قصة ايروتيكية خالد إبراهيم عويس - ذاكرة الرقص.. قصة

كانت حياتي تمر بحالة تثاؤب فاردة ذراعيها على مقعد مريح ترقب البحر بعيون كسلى... قررت فجأة أن أتواطأ ضد صمت يغلّف عقارب الثواني لتستحيل إلى دهور مرعبة..

قررت فجأة أن اركب أول طائرة إلى " أديس"... فاجأتني هكذا رغبة الرقص،، هذه هي أجسادنا ، تباغتنا أحيانا "أحيانا..؟؟؟" برغبات مضحكة وربما شريرة، لا بأس فلأتعود على التصالح مع جسدي على ان افلسف امر الرقص هناك تحت امطار اديس وسمائها السخية ، عجيب هذا الامر ، تشد رحالك من مدينة ترى الرقص عيبا ، الى اخرى ، تتحاور ازقتها وشوارعها بالموسيقى دون صخب .... كنت دائما مجنونا هكذا .. لى طقوس يحسبها الناس امعانا فى الهروب من اقداري المختبئة دائما تحت وسادتي تشرق بالضحك لما عليه ليلتي من ترقب لحدث سعيد فاذا بالحدث الاكثر فجيعة هو الحاصل فى الفجر .. تومض ذكريات بعيدة والطائرة تقترب من مطار اديس ابابا وتشق طريقها وسط شلالات من الحشيش الاخضر .. لأول مرة ! ينتابني احساس ان للحشائش قدرة الشلالات .. ها قد ابتدأ الرقص .. كل الشعوب ترقص على طريقتها فتحس بالعظام متماسكة صلبة ومتهورة ما عدا هؤلاء ... الرقص هو! الحياة بالنسبة اليهم ... تنساب اجسادهم كما الثعابين وتتلوى لتخترق الموسيقا الامهرية وتعلو معها وتهبط وتعلو دون ان تتابع الانفاس .. لم ابدل ملابسي .. فقط طلبت من عامل الفندق ان يجهز سيارة انطلقت بها من فوري الى اديس نايت باند حيث يغنى "ابرام" كل ليلة .. عجبا .. مدينة لم ازرها من قبل تقابلني بحفاوة لم تخطر على البال .. مدينة مجنونة فى جمالها ومجنونة في اغرائها .. تبعث فيك الحياة حتى لو كنت جثة من الداخل ... ميقات للصحو والطمأنينة برغم خريفها المستديم ،،، حين تشكلت المدن فى العالم ،، وهب الفن لباريس والجنون لنيويورك والعمل لطوكيو والضباب للندن والنعاس لمعظم عواصمنا و.... الرقص لأديس ، وحدها اديس كانت تعبر عن كل جمالها بايداع سر عميق لراقصيها .. قمة الفن ان تشاهد راقصة اثيوبية تتأنق جدا فى تحريك كل خلية من خلاياها ، تحس انك تود ان تشاركهن بروحك وقلبك وجسدك وخلاياك المتصلبة لتنحل رويدا ويصبح جسدك وروحك فى حالة تلاق عند نقطة ضوئية ي! شعلها الساكسفون والغيتار ، وترغمها ايقاعا ت الامهرة على مزيد من الالتهاب ،، السماء ترقص ، الجبال ترقص ، الشوارع ، الكهرباء ، البيوت ، فما الذي يؤخر رقصى ..؟ لا شىء .. وجدت الجميع يتحلقون حول " ابرام" وهو يتأوه ويغمض عينيه على حلم قديم ربما شع فى ذهن الشعر من ايام حضارة اكسوم الاثيوبية ... هذا ال " أبرام " احسه يبكي بلوعة كلما استمعت اليه ،، نقرات الطبول كأنها على قلبه ،، الغيتار كأنما سلت اسلاكه الرفيعة من فؤاده ،، صوته مفعم بالفجيعة ومطعم بالبكاء ...

يا للغزالات السمراوات اللائي لا يثرن فيك اية رغبة ذكورية ،، كأنهن قطع موسيقية او لوحات مضيئة ... هن جزء من فن هذه المدينة وهيامها ... لمحتها .. هناك منذوية ، كانت تبكى على غناء " ابرام " .. فجأة التقت اربعة عيون ... كلها تجمدت فيها دموع عميقة تحكى عن زلزال يضرب عميقا فى القلب ، عيناها كانتا ... ماذا؟ ماذا يكتب فى عينين تحويان كل شىء .. الهزيمة الانثوية والفجيعة والكبرياء والاسرار الكبرى والاغراء وقدر فظيع من الجمال الكسول الذى .... ،، اوه شعرت بدوخة .. لم اصمد طويلا ... وجدت نفسى ملقى على فراشى فى الفندق و.. هى تجلس على مقعد مجاور تتطلع الى وهي تدلك شعري

: من ! انت ؟
: هل افرطت فى الشرب ؟
: كلا انا لا اشرب

آه نسيت .. علىّ الا ادعى بعيدا عن وطن تحلو فيه الاكاذيب الاخلاقية والسقطات الصغيرة التى تخفى امورا ابشع ...

: آآآ نعم شربت كأسين فقط ... لكن ..
: لكن ماذا ؟
قلت لها
: انت اثيوبية ؟
: يمكنك ان تدعونى " استير " .. عشت ببلادكم ايام طفولتى
: اي قدر قادنى الى هنا لألتقي بك ؟
: هل تعودت على الهروب من القدر ؟
: آه ... ربما احيانا .. اقدارنا تهرب منا

لم اشأ ان اسألها عن سبب بكائى وفضلت هي الصمت عن سؤالي للسبب ذاته

: لم ار افظع من عينيك ..
: لك اسلوب ناعم جميل برغم غرابته
: فيهما كل شىء .. يختصرات كل التواريخ فى عتمتهما وضوئهما
: الهذا دخت ؟
: ان نلتقي بمعجزة .. فهذا امر يدعو لتوقف النبض
: جئت لتستريح ؟
: جئت لأرقص ،، كل شعوب الدنيا ترقص فرحا .. انتم برغم فرح موسيقاكم الا ان اجسادكم تضمر احزان الكون وتعبئها فى الرقص

باغتتنى ، قامت لتشغل اسطوانة وتندمج فى الرقص الى درجة نستنى تماما ، كانت تبكى هذه المرة بكل اجزاء جسدها ، نوبات ! من البكاء كنت احسها تصعد فى انحائها وتهبط فى دوائر انيقة وتجمّع الدموع على اطراف اصابعها لتهطل مطرا ورديا .. يتمايل عنقها فى كل الاتجاهات لتضرب خصلاتها الفاتنة انحاء وجه مستدير مكهرب بالجمال ... وتفرد ذراعيها وتضمهما مع حركة منتظمة لقدمين تخلتا عن الحذاء من اجل الرقص ... لم اشهد فى حياتى امرأة تعبر عن كل ما يختلج فى نفسها بهذا الاسلوب ... حين انتهت .. كنت اعلم اننى قد وقعت فى غرامها بالفعل ... ليس ذلك النوع من الحب التافه الذى يجعلك متأرقا بالليل وتسرى فى اجزائك حمى الرغبة ، او ذلك النوع المغفل من الحب الذى يخدر بالكلمات شمعة الصمت الجميل ، كان حبا مثل غوص عميق فى البحر لأول مرة .. مبهر .. بشعابه المرجانية وقعره المزروع بأزهار لم يرها انسان قبلك ... هكذا فجأة وجدت نفسى م! لاكا امام انثى مغرية ، فبالرغم من وجودنا وحدنا فى غرفة خافتة الاضاءة تغرى باللمس والممنوع .. الا ان نداءات داخلية كانت تجرنى الى تحسس الفن الجميل فى حبها ، اكتشاف جديد ان يصبح الحب نوعا من الفن .. بكل ما يعنيه الفن من جنون وغرابة .. بقت معى الى الصباح ...

هل نترحل عبر المدن بحث! ا عن حب كالطاعون ، لا شفاء منه ؟ انا كنت اترحل بحثا عن رقص فاصطادنى الطاعون ، ظننت اننى بالرقص اطرد الحالة المتأرجحة التى كنت اعيشها ، حالة الثلج ، فاذا بى انقلب الى النقيض تماما ، يرفع اللهب السنته من صدرى ، نويت قضاء اسبوع ، فبقيت الى الآن عشرة ايام فى انتظارها ، امرأة النار التى ذابت كلوح ثلج تحت شمس افريقيا القاسية ، عشرة ايام قضيتها فى الفرن متجمدا من بردى وهى غائبة ، متى كان للنساء كل هذا الحضور الطاغى وبلمسة واحدة كالضوء الخاطف ، اندلعت فى مرقص ، لمسة لم تتلاق خلالها الايدى المتلصصة او تلك المستكينة ولا الشفاه الظامئة ، العيون وحدها اشعلت كل تلك الحرائق واعادتنى دفعة واحدة الى الحياة لأعيشها بكل جنونها وترقبها وشجنها وعذابها ، حين جاءت لم تعتذر ولم اسألها ، كأنها غابت فى ردهة من ردهات الفندق لبرهة ، جاءت اكثر حضورا وغموضا كأنثى اسطورية تنفلت من صفحات ا! لتاريخ المنسى فى افريقيا لتؤرخ ذاكرة جمالية خاصة بها

: فلنذهب لأديس نايت باند
: ابرام ايضا؟

ليس فى الرقص الاثيوبى ذلك التلامس الجسدى بين اثنين ، المفضى الى تشتيت ذهنك عن متعة الرقص الخالص ، ولا فيه تعرية للأجس! اد تغريك بلذة التسكع بعينيك على الاقاليم المختلفة ، اديس ترقص بحرية ، لترقص فقط ، وحدك ترقص ، دون وعى ، دون اية رغبات اخرى تختلج فى صدرك ، تذوب مع الفن تماما وتتوحد فيك الالحان ، تعيش حالة من الخدر وتعرية الذات ، تعايش احاسيس الجسد حين تندلع ثوراته اللذيذة ويتمرد على كل شىء وينساب تلقائيا لمعانقة الجمال ، كانت اصابع قدمى تمس الارض مسا خفيفا وتحملنى الى الاعلى ، كل خلية تنشطر وتعيد تركيبها من جديد ، تصبغ جزيئاتها بصبغة واحدة : الازهار البرية ، تمارس طقسا واحدا : المطر ، يهطل الى اسفل ليرتفع لهيب قوس قزح ، مرئيا ولا مرئيا ، كائنا مجهولا معلقا فى الفضاء وممسكا بالارض بخيوط لا مرئية ، تغزلها الحان مجنونة وصوت ناعس ، الاصوات تملك قدرة النعاس حين تغور الجراح عميقا ، كانت ! هى ... ترقص الى جوارى ، ليس بالضبط ، انما على مسافة تتيح لى ولها الدوران والطيران والحط على الارض بسلام ... ولخلايانا بالانفجار والالتحام ، جلسنا للعشاء ، "زغنى" حبشى بكثير من الشطة والبهار

: انت من هنا .. من اديس ؟

راحت عيناها تتابعان سيجارتى فى ما راحت تقول ببطء مثير

: انا من كل الانحاء ... لى هدير ال! شلالات ، وسفر النيل الى الشمال ، وكيمياء المطر .. ونكهة حقول القهوة

فى اليوم التالى كنا فى حقل للقهوة ، نفترش العشب ، ونتحدث عن السياسة ، كانت آلامها نابعة من حلم اشتراكى اطاحت بشمعته الريح ، كانت انثى "لومببية " يجرى لومببا فى دمائها ، وتشتعل اشعار سنغور ، تتحدث بعمق عن آلان باتون الجنوب افريقى ، وتعشق "ماندى" كما تدعوه ... مانديلا كان عائلتها بعد ان ارسل "منغستو" اهلها الى الجحيم ، لم يبق الا هى ، وحلم تناثر كعقد مسفوح ، انثى كالقهوة ، افريقية طاعمة تختزن ملامح الذين مروا من هنا ، الطليان والعرب والفينيقيين ، لجمالها فتنة الصباح بعد سكر ، وروعة الليل وانت فى مواجهة لوحة متعرية ، لجمالها ... رنة الاقداح واشتهاء الطبيعة ، انتابتنى شهوة مقيتة ، حاولت استدراجها الى غرفتى بالفندق بأكثر وسائل الرجال سطحية ، ابتسمت ونهضت لتتبعنى دون كلام ، حين وصلنا ، طارت الرغبة ، ركبتنى رغبة جنونية فى الرقص ، تواقيع "ابرام" المجنونة ، والآلات الفظيعة من حوله تسفح كبريا! ءها امام سطوة الحب ، كيف لأغان لا تفهمها ان تدك كل حصونك وتجذبك الى دوامات سحيقة فى الروح .. كيف توّلد فى جوفك حرارة لا يطفئ! ها الرقص ، ابرام ... يعيش نشوة الحزن القصوى فيتهدل صوته ويلامس عصب الشهوة السرية للرقص ، الآن ادركت اننى اشتهيتها راقصة ، ادركت انها لم تعن لى سوى الفن الخالص ، قامت لترقص وهى تطوى وجعا بين الضلوع ، حين انتهت ، كنت كحصان مجهد استغرق عمره فى رحلة من الصين الى حدود طنجة ، هى اللذة اذن ، كيف للذة الجسد ان تكتفى بالرقص دون ان تطلب حميمية وشبقا ، كيف لها ان تهمد امام جسد متلوّن بفنون الرقص المعبّر عن الحياة والحزن معا ؟ هل الحياة هى الحزن ، واجاد الاثيوبيون توصيفها على نحو جسدى مختلف ؟

- كم عمرك أستير؟
فاجأتها بالسؤال.. وكأنها اخترقتني بنظرة دهشة، سكبت فيها من اللوعة والجنون ما أعجز عن وصفه، فقالت كأنها تصحح سؤالي: عمر أحزاني أو أفراحي تقصد؟
قلت: مجموعهما!
أجابت وهي ترش وجهها برذاذ الماء كأنما لتفيق من حالة سكر منهك: لم تعلمك أديس بعد كيف تقرأ تقاطيع العمر على الأرواح الراقصة!
تناولت يدها.. تأملت تلك الأصابع الرقيقة الشاحبة، وددت لو أجعل منها "فينوس" أخرى.. كاملة الأطراف.. فينوس راقصة.. تغذي روحك بحياة أسمى.. تسر إليك بما تحمله أديس من حكايات وأسرار..
قلت لها مراجعا: علميني.. وددت لو أتعلم الحساب على يديك!

وكان لي أن قضيت ليلة كاملة أقرأ في كتاب عينيها ما خطته إفريقية برمتها.. قرأت سطوة الشمس ورائحة الرمل الأسود والماس المتلألئ في النفوس.. أوشكت أن أرمي نفسي في عالم من الغياب اللذيذ!

لم يكن لي تاريخ أسرده عليها.. تاريخي يغنيه إبرام كل ليلة، وإن لم أحكه.. فإنني أقرؤه على كل لسان!! هنا.. فقط في أديس.. وكأن تاريخي يشطب حالما أعود إلى سيرتي الأولى!

أنهكتني لعبة الأسئلة، وكأنني طفل في حضانة أديس يرغب عنها ويرغب فيها، قالت لي ونحن نرشف القهوة: هذه القهوة مثلنا.. نزرعها.. تنبت.. نطحنها.. نشربها.. وتتوحد معنا حتى نصبح عبيدا لها!
هززت رأسي: أجل.. تطحننا.. ونصبح عبيدا لها.. مثلما أصبحت عبدا.. لأديس!
صححت: عبد.. حر بعبودية حرة!
قلت: ومتى كان العبيد أحرارا؟
أجابت: يوم اختاروا عبوديتهم.. بحريتهم!
سألت: وأنت.. حرة؟
انفرجت شفتاها عن ابتسامة لؤلؤية وأجابت بما يشبه الهمس: اسأل أديس!

بقينا هكذا زمنا.. نتأمل كل شيء.. نمعن في التحديق في أرواحنا، نرشف من كأس العمر مشربين بالحزن السعيد، لم يكن يعنيني أن أعرفها كثيرا، ولا هي أيضا.. فالمجهول أطهر من أن تكشف ستره!

انتابني هاجس العودة فجأة.. خيل إلي أن هذا الحلم سينتهي إلى كابوس، أو ربما خشيت على سعادة أديس أن تفر من بين يدي.. أن أغتالها أنا.. أن أكسر مشط شعرها الذهبي دونما قصد!

لم أخبرها أني مسافر، لملمت حقائبي على وجه السرعة، ذاك أن القدر غريم يقتنص فرص الهروب ليتوجها بحضور مباغت للعودة..

وكان أن وجدتها في المطار.. لفت شعرها بوردة قماشية حمراء.. وارتدت فستانا أبيض موشى بالأحمر..
- أتمنى لك عودة سعيدة!
- ما كنت آتي لأديس إلا لأرشف من كأس خمرها السعادة وثلجها الحزن!
ثم مدت إلي شيئا ملفوفا بورق لم أتبين كنهه.. وأردفت: هذه من أديس!
حبست دمعة غصت بها عيناي: أتظنين أني سأعود حرا يوما ما؟

كانت ابتسامتها شاحبة.. ولم يبق من صورتها إلا هذه اللفافة.. أفتحها في الطائرة لأكتشف أنها منحوتة خشبية لراقصة من أديس.. وأغرق في بحر من الدهشة.. أسمع إبرام يغني.. والراقصات بأجسادهن المحلقة.. يرقصن على جمر أديس الحنون.. وأرقص وأرقص.. عائدا إلى أقفاص الحرية، إلى أديس!


.
صورة مفقودة
 
أعلى