى حسن تلك الجارية في حضن ذلك الزنجي , فامر بازاحة الجبل لكن اصحابه الذين لا يؤمنون بالمستحيلات كالخليفه العاشق اقنعوه باستحالة ذلك , فأمر من ذلك النوع لا يقدر عليه الا صاحب الامر الذي يجعل وحده الراسيات كالعهن المنفوش في لمح البصر , وعندها فقط ثاب الخليفه الى رشده وقال اقطعوا غرسه , وازرعوه تينا ولوزا , فكان له ما اراد , وولد من تلك الجمله القصيره اجمل منظر يمكن ان تقع عليه عين.
ويقفز معظم العابرين في ربوع الحلم الاندلسي الى الزهراء شوقا لاساطيرها وأنسها وحبا ببيت من الشعر قاله ابن زيدون لولادة عند سفوحها المكسوة باللوز والشجن .
ولقد ذكرتك في الزهراء مشتاقا = والافق طلق ووجه الارض قد راقا
عند ذلك السفح واسهل الممتد باناقة ساحرة بين الزهراء وقرطبة رقص المجد العربي رقصته ما قبل الاخيره بين جبل الورد وسفوح جبل العروس في زمن خليفة متنور وعاشق ومحب للشعر والغناء والعمارة .
ولنرجئ الزهراء الى حين لنعود الى قرطبة بحثا عن بيت ولادة وقصور ادبائها وعشاقها ومفكريها ولكن من اين ندخل مدينة العشاق والمفكرين ؟ ومن يضمن خروجنا سالمين من غابات السوسن والريحان , والفتنه اليعربية المقطره التي ترشك بماء الورد من النوافذ العامرة بالاقحوان والياسمين , وشذا القرنفل والريحان الدمشقي :
يا زارع الريحان حول ديارنا = لا تزرع الريحان لست مقيم
لقد جاؤوا وزرعوا الريحان ومضوا وظل عبقهم وكلمة " ARRAYAN" التي تفاخر بها اللغة الاسبانيه لغاب اوروبا دون ان تنكر انها والملايين من اخواتها العربيات هن اللواتي اعطين لغة اسبانيا تلك النكهة الشاعريه الفاتنه التي تاهت بها نثرا وشعرا على العالمين .
هل ندخل قرطبه من جامعها الكبير كما كان يفعل الغرباء في قرون الحضارة الاسلاميه الزاهيه حين كان المسجد بيت الله , ومجلس الشوري وملجأ المحتاج ومأوى الغريب..؟
آه وآه ثم آه... كم تبدو لفظة غريب ناشزه عن السياق داخل قرطبه القديمه, فكيف تشعر بالغربة هنا, وكل هذا الرمان الذي شبه ابن هانئ زهره بنقوش حناء على اصابع حسناء جاءت فسائله من دمشق , فقد كانت ام الاصبغ المروانيه شقيقة عبد الرحمن الداخل ترسل غرس الرمان , وشتل الياسمين من العاصمة الاموية الاولى , الى العاصمة الاموية الثانيه مع رسل يروحون ويجيئون تحت سمع وبصر السلطة العباسيه التي لم يخطر لرجالها امكانية التخاطب من فوق رؤوسهم بالرموز , وهل هناك اجمل من رمز يعبر من اسيا الى اوروبا عبر افريقيا , ويستمر في الازهار والاثمار بعد قرون مديده من رحيل المتلقي والمرسله.
لقد شبه الحجاري في كتاب "المسهب" قرطبه بالنسبة للاندلس بمنزلة الراس من الجسد , وما ضره غفر الله له لو قال بمنزلة القلب , فهذه مدينة لا يحلو معها الا حديث القلوب , فتحت كل رمانة فيها قصة حب , وعلى ترابها في المنطقة المعروفة بحومة بلاط مغيث عاش شيخ العاشقين ابو محمد بن حزم , وعاشت ولادة بنت المستكفي التي غيرت تاريخ الانوثة العربية , وقدمت نموذجا جديدا للمراة القوية التي تعرف ماذا تريد وتدافع عن حقوقها بحد الرمش واللسان , فاذا ظل عندها بعد معاركها وقت تلهت بالعشاق كما تتسلى بتبديل خواتمها , وكان اشهر عشاقها الوزير الخطير ابن زيدون , فهل احبت ولادة ابن زيدون فعلا ..؟ ام اننا انسقنا جميعا دون تدقيق خلف اغراء تلك الخدعة التاريخيه المتقنه..؟
حكاية ولادة مع عشاقها , وشعراء عصرها لا ينطبق عليها شئ بمقدار انطباق اغنية معاصرة يرد في بعض مقاطعها ذلك السؤال المقلق :
- كلنا بنحب القمر ..
- والقمر بحب مين ..؟
وليس من الضروري للقمر ان يحب يكفيه ان يكون محبوبا , ويكفي عشاقه منه اطلالته شبه اليوميه , واحتجابه حين يتعكر مزاجه , وقد كانت ولادة في قرطبة ذلك القمر الباهر الذي يطل ويختفي ويداعب هذا ويرسل حزمة من ضوئه لذاك دون ان يربط او يرتبط , وماذا يجبر القمر على المبيت في حديقة بعينها ما دام مطلوبا ومرغوبا في كل الحدائق والبيوت .
ولادة في الثقافة العربية اهم من( سافو) في ثقافة الاغريق , فقد جاءت الثانية من تراث كاهنات المعابد اللواتي اعتبرن المتعة جزءا مكملا لبعض اشكال العبادات الوثنيه , وبهذا المعنى كانت سافو حبة بارزة في طوق من الجواهر الأصغر حجما , اما الأولى فكانت فريدة التكوين ومفردة السياق وغريبة على خط تطور المرأة العربية التي قنعت قبل ولادة و جيلها بأن تكون الظل , وما فكرت بالتحول الى قمر يشع على من حوله ويمنح بركته للظلال .
وحتى بمقاييس الثقافة الانثوية العالمية تظل ولادة رمزا مميزا ونكهة مختلفة , فقد عرف العالم الديونيسية الذكورية لكنه لم يعرف من الديونيسيات المدافعات عن حقوقهن في التمتع بالحياة والمجاهره بذلك باستثناء سافو وبعض الشاعرات الرومانيات الاقل شأنا , ثم ولادة التي بثت الذعر في اوساط رجال قرطبه وسخرت منهم جميعا وقادت تيارا مؤثرا من النساء المتمردات على الدور التقليدي للمرأة القرطبية التي ساعدتها الفتنة على تثبيت وضعها الجديد في غيبة الرجال .
وحين تذكر الفتنة هنا يستحسن الا يذهب الذهن الى فتنة النساء وحدها , فقد ولدت ولادة زعيمة الفاتنات المفتنات وشبت في زمن الفتنة السياسية الكبرى التي عصفت بقرطبه , وانهت حكم الامويين , ومهدت لقيام الحقبة المعروفه تاريخيا بحقبة دول ملوك الطوائف , وحملت تلك الفتنة الشهيرة اسم فتنة البربر وهي غير فتنة الربض التي تسببت في محق حي كامل من قرطبة وتحويله الى مقبرة في ايام الحكم .
ومن الادلة على اعتناق زهرة قرطبة للمذهب الديونيسي في ذلك العصر انها كتبت على طرف من اطراف ثوبها كما زعموا: = انا والله أصلح للمعالي
وامشي مشيتي واتيه تيها = وكتبت على الطرف الاخر :
امكن عاشقي من صحن خدي = وامنح قبلتي من يشتهيها
وعودة الى قصتها مع ابن زيدون لا بد ان نتذكر , ونحن نفترض انها لم تحبه , ولا احبت غيره من الشعراء الذين كانوا يحومون حولها حوم الفراشات حول النور , اقول لا بد ان نتذكر بأن الرواية الوحيدة التي تشير الى حب ولادة لابن زيدون جاءت في جميع كتب التاريخ والادب مروية عن لسان ابن زيدون نفسه... فدعنا نتأمل بروية غدا أو بعد غد هذه الرواية التي حفظها لنا كاتم أسرار الأندلس ابن بسام في الذخيرة



- الفتنة القرطبية...
 
-2-
تمثال الحب المراوغ

أجمل شئ في الحب أنه يؤاخي الوهم على الحقيقة ويمزج بين الواقع والخيال في بوتقة سحرية أدمنتها البشرية التي ما تزال تعتقد أنها سلالة هبطت من السماء فتضع يدا هناك وقدما هنا وترفض أن تضع العشق في خانة المدرك والعادي فتزيد فيه وتبالغ وتلون وتطرز وتحبك كي يظل له طعمه المختلف عن روتين الحياة وتفاصيلها وكي يحتفظ على مر العصور بنكهته المميزة التي تدرك لمسا وشما ونظرا وتذوقا وغريزة وبالحواس الخمس والست


وعودة الى قصة ولادة مع ابن زيدون لا بد ان نتذكر , ونحن نفترض انها لم تحبه , ولا احبت غيره من الشعراء الذين كانوا يحومون حولها حوم الفراشات حول النور , اقول لا بد ان نتذكر بأن الرواية الوحيدة التي تشير الى حب ولادة لابن زيدون جاءت في جميع كتب التاريخ والادب مروية عن لسان ابن زيدون نفسه , ولنستمع الى تلك الرواية كما حكاها ابن بسام صاحب الذخيرة في محاسن أهل الجزيرة منسوبة الى صاحبها :
قال ابو الوليد "ابن زيدون" ( كنت في ايام الشباب وغمرة التصاب , هائما بغادة تدعى ولادة فلما قدر اللقاء وساعد القضاء كتبت الي :
ترقب اذا جن الظلام زيارتي
فاني رأيت الليل اكتم للسر
وبي منك ما لو كان بالبدر ما بدا
وبالليل ما ادجى وبالنجم لم يسر
فلما طوى النهار كافوره , ونشر الليل عنببره اقبلت بقد كالقضيب وردف كالكثيب , وقد اطبقت نرجس المقل على ورد الخجل ...)
ولا داعي للاطالة هنا فالسجع ثقيل وممل وبيت القصيد فيه ان الشاعر بات يجني كما ادعى اقحوان الثغور , ويقطف رمان الصدور الى ان جاء الصباح فودعها بالقصيدة التي يقول مطلعها :
ودع الصبر محب ودعك
ذائع من سره ما استودعك
هذا ما يقوله الشاعر , اما الشاعره فلم نسمع عن لسانها فيه الا السخرية والاستهزاء والهجاء , وكأني بالنحات الذي صنع لهما التمثال الذي يتوسط ساحة ( مارتيليه) بقرطبه في الذكرى المئويه التاسعة لوفاة ابن زيدون عام 1970 قد شك هو الاخر بقصة الحب تلك , فاقام تمثاله على الوهم والتخييل لذا يظن الناظر عن بعد الى يد ولادة ويد ابن زيدون انهما تتعانقان وتلتصقان لكنه ما ان يقترب ليدقق النظر حتى يكتشف فراغا بسيطا يمكن ان تمرر منه ورقة عاديه , وكي لا نعتمد على شك النحات الافتراضي الذي قد يكون صدفة غير مقصودة لنحاول قراءة القصة من وجهة نظر ولادة , فعندها الكثير من القصائد والمواقف التي قد تجلو غموض تلك الرواية الرومانسيه المحيرة التي تحتاج الى بعض التنقيحات الضرورية حتى يستقيم متنها .


لم يكن ابن زيدون اكثر شاعريه من ابن اللبانة , ولا من ابن عمار ولا من ابن وهبون لكنه تقدم عليهم جميعا , وثلاثتهم من معاصريه بفضل اقتران اسمه بولادة , وقد ادرك هو تلك الحقيقة مبكرا , وفهمها كموظف يريد ان يصل حباله بالبيت الأموي الذي كان رغم تدهور احواله الحاكم الشرعي للاندلس , ثم فهمها كشاعر وادرك من تجارب غيره ان الناس لن يتابعوا غزله بجديه ان لم يقترن بحبيبة ذات حضور مادي ومعنوي وأين يجد حضورا وتوهجا اكثر من توهج تلك الشاعرة التي كان مجلسها في قرطبة منتدى لاحرار العصر , وفناؤها ملعبا لجياد النظم والنثر , وقد كانت استنادا الى مؤرخي تلك الحقبه من النوع الذي يعشو اهل الادب الى ضؤ غرته , ويتهالك الشعراء والكتاب على حلاوة عشرته وفي ذلك الجو الذي كان لها فيه كما في تمثال ساحة( مارتيليه) اليد العليا تعرف عليها ابن زيدون الذي كان موظفا بالديوان مكلفا بشؤون اهل الذمة .
ومن المؤكد ان ولادة ما كانت تريد مالا ولا جاها فعندها من الاثنين وفرة لكنها كانت تريد اعترافا فنيا من ابرز شعراء قرطبة بشاعريتها , وقد تواضعت ذات يوم كما يفعل الشعراء مع مجالسيهم وطلبت من ابن زيدون ان ينتقدها ان وجد في قصائدها ما يعيب , فبدأ يتأستذ عليها وهما في بداية طريق الموده , وحين بدأت الألسن تبعدها عنه وتقرن اسمها بالوزير ابي عامر بن عبدوس جن جنونه وكتب رسالة باسمها وطلب منها ان ترسلها اليه . فكانت تلك الرسالة التي تعرف في كتب تاريخ الادب باسم الرسالة الهزلية قاصمة الظهر التي أقنعتها ان تبعده عن حياتها وعن مجلسها وقد فعلت واتخذت ذلك القرار الذي لم تتراجع عنه حتى اخر يوم في حياتها رغم توسلات الشاعر المطرود من بلاط الكمال والجمال والفن والمعابثات التي تصنع اخبار ذلك الزمان .
ويبدو من سياق الاحداث ان ابن زيدون قد اسرف في الحديث عما كان بينهما , وذلك اسلوب لا يليق بشاعر ولا بفارس بغض النظر عن صحة الوقائع من عدمها , وهكذا وجدت ولادة نفسها مضطرة للرد على اشاعاته بهجائياتها حتى تتوازن السيرة في الأوساط القرطبية , وينسب الناس قصصه واحاديثه الى التهيؤات واضغاث الاحلام , وعقد من يحب من طرف واحد , وما اكثر عقد هذا الصنف من العاشقين .
ولولادة في ابن زيدون مجموعه من الهجائيات المقذعه لعل ابسطها واكثرها براءة تلك الابيات التي تصفه فيها بالمسدس قبل اختراع المسدسات :
ولقبت المسدس وهو نعت
تفارقك الحياة ولا يفارق
فلوطي ومأبون وزان
وديوث وقرنان وسارق
ولا نعرف صحة التهم الخمس اما السادسه فثابتة تاريخيا لان الشاعر سجن بتهمة السرقة من اموال اهل الذمة , وعلى العموم لا نظن ان عاشقة يمكن ان تقول عن الرجل الذي احبته نصف ولا ربع تلك الهجائيات التي لا نستطيع ان نسجلها لاقذاعها , وفحش الفاظها وكان ابن زيدون المجبول بشئ غير قليل من طين المازوشيه ومائها يستعذب وضعه , ويواصل التضرع لامرأة ما كان عندها له ولا لغيره وقت .


وقد ذهب الاستاذان ( نيكل وهنري بيريس )الى حد اتهام ولادة بالمثلية الجنسية لانها لم تتزوج , وتلك حجه فيها الكثير من البلادة المكررة , فما كل من يرفض الزواج يكون شاذا , وما كل من يكون عندها صديقه مقربة كما كانت مهجة القرطبية لولادة تكون موضع اتهام , والا لجاز اتهام نصف نساء الكرة الارضية بالسحاق ورجالها بالمثلية الجنسية .
لقد كانت ولادة ومجلسها وحريتها و صداقاتها تتويجا لوضع حضاري متطور وصلت اليه المرأة الاندلسية على مراحل . وقد دعم خلفاء الاندلس وولاته ذلك الوضع باعطاء النساء مواقع ومناصب هامة في الدولة فقد كان للحكم بن عبد الرحمن كاتبة اسمها لبنى وكانت مزنه كاتبة الخليفة الناصر كما كانت رسيس المرأة الاخرى التي لها ما لنفوذ الزهراء عليه تخرج في مواكبة متقلدة سيفها كبقية وزراء الخلافة وكبار موظفيها , ويجب الا يغيب عن البال اثناء الحديث عن الوضع المميز للمرأة الاندلسية ان فقهاء الأندلس وحدهم قد انفردوا بمناقشة قضية موقع النساء من النبوة , وكان المشارقة يناقشون فقط جواز قبولهن في موقع الامامة .
لقد حاصرتني , وجاءت على غير ترتيب هذه التداعيات الانثوية , وانا في الطريق الى بيت ولادة داخل أسوار قرطبة القديمه وقبل ان يسارع احد الى اتهامي باختراع ذلك البيت الذي ليس له في كتب الجغرافيين , ولا في دليل السياحة الأندلسية ذكر سأسارع الى القول اني اهتديت الى ذلك البيت بثلاث قرائن من شعر ابن زيدون وبقرينة رابعة اعتمدت فيها على الغريزه الجمالية وحدها .
أغار عليك من عيني ومني
ومنك ومن زمانك والمكان
ولو اني خبأتك في عيوني
الى يوم القيامة ما كفاني
هذان البيتان تم اختيارهما من شعر ولادة ليكتبا بالعربية والاسبانية على تمثال اليدين المراوغتين الذي اقيم في المئوية التاسعة لوفاة ابن زيدون قبل ربع قرن, وقد مرت بعدها المئوية التاسعة لوفاة ولادة (484 هـ -1091هـ) فلم يكترث لها احد مع ان ابن زيدون ما كان يمكن ان يدخل التاريخ بدونها, وكذلك والدها الخليفه المستكفي الذي ذهب واتى مثل العشرات من الحكام في تلك الحقبه القلقه, وكان من الممكن ان يندثر ذكره لولا ابنته التي اصبح يعرف بها.... وطبعا ما يزال للحكاية بقية و نحن على موعد غد أو بعد غد



.../...
 
- 3 -
عاشق الفكر الحر

الحضارة بيت مكتمل الأركان ينهض على أعمدة شامخة تؤسس لما بعدها وفي حضارة الأندلس نهضت قرطبة حين اكتملت حضارتها المبهرة الى اليوم على أربع أسماء فقد كان فيها الى جانب ولادة ممثلة التحرر النسائي الذي يرافق الحضارات عاشق الفكر الحر ابن رشد والفقيه العاطفي ابن حزم الظاهري وقبلهما كانت ريادة الفن لزرياب الذي لم يحتمله المشرق وهيأت له قرطبة كل أسباب نضوج العبقرية

وهناك عشرات غير هؤلاء لذا ولفهم المناخ السياسي الذي عاشت فيه ولادة اثر أنهياردولة أجدادها الأمويين أستميح القارئ عذرا قبل ان ارسم له الخارطة الوجدانية التي تقوده الى بيتها بوقفة عند ابن رشد مفتاح ذلك العصر فكريا وجار ولادة جغرافيا في قرطبة فالسياسة والدور الذي تلعبه في صقل أهل زمانها هي من أكبر المؤثرات على تشكيل المجتمع وقيمه وربما كانت هذه الوقفة ضرورية لنفهم العلة الدائمة في مجتمعات تتحرر إجتماعيا دون أن يكون لها من التحرر السياسي نصيب .

اذا شئت ان تذهب الى بيت ولاده من عند التمثال الذي يحمل بيتيها الشعريين فمن الأفضل ان تظل خارج سور المدينه العتيقه وان تسير بمحاذاة القناة الموازية له حتى تصل الى تمثال ابن رشد الذي يمسك كتابه بشماله , وتبدو حواف السور المدببه خلفه وكانها صواريخ عصرية مهيئة للاطلاق من منصات خفية . وعلى ذكر الكتاب , فقد كانت قرطبة مدينة العلم والكتب والثقافة في الوقت الذي كانت فيه شقيقتها اشبيليه مدينة الطرب والفنون . ويؤثر عن صاحب التمثال ابن رشد قوله انهم كانوا في تلك الايام اذا مات كاتب في اشبيليا حملوا كتبه الى قرطبه لتباع فيها , واذا مات مطرب في قرطبه فان الاته تحمل ليتم بيعها في اشبيليا , وما تلك بقسمة ضيزى .
وأظن انه لا بأس من وقفة عند ابن رشد قبل الوصول الى بيت ولادة فهذا المفكر الكبير أكثر منها تأثيرا في مجاله وميدانه ليس عندنا فحسب بل في اوروبا فحين أصدر رينان قبل قرن ونصف القرن من الزمان في منصف القرن التاسع عشر كتابه (ابن رشد والرشدية ) كان ذلك الفيلسوف العربي عند مفكري النهضة الاوروبية أهم من كارل ماركس عند منظري الثورة البلشفية فكل القيم الاساسية التي قامت عليها النهضة الحديثة من ايمان بالعلم ودفاع عن التقدم ومناداة بحق النساء في المساواة ودعوة للبشر لتحكيم قوانين العلم المدني تجدها مسطورة بوضوح ما بعده وضوح عند فيلسوفنا الكبير الذي أعدنا اكتشافه عن طريق اوروربا لكن هل أستفدنا عمليا من ذلك الاكتشاف ؟
نظريا عقدنا له عشرات الندوات والمؤتمرات أشهرها مؤتمر بغداد عام 1948حين كان احمد امين رئيس الدائرة الثقافية في الجامعة العربية ثم مهرجان ابن رشد بالجزائر عام 1978عندما صار اسم تلك الدائرة منظمة ( اليكسو) وكان يترأسها رجل من أهل الفكر هو الدكتور محيي الدين صابر

وقد حضرت المهرجان الاخير وكنت شابا متحمسا( لا يعجبه العجب ولا الصيام في رجب) وخرجت منه وانا على قناعة تامة أثبتتها الايام باننا أمة كلام لا أمة أفعال لان كل ما تبقى من ذلك الكلام الكبير الكثير الذي قيل على مدار ايام في عاصمة المليون شهيد لا يتعدى بيانا من ثلاث صفحات وكتابا ثمينا عن مؤلفات ابن رشد أعده الاب جورج شحاتة قنواتي استاذنا الذي درسنا اللغة السريانية في جامعة حلب وهو من القلائل الذين يتقنون تلك اللغة مع اللاتينية التي حفظت لنا التراث الرشدي لترد لنا الجميل فنحن الذين حفظنا لها التراث الاغريقي وخصوصا أرسطو الذي انقطع له فيلسوفنا وتفرغ وقدم عنه وعن افلاطون وسقراط العديد من الشروح والمختصرات .
وان شئت ان تعرف المزيد عن هذا الرائد الفذ فان تراجم أهل الفكر والادب في كتب اعلامنا وتراجمنا لا تكاد تغني الوامق ولا تبل ريق الظمآن فهي تكتفي بسنتي الولادة والوفاة وتسرد اسماء الشيوخ والتلاميذ ثم المؤلفات وبعدها ان شئت ان تعرف المزيد عن الحياة الشخصية لمن تحب من مفكرين فعليك بقراءة ما يرشح من المعنى الخفي بين السطور فدوما هناك في الفكر العربي والحياة العربية منظور ومنطوق ومستور ومسكوت عنه وغالبا ما يكثر النوع الثاني في حياة الشخصيات المثيرة للجدل كما حصل بين فيلسوف قرطبة والامير المتنور الذي رعى بعض جوانب مشروعه السياسي .

وفي حالة فيلسوفنا راهب الفكر وعاشق الحرية والثقافة و الذي لم يتوقف عن القراءة الا ليلتين –كما يخبرنا ابن الابار- لابد ان تجد حياة ابن رشد مملة قياسا بحياة ولادة التي لم نصل الى بيتها القرطبي بعد وهذا طبعا ان لم تكن من اهل الفكر والفلسفة الذين تشغلهم اهتمامات أعمق .
ولم يقع القدماء وحدهم تحت هذا الوهم انما وقع تحته مفكر و باحث رائد في الدراسات الرشدية هو الدكتور محمد عابد الجابري الذي يعتقد ان ابن رشد لم تكن له غير حياته العلمية (فليس هناك ما يحكى عن حياة فيلسوف قرطبة خارج حياته العلمية ليس لاننا نفتقد المعلومات عن جوانب اخرى من حياته بل لان حياته لم تكن تعرف جواتب اخرى منفصلة عن نشاطه العلمي ) .
واذا صدقنا الدكتور الجابري بان ابن رشد تمت نكبته بسبب كتاب (الضروري في السياسة ) الذي اختصر فيه جمهورية افلاطون للامير يحيى شقيق الخليفة المنصور وانه كان صاحب مشروع اصلاحي يضع ثقله خلف ذاك الامير فان علينا ان نفترض ان الفيلسوف قد عرف حياة غير علمية ترتبط بمشروعه الاصلاحي فهو –مع فرق العصور – أول مثقف غرامشي في تاريخ الفكر العربي يمتلك مشروعا سياسيا طموحا ويعمل من خلال طبقة –وتنظيم ربما – لانجاح ذلك المشروع ومن كان هذا شأنه لابد ان يكون له حياة غير علمية خصوصا ان كان متحرر الفكر ثاقب الرؤية مليئا بالنشاط والحيوية ويدرك قبل غيره ان اعتكافه لا يفيد كثيرا ما يحمله من أفكار .

لقد كان ابن رشد الرابض امام الاسوار المدببة لقرطبة وكتابه بيسراه- ككل مفكر كبير- متواضعا و قريبا من الناس وليس مفكر صوامع وأبراج عاجية فها هو ابن الابار يقول عنه في كتاب (التكملة لكتاب الصلة ) :
(وكان على شرفه أشد الناس تواضعا وأخفضهم جناحا ،غني بالعلم من صغره الى كبره حتى حكي عنه انه لم يدع النظر ولا القراءة منذ عقل الا ليلة وفاة ابيه وليلة بنائه على أهله ) .
فاذا أضفنا الى ذلك عمله بالقضاء ثم بالطب ندرك خرافة اعتكافه و استحالة عزلته العلمية ونرجح انه مثل معظم مفكري القرون الوسطى كان يعمل لتغيير السلطة والمجتمع من خلال تمرير مشروعه عبر امير متنور وقد وجد ضالته في أبي يعقوب يوسف الذي كان متبحرا في القضايا الفلسفية والفكرية بشهادة ابن رشد التي حفظها عبد الواحد المراكشي في المعجب على لسان احد تلاميذ فيلسوف قرطبة :
(لما دخلت على امير المؤمنين ابي يعقوب وجدته هو وابو بكر بن طفيل ليس معهما غيرهما .....فكان اول ما فاتحني به امير المؤمنين بعد ان سألني عن اسمي وأسم أبي ونسبي أن قال لي : ما رايهم بالسماء - يعني الفلاسفة – أقديمة هي أم حادثة ؟ فادركني الحياء والخوف فأخذت أتعلل وانكر اشتغالي بعلم الفلسفة ولم اكن ادري ما قرر معه ابن طفيل وجعل يتكلم على المسألة التي سألني عنها ويذكر ما قاله ارسطوطاليس وافلاطون وجميع الفلاسفة ويورد مع ذلك احنجاج أهل الاسلام عليهم فرأيت منه غزارة حفظ لم أظنها في احد المشتغلين بهذا الشأن ) .
لقد تميزت المدرسة الاندلسية عن الشرقية بعقلانيتها فحين غرق الشرق العربي في فتاوى الامام الغزالي المتزامنة مع الحروب الصلبية والمصنوعة خصيصا بناء على طلب السلاجقة كهجوم فكري مضاد ضد الفاطميين ( الباطنية بتعبير الغزالي ) كانت المدرسة الاندلسية بقيادة ابن رشد وابن طفيل تقطع شوطا بعيدا في انزال الفلسفة من عليائها وتحويلها الى اداة تغيير بتبسيطها وجعل العامة تفهم مقاصدها فقد كان اول مشروع يكلف به الامير المتنور فيلسوف قرطبة هو – رفع القلق عن عبارة أرسطو- وقد نقل ذلك التكليف كالعادة ابن طفيل الذي كان يعمل بمثابة مستشار ثقافي للامير ثم الخليفة أبي يعقوب يوسف الذي كان يتنقل ككل مستشاريه ومفكري دولته بين قرطبة واشبيليا ومراكش وقد قال ابن رشد عن رفع ذلك القلق اللغوي :
(استدعاني ابو بكر بن طفيل يوما فقال لي : سمعت امير المؤمنين يتشكى من قلق عبارة أرسطو أو عبارة المترجمين عنه ويذكر غموض أغراضه ويقول : لو وقع لهذه الكتب من يلخصها ويقرب أغراضها بعد ان يفهمها فهما جيدا لقرب مأخذها على الناس فان كان فيك فضل قوة لذلك فأفعل )

ان رفع القلق عن العبارة واللغة والفكر لا يقل أهمية عن رفع القلق عن الناس والشعوب فمشروعات التغيير الكبرى تبدأ على الورق قبل ان تتحقق في السياق الاجتماعي والسياسي وما لم يكن المشروع الفكري – السياسي واضحا في ذهن أصحابه يظل نجاحه من الامور المشكوك فيها وكان في ذهن ابن رشد الذي لم نستفد منه كما يجب وأقامت النهضة الاوروبية مشروعها الفكري على العديد من انجازاته وترجماته مشروعا تقدميا خلاقا يأخذ بالعلم دون أن يهمل دور العقيدة ويلتفت للنساء معترفا لهن بحق الرياسة بذات المقدار الذي يخاطب فيه العنصر الذكوري المهيمن .
وصدق او لا تصدق فان ابن رشد كتب النص التالي عن الدور السياسي للمرأة وجواز رياستها في القرن الثالث عشر الميلادي أي قبل ثمانية قرون من هذا الزمان :
( واما اشتراكهن في صناعة الحرب وغيرها فذلك بين من حالة ساكني البراري وأهل الثغور ومثل هذا ما جبلت عليه بعض النساء من الذكاء وسن الاستعداد فلا يمتنع ان يكون لذلك بينهن حكيمات او صاحبات رياسة ) .
وهناك من يبالغ ويعطي لذلك الفيلسوف دورا في حكاية كروية الارض وتحركها وليس ثباتها كما اعتقد الفلاسفة الستاتيكيون طويلا وهي نقطة ماتزال مثار أخذ ورد وجدل وأهمية النص الذي أثارها انه يثبت تواجد ابن رشد منذ شبابه عند الخليفة عبد المؤمن والد الامير المتنور ابي يعقوب يوسف للمشاركة في النهضة التعليمية التي بدأها ذلك الخليفة المطلع بتنظيم الطلبة - تماما كما فعلت حركة طالبان في افغانستان - مع الفرق الذي يفصل بين المتحجرين والمتنورين فالمتحجر يجمع حوله أمثاله فيسجن النساء ويحطم الفنون والمتنور صاحب الافكار الحرة يبحث عن متنورين على شاكلته ففي عهد الخليفة الموحدي الاول –بعد ابن تومرت المؤسس- بدأت حركة تثقيف واعداد شاملة من خلا ل الاكثار من المدارس ثم انتقلت الظاهرة الى الاندلس وبالغ فيها ابنه الاكثر تنورا ابو يعقوب الذي تحفظ كتب التراث له عدة رسائل بعثها الى الطلبة في الجزيرة الخضراء يناقشهم في امور كثيرة أشكلت عليهم ونصوصها لمن يريد الاطلاع عليها عند ابن القطان في ( نظم الجمان ) وحين يهتم خليفة قوي بالحوار الدوري مع الطلاب تدرك حجم و نجاعة المشرع الاندلسي – الرشدي الذي وضعت لبناته الاولى منذ ذلك التاريخ الموغل بالقدم .

المهم ان ابن رشد كان منذ يفاعته جزءا من النهضة الثقافية اتي بدأها عبد المؤمن فنصه عن فلكية الارض وانها ليست كبيرة قياسا الى ما حولها يستشهد برؤيا في مراكش في عهد ذلك الخليفة وقد كان موقفه من تحرك الارض الذي يدل على تفتح مبكر قياسا بذلك الزمان عنوانا لتفكيره المتفتح على وجه العموم وخصوصا من الناحية السياسية التي لا يستطيع ان يهملها كل من يبحث عن الاصلاح لذا لم يكن مستغربا ان نجد له عدة مواقف من سلطة الاستبداد (مدينة الغلبة كما يسميها ) وكما كان مونتسكيو يحكي عن الاستبداد الشرقي وعينه على ( اللواوسة) الفرنسيين كان ابن رشد يستعير مدينة الاستبداد الاغريقية لينتقد الاستبداد المغربي –الاندلسي الذي أعقب حكومة جماعية في مدينته قرطبة شارك فيها جده وفي هذا النقد للاستبداد والمستبدين عبارة قد تكون المفتاح لنكبة ابن رشد فاغلب من ناقشوا القصة السخيفة التي تقول انه نكب بسبب عبارة قال فيها انه شاهد الزرافة عند سلطان البربر – يقصد الخليفة المنصور- يدركون استحالة ان تكون هذه العبارة سببا لنكبة كبرى تصل الى حد النفي واحراق الكتب فالارجح ان تعليقاته الشخصية على كتب ارسطو وافلاطون وربط افكارها بما يجري في الاندلس هي التي قادت الى النكبة المعروفة اما العبارة المفتاح التي تربط اثينا افلاطون بقرطبة ابن رشد جهرا وصراحة لا غمزا ولمزا فهي :
(لذلك تسعى الجماعة الغاضبة الى اخراجه- المستبد- من مدينتهم فيضطر هو الى استعبادهم والاستيلاء على عتادهم وأسلحتهم فيصير حال الجماعة معه كما يقول المثل (كالمستجير من الرمضاء بالنار )وذلك ان الجماعة انما فرت من الاستعباد بتسليمها الرئاسة اليه فاذا هي تقع باستعباد اكثر قسوة وهذه الاعمال هي جميعا من اعمال رئاسة وحدانية التسلط وهي شئ بين في أهل زماننا هذا ليس بالقول فحسب بل بالحس والمشاهدة ) .

وما كان المنصور وهو أقل تنورا من أبيه يحتاج الى تحريض بعد هكذا عبارة فنكب ابن رشد ووضع حدا لمشروعه الاصلاحي الرائد الذي ولد مع الجد عبد المؤمن واغتنى مع الابن ابي يعقوب يوسف ووئد على يد الحفيد المنصورالذي قرب اليه شيوخا - كالملا عمر في عصرنا – من أصحاب الخرافات والمتحجرين وهذه متوالية (هندسة سياسية ) تتكرر في حياة العرب والمسلمين كثيرا الى درجة الغيظ فبدل ان تسير الامور الى الامام بفعل التراكم والتكرار تنتكس الاصلاحات دوما ويتم لتراجع الى الخلف فبغداد التي أحرقت كتب الفلاسفة والمفكرين ايام الخليفة القاهر لم يطل بها الوقت حتى سقطت تحت سنابك خيل الغزاة وكذلك الحال في محنة احراق كتب ابن رشد فان قرطبة لم تصمد طويلا بعد الموحدين لأن الحكم الاستبدادي يفكك بنية المجنمعات ويضعفها بينما السلطة العادلة نسبيا تحافظ على اللحمة الاجتماعية وتجعل البلدان اكثر قدرة على الصمود في وجه غزاتها .
ان احياء الطريقة الرشدية في التفكير أفادت اوروبا كثيرا في نهضتها فلما وصل اسلوب التفكير الرشدي الينا رأيناه يجف ويتحول الى مهرجانات واحتفاليات موسمية اما تأثيره في الحراك الاجتماعي والسياسي من حيث تبني العلم المدني ومحاربة الاستبداد والمساواة بين الرجال والنساء فلم يظهر منه الا أقل القليل فلا تستغرب مع هذا الاهمال الفظيع لواحد من أهم أعمدتنا الفكرية ان ننتكس بدل ان نتقدم وان تزدهر في بلادنا مدارس التكفير الظلامي عوضا عن مدارس التفكير الحر المستنير .

والآن لنترك فيلسوفنا وكتابه بيسراه لنتوجه الى بوابة السور القديم التي لابد من عبورها قبل الوصول الى بيت ولادة في قرطبة وغدا او بعد غد نتابع الرحلة على جناح الحب
 
- 4 -
ظمأ الألفة

عذرا يا صديقي المحب ان بالفلسفة والفكر أمللناك فقد داهمتني كل هذه الافكار عن عصرابن رشد وعنه امام تمثاله في قرطبة واوشكت ان انسى اني أغذ السير باتجاه بيت ولادة وان هناك من يمكن ان يكون قد اصابه الملل فسيرة الفلاسفة ليست مثيرة كسيرة الشاعرات خصوصا اللواتي من طينة بنت المستكفي .

المهم انك وبعد ان تجتاز تمثال ابن رشد وبعده فندق امستاد وسط خضرة وماء , وقرطبيات بلحاظ سود ورموش فاتكة ستتنحرف يمينا من أخر بوابة في السور وذلك قبل ان تصل الى تمثال الفيلسوف الروماني سينكا الذي تفتخر قرطبه بانجابه مع فلاسفتها وشعرائها المسلمين واليهود والمسيحيين . وما ان تنحرف يمينا وكل ما في هذه المدينه يشجع على الانحراف والاستقامه معا ستجد نفسك في "كازا برافو" التي تقودك بعد انحرافه اخرى على اليمين الى "جالا المنصور" وهناك في ذلك الزقاق الضيق والعابق بالشذا الغامض ستجد دار ولادة في انتظارك وهي تحمل الرقم 26 في جالا المنصور ان صحت توقعاتي التي بنيتها على الغريزه الجمالية وعلى مجموعة قرائن شعرية ألمحنا اليها بايجاز وحان أوان توضيحها .
لقد افترضت استنادا الى اشعار متيمها وضحيتها ابن زيدون ان ولادة كانت تسكن في الحي الغربي من قرطبه , فهو يصفها مرة بالقمر الذي يطلع من الغرب :
يا قمرا مطلعه المغرب
قد ضاق بي في حبك المذهب
وفي قصيدة اخرى جاءت قافيتها بائية بالصدفه يشبهها بالشمس التي تطلع من الجهه الغربية ايضا :

انساني التوبه من حبه
طلوعه شمسا من المغرب
وبما ان الجانب الغربي من قرطبه - الارباض الغربية بلغة ابن حزم - شاسع ومتسع ويصعب حصره , فقد انتظرت محتارا الى ان جاءت القرينة الثالثه في قصيدة سينيه يشنع فيها عليها ضمنا , أو لعله يتظارف ويداعبها فيتهمها بأنها من اليهود :

ليس منك الهوى ولا انت منه
اهبطي مصر انت من قوم موسى
واذا جمعت قرائن الحي الغربي مع قرينة قوم موسى جاز الافتراض بأن ولادة كانت تسكن قرب حي اليهود بالمدينه العتيقه وربما تحديدا على اطراف ذلك الحي اليهودي الذي كان ككل احياء اليهود في القرون الوسطى - غيتو – مغلق على أهله ومصالحهم ومعاشهم وتلك الصفات التي ترد في الشعر تنطبق جميعها على المكان الذي حددناه , والذي يقع على بعد امتار قليلة من "السيناجوج" اليهودي الذي يربض في مدخل الشارع المؤدي اليه الفيلسوف ابن ميمون .

وقد يعترض معترض على هذا التحديد بقول ربما كانت ولادة تسكن عند باب اليهود الذي يقود الى الرصافه التي بناها عبدالرحمن الداخل تيمنا برصافة جده هشام في الشام , واعتراض من هذا النوع لا بد ان يسقط تلقائيا حين نعلم من متابعة التطور العمراني الذي مرت به قرطبه ان المسلمين كرهوا تلك التسمية من بدايتها وغيروا اسم باب اليهود الى باب الهدى في فترة مبكرة من عمر التاريخ الاسلامي في تلك المدينه العريقه التي ينسبون تأسيسها الى الامبراطور الروماني اوكتافيو .

ولا بد ان ولاده كانت تعابث جاراتها , ومهجه بالتحديد , ما بين ( المنصور وروميرو ) الذي يقود الى ساحة سالازار حيث الطيور تداعب جبهة تمثال الغافقي الذي يربض في تلك الساحة تحت اشجار عمرها من عمر الزمان .
لقد حل المساء رخيا ومنعنعا وصار لا بد ان نغادر ذلك الشارع المسكون بالشبق والعبق وتلك الدار التي كانت صاحبتها تطل من سطحها على نهر الوادي الكبير الذي اغرم به قبلها شيخ العاشقين وصريع الشقراوات الذي قال في كتابه المسطور بثقة ما بعدها ثقه انه خبير بشؤون النساء ويعرف عنهن ما لا يعرفه احد غيره . فهو القائل :
"واعلم ان قيافة النساء في من يميل اليهن أنفذ من قيافة مدلج في الأثار" . هكذا صرح بأستاذية لا يخفيها , ولا ينبغي له ان يخفيها ذلك الخبير النسائي الكبير الذي تعده الثقافات الأوروبية قبل العربية إماما في الغزل , وقد جاءت تلك الخبرة لأبي محمد بن حزم من المعاشرة المبكرة للنساء والتعايش الطويل مع الأنوثه المقطرة تحت سقف واحد , فهو القائل :
"شاهدت النساء وعلمت من أسرارهن ما لا يعلمه غيري , لاني ربيت في حجورهن ونشأت بين ايديهن , ولم اعرف غيرهن ولا جالست الرجال إلا وأنا في حد الشباب وحين تفيل وجهي" .
ولك ان تعتبر تلك الطفوله الطويله والمراهقه الممتده بين النساء الركيزه الأولى التي نهضت عليها تلك الشخصيه المبدئيه المثيرة للجدل , فكل ما في الأنثى يجذبنا الى الأعلى كما يقول الشاعر الألماني جوته , وهذه لمحة حدسيه بارعة ادركها قبله ابن حزم مؤلف طوق الحمامة حين لاحظ بقلب العاشق وعقل الخبير ان الحب يدفع الى التسامي والعلو , وان المحب يفعل الأعاجيب ليطلق الواقع ويرتفع الى حجم المثال ارضاء للمحبوبه , والحقيقة ان الجاحظ قد سبق الاثنين في النص على أفضلية المرأة حين قال انها أرفع حالا من الرجل لأنها تُخطب , وتُراد , وتُعشق , وتُطلب , وحين يقع الخطر هي أول من يُفدى ويُحمى .
ألقيت التحية على شيخ العاشقين ابن حزم , وكان تمثاله يربض فوق ساقية جف ماؤها خارج السور , ورأيته يمسك صحيفته بشماله , ويشبك ابهامه بزناره في محاولة سريعة لاصلاح هندامه قبل النزول من فوق تلك القاعده المربعه التي اختاروها له على مدخل حي بلاط مغيث حيث عاش وأسرته في الربض الذي انشأه مغيث الرومي غلام الوليد بن عبد الملك الذي دخل قرطبه من ذلك المكان بحدود عام 92 للهجره , وأقام فيه دون أن يدري ان شمس بني أمية ستشرق ثانيه منه بعد ان غيبتها الفتن , وازالها الظلم والفساد من سماء دمشق .
ولا يمكن لك مهما كنت محبا للانتقاد الا ان تثني على عبقرية اختيار تلك البقعه لابن حزم الجديد , فهناك كان يقع باب العطارين الذي ذكره اكثر من مرة في ( طوق الحمامة ) حيث تجتمع النساء , وينشط بيع العطر والمساويك والثياب والبخور , وعلى هامش تلك الأنشطه الفرعية يعيش النشاط الأساسي المتمثل في تبادل الغزل ورسائله وشجونه وحكاياه , فعند ذلك الباب الذي يطلقون عليه اسم باب اشبيليا احيانا - كما قال - كانت عجائز قرطبه يرحن ويجئن بين الجنسين محملات بالرسائل والهدايا , ويواصلن سعيهن في السلم والحرب لجمع الرؤوس بالحلال .
وقد اخلص ابن حزم لتقاليد باب العطارين وعجائزه , واعطاهن فصلا مستقلا في كتابه الغرامي الشهير ووصف مهامهن بالسفارة , وأطلق على الباب الخاص بهن اسم "السفير" وأظهر احتراما كبيرا لدورهن ولم يعتبرهن كغيره من "الغلاظ" بمرتبة القوادات المحترفات لأنه كان وككل محترم متحضر يرى في المرأة شيئا آخر غير الجنس وحده وما هو طبعا بالقليل , ومن هذا المنطلق اجتهد ابن حزم ليبعد عنهن "السفيرات"اية شبهة من شبهات القوادة فقد كن – على ذمته – يعتبرن وصل الأحبة والتقريب بين القلوب العاشقة ثوابا يؤجرن عليه .
وكان ابن حزم كما نظن يعاني مرضا خطيرا أسمه ظمأ الألفة ليس للمرأة فقط ولكن للأشجار والطيور وأحجار الطرقات , فمن هذا الطريق الممتد من( سان باسيليو ) الى رملة قرطبة كان يعبر يوميا في طريقه من الجامع واليه , وكان يجمع أخبار العشق والعشاق قبل فلورنتينو أريسا في " الحب في زمن الكوليرا". ويشهد العالم ينهار من حوله لبنة اثر لبنة فيتشبث بالموده والألفة الانسانيه ليقاوم بهما كل ذلك الخراب . وكيف لا يفعل ذاك ويلجأ الى ذلك الحضن الحميم وهو القائل عن الود :
اودُك وداً ليس فيه غضاضه
وبعض مودات الرجال سراب
اذا حُزته فالأرض جمعاء والورى
هباء وسكان البلاد ذباب
لقد عجز المستشرق الهولندي رينهارت دوزي الذي اكتشف النسخة الوحيدة المعروفه من كتاب " طوق الحمامه" عام 1841 للميلاد بين مخطوطات جامعة ليدن , عجز عن ان يفهم عذابات تلك الروح العربية , او ان يعرف مصدر النبع الذي تستقي منه ذلك الشغف بالموجودات , وتلك الحالات الراقية المتسامية من الحب , لذا رد هو وغيره حالات الحب الروحي في كتاب "طوق الحمامه" والحب العذري بعامة الى الأصول المسيحيه , وكانوا في ذلك الموقف على خطأ , فقد نشأت قصص الحب العذري بين القبائل البدويه المسلمه . ولو كانت قصصه ذات أصول مسيحيه لازدهرت في الحيرة أو عند الغساسنه في الشام أو في نجران على ابعد تقدير .

ولم يكن ابن حزم الذي استكثروا عليه ذلك السمو , انطلاقا من اشتهار الثقافة العربية بالحسيه والشهوانيه , عاشقا عذريا , ولا منظّرا للعذريه , بل لم ترد لفظة "عذري" في كتابه قط لأنه لم يكن يرى بكلاسيكية غبية ذلك التعارض بين الروح والجسد , وهذا ما سنتعرف عليه بالتفصيل بعد العبور سريعا على الرمز المشهور لراهب طيبه الذي أحرق أصابعه بالنار ليقاوم بلهبها فتنة امرأة هجمت عليه بأقوى أسلحتها , ولوحت له عن بعد ببطاقة دعوى يصعب رفضها .

(كل مقاومة مرشحه للأنهيار مهما طالت وتدعمت حصونها) .. هكذا ناجى راهب طيبه نفسه ذات مساء , وهو يبحث عن مخرج من محنته المتمثله بامرأة كانت تتجرد من ثيابها كل مساء وتأتيه ماشيه تحت ضوء القمر لتزلزل كيانه وصومعته وعالمه الجاف المرشح للسقوط تحت اضعف ضربة حب أو لمسة حنان . وتخلصا من تلك الحالة المرعبة قرر راهب طيبه التقي أن يقاوم النار بالنار , فأشعل حطبه وانتظر على الجمر الى ان بدأ يشعشع دون لهب , ثم وضع اصابعه فيه ليتخلص منها ويعذب نفسه التي تغويه باللمس بالقضاء على ادواتها اللامسة .
ان مقاومة الأقصى بالأقصى والسلاح الثقيل بما هو اثقل منه والتخلص من أداة الجريمه قبل التفكير بارتكابها والنظر الى الخطيئة الجسديه كجريمه مميته للروح , مؤشرات تنتمي الى مجتمع مختلف عن المجتمع القرطبي , والى عقلية مختلفة عن عقلية ابن حزم الذي روى تلك القصة في "طوق الحمامه" منسوبة الى طبيب يهودي , وهي من القصص الشائعة في الأدبيات المسيحية التي حاول اقطابها على الدوام اقامة حواجز منيعة بين الروح والجسد . وكان ابن حزم الذي حير المستشرقين بأفكار الحب السامي قد أتى من ثقافة حلت ذلك التعارض , وخففت من بعض تلك الحواجز , ووجدت ان من الممكن ان تعيش الروح دون الحاجة لإماتة الجسد .
وعند هذا المفرق الذي ينتمي الى السهل الممتنع حضاريا اخطأ دوزي , ثم اخطأ ماسينيون , والتقط أطراف الخيط الرهيف والصائب البارون فون شاك صاحب كتاب "شعر العرب وفنهم في اسبانيا وصقلية" الذي كان من اوائل من انتبهوا الى السمات الحضارية الاندلسية المتعلقة بالموقف من المرأة . فقد تخلصت قرطبة من احادية الجاذبية الجسديه وصارت تنظر الى ثقافة النساء وفنونهن وذكائهن وملاحة احاديثهن وتضع كل ذلك فوق اغراء الجسد في ميزان الترجيحات القرطبية .
وفي محيط من هذا النوع تشرب مؤلف "الطوق" تقاليد الحب السامي دون عقد مسبقة , ولما لم يجد ارث الخطيئة الاولى على كتفيه كمجاوريه من فلاسفة وشعراء قشتالة , فقد تحدث عن الحب بتلقائيه ساحرة , وزين احاديثه باعترافات صريحة صدرت عن مجرب نظر الى الوصل كمحطة ضائعة بين عشقين , او كسراب عابر "مارويت من ماء الوصل ولا زاردني الا ظمأ" وهي عبارة شديدة الانسانية تحيل الى ذلك التوق الدائم الى حب كبير غير قابل للانطفاء .
ان الحب الجسدي لا يشبه شيئا بمقدار شبهه للقطارات السريعة التي لا هدف لها الا الوصول الى المحطة , أما الحب الروحي القابل للحياة فيشبه الجدول العذب الرقراق الذي يتبختر متهاديا بين الضفتين , فيداعب الفراشات ويلون الازهار , ويستريح في الظلال , ويعابث بحبور ملحوظ الطيور والاشجار , مستمتعا بالحالة منذ منبعها دون ان يفكر بما ينتظره عند مصبها .

واياك ان تظن ان العشاق الروحيين اقل انانية من العشاق الماديين , فهم يمتنعون عن الوصل طمعا بالجائزه الكبرى التي ينالونها حين تصبح الرغبة املا خالدا في النفس , وشمعة دائمة الاشتعال . وقد كانت قرطبه تعرف النوعين ولكنها ورغم سمعتها بالمباذل كانت تحتفي بعشاق الروح , وتحاول ان تؤنسن حالات الحب وتخرج بها من بهيميتها وبدائيتها . فهي مدينة عذبة الروح وواسعة الأفق وتساعدك طبيعتها الودودة على تمديد الشساعة الأصلية لسمعتها التاريخية وأفقها الجمالي منذ أن أطلقت عليها الراهبة روزيتا في القرن التاسع عشر الميلادي لقب ( جوهرة العالم الساطعة).
ان ابن حزم الذي كان يسكن حومة بلاط مغيث على طريق الزهراء خلاصة عطرة لتلك المدينة التي تشدني قبل اخواتها الاندلسيات
فكلما عبرت الاندلس يشدني الشوق الى قرطبة أكثر من غيرها لا شوقا لولادة وابن زيدون وابن ميمون وابن رشد بل قبلهم جميعا لابن حزم الفقيه العاشق الذي أطلنا الوقفة عند تمثاله لانه يستحق فهو الذي صنع بلطفه ورقته وجمال مخيلته المشدودة الى واقعها بخيوط من حرير تاريخا لرومانسيات القرون الوسطى عند الاوربيين وعندنا فلهجته وتسامحه وبذخه الروحي الحميم تختلف جميعها عن كل ما ألفناه من كتب الحب وحكاياته في التراث المشرقي .
وما يزال في الجعبة بقية من رشفات قرطبية حول ولادة وعشاقها فالى الغد او بعده لنتابع على صهوة الشوق أخبار أميرة الغرام والأنتقام


.
 
- 5 -
فقيه الحب المعتق
Photo+002.jpg


لماذا غابت ولادة عن أهم كتب الحب في التراث العربي واعني به "طوق الحمامة" لمواطنها ومعاصرها ابن حزم ؟ سؤال محير لا تجيب عنه سياسة المؤلف الذي كان امويا حتى العظم أي محبا لأسرتها بل ونكب أكبر نكبات حياته بسبب تلك الاسرة حين اتهمه خيران صاحب المرية بالانقلاب عليه ومحاولة اعادة الحكم للامويين وما كان الرجل بالقصة جاهلا بل ربما كان على صلة بابن زيدون وزير المعتضد والد المعتمد وسفيره الى الامارات الاندلسية المجاورة ...هذا السؤال نتركه معلقا على جسر قرطبة على أن نعود اليه بعد أن نستكمل واجب التحية لأجمل عاشق في قرطبة وأرق كاتب في لغة الضاد من جاهليتها الى حداثتها

بعض الناس تشدهم غرناطة بحمرائها ومآسيها وتنهيدة العربي الأخير فيها لكنها في النهاية ومهما قيل عنها مدينة دسائس سياسية ومكائد سلطوية ودم يسيل ليملأ الآبار و يجري في النوافير كما حدث أبان نكبة بني سراج
وهذا ما لم يكن ينقص قرطبة ففيها ايضا دم كثير لكنها وكلكل المدن الذكية التي تحتفي بجماليات الروح على قدم المساواة مع عربدة الجسد قدمت رومانسياتها وفلسفتها على دسائسها فصارت مدينة للعشق وتسامح الروح الباذخة التي تتنشقها الى اليوم صافية على قنطرة الوادي الكبير.
وقد كان ابن حزم من أكثر ابنائها نجابة وسعة أفق لذا لم يصعب عليه ان يكون عاشقا وفقيها في الوقت نفسه وان يشتهر بكتاب (الفصل في الملل والأهواء والنحل )بذات المقدار – وربما أكثر – الذي اشتهر به بكتاب (طوق الحمامة في الألفة والآلاف)الذي ألفه كما ينص في المقدمة لخيران صاحب المرية من حيث الظاهر – وهوظاهري –أما من حيث الباطن والتأوبل فذاك الكتاب كما أظن باقة اخلاص لحب قديم تملكه وسد عليه منافذ الأفق وكان لابد لتلك التجربة ان تخرج بطلب او دونه فالحب المعتق في قوارير الماضي كعفاريت القماقم يظل يتلجلج ويدور في المسارب والفضاءات المغلقة حتى يكسر القمقم ويخرج الى النور .

ولا يخفي ابن حزم حكاية روحه المعذبة بحب أفلت صاحبته ولم يأفل فهو يخبرنا تلميحا بلطف منذ اول الكتاب في باب (من احب صفة لم يستحسن بعدها غيرها مما يخالفها ) انه احب - بلوندية - شقراء في صباه ولم يفكر بعدها في الشعر الاسود وصاحباته مهما بلغن من الجمال والفتنة (ولو انه على الشمس او على صورة الحسن نفسه )
ثم يصرح بالقصة كلها في باب البين في نهاية الكتاب :
(وعني اخبرك اني احد من دهي بهذه الفادحة وتعجلت له هذه المصيبة وذلك اني كنت من اشد الناس كلفا واعظمهم حبا بجارية لي كانت فيما خلا اسمها نغم وكانت امنية المتمني وغاية الحسن خلقا وخلفا وموافقة لي وكنت ابا عذرها وكنا قد تكافأنا بالمودة ففجعتني بها الاقدار واخترمتها الليالي ومر النهار وصارت ثالثة التراب والاحجار وسني حين وفاتها دون العشرين وكانت هي دوني في السن فلقد اقمت بعدها سبعة اشهر لا أتجرد عن ثيابي ولا تفتر لي دمعة على جمود عيني وقلة اسعادها وعلى ذلك فوالله ما سلوت حتى الان ولو قبل فدا لفديتها بكل ما املك من تالد وطريف وببعض اعضاء جسمي العزيزة علي مسارعا طائعا وما طاب لي عيش بعدها ولا نسيت ذكرها ولا أنست بسواها ولقد عفى حبي لها على كل ما قبله وحرم ما كان بعده ) .
لقد كانت ذكرى نغم – حب في زمن الحرب – فزمن ابن حزم كان من حيث الاضطراب السياسي كزماننا استطيب فيه السياسيون قوانين القوة الغاشمة فلم يعملوا بغيرها ولم يكن بيد الفيلسوف العاشق وخبير الملل والنحل غير عقله وقلمه فاستخدمهما بالتوازي والتقاطع ليحكي عن عالم قلق ويحلم بآخر أفضل فيه الكثير من الحب والقليل من الدم والكراهية .
لقد كتب علي بن احمد الاندلسي كتاب الطوق الذي صار علامة فارقة في تاريخ العشق العربي والانساني في لحظات انكساره السياسي والفكري فقد حبسه صاحب المرية لاحقا بتهمة التحريض لقلبه واعادة الحكم الاموي وقبل ذلك نهبت ضياعه وصودرت امواله وشرد من دياره ومنازل حبه وغرامه فلم يعد اليها الا ليجدها قاعا صفصفا وليرثيها شعرا ونثرا في نصوص حفظها وزير غرناطة المنكوب مثله لسان الدين بن الخطيب :
(وقفت على اطلا ل منازلنا بحومة بلاط مغيث من الارباض الغربية ومنازل البرابر المستباحة عند معاودة قرطبة فرأيتها قد محت رسومها وطمست اعلامها وخفيت معاهدها وغيرها البلى ... وكررت النظر فيها ورددت البصر وكدت استطار حزنا عليها وتذكرت ايام نشأتي فيها وصبابة لداتي بها مع كواعب غيد الى مثلهن يصبو الحليم ) .

وانطلاقا من هذه المصائب المركبة والخلفيات تصبح استعاديات الحب واللحظات السعيدة عمل احياء وبناء عوالم متوازية للسلوى التي قد تتحول حين تتكثف بفنية عالية الى حياة ثانية ألم يكتب مارسيل بروست ملحمة ضخمة من عدة اجزاء ليعيد رسم الاشياء والاحداث التي تعبربسرعة وتختفي فلا يظل منها الا أشباح الذكرى فكتاب طوق الحمامة بهذه المعاني ووسط تلك الاضطرابات رقصة من رقصات التحدي التي تنتصر لثوابت الحياة واقانيمها العادلة الرهيفة واولها الحب الذي نظنه ضعيفا قليل التاثير ثم نكتشف كما قالت( سيلين ديون)في احدى اشهر اغانيها بعد ابن حزم بالف عام انه سحر خفي يحرك الجبال الشوامخ ويخلق للعاشق أجنحة ليحلق مثل الطيور الى الاعالي :
لا شئ يمنعنا من التحليق
ان نكون في قلب الليل وقلب الضوء
الحب يمكنه ان يحرك الجبال
ولانه بجانبنا سنطير ونلمس السماء
يمكننا عمل كل شئ والوصول الى كل شئ
الحب وحده من يمكنه تحريك الجبال
لقد كانت هذه المعاني الحديثة كلها واضحة في ذهن الفقيه العاشق الذي أثر كتابه شرقا وغربا وصار مرجعا لتاريخ الرومانسية لأنه قدم الحب على ما سواه فالعشاق عنده أهم من الحكام ونفوذ المحب المتأكد من حب حبيبته وهيبته عندها وفي نظر نفسه والناس لا يعدلها اي نفوذ ولااية هيبة :
(الحب مكان تتقاصر دونه اللغات وتتلكن بتحديده الالسنة ولقد وطئت بساط الخلفاء وشاهدت محاضر الملوك فما رأيت هيبة تعدل هيبة محب لمحبوبه ورايت تمكن المتغلبين على الرؤساء وتحكم الوزراء وانبساط مدبري الدول فما رأيت اشد تبجحا ولا أعظم سرورا بما هو فيه من محب أيقن ان قلب محبوبه عنده ووثق بميله اليه وصحة مودته له ).
ولا عليك من لفظة - تبجحا – فالمؤلف يعنيها في سياقها الطاووسي حين ينفش المحب ريشه كالطاووس مدلا بمكانته عند من اختارها القلب فردت التحية باحسن منها وأجرت كل ما عندها من بحار الحب ومحيطاته باتجاه من كانت تكفيه ساقية ليسعد بالسباحة في ذلك الكون الرهيف الاليف الودود الحميم الذي يحلم به خلق كثير ولا تدركه الا القلة المحظوظة .

وقد افترضت ذات يوم وما زلت الح على هذه الفرضية دون ان أعثر على وثائقها بان ثرفانتس بكل براحه الروحي الاندلسي النبيل ربما يكون قد اطلع على الطوق وربما كانت شخصية ابن حزم من النماذج الطوباوية التي استوحاها في رسم ا الخطوط العامة لدون كيخوته دي لامانتشا فكل مواقف ذلك الفيلسوف والفقيه والعاشق الكبير كانت في صف العدل والاخاء والمساواة والحرية وكان في كل ما كتب حربا على الطغاة والمستبدين والظلمة وليس من المستبعد ان يكون ثرفانتس الذي تطفح رائعته بالاسماء العربية قد عرف الطوق وغيره من مؤلفات ابن حزم فقد تم اسره وامضى في الحبس اعواما في الجزائر في محيط عربي اطلع فيه على الكثير من المخطوطات بعد ان تعلم العربية هناك في السنوات الخمس التي امضاها بانتظار من يفك اسره ثم ان ثرفانتس عاش كما هو معروف ردحا من حياته في ايطاليا وتعلق بثقافة الايطاليين وبشيخهم دانتي وهذه قرينة اخرى فهناك من يفترض ايضا اطلاع دانتي على طوق الحمامة ويدل على ذلك بوجود كتاب للعبقري الايطالي اسمه (الحياة المجددة –لافيتا نوفا) وهذا التعبير من صفات الحب في الطوق ففي باب الوصل يقول ابن حزم :
(ومن وجوه الوصل وهو حظ رفيع ومرتبة سرية ودرجة عالية وسعد طالع بل هو الحياة المجددة والعيش السني والسرور الدائم ورحمة من الله عظيمة ولو لا ان الدنيا دار ممر ومحنة وكدر والجنة دار جزاء وامان من المكاره لقلنا ان وصل المحبوب هو الصفاء الذي لا كدر فيه والفرح الذي لا شائبة فيه ولا حزن معه وكمال الاماني ومنتهى الأراجي ).
وقد تساءل الدكتور الطاهر احمد مكي صاحب اكمل تحقيق للطوق وهو يعلق على تعبير – الحياة المجددة - الذي اعاد استخدامه دانتي :أكان مجرد التقاء فكر بين عبقريين ام ان الاديب الايطالي عرف الطوق ؟وما يزال هذا السؤال معلقا بانتظار دراسة معمقة كتلك التي جرت بين الكوميديا الالهية ورسالة الغفران وكانت نتائجها لصالح ابي العلاء المعري من حيث اثبات تاثيره في رائعة دانتي .
وبالسنبة لدون كيخوتة يظل ابن حزم اقرب للتاثير والتأثر من حيث استيحاء النموذج الطوباوي للفارس النبيل لا لوجوده في الاندلس بل لالحاحه على معاني الفروسية العقلية وذاك هو الهدف المضمر لثرفانتس الذي سخر في كتابه الجميل سخرية مرة من الفروسية الفارغة البلهاءالتي لا تنتج الادما ودمارا ولا تزدهر الا بالاكاذيب والتبجح والعنجهية .
وفي ما يتعلق بالفروسية العقلية - وهذه ميزة أظهرها صانع تمثاله في قرطبة - كان ابن حزم فارسا لا يشق له غبار وأحد المتحدين الكبار لجهل العامة ولاستبداد الولاة فحين احرقت كتبه في اشبيليا في زمن المعتضد بن عباد والد المعتمد نظم تلك الابيات التي تنضح باحتقار اعداء المعرفة وتقلل من انتصاراتهم بعد حفلات احراق الكتب التي تتكرر بوتيرة مخيفة في التراث العربي المشرقي والاندلسي
يقول الفقيه العاشق للذين أحرقوا كتبه :
دعوني من احرا رق وكاغد
وقولوا بعلم كي يرى الناس من يدري
فان تحرقوا القرطاس لم تحرقوا الذي
تضمنه القرطاس بل هو في صدري
يسير معي حيث استقلت ركائبي
وينزل ان انزل ويدفن في قبري
ومع هذا التحدي المعرفي لاعداء السماحة والمعرفة و الذي يدل على فروسية عقلية باهرة وثقة بالنفس لا يمكن انكارها كان ذلك الفارس الذي لا يبارى في المحاججة العقلية والمناظرة يذوب رقة حين يحكي عن الحب وعذابات القلب وكانت الخبرة الشفافة المرهفة تطل من كل حرف من حروف كتابه الممتع الاليف :

(الحب – اعزك الله –أوله هزل وآخره جد دقت معانيه لجلالتها ان توصف فلا تدرك حقيقتها الا بالمعاناة وليس بمنكر في الديانة ولا بمحظور بالشريعة )ومن يبدأ هكذا بدايات حيية خجولة لا بد ان يتابع على ذات الوتيرة من الرومانسية العفيفة المبرأة من الشهوانية الصريحة – وكل مكشوف ممجوج –ولعله بسبب هذه الصفة بالذات تم اخراجه من سياق الرومانسية العربية بجرة قلم استشراقية فالعرب شهوانيون حسيون لذا يجب ابعاده عنهم ونسبة طريقته في التعبير عن العواطف الى العالم الغربي .

واول من شجع على هذه الطريقة في التفكير وفي ابعاد ابن حزم عن جذوره المستشرق الهولندي ( رينهارت دوزي) مكتشف مخطوطة طوق الحمامة في جامعة ليدن بين المخطوطات الغزيرة التي جلبها (فون وارنر)في القرن السابع عشر من الآستانة .
يقول دوزي معلقا على غرام ابن حزم في كتاب – تاريخ مسلمي اسبانيا- :
( يلاحظ في هذه القصة ملامح عاطفية رقيقة غير شائعة بين العرب الذين يفضلون بصفة عامة الجمال المثير والعيون الفاتنة والابتسامة الساحرة والحب الذي كان يحلم به ابن حزم يختلط بما هو حسي وجذاب لكن فيه ايضا ميلا الى ما هو اخلاقي من رقة بالغة واحترام وحماسة من يأسره جمال رائع وديع فياض بالكرامة الحلوة لكن يجب الا ننسى ان هذا الشاعر الاكثر عفة – واكاد اقول الاكثر مسيحية – بين الشعراء المسلمين ليس عربيا خالص النسب انما هو حفيد اسباني مسيحي لم يفقد كلية طريقة التفكير والشعور لبني جنسه هؤلاء الاسبان الذين تعربوا يستطيعون ان يهجروا دينهم وان يبتهلوا بمحمد بدل المسيح وان يلاحقوا بالسخرية اخوانهم القدامى في الدين والوطن ولكن يبقى دائما في اعماق ارواحهم شئ صاف رهيف و روحي غير عربي ) .
ومن هذا الدليل الذي ينضح بثقافة عنصرية تدرك ان ابن حزم الذي عاش في القرن العاشر الميلادي كان أكثر تحضرا من دوزي ابن القرن التاسع عشر فالمسألة لها علاقة بالنفوس لا بالاعراق والاجناس والتواريخ والنفس الحسنة – بلغة ان حزم – ترى الجوانب الحسنة وتبحث عن المتآلف بين الافراد والشعوب وتجعل من قيم الحب بوصلة تبعد صاحبها عن الذم والمثالب والاساءة دون معرفة فالحب الاخلاقي الوديع الفياض بالكرامة عرفه العرب في باديتهم قبل ابن حزم بقرنين من الزمان في مضارب بني عذرة وعند شعرائها الذين تشكل قصصهم مع الذين جنوا عشقا ثلث قصص الحب في التراث العربي .
ان الحب على مذهب ابن حزم ليس حب الذكر للانثى وحسب لكنه اكثر شساعة وبراحا من الثنائية الجنسية فهو يمتد عبر الكون كروح خفية خلاقة تبعث الحياة في الكائنات وتعطي للوجود معناه الغائب المفقود .
ولم يكن ابن حزم مخترعا فحسب بل وارثا لروح قرطبة تلك المدينة الساحرة والشاسعة الفتنة التي ما تزال رغم نكباتها ومآسيها تتقطر بالود والألفة والمحبة الآسرة .
ويكفيك للاحساس بتلك الروح ان تقف على جسر النهر الكبير ساعة الغروب أمام أشجار مجللة بعصافير تعزف دون انقطاع للعابرين الى الضفة الجنوبية باتجاه القلعة الحرة , فهناك حالة تشبه الحب , فيها البساطه وفيها التعقيد وفيها الالغاز ايضا . فقرطبه القديمة نفسها تلف مع النهر على شكل علامة استفهام قمتها محطة القطارات الجديده ونقطتها المناره العتيقة التي تشكلت تحت ظلالها الروحية شخصية ابن حزم دون كيخوته العربي الذي حارب الظلم وبحث عن العدل وحاول إحياء أخلاق الفرسان قبل أن يولد ثرفانتس بعدة قرون .


.../...
 
- 6 -
أميرة سيئة السمعة

من موقعي على قنطرة قرطبه القديمه التي ينسبون الأمر ببنائها الى الخليفة العادل عمر بن عبد العزيز , كنت أرى الجسر الجديد يلوح مقوسا عن بعد فيبدو في لحظة تختلط فيها الوقائع بالأخيله كخاتم مهجور رمته عاشقه غاضبه , فغرق نصفه بالنهار وظل نصفه الأعلى ينحني منكسرا على الماء , فيغري الطيور بالنفاذ منه الى أفق مجهول , وربما خطر للطير ان ينفذ من تحت الجسر ثم يعود من فوقه ليستعرض بخيلاء المجنحين قدرته على الطيران في فضاء المدينه التي فكر فيها الانسان لأول مرة بتجريب التحليق بالأجنحه .

لقد كان حكيم الأندلس عباس بن فرناس يعيش بقرطبة حين احتال كما يقول الرواة في تطيير جثمانه وكسا نفسه بالريش ومد له جناحين وحلق مسافة محترمة من الوقت والمدى لكنه لم يحسن الهبوط , فتأذى في مؤخرته على ذمة المراكشي والمقري .
ومن المؤكد ان مؤخرة ابن فرناس كانت ستكون في وضع أفضل لو انطلق في تجربته من القنطرة القديمة وليس من قمة جبل الورد فوق مدينة الزهراء وعلى العموم فقد أفاده ذلك العجز في التفرغ لأبحاثه العلمية فتوصل الى أسرار صناعة الزجاج واخترع أول ساعة محترمه في التاريخ وأطلق عليها اسم ( الميقاتة ) دون ان يدري أن قومه لا يفكرون بالزمن وانهن سينسون فتوحاته العلمية والفلكية كلها ولا يتذكرون منه الا ما حدث لخلفيته غير الفكرية اثناء تحليقه بجناحين و هبوطه غير الناجح بذيل مقصوص .
ولقد كانت نهاية القنطرة من طرف الجامع والتي تعرف حاليا باسم بوابة الجسر موقع لقاء العشاق في قرطبه , والبقعه التي تخرج اليها النساء لاستعراض الأزياء في مواسم نظمها زرياب وطورتها بعده جاريته متعة وابنته حمدونه .
والحقيقه ان زرياب كان أهم من( كريستيان ديور) في زمانه , فقد نقل معه الى الأندلس بالاضافة الى تقاليد الغناء مؤسسة متكامله للعطور والأزياء وتقاليد المجتمع المخملي الأنيق . ولم تكن ولادة وصحبها الا بعض غراس كرم زرياب

وقد كان ذلك المحب الكبير للحياة والمرح وأناقة الجسد والروح يختار مطلع كل ربيع ليطلق في مدينة تشكو من البطر والتخمة وفائض الثروات ازياءه العجيبه التي كان الناس يتبخترون بها على جانبي القنطرة التي أخذت شهرتها مما يجري حولها وليس من احجارها , فقناطر الانهار كثيرة لكنها لم تحظ كقنطرة قرطبة بمن يحيلها الى مركز للكون ويجعل منها ما تمثله باريس للعالم في هذه الايام من رموز الرومانسية والحرية والتحضر والاناقة .
واستنادا الى تلك الخلفيات , ومعظمها صحيحه باجماع الرواة , صارت القنطرة التي تربط الجامع بالقلعه الحرة القطب الرابع الذي تباهى به قرطبة الأمم :
بأربع فاقت الأمصار قرطبه
منهن قنطرة الوادي وجامعها
هاتان ثنتان والزهراء ثالثة
والعلم أعظم شئ وهو رابعها
وكان بامكان قرطبه ان تظل سيدة العالم القديم والوسيط في ذلك الجزء من الدنيا لآماد طويله لولا ان القبائل التي استوطنتها اكثرت من الشغب وافسدها البطر وأدمنت الفتن فاشتهر فيها غير فتنة البربر فتنة ربض شقندة التي قمعها الحكم الاول بقسوة لا نظير لها وأحال أحياء كاملة منها الى مقبرة تعرف بمقبرة الربض ونظرا لتلك السمعة صار ولاتها يجأرون بالشكوى , وكان الوالي الذي يكلف بادارتها يستعيذ بالله من شياطين الانس والجن عشرات المرات قبل أن يبدأ مهمته الفاشله سلفا وقد حملت تلك المدينة القلقه سمعتها معها الى قرون تالية , فصاروا يقولون ان اسمها باليونانية يعني موطن أصحاب القلوب المشككه , ولعل خير ما يمثل موقف الولاة منها ما قاله عنها لاحقا شقيق سلطان المغرب يعقوب المنصور المعروف بأبي يحيي الذي أقام صلاة الشكر حين فصل عن ولايتها ولما سئل كيف وجدت أهل قرطبه قال : "مثل الجمل أن خففت عنه الحمل صاح , وان أثقلته صاح , ما ندري أين رضاهم فنقصده ولا أين سخطهم فنتجنبه , وما سلط الله عليهم حجاج الفتنه حتى كانت عامتها شرا من عامة العراق , وان العزل عنها لما قاسيته من أهلها عندي ولاية واني ان كلفت العود اليها لقائل لا يلدغ المؤمن من جحر مرتين" .

ولم يكن مستغربا على مدينة هذه صفاتها ان تفتح حقبة ملوك الطوائف من ديارها , فقد استهوتها لعبة تبديل الخلفاء وصارت تفكر بخلع الخليفة قبل ان تبايعه الى ان سقطت الخلافه وانفض السامر ولم يبق من دعاة الشرعية الأموية الا( دون كيخوته العربي) ابن حزم الظاهري الذي حيّر الناس بعشقه وتنظيراته الغراميه , وشغلهم بنضاله السياسي المبدئي في زمن بلا مبادئ . ومع حب ابن حزم للأمويين وشهرة سليلتهم ولادة بالعشق وشؤون الغزل لم يذكرها ابدا في كتابه الغرامي الشهير (طوق الحمامة) بالرغم من انهما تعاصرا وعاشا متجاورين على الجبهه الشمالية للقنطرة بين حومة بلاط مغيث وحي اليهود ولا شك ان ذلك اللغز يحتاج الى تفسير , فالسياسة من بعض مفاتيحه وكذلك الحب , وحين يختلط الحب بالسياسة تضرس بنت الخليفة بموبقات أبيها ويكون الحياد أول ضحايا المؤلفين .

واذا اردت ان تصدق الاكاديميين , وهم قوم فيهم الكثير من الطيبة , ويمكن الثقة بهم في الأحكام المتعلقة بقضايا غير معقدة التكوين , فهم يقولون ان ابن حزم لم يذكر ولادة في "الطوق"لأنه كتبه في بلدة شاطبه حين كان بحدود الثلاثين من عمره , ولم تكن قصة ولادة وعشقها – أو ان شئت وعشاقها – قد اشتهرت بعد , وينسى هؤلاء القوم الذين تجبر ظروف الحياة معظمهم على التقاعد مبكرا في جزر الكسل العقلي المريح , ان ابن حزم مات وولادة على ابواب الستين , وقام قبل ان يحم القضاء بادخال الكثير من التعديلات والاضافات على كتبه العديده , وكان بامكانه , وهو الذي حوصر في قريته "منت لشم" التي تعرف حاليا باسم "مونتيخرا" هذه الايام ان يضيف بضعة اسطر عن قصة عشق لا يمكن اعتبارها عادية , ولا يجوز اهمالها في كتاب عن الحب والمحبين . وبما انه لم يفعل لا يظل امامنا الا وضع فرضيتين محتملتين اولاهما ان ذلك الجيل لم ينظر الى تلك القصة بالأهمية التي نظرت اليها فيها الاجيال التالية , أو ان المؤلف ما كان يستسيغ سيرة ذلك الفرع من شجرة الأمويين الذين أخلص لهم حتى آخر يوم في حياته ورأى فيهم الشرعية السياسية الوحيدة في أندلس عبد الرحمن الداخل واحفاده وحفيداته .
وليس من الصعب العثور على قرائن عديدة تؤيد الفرضية الثانيه , فقد كان صاحب "الطوق" وصاحب كتاب "الاخلاق والسير في مداواة النفوس" بيوريتانيا متطهرا في حين كان المستكفي والد الشاعرة رمزا كامل الاوصاف للجهل والفساد .
وفي عهده غير الميمون اكتمل خراب قرطبه وانتهت الخلافه فعليا , فلم يكن الذين جاؤوا بعده الا رقصة في الوقت الضائع واذا اردت ان تعرف رأي المؤرخين في المستكفي والد ولادة فاني احيلك الى ابن حيان المتخصص في الشأن الاندلسي والذي وصف المستكفي سجعا بقوله انه كان "عاهر الخلوة .. اسير الشهرة" وقال عنه في مكان اخر انه لما خلع هرب من القصر متخفيا في ثياب امرأة وسار بين جاريتين , فلم يميزه المتمردون بين رفيقتيه لمرانه على التخنيث , واذا عرفت بعد هذه الصورة غير المشرفه التي يرسمها ابن حيان ان المستكفي سجن ابن حزم اثناء خلافته لم يصعب عليك ان تستتنتج انه كان يكن احتقارا عميقا للمستكفي وتوابعه وحاشيته واولاده وبناته معا .
وتأتي بعد ذلك سمعة ولادة , فهي لم تكن فوق الشبهات لانها – والتعبير لابن بسام - اطرحت التحصيل , واوجدت الى القول فيها السبيل بقلة مبالاتها ومجاهرتها بلذاتها – فهي والحالة هذه اميرة من بيت ملك لكنها سيئة السمعة وما من بيت ملك في التاريخ الا وفيه هذه النوعية التي يدفعها البطر والفراغ الى سلوك اجتماعي مغاير.
وليس القصد من اثارة هذا الجانب المعتم التشجيع على التنقيب في سلوك فتاة متحدرة من اب "عاهرالخلوة" وام اسمها "سكره" ولها من اسمها نصيب ان نصدر مجموعه من الاحكام الاخلاقية على زهرة قرطبه فقد تكون بريئة من جميع التهم او من بعضها التي ربما الصقت بها شأن كل المتحررات في كل زمان ومكان واللواتي يخضعن دائما لحملات تشنيع ظالمة من التيارات المحافظة , انما القصد ان نفسر اهمال اهم عاشقه اندلسيه "ولادة" وسر غيابها عن أهم كتب العشق "طوق الحمامه" .

ويتحمل ابن زيدون القسط الاكبر من تشويه سمعة ولادة . لقد استجدى وطرد وتذلل ورفض فقرر الانتقام كما نعتقد لكبريائه الجريح بالايحاء بوجود علاقة وصال مع الشاعرة وجند لذلك امكانياته كلها فبعض قصائد ولادة تشير الى حملة نميمه منظمة كانت تسري في اجواء قرطبة برعاية الشاعر :
ان ابن زيدون على فضله
يغتابني ظلما ولا ذنب لي
وفي ديوان ابن زيدون ترد تلك القصيدة السافله التي كتبها بعد ان ارتبط اسم الشاعرة باسم الوزير ابي عامر ابن عبدوس الذي كان يلقب بالفار . ولمن يحاول البحث عن مواقع ذلك الوزير في جغرافية تلك المدينة الساحرة فاني اقترح موقعين في قرطبه , اولهما ساحة "انديانو" والثاني المنطقة الواقعة شرق المسجد بين شارعي "كارا" و "رامبارو" .

وعودة الى القصيدة , ان صحت نسبتها اليه – فهي تدل على نفسية كائن نذل وليس على نفس شاعر يعشق بأنفه ويحرص على كبرياء عشقه بالصمت حتى بعد ان تتقطع بينه وبين الحبيب الاواصر . يقول ابن زيدون في تلك القصيدة التي كانت وقودا لحملة النميمة والاغتياب :
اكرم بولادة ذخرا لمدخر
لو فرقت بين بيطار وعطار
قالوا ابو عامر اضحى يلم بها
قلت الفراشة قد تدنو من النار
عيرتمونا بان قد صار يخلفنا
في من نحب وما في ذاك من عار
اكل شهي اصبنا من اطايبه
بعضا وبعض صفحنا عنه للفار
ويشهد ان اسوأشئ يمكن ان يوصف به الوصل هو الاكل لكن سامح الله ابن زيدون المنتقم لكرامته ورجولته على تلك الخطوة النذلة التي لا تليق لا بالشعراء ولا بالفرسان

المهم انه وسط سمعة من هذا النوع الذي كان يغذيه اب فاسد وعاشق غيور لم يكن ابن حزم بما عرف عنه من عفة ورزانة وفضل واحترام يستطيع الاقتراب من سيرة من هذا النوع . ففي الوقت التي اشتهرت فيه قصص ولادة كان مؤلف الطوق قد تحول الى انسان اخر هجر السلطة ومغامرات الشباب وتحول الى معارض سياسي ينبه الناس الى ظلم الولاة وتزييف فقهاء السلطان وكذب الانتلجنسيا القرطبية ونفاقها الى ان ألب الاحزاب كلها ضده , فاحرقت كتبه في الساحات العامه كما اسلفنا وطورد في كل البقاع الى ان عاد منكسرا الى القرية التي خرجت منها عائلته وجلس متفرغا للتأليف والتأمل في شؤون الدنيا .
وقد اكمل اليهود فصول اضطهاد ابن حزم عقوبة له على تصديه لابن النغريله وزير غرناطه اليهودي . فلم يهن ولم يتراجع وظل وسط كل تلك الزوبعه من الاضطهاد يكتب عن الحب والعدل والحرية ويبشر بعالم افضل يمكن ان ينهض حين تصفو النفوس وتسمو فوق انقاض الخراب .

ولابأس قبل ان نعود الى الزهراء من وقفة سياسية قصيرة نشير فيها الى محتوى رد ابن حزم على ابن النغريلة الذي كان صاحب طموح لاقامة دولة يهودية في الاندلس في بلدة المرية التي كتب ابن حزم الطوق لواليها خيران
فقد روج اليهود في اواخر القرن الرابع الهجري فكرة اقتراب عودة المسيح عليه السلام ايذانا بنهوض دولتهم وحددوا ذلك بعام 1010ميلادية الذي يصادف بداية القرن الخامس الهجري – تصور هذه فكرة دولة مستقلة لهم عمرها الف عام - فلو نجح المشروع السياسي للوزير يوسف بن النغريلة لكان هناك دولة لليهود في الاندلس او المغرب في الحقبة الاولى من القرن الحادي عشر أي قبل ألف سنة من هذا التاريخ ويرجح ابن عذارى المراكشي المؤرخ الذي اهتم بهذا الحدث اكثر من غيره ان عين ابن النغريلة كانت على المرية الاندلسية وقد ابرم بالفعل اتفاقا مع ابن صمادح يسلمه بموجبه حكم غرناطة فيترك له الامير الطموح المرية ليجعلها قاعدة لانطلاق دولة يهودية يقول ابن عذارى في البيان المغرب : (وذلك ان هذا اللعين يوسف بن النغريلة طلب ان يقيم لليهود دولة فدس الى ابن صمادح صاحب المرية في السر ان يدخله غرناطة ويكون اليهودي في المرية ....)
وكان العرب والمسلمون قد عرفوا يوسف فلسفيا قبل ان يتعرفوا على طموحه السياسي وذلك من خلال رد ابن حزم عليه في رسالة مشهورة وهناك من يعتقد ان مشروع الدولة يسبق اتفاق يوسف وابن صمادح وربما يعود الى حسداي بن شبروط طبيب الخليفة الناصر فالحقيقة التي يجب الاعتراف بها تاريخيا ان اليهود ظهروا بقوة مع الدولة الاموية بالاندلس والدولة الفاطمية بالقاهرة لكن طموحهم العلني بدولة مستقلة لم يسجل تاريخيا الا على زمن ابن النغريلة الذي عينه باديس بن حبوس وزيرا بعد ابيه اسماعيل فاستبد وسيطر على الدولة كلها لان مولاه كان عجوزا لا يفيق من شراب والتعبير الظريف عن تلك العلاقة يرد عند الامير عبدالله بن بلقين في مذكراته فهو يقول عن الوزير اليهودي انه- تبرمك –والاشارة الى مافعله البرامكة بالدولة العباسية قبل ان ينكبهم الرشيد ولان ابن النغريلة كان اذكى فكر بدولة مستقلة قبل ان تاتيه النكبة .

وكان هذا الوزير قد تمسكن حتى تمكن فدخل على الامير الزيري بقوله:انا رجل ذمي لاهمة لي غير خدمتك وجمع الدراهم لبيت مالك ) وما ان استتب له الامر حتى كان قد ملأ الولايات والدساكر بابناء طائفته ومنهم اتت قوته فاليهود على مدار تاريخهم عكس العرب يساعدون بعضهم بعضا ولا يضعون العصي بالدواليب امام أي ناجح منهم .
ابن حزم في رده على ابن النغريلة كان ايضا على دراية بنفوذهم السياسي وقد اختار ان يتوجه الى العامة لتحريضهم ضد ذلك النفوذ لذا ترى نقمته على حكام زمانه الذين مكنوا لهم وثبتوهم تأتي منذ مطلع الرد: (اللهم انا نشكو اليك تشاغل اهل الممالك من اهل ملتنا بدنياهم عن اقامة دينهم وبعمرة قصور يتركونها بعد حين عن عمارة شريعتهم اللازمة له في معادهم ودار قرارهم).
والرد في مجمل من النوع القاسي الذي تلمح حدته في كل جملة فابن حزم اخر المخلصين لدولة عربية اموية في تلك الاصقاع التي امتلأت بالفتن
ولم تصلنا رسالة ابن النغريلة المردود عليها لكن ملخصاتها كثيرة فقد بلغت الجرأة بيوسف بن اسماعيل بن النغريلة ان يحتج داخل دولة اسلامية على ايات من القران الكريم – كاسرائيل هذه الايام - ويمكن القول ان مناقشة تلك المسائل من فضائل اجواء التسامح التي استغلها الوزير ليمكن لنفسه وقومه ويحلم بدولة يهودية مستقلة وكان ملوك الطوائف اضعف من ان يردوا او يعاقبوا وهكذا وقع عبء المقاومة كما هو هذه الايام على فئة شريفة ضعيفة ولك ان تقول - دونكيخوتية - نافحت قدر المستطاع لكنها لم تستطع المس بالنفوذ اليهودي بالاندلس الذي ظل طاغيا الى ان بدده الفونسو بطرد اليهود مع المسلمين من الاندلس معا ...وغدا او بعد غد نختم رحلتنا مع ولادة بوقفة عند الزهراء حيث تذكرها ابن زيدون في قصيدته الشهيرة ... ولقد ذكرتك في الزهراء مشتاقا ...


.../...
 
- الأخيرة -
الخليفة العاشق

من الزهراء بدأنا والى الزهراء نعود , وقبل ان ندخلها خاشعين حسدنا على أبوابها قطيع من البقر الاندلسي الاسود الذي لا يؤرقه الحنين الى الماضي ولا يخيفه انتظار المستقبل بعد ان ادرك ان اقصر الطرق الى السعادة تمر عبر عادة الاقلاع عن طرح الاسئله والتوقف عن قراءة تاريخ فيه من الكذب أضعاف ما تحتويه كتبه من أنصاف الحقائق والفبركات

ولا شك أن في قصة ولادة مع عشاقها عامة وابن زيدون على وجه الخصوص "فبركات" جليلة أضافتها التفسيرات الذكورية للحفاظ على صورة الشاعر الفحل الذي مرغت به ولادة تراب الزهراء وقرطبة ومعهما رمل ملقة وأشبيليا لكن شيوخ التاريخ أقصد شيوخ "الفبركة " وأساتذتها ظلوا الى جانب الشاعر الوزير مع أنه يعترف علنا وفي آخر بيت من قصيدة الزهراء التي يقول مطلعها
أني ذكرتك بازهراء مشتاقا
والافق طلق ووجه الارض قد راقا
نعم يعترف في ذيل تلك القصيدة الذائعة لرشاقتها بما لا يستطيع انكاره على معاصريه ويقر ابن زيدون شعريا بأن ولادة قلبت له ظهر المجن وسلته لتتسلى بمن حولها من شعراء وعشاق وجوار فيقول بمسكنة يدركها العشاق "المضروبون على أقفيتهم" والذين يكابرون كما يكابر الوزير الشاعر بأستمرار الحب عندهم رغم أفوله وغروب شمسه عند الحبيبات

فالآن أحمد ماكنا لعهدكم‏
سلوتم وبقينا نحن عشاقا
الإعتراف سيد الادلة كما يقول الفقه الجنائي لكننا لسنا في محكمة أذن دعك ممن على المكابرة يصرون و دع عنك ذا وعد القول – ليس في هرم ممدوح زهير- بل في مآثر باني أمجاد قرطبة عبد الرحمن الناصر سليل الفتى الدمشقي عبد الرحمن الداخل الذي لقبوه صقر قريش من قبيل ادعاء الشرعية القبلية لا الجغرافية فقريش الشامية كانت قد أصبحت بعيدة العهد بمكة وشعابها حتى أن معاوية جد جميع هذا الرهط المغامر رفض العودة أواخر أيامه ولو لتأدية المناسك


وكنا قد اتينا الزهراء يوم جمعة على طريقة وعن طريق مولاها وبانيها الخليفه المتحضر عبد الرحمن الناصر الذي غضب من خطيب مسجدها فقاطعه وجعل يصلي في مسجد قرطبه . فلما سئل لماذا لا يعزله وهو على ذلك قادر قال : "لماذا اعزله ما دمت استطيع ان اصلي خلف غيره ...؟" سبحان الله النفس الحسنه مولعة بكل شئ حسن فعلا . لذا كان الظلم في عهد الخلفاء الذين يحبون البناء أقل والعدل أكثر أما دسائس القصور ومؤامراتها فموجوده بالتساوي عند من يحبون الهدم وعند من يعشقون البناء .
ولم تكن الزهراء وحدها مأثرة الناصر الذي حكم نصف قرن , وسجل هواجس روحه العذبه في يوميات ضاع معظمها فقد اكمل ذلك المعماري الفذ جامع قرطبه وأعلى أعمدة بيت الله قبل ان يشيد بيته وقصوره , فصار الجامع تحفه معمارية ناطقه تشعرك باعمدتها الرشيقه الموزعه ما بين ابيض واحمر بالود والحميميه , اكثر مما تشعرك بالرهبه التي تجدها في كنائس القوط الذين كانوا قبله . وحين تدخل مسجد قرطبه من الباب المقابل لفندق "ماريسا" تجد الفناء الخارجي كأنه فناء المسجد الاموي بالفيحاء بحمامه وليمونه ونافورته الصامته وكأني بهؤلاء القوم – مثل حضرتنا - قد جمدوا ذاكرتهم عند دمشق ولجأو الى تكرار كل ما يوقظ ذكرياتها .
وفي ذلك المسجد بالذات تشعر بعمق ومهما كانت علمانيتك ان الاسلام هو هوية روحية بالدرجة الأولى فتترك الصلبان والفرسان والتماثيل والكاتدرائيه وتحث الخطى لتحتمي بالمحراب فتجد بدل الواحد اثنين وبينهما بالخط المذهب "بسم الله الرحمن الرحيم هو الله الذي لا اله هو الملك القدوس السلام المؤمن المهيمن" فتكرر المهيمن عدة مرات ثم لا تسعفك العيون ولا الترميمات المضافة على القراءة , فتعود الى القدوس والسلام وتترك ما تبقى سليما من روحك ليسيل مع الزخرف والتوريقات الاسلامية التي تظهر لامعة وجديده وكأن الفنان العربي رفع ازميله قبل دقائق عنها .

وفي الطريق الى الزهراء وكانوا قديما كما يخبرنا الشقندي في رسالته يسيرون به ليلا على ضؤ المشاعل لمسافة عشرة أميال فيما أوروبا حولهم تغط في سباتها تحت ستارتين سميكتين من جهل وظلام ، اقول في ذلك الطريق لابد ان تحضر بقوة وكثافة سيرة ومأثرة ذلك الخليفة العاشق الذي بنى مدينة كاملة لجارية أحبها وأطلق عليها أسما نسائيا أعترافا بفضل تلك المرأة التي منحته السعادة وبعض الإستقرار فكان أكثر خلفاء الاندلس سماحة وتسامحا وأكثرهم ايضا قدرة على فرض سيطرة الدولة فمن ذا الذي يزعم أن الاشداء وحدهم خلقوا للحكم بعد سماع سيرة هذا الرومانسي الكبير .
في ذلك الطريق لا بد ان تتراقص في ذهنك الأمكنه الأندلسية بأسمائها العربية على غير ترتيب , العقيق , وشرق العقاب وعين الشهداء , والجعفريه , والبطحاء , وقد تأسبنت هذه الأسماء كلها فلم يبق منها بالاسم القديم الا الرصافة التي استلفتها الاسبانيه من العربية وجعلتها arruzafa وحولها الاسبان الى استراحة قومية ظل منها الى اليوم بعض ما بناه عبد الرحمن بن معاوية تيمنا برصافة جده هشام في الشام . وظل مع الجدران الرمان السفري "الدركوشي" والريحان الحلبي والعنب السوري الابيض الذي صاروا يطلقون عليه في الاندلس اسم عنب عذارى لطوله وحلاوته وشبهه بأنامل الحسناوات . وهذا الاسم لا علاقة له بعين عذاري المعروفه في البحرين , فقد ظل كمعظم تسميات الاندلس صناعة أموية منقوله بحنين عارم من دمشق الى تلك الاصقاع .
وما ان يواجهك السور الثلاثي السميك المهدم بالزهراء حتى تترحم على ارواح الذين يكرهون الهدم ويحبون البناء وتتعجب من اولئك الذين يكررون الخطأ التاريخي ذاته فيحصنون ويدعمون ويتمترسون ويتناسون ان المدن المحصنه جيدا تؤخذ دائما من داخلها وان اسوار العدل والمساواة والحرية هي التي تحمي الدول من الانهيار والمدن من السقوط , لكن على من تقرأ مزاميرك يا فينيقي ويا عربي ويا شامي ويا مسلم بعد ان انفض السامر ورحل البداة من حيث اتوا بعد ان خلعوا اوتاد الخيام .

واعجب ما في الزهراء ان مهندسيها المعماريين كانوا خبراء سياسة من الدرجه الاولى . فقد جعلوا باب دار الوزراء باتجاه اشبيليه وبوابه قصر الجيش باتجاه قرطبه , فصار الوزراء ومنهم ابن زيدون يفرون باتجاه بني عباد وصار الجيش يتقهقر باتجاه قرطبه بعد كل غزوة ويترك الزهراء لقدرها كسبية حسناء يقع في حبها كل من تدخل في حوزته من غزاتها او تقع عينه عليها من عابريها .
ويبدو ان أول حديقة حيوان عربية تقام في تلك البقاع كانت الى الشرق من بوابة الجيش فقد اقام الناصر في الزهراء على ذمة ابن خلدون في تاريخه "محلات للوحش فسيحة الفناء متباعدة السياج ومسارح للطير مظلله بالشباك" . وقد بقي من تلك المطارح والمسارح السواقي التي كانت تنقل الماء الى حديقة الحيوانات بالزهراء التي قيّض لها مؤرخا وصفها بدقه هو ابن حيان الذي حكى عن كل شئ فيها وعنها بما في ذلك أجرة البغال التي كانت تحمل الرخام اليها , فجعل بوصفه واخباره مهمة المرممين سهلة ميسرة . وقد كانوا يقومون حين زرت الزهراء اول مرة عام 1994 بترميم المجلس الاكبر الذي كان يستقبل فيه سيد الزهراء زواره ,ثم عدت عدة مرات متفرقة لاجد مجلس عبدالرحمن يزداد اكتمالا وقد كانت تتوسط ذلك المجلس بركة من الزئبق يستخدمها الخليفة في العبث بعقول الزوار فيأمر غلمانه الصقالبة بتحريك الزئبق فيتشكل منه تحرك الشمس التي تغازله من جهة الجنوب الشرقي مهرجان من الضؤ الطبيعي الذي يخطف الابصار .
ولا اعرف لماذا تفرض الامتدادات الافعوانيه نفسها في معظم اللوحات الجصيه التي تزين ذلك المسجد وتذكرك بالمرأة الافعى اللاسعه اللاذعه والمنتقمه مع ان المكان كله بني بالاساس كرمى لعيون امرأة محبوبه بسيطة وعفوية , حمل اسمها "الزهراء" ولم يبنى لامرأة نكد وسموم .
لقد احب محيي الدين ابن عربي الزهراء وأطال الحديث عنها في المسامرات وخاطب فيها طائرا مغردا يكوي قلبه الشجن وسأله ذلك السؤال الممض الذي يحمل جوابه في تضاعيفه وبين ثنايا حروفه :
فقلت على ماذا تنوح وتشتكي
فقال على دهر مضى ليس يرجع
وقبل ابن عربي وقف الوزير الاشهر ابو الحزم ابن جهور مفتتح عهد دول الطوائف على أطلال الزهراء وخاطبها بقوله :

قلت يوما لدار قوم تفانوا
اين سكانك العزاز علينا
فاجابت هنا اقاموا طويلا
ثم ساروا ولست اعلم اينا
ولا تدري انت ولا غيرك ماذا يمكن ان يقال بعد هذه "الأين" الحاسمة التي تقطع ببلاغتها قول كل خطيب وشاعر ومفكر , فالقيثارات ما زالت تصدح بالسهوب والنساء يرحن ويجئن على سفوح جبل الورد وجبال "سييرا مورينا" ولكن بأزياء مختلفة وأسماء أخرى والبشر ما زالوا يأتون ويذهبون فيسبقون أبقارهم السعيدة حينا وأحيانا تسبقهم الأبقار فلا يظل من الهزائم والصراعات والامجاد الا حجرا ينعي بانيه وأسلحة صدئة معلقة بانكسار على جدار ... أو بقايا جدار
 
أعلى