عبود الكرخي - مات اللمبجي

مات اللمبجي داود وعلومه = كومو اليوم دنعزّي فطومه
مات اللمبجي داود ويهوّه = ويهوّه عليكم يهل المروّه
كِضه عمره بالكواده ولا سوّه = غير الطيب مكرن شاعت علومه
والمسكين الله يساعده إلبادي = ضَل ينعى عليه ويشبه البومه
بنُص الكلّجيه يمشي يتبختر = يَمرَدرَد ويَمروكَل ويمحبتر
يشماغ عصفوري يلف أحمر = ألف وَسفه سلاب وظلّت هدومه
عِمت عيني عليك اليوم يا ديّوس = يللي نازع الغيرة مع الناموس
يحِك إلهه لفطومه عليه تموت*****لولا تنام ويّاه بفرد تابوت
ما تِلكه مثل داود هَل عكروت = عِدهه خِدمته يا ناس معلومه
كومو دنعزّي فطم وزهَيّه = وبنت النجفي ومريم الكرديه
هل داود ما ظِن بعد إله جيّه = ريت الكلجيّه اليوم مهجومه
يِخسِل بالطشِت جويهل وشفاف = عِمت عيني شبيّب من حياته إشّاف
صِدَك لو كال يطلع جُك للندّاف = يطلع شِبه جرّة عَرَك مكطومه
يفطومه دِخَللي عاد بالضِحضاح = منّج يا فقيره الجبش غاب وراح
أبو كِرن الكُوي ومعجعج ونطاح = إله وكفات بالدربونه معلومه
إسم الله عليك يا داود أبو سلمان = يكويويد يا هبّار يا كرنان
إنته يا خركلي عظيم الشان = إسمك شاع بالبصرة وتنّومه
يحِك إلهه فطومه ثياب السود = تلبس علمعفرت لمبجي داود
أبو كرن الجبر من أحسن الموجود = كل كحبه عليه اليوم مألومه
شَدعي عالزمان منين إجاك البين = خلّي البيك يتنعّم وياكل زين
إنته بزمانك جان إلك كرنين*****هذا أربعه مشندخات طوال
 
قصيدة داود اللمبجي
قصيدة داود اللمبجي
لأمير الشعر الشعبي العراقي الملا عبّود الكرخي


التعريف بالقصيدة : الملا عبّود الكرخي غني عن التعريف لمن يقرأ ويتذوّق الشعر الشعبي البغدادي العريق ، فهو ، بلا شك ولا جدال ، أميره وسيد قوافيه. صدرت له دواوين خمسة جمع منها ثلاثة في خمسينيات القرن الماضي وصدر الباقيان في ستينياته وثمانينياته ولمّا تكتمل بعد. مارس الكرخي مهناً عدة منها الزراعة والتجارة والصحافة حيث أصدر جريدته الشهيرة (الكرخ) التي أغلقت مرات عدة بسبب مواقف صاحبها السياسية الإنتقادية. لم يدع الكرخي مظهراً من مظاهر الحياة البغدادية لم يتناوله بالنقد والسخرية والحماس والمديح والهجاء حتى لقب بحق أمير الشعر الشعبي البغدادي. من قصائده التي إكتسبت شهرة كبيرة قصيدة (المجرشة) التي وصف فيها مشاعر إمرأة ريفية مقهورة لاعمل لها سوى جرش وطحن الحبوب يوماً بعد يوم كي ترضي زوجها عديم الرحمة وهي من غرر القصائد لما يجيش فيها من المشاعر الإنسانية ، وقد غنى مطرب العراق الأول محمد القبانجي أبياتاً منها فزادها شهرة على شهرة. والقصيدة الأخرى هي قصيدة (داود اللمبجي) التي غنى مطرب المقام الشهير يوسف عمر (في جلسة خاصة) أبياتاً منها فذاعت واشتهرت وإن كان مغنيها لم يعلم بتسجيلها في غفلة من الأمر فكان الذي كان ودارت على كل شفة ولسان. القصيدة ليست بالقصيدة "البذيئة" كما قد يتصور البعض لدى قراءتها للمرة الأولى وإنما هي صورة إجتماعية دقيقة وساخرة لطبقة في مجتمع بغداد مارست أرذل وأقدم مهنة في التأريخ خلال النصف الأول من القرن الماضي في محلة الميدان ببغداد والتي لصقت بها وبمحلة الصابونجية الملاصقة لها صفة الدعارة البغيضة وذلك بسبب وجود المبغى العام فيها حتى جرى هدمه في خمسينيات القرن وبقيت صفة " الميدنلي" تطلق على كل قليل أدب وسيء أخلاق.
قصة القصيدة هي أن الملا الكرخي كان في أحد الأيام جالساً في قهوة مجاورة لمحلة الميدان وإذا بجنازة تخرج من المبغى العام تتبعها جوقة من المومسات الباكيات النادبات ، وتملك الفضول شاعرنا الكرخي فسأل عن الفقيد فقيل له بأنه داود اللمبجي المسؤول عن مهنتين في محلة الميدان هما إيقاد مصابيح الشارع (اللمبات) النفطية لإنارتها ليلا ، وهي مهنة كان يمارسها العديد من سكان بغداد لقاء أجر من دائرة البلدية ومنها أتى لقبه (اللمبجي) ، ومهنة أخرى يمارسها نهاراً وليلا وهي (القيادة) في محلة الميدان التي وجد فيها المبغى العام كما أسلفنا القول. هزّ الموضوع الملا الكرخي وجلس يكتب ما أوحى له المنظر ومخيلته من وقائع فخرجت قصيدته (داود اللمبجي) التي ذاعت واشتهرت بصورة لم يسبق لها نظير رغم عدم نشرها في جريدة أو مجلة ولكنها دارت شفاهاً بين الناس حتى رسخت في الموروث الشعبي البغدادي ونشرت للمرة الأولى في ديوان الكرخي الموسوم (ديوان الأدب المكشوف) الذي ضم غرر قصائده في الأدب المكشوف وطبعت منه نسخ معدودة في منتصف القرن الماضي ببيروت ولم يتداول بين الناس إلا نادراً جداً حتى ظهرت منه نسخة كاملة جرى تصويرها بطريقة الإستنساخ وبيعت بسعر زهيد خلال تسعينيات القرن الماضي في بغداد. ليست القصيدة المنشورة في الديوان المذكور بالكاملة حيث لم تضم الأبيات التي غناها الفنان يوسف عمر وكذلك الأبيات التي وردت في موسوعة الكنايات العامة البغدادية للمحامي عبود الشالجي وقد قمت بجمع الشتات المذكور في قصيدة واحدة متكاملة وقمت بشرح كل بيت منها وأرجو أن يستمتع القارىء الكريم بهذه الصورة الإجتماعية الفريدة ولا يظن بالقصيدة الظنون فهي مرآة لعصرها ولشاعرها البغدادي الكبير رحمه الله.


داود اللمبجي

مات اللمبجي داود وعلومه كومو اليوم دنعزّي فطومه
(لقد مات اللمبجي داود وماتت معه سيرته وأخباره (علومه) فقوموا بنا كي نعزي فطومه. وفطومه هي فطومه الصمنجي زوجة داود اللمبجي التي تزوجت من بعد وفاته بإبراهيم بيك الطنبوري وعاشت معه زمناً طويلا في دار بمحلة العيواضية).

مات اللمبجي داود ويهوّه ويهوّه عليكم يهل المروّه
(مات اللمبجي داود ويهوّه (أين هو) يا أهل المروءة ؟).

كِضه عمره بالكواده ولا سوّه غير الطيب مكرن شاعت علومه
(قضى عمره بممارسة القيادة ولم يفعل سوى الأمور الطيبة ولبس جراء ذلك القرنين (وهي العلامة المعروفة لممارسي الدياثة بتشبيههم بالتيوس ذوي القرون) وشاعت علومه (أخباره) بسبب ذلك).

شلون شبّت نار بفادي وأعزّي اليوم كُل نيّاج بغدادي
(كيف شبت نار الحزن بفؤادي وأعزي اليوم كل نيّاك بغدادي تعامل مع اللمبجي).

والمسكين الله يساعده إلبادي ضَل ينعى عليه ويشبه البومه
(كان الله بعون (بادي) وبادي هو تصغير لعبادي ويبدو أنه كان يعمل بصفة "مساعد" لداود اللمبجي بمهنته المذكورة وطبعاً بسبب وفاته فقد أخذ يبكي وينعب مثل البومة لإنقطاع مورده المعيشي دونما شك).

والكرون إبّاب حوشه معلكه دشداشته من مَش العيوره ملزّكه
(القرون علامة الدياثة معلقة بباب حوشه (داره) ودشداشته (ثوبه) من مَش (مسح) الأيور قد إلتصقت على بعضها).

مات موتة بعد منهه ما إلتكه وإلبُكه بكُسينهه لفطومه
(لقد مات ميتة لم تحصل من ذي قبل ولم يبقى سوى كس فطومه وقد أورده الشاعر بصيغة المثنى (كسينهه) وهي من أساليب الوصف العامي لدى البغادة).

يا بيك إنته عليك العير والخصوه وفطومه عليهه الجيل والجسوه
(يخاطب إبراهيم بيك الطنبوري الزوج الجديد لفطومه الصمنجي بالقول يا بيك عليك فقط أن تقدم لفطومه أيور وخصيان الزبائن وعليها هي أن تقدم لك (الجيل) أي العدد والمقصود هنا أن تعد لك كم من المرات ينكحها الزبائن وكذلك عليها أن توفر لنفسها (الجسوه) والمقصود به لباس المرأة الداخلي).

إبلع يا حليس الدنيه ما تسوه ولا تسمع حجي هذا الوكِت بومه
(يقول للطنبوري أبلع وتلقى ما قمت بإختياره وهو فطومه أرملة داود ، ويخاطبه بكلمة (حليس) وهو حليق شعر الوجه والشارب وكان يعتبر من العيوب قيام الرجل بذلك لكون الشارب واللحية من علامات الشرف والرجولة. ويقول له أيضاً لا تسمع حجي (كلام) هذا الوقت يا بومه).

بنُص الكلّجيه يمشي يتبختر يَمرَدرَد ويَمروكَل ويمحبتر
(يصف داود وهو يمشي في محلة الكلجيه متبختراً وبكل أنفة وتباه (مردرد ، مروكل ، محبتر) صفات للمشية والتباهي. والكلجيّه هو محل البغاء سابقاً وأطلق الأسم على ساحة الميدان التي قام السفاح المغولي تيمورلنك لدى إحتلاله بغداد بقطع رؤوس العديد من مواطنيها الأبرياء بغية إرهابهم وجمعت الرؤوس على بعضها فكونت هرماً وسميت المنطقة بالكلجيه (مركبة من كلّه – بمعنى رأس - وجيّه بمعنى مكان – مكان الرؤوس) وبعد إنتقال البغايا للعيش والعمل في تلك المنطقة أصبحت كلمة الكلجيّه تطلق مجازاً على كل مكان تزاول فيه الدعارة).

يشماغ عصفوري يلف أحمر ألف وَسفه سلاب وظلّت هدومه
(يصف داود بأنه كان يلف يشماغه الأحمر (غطاء رأسه) باللفة المعروفة بالعصفورية حيث كانت توجد عدة لفات لليشماغ منها العصفورية والعَدام وغير ذلك ولكل لفة إسمها الخاص بها. ثم يتأسف عليه ألف مرة حيث لم يبق منه سوى هدومه (ملابسه) السلاب (المهترئة).

عِمت عيني عليك اليوم يا ديّوس يللي نازع الغيرة مع الناموس
(يخاطب داود بالتفجّع الساخر قائلا لتعمى عيني عليك من بعدك (وهو تعبير لا يزال يستعمل لدى البغادّة لإظهار التفجع الشديد على عزيز رحل أو شيء فقِد مثل : عِمت عيني على ذيج الأيام أو ذاك الزمان إلخ) ويخاطبه بالقول يا ديّوس (ديّوث) ، يا من نزعت وتخليت عن الغيرة والناموس (الشرف) وهو شيء بديهي لكل من مارس مهنة اللمبجي.
كحاب الكلجيّه عليك كصّت روس بت نادي وصبحه وأمّونه
(لقد قامت قحاب الكلجيه بقطع رؤوسهن حزناً على وفاتك وهو تعبير مجازي طبعاً لإظهار شدة حزنهن عليه ، ويقوم بتعديد أسمائهن مثل بت نادي (مخفف كلمة بنت) وصبحه وأمّونه.

يحِك إلهه لفطومه عليه تموت لولا تنام ويّاه بفرد تابوت
(يحق لفطومه أن تموت حزناً عليه أو أن تنام معه في نفس تابوته الذي دفن به وذلك بسبب شدة حزنها عليه).

ما تِلكه مثل داود هَل عكروت عِدهه خِدمته يا ناس معلومه
(إن فطومه سوف لن تلقى شخصاً مثل داود العكروت ، والعكروت تستعمل في العراق بمعنى الخبيث المحتال وفي لبنان بمعنى القواد ، ويقول أن خدمة فطومه لداود كانت من الأمور المعلومة والمعروفة لدى الناس).

عِلمه شاع متسلّط وإستعداد عِنده شلون جنجلّي قِرِخ كوّاد
(لقد شاع علم داود (خبره) بأنه صاحب سلطة (على القحاب طبعاً) وبأنه مستعد لممارسة المهنة متى ما طلب منه ذلك ، ولديه مساعد يوصف بالجنجلي والقرخ للقواد (وهو المساعد الصغير) والمقصود هنا طبعاً هو مساعد داود (بادي) الذي سبق الكلام عنه بداية القصيدة).

نيّاجه عُكب عينه غِدو بُرباد ريت الكلجيّه اليوم مهدومه
(الناكة بعد عينه (بعد وفاته) أصبحوا برباد (هباءاً) وياليت لو أن الكلجيّه اليوم قد هدمت بعد وفاة داود).

كومو دنعزّي فطم وزهَيّه وبنت النجفي ومريم الكرديه
(قوموا بنا كي نعزي فطم وبقية رفيقاتها من المومسات اللواتي يورد أسمائهن).

هَل داود ما ظِن بعد إله جيّه ريت الكلجيّه اليوم مهجومه
(لا أظن أن لداود بعد الآن عودة للحياة وياليت لو أن الكلجيّه اليوم قد هدمت).

يِخسِل بالطشِت جويهل وشفاف عِمت عيني شبيّب من حياته إشّاف
(إن المساعد (بادي) يقوم بالغسيل بالطشت وهي صفة كانت تطلق على من كانوا يمارسون القيادة حيث يوصفون بأنهم "يخسلون بالطشت" والمقصود بالغسيل هنا هو غسيلهم لخرق القماش التي يقدمونها للزبائن كي يمسحوا بها أعضاءهم بعد إنتهائهم من المجامعة وذلك بسبب عدم وجود المناديل الورقية في ذلك الزمان كما هو معلوم ويتألم على بادي ويصفه بأنه جويهل (مصغر جاهل وهو صغير العمر) وشفاف (أي صافي الشخصية) ويتمنى لنفسه العمى على مصيره بعد وفاة أستاذه لأنه شبيب (مصغر شاب) لم ير شيئاً من حياته.

صِدَك لو كال يطلع جُك للندّاف يطلع شِبه جرّة عَرَك مكطومه
(الجُك هنا هو الخشبة الصغيرة التي تشبه القنينة ويمسك نداف القطن بها بيد وبقوس الندافة باليد الأخرى ويضرب بها الوتر فيهتز ويقوم بنفش القطن المقابل له ، وجُك النداف هو تورية لغوية بغدادية لقصير القامة وسمين البطن الذي يشبه جُك النداف آنف الذكر. والمقصود هنا أن بادي كان يساعد أستاذه الراحل مثلما يساعد الجك النداف في ندف القطن ، ويعطي بادي تورية أخرى بديعة عندما يشبهه بجرّة العرك (العرق) المكطومه (التي كسرت رقبتها) فأصبحت ذات منظر غريب يثير الضحك).

يفطومه دِخَللي عاد بالضِحضاح منّج يا فقيره الجبش غاب وراح
(يخاطب فطومه بالقول لقد وقعت في مشكلة كبيرة فقد ذهب وغاب عنك يافقيره (يا مسكينة) منك الجبش (الكبش وهو كناية للديّوث).

أبو كِرن الكُوي ومعجعج ونطاح إله وكفات بالدربونه معلومه
(يصف داود بأنه الكبش صاحب القرن القوي ومعجعج (معكعك أي ممتليء الجسم مثل الكبش السمين) ونطاح أي ينطح من يقابله وهو دليل النشاط والحيوية ، وله وكفات (وقفات) بالدربونه (أي الزقاق) الذي يمارس مهنته فيه ، معلومه (أي معروفة).

إسم الله عليك يا داود أبو سلمان يكويويد يا هبّار يا كرنان
(يسخر من داود (وكنيته أبو سلمان) ويصفه بالكويويد (مصغر كواد) وبالهبّار (الطماع) والكرنان (ذو القرون).

إنته يا خركلي عظيم الشان إسمك شاع بالبصرة وتنّومه
(يقول له أنت يا صاحب الخرق (التي مر ذكرها) شأنك عظيم فقد شاع إسمك ووصل حتى البصرة وهي آخر مدينة عراقية في الجنوب والتنّومه وهي إحدى ضواحيها وهذا طبعاً من قبل السخرية المقذعة فقط).

يحِك إلهه فطومه ثياب السود تلبس علمعفرت لمبجي داود
(يحق لفطومه أن تلبس ملابس الحداد السود حزناً على داود اللمبجي الذي يصفه بالمعفرت وهي كنية من العفريت وتطلق على الشاطر الذي يدبر كل شيء).

أبو كرن الجبر من أحسن الموجود كل كحبه عليه اليوم مألومه
(ذو القرن الجبر (الجبار والقوي) من أفضل ما يوجد بين القرون ، وكل قحبة اليوم متألمة على رحيله).

شَدعي عالزمان منين إجاك البين خلّي البيك يتنعّم وياكل زين
(ماذا أدعي على الزمان ولا أدري من أين أتاك الشر ، دع إبراهيم بيك الطنبوري يتنعم ويأكل ما لذ وطاب بسبب زواجه من فاطمة الصمنجي الذي سوف تمارس مهنتها المعروفة وتصرف ما تجنيه عليه).

إنته بزمانك جان إلك كرنين هذا أربعه مشندخات طوال
(لقد كان لك عندما كنت حياً قرنان فقط أما إبراهيم بيك الطنبوري فله أربعة قرون مشندخات (ممتدات) وطوال (طويلة) وذلك بسبب كون زوجته فطومه الصمنجي كانت متزوجة أولا من داود اللمبجي ومن بعده الطنبوري ولم تترك مهنتها المعروفة فأصبح له بسبب ذلك بدل القرنين أربعة قرون).
 
جنازتان د. إقبال محمدعلي


الجنازة الاولى : في ثلاثينات القرن الماضي
المرحوم : داوود اللمبجي .. من اشهر قواويد بغداد في تلك الفترة .

الحدث : كان الشاعر العراقي الشعبي الملا عبود الكرخي ( مِن رواد صحافة السخرية و الهَزَل) ، يجلس في مقهى قريب من منطقة الميدان عنما مرت من امامه جنازة تتبعها مجموعة من النسوة المولولات الناحبات ، بعيون مُغرَورَقة بدموع الحزن والأسى يلطِمن على صدورهن . غرابة المشهد قادت الشاعر الهزلي العراقي الساخر الملا عبود الكرخي إلى الاستفسار عن الميت ، قيل له : داوود اللمبجي الذي كان يعتبر أحد قواويد بغداد الارستقراطيين و جاء لقُبه من مهنته الثانية (اشعال مصابيح النفط أو ما نسميها باللمبات ) في ازقة بغداد ليلاً. النسوة ،هُن المومسات اللواتي كُنّ يعملن لحسابه ... ساعتها كتب قصيدته المشهورة ( مات اللمبجي ) باللهجة العراقية الدارجة ، معزياً بها ( فطومة الصمنجي) بوفاة زوجها داوود اللمبجي . تحولت هذه القصيدة آنذاك إلى اغنية ، غناها ، مطرب المقام العراقي رشيد القندرجي لتنتشر بعدها في مشارق العراق و مغاربه ، بعد ان سُجِلت في حفل خاص ( حَضَره وزير الصحة) بصوت مطرب المقام العراقي المشهور يوسف عمر .
مات المبجي داوود و علومه كَوموا ( قوموا) اليوم دَنعَزي فَطومة
مات اللمبجي داوود ويهوَه وويهوَه عَلَيكُم يا أهل المُرُوة ( المرؤة)
بعكس داعري ساسة احتلال اليوم ، يبدو ان لِقواويد وقحاب الثلاثينات دوراً في الحركة الوطنية :" في عام 1938 عندما فاض نهر دجلة وكسرت سدة ناظم باشا من ناحية الوزيرية وراحت المياه تتدفق في الشوارع ، والمعتاد في مثل هذه الحالات أن تقوم الشرطة بتجنيد الناس فيما يسمى بعمل السخرة لدرء الفيضان وتقوية السور. في هذه الاثناء دق تلفون معاون شرطة السراي عدنان محيي الدين وطلب منه مدير شرطة بغداد بتعئبة الناس فورا لوقف تدفق المياه. اسقط المعاون عدنان حاكية التلفون من يده فقد كان الوقت قد تجاوز منتصف الليل وآوى الناس لبيوتهم نائمين وخلت الشوارع من المارة. فمن أين يأتي بالسخرة ؟ وجد الحل بعد أن هداه فكره إلى محلة واحدة ما زالت تعج بالناس وبالنشاط على قدم وساق وهي محلة الكلجية.
اقتاد المعاون ثلة من افراد الشرطة وهرع الى ازقة الكلجية وكَوك نزر.. حيث جمع كل من وجده هناك من القحاب وزبائنهن وحشرهم في سيارات الشرطة وهرع بهم الى محلة الكسرة، وهناك انكب الشباب بحفر الارض وملء اكياس من الجنفاص بالتراب وحملت القحاب الاكياس على ظهورهن لردم الكسرة وايقاف تدفق المياه حيث واصلن (الشيل والحط) حتى آذان الفجر. ولقد اسهمن حقا في سد الثغرة وانقاذ العاصمة من الغرق ولولاهن لاجتاحت مياه الفيضان الجوامع والمساجد والبيوت في الوزيرية . وبعد صلاة الفجر عادت بهم سيارات الشرطة الى الكلجية.. كل الى بيته. وفي اليوم التالي بعث امين العاصمة رسالة شكر وتقدير لكل القحاب والقوادين الذين ساهموا بالعمل الشعبي لدرء الفيضان عن بغداد ".( د. معتز عبدالحميد)

الجنازة الثانية : 3/11/2015
المرحوم : احمد اللمبجي ... عفواً ( الجلبي) أشهر قواويد الدعارة السياسية
في تاريخ العراق السياسي الحديث
خصوص هَلْ خانوا وطنــهم لاتظن اني اعِفْ عَنهم
ما أكُف عـَـنهم أسبـــهٌـــم إذا نخله براسي طلعَت
الحدث : كنت اقلب صفحات الجرائد العراقية على الانترنيت عندما قرأت خبر وفاة و صور جنازة مؤسس مواخيرالدعارة السياسية في العراق ( احمد اللمبجي) و لا اتذكر لِم طَفرت في ذهني الصورة الخيالية التي رسمتها لجنازة داوود اللمبجي عند سماعي اغنية يوسف عمر ومقارنتها بجنازة احمد اللمبجي : مجموعة من الرجال و النسوة المولولين والمولولات، الناحبين و الناحبات بعيون مُغرَورَقة بدموع الحزن والأسى ، يتأبط واحدهم ذراع الأخر ماشين خلف جنازته صائحين:
مات اللمبجي حمودي ويهوّه ويهوّه عليكم يَا أهل المروة
كانت الحكومة بأحزابها السياسية وصحافتها ، متميزة في النعي التأليهي لهذا السفاح و التبجح دون خجل أو ضمير، بمناقب و شمائل لا يمتلك هذا (العكروت) ذرةً واحدةً منها . تعاون مع الاقطاعية الكردية منذ عام 1992 لتحويل العراق إلى مستعمرة إنكلو-امريكية . هو مَن الحق الدمار بالعراق و شعبه الابي . وهو الذي ساهم بقتل وتذبيح وتشريد الملايين من العراقيين ، مستخدما قواته المسماة" ( قوات العراقيين الاحرار ) أو( فرق الموت) التي دمجها الموساد الاسرائيلي في الاجهزة الامنية بعدالاحتلال مباشرةً ". مزور و حرامي. محكوم غيابيا لمدة22 سنة من قِبَل المحاكم الاردنية لسرقته بنك البترا. علاقاته وخدماته معروفة للمخابرات الامريكية والبنتاغون ، ومعروف تعاونه كذلك مع المخابرات الايرانية والموساد الاسرائيلي." بين عامي 2000-2003 تلقى الجلبي 33 مليون دولار من وزارة الخارجية الامريكية و6 ملايين دولار من المخابرات العسكرية الامريكية. الجلبي ، مَن اتهمته المعارضة العراقية آنذاك ( اعضاء مجلس الحكم بحكوماته الفاسدة) بالاستيلاء على الجزء الاكبر من تلك المنح". إلخٍ ... إلخ .. إلخ .... .
افرض القانون غاشم مُدهِش و بَتار صارِم
قابلِ أسكُت ما اهاجمِ خائِن الأمة العَنيد
قررت ان اشارك الحكومة وصحافتها ( اليسارية منها و اليمين) مصابهما الأليم ، بتحوير هذا البيت الشعري الشعبي قليلاً ليتماشى مع حزنيهما بإيقاع سليم :
يحِك للحكومة والصحافة الثياب السُود تلبس عَلمعَفرَت حمودي بوُ العيون السود
- نشرت جريدة طريق الشعب ، الناطقة باسم الحزب الشيوعي العراقي بيان مكتبها السياسي مؤبناًهذا المجرم واصفاً إياه بِ: " الرجل الذي قارع الدكتاتورية و أسهم في فضح ارهابها و قمعها و في القضاء عليها . و بعد التغيير سعى مع غيره إلى بناء عراق جديد على أساس الديمقراطية وبذل الراحل جهوداً متواصلة لجمع الصفوف و توحيد الكلمة. و تميز على المستوى الشخصي بعلاقاته الانسانية و خلقه الرفيع " . حتى الحمار في شوارع بغداد ، يدرك ان ما حدث في العراق يسمى إحتلالاً ، إلا حمير المكتب السياسي .
وفي نفس الجريدة كتب الدكتور عامر صالح: "كان رحيل السيد الجلبي خسارة للعراق في ظروف صعبة جدا تحتاج الى المزيد من المناورة الذكية والى التنازلات المشروعة من أجل الحصول على مكاسب أكثر تفيد العراق وشعبه وسيادته. وكان السيد الجلبي مناوراً هادئاً وذا صبر أستثنائي. له كل الود والذكرى الطيبة ولأهله وذويه الصبر والسلوان، ولازلت أيها الجلبي حيا ترزق بيننا " .
حيلْ دَوَخني الحَجي إلماله رَبُط
و صار عندي سكر و حصبة و ضغط
قَيَم الركاع مِن ديرة عِفَج
- عدنان حسين الأخرق في شناشيله يكتب في جريدة المدى : " كان أحمد الجلبي جديراً بأن تناط به مهمات أكبر مما أنيط به، وكان جديراً بأن يعهد إليه باقتصاد البلاد وإعمارها لتحقيق غايته في الدولة المدنية والنظام الديمقراطي .. لكن حصل أن وقفوا في طريقه ليحولوا دون تحقيق مرامه .. إنهم في الواقع وقفوا في طريق العراق المدني الديمقراطي ..... الجلبي لا يشبه غيره بالتأكيد، وهو من النوع الذي لا تجود الحياة بمثله إلا قليلاً جدا " . وينطبق على هذه الفقرة المثل القائل " ان لم تستح فقل ما تشاء " .
براسى يا عبود جني ..... شتتوا افكاري مني
لا تظن مطرب واغني .... اضحك وعلتي خفيه
- نعى الشيوعي السابق ، رئيس تحرير الصباح ،اسماعيل زاير في افتتاحيته التأبينية ، المتخبطة ، الملتوية ، تحت عنوان :" الجلبي ... مشقة الخيارات البراغماتية " قائلاً :اكتشف الجلبي ان المهمة شاقة في ظل تعاون وتنسيق الأنظمة العربية المتضررة من غياب محرك اساسي لقضاياها هو النظام الصدامي. كما القت قوى الرجعية العربية بما تمتلكه من اموال ومصادر كبيرة للتمويل بكل ثقلها من اجل اجهاض عملية التحرير العراقي من ربق الفاشية الصدامية. وحولت هذه المداخلات البلد الى مسرح للعنف الدموي المتمادي في قسوته على العراقيين. وبالتالي تبدد حلم الجلبي وتطلعه للمساهمة بقوة في بناء العراق الجديد. ولهذا فلم تنصفه الممارسات الانتخابية بإستقطاباتها المتداخلة والعاتية فتناقص دوره وتراجع ظل احلامه على الأرض والواقع السياسي.
لقد كان الجلبي لوناً مميزاً وخاصاً من الوان الطيف العراقي لا يشبهه فيه احد، ولا يعوض غيابه احد كما ان عملية وراثته صعبة للغاية. فنشاطه ومبادراته كانت منطلقة من براغماتية ايجابية تستند الى شخصيته واجتهاداته اكثر منها الى برنامج حزبي او توجه منهجي ". ينطبق على هذه الفقرة المثل القائل " ان لم تستح ، فاكتب ما تشاء " .
بالاصل تاريخه اسود كله عار أبظَرُف ثلَثْ أسنين مليونير صار

- جريدة الصباح ( رئيس تحريرها عبد المنعم الاعسم عضو اللجنة المركزية في الحزب الشيوعي العراقي) : " العراق خسر برحيل الجلبي علماً من أعلام مناهضة الدكتاتورية في العراق ومكافحة الفساد الإداري وتقديم الرؤى والأفكار للخروج من الأزمات المالية والاقتصادية التي يعانيها العراق مستذكرين دوره في تجييش الرأي العام ضد نظام صدام حسين بعد الانتفاضة الشعبانية عام 1991 وفك العزلة الدولية عن المعارضة العراقية فضلا عن اقناع الإدارة الأميركية في عهد كلينتون وكذلك الكونغرس سنة 1998 بتمرير قرار تحرير العراق . ". و ينطبق على هذه الفقرة أيضاً ، المثل القائل " ان لم تستح ، فاكتب ما تشاء " ...
الرئاسات الثلاثة :
قَيَم الرَكَاع مِن ديرة عِفَج
يحِكَلها الحكومة عَليه تموت لولا تنام وياه بفَرِد تابوت
ما تلكَه مِثلْ حمودي هَلعَكروت عِدها خِدمِته يا ناس معلومة

- رئيس الجمهورية فؤاد معصوم ينعى الجلبي :"لقد كان للفقيد دوره المحوري مع أبرز قيادات العراق في محاربة الدكتاتورية والعمل على تقويضها والشروع ببناء العراق الديمقراطي الاتحادي الحر الذي ظل يعمل بدأب وإصرار من أجله حتى آخر لحظات حياته" .
برلمان اهل المحابس وِالمِدَس
عُكُب ما جانوا يدورون الفِلس
هَسه هَم يرتشي وهَم يختلس
ولو نقص من راتبه سَنت إنعِقج
رئيس مجلس النواب سليم الجبوري قائلاً : " ان رحيل الدكتور احمد الجلبي هو فقدان لشخصية عراقية كرست حياتها لخدمة الوطن ".
مجلس النواب : "مع رحيل الدكتور احمد الجلبي الى جوار ربه في هذا اليوم، يكون العراق قد فقد شخصية طالما دأبت على خدمته في مرحلة المعارضة، وواصلت خدمتها للعراق في مجلس الحكم والحكومة الانتقالية وفي مواقع اخرى" .
المؤسسة التشريعية في البلاد -اللجنة المالية : "الفقيد اثبت حضوراً فاعلاً عند ترؤسه اللجنة المالية النيابية من خلال طروحاته الاقتصادية واسهاماته في تطوير القطاع المالي والمصرفي والتشريعات الخاصة بهما .." .همام حمودي: " كان مثالاً للمثابرة والإخلاص والجد في العمل وان وفاته خسارة للساحة السياسية" .
اتشوف واحدهم أمعَكَل بالوقار
و بالاصل تاريخه اسود كُله عار
أبظرف ثَلثْ أسنين مليونير صار
يريد عَلوادِم إيعبُرله جَلَج
في الختام : اعتقد لو عاد داوود اللمبجي إلى الحياة و خيروه بين ان يصبح واحداً من ساسة الاحتلال أو ان يبقى على مهنته ، لفضل ان يبقى قواداً في ذاكرة الناس:
مات اللمبجي داوود ويهوَه ويهوَه عَلَيكُم يا أهل المُرُوة
ملاحظة: في هذه المقالة ،استشهدت بأبيات من قصائد الملا عبود الكرخي.
 
أعلى