رونالد دي سوسا - في الحب وأحجياته.. ترجمة وتقديم لطفية الدليمي

القسم الأول



هو أدنى من أن يكون أمراً كونياً.. كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة.. ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً

في خضم عالم تسوده ثقافة الكراهية والعنف والموت ، ارتأيت أن أتناول بالترجمة موضوعة الحب التي تتشابك مع حيوات البشر في كل الأزمنة والجغرافيات، ويمكن لها وحدها – ربما - أن تكون ترياقا للقلوب المكلومة والموجوعة وما أكثرها في عالمنا البائس . سأقدم في هذه الحلقة والحلقات القادمة ترجمة للفصل الأول من كتاب ( الحبّ : مقدّمة قصيرة جداً :
(Love: A Very Short Introduction)
لمؤلّفه البروفسور ( رونالد دي سوسا Ronald de Sousa) ، والصادر عن جامعة أكسفورد عام 2015 ضمن سلسلة المقدّمات القصيرة جداً في شتى الموضوعات التي دأبت الجامعة على نشرها منذ عام 1995 .

تعريف بمؤلف الكتاب
رونالد دي سوسا Ronald de Sousa : ولِد في سويسرا عام 1940 ، ويعمل أستاذاً متميّزاً Emeritus في قسم الفلسفة بجامعة تورونتو الكندية التي انضمّ إلى هيئتها التدريسية منذ عام 1966 . تعرفُ عن البروفسور دي سوسا أعماله الذائعة الصيت في ميدان فلسفة العواطف الإنسانية إلى جانب فلسفة العقل والفلسفة البيولوجية بعامّة ، وقد انتُخِب زميلاً في الجمعية الملكية الكندية عام 2005 .
نال البروفسور دي سوسا تعليمه في كلّ من سويسرا و بريطانيا - إذ انه يحمل الجنسيّتيْن السويسريّة والبريطانية معاً - ، وكان حصل على شهادة البكالوريوس في الآداب من جامعة أكسفورد البريطانية عام 1962 ثم أعقبها بشهادة الدكتوراه من جامعة برينستون الأمريكية عام 1966 . يعدُّ البروفسور دي سوسا من المساهمين النشطاء في موسوعة ستانفورد الفلسفية Stanford Encyclopaedia of Philosophy وغالباً مايظهر اسمه فيها .
أدناه أهمّ الكتب التي ألّفها البروفسور دي سوسا :
* عقلانيّة العاطفة ، 1987 .
The Rationality of Emotion (1987)
* لماذا نفكّر ؟ التطوّر والذهن العقلانيّ ، 2007 .
Why think? Evolution and the Rational Mind (2007)
* الحقيقة العاطفية ، 2011 .
Emotional Truth (2011)
لطفية الدليمي
الحبّ هو الإدراك الحادّ لاستحالة التملّك.
أرنولد بيرنيس
الحبّ في حقيقة الأمر موضوعٌ عادي للغاية ، وهو أدنى من أن يكون أمراً كونياً ، كما أنّه ليس جواباً لكل معضلات الحياة ، ولكنه قد يكون أحياناً أمراً مفجعاً وكارثيّاً .
روبرت سي. سولومون
دُفِع بعض الناس دفعاً إلى الجنون بسبب الحب ، ومات البعض الآخر منهم في سبيله ، في حين تسبّب الحب في دفع آخرين إلى ارتكاب جريمة القتل ، ومن المؤكّد أن هذا لايحصل غالباً في الحياة اليومية الواقعية إذا ما أردنا النطق بالحقيقة الخالصة السائدة ولكنّه يحصل على الدوام مع الشخصيات التي نشهدُها في الأوبرات والمسرحيات ، وفي العادة فإن كلاً منّا يتوقع هذا الأمر عندما يشاهد أو يسمع شيئاً يختص بموضوعة الحبّ التي تبدو دوماً كمأساة طاغية ونبدو معها نحن وكأننا قد فهمناها على هذا النحو ، ويبدو من قبيل الأمور المؤكّدة أن شيئاً من هذا قد حصل لكلّ منّا : أنت نفسك ، عزيزي القارئ ، ربّما تكون قد دُفِعتَ لحافة الجنون يوماً مرّة أو مرّتين وشعرتَ حينها بطغيان الانفعال المصاحب لتجربة التشارك في الحب أو ربّما تكون شعرتَ بالكرب المرير المقترن بالإحساس الباطني غير المعلن للحب غير المتبادل ( أي الحب من طرف واحد كما يقال في السائد من كلامنا المتداول ، المترجمة ) . لطالما استمدّ الشعراء والموسيقيون والفنانون والفلاسفة إلهامهم من ذلك الشعور المنعش بالحب ولطالما حفّزهم ذلك الشعور عميقاً في إخراج أفضل مالديهم إلى العلن ( وربّما الأسوأ أحياناً ! ) ، وقد تنافس هؤلاء كثيراً في الإعلان عن كثافة الشعور بالحياة والتي يؤججها الحب ، ولكن على الرغم من كل هذا فإن أغلبنا عندما يحاول وصف الحب أو الحديث عنه فإنّه ( أي الحب ) سرعان ماينزلق في تفاهة تخلو من أية سمة من سمات الحياة المنعشة المفترضة .
مع أن تقلبات الحبّ وتلوّناته تبدو عصية على الإدراك فإنّ حشوداً من الشعراء والروائيين والفلاسفة وكتاب الأغنيات أشبعونا ثرثرة عن الحب ، وقد انضمّ إليهم في الآونة الأخيرة البيولوجيون ( علماء الأحياء ) وعلماء الدماغ الذين قطعوا على أنفسهم وعداً بجلاء كلّ خفايا الحب وطلاسمه . هل سينجح هؤلاء في إزاحة القناع عن أحجية الحب حقاً ؟ ربما سيتمكّن هؤلاء آخر الأمر من بلوغ المسعى الذي طال سعيُنا إليه في الحصول على حبة أو جرعة دواء يمكن لها تمتين رابطة الحب أو تحريرنا من ربقة سحره الطغياني ، ولكن على العموم فإنّ كون هذا الأمر ممكناً أو مرغوباً فيه هو من بين الأسئلة المثارة في ثنايا هذا الكتاب .
قلما انتهت حكايات الحب نهايات سعيدة ، بل أن الأعظم من بين تلك الحكايات غالباً ما انتهت بالموت في حين أن الحكايات الأكثر خفّة والتي تدعى الكوميديات ( الملاهي ) الرومانسية تنتهي في العادة بالزواج ، ولكن القناعة السائدة بشأن كون الزواج نهاية سعيدة تحمل هي في ذاتها وبين ثناياها تلميحاً إلى أنّ الزواج هو في خاتمة المطاف " نهايةٌ " بشكلٍ ما ، وأن كل نهايةٍ هي شكل من أشكال الموت - ولانعني بهذا موت المُحبّين أو حتى موت حبّهم بل موت حكاية الحب ذاتها ، ومن هنا غدت أغلب حكايات الحب باعثة على الحزن ، لذا غالباً مانتساءل : أيّ نفعٍ يرتجى من وراء كل هذا العناء ؟ . إن الحلاوة المُرّة المقترنة بالحب الذابل يبدو أنها هي ماتبعث على أعظم أشكال المتعة عمقاً ، ويمكن قول الأمر ذاته بكلمات الشاعر أندرو مارفل Andrew Marvell " إذا لم يكن في مقدورنا جعل الشمس ساكنة ، فلايزال في مقدورنا جعلها تمضي في فلكها !! " .
لكن ماهو هذا الشيء الذي يدعى " الحبّ " كما تقول كلمات الأغنية الشهيرة ؟ لن أنغمس في هذا الموضع بفرز قائمة لكل المرادفات الممكنة لمفردة " الحب " ، وبوسع أي قاموس للمفردات أن يفرد على الفور مايقارب أربع دزيناتٍ من المفردات المرادفة لكلمة الحب وسيكون بين بعض تلك المفردات فارق بسيط لايكاد يلاحظ في حين ستكون لبعض تلك المفردات معانٍ متباعدة عن بعضها الآخر : الولَع Fondness مثلاً هو غير الحب الأعمى Idolatry ، و الميْلُ نحو شيء ما Liking هو غير الشهوة Lust ، والتحيز والمحاباة قد تنتج - أو قد لاتنتج - عن الشغف والتعلق المفرط ، والجذل المقترن بحالة الحب يكون في العادة أكبر بكثير من محض موضع رخو باعث على النشوة في حياة المرء . تُستخدَمُ مفردات إغريقية أشدّ غموضاً في التفريق بين الأنواع المختلفة من الحب ، وثمة ثلاثٌ من بين تلك المفردات لاتنطوي على أية رغبة جنسية ( أو نزوع شهواني ) : فيليا Philia التي تحرّض على الصداقة الوثقى ، (ستورغ Storge تلفظُ ستورغاي ) التي تشير إلى الاهتمام المفرط بكل شؤون المحبوب تماماً مثل ذلك النوع من الشعور الذي نختزنه تجاه أصدقائنا المقرّبين أو أفراد عائلتنا ، ولكن ستورغاي ليست خلوة بالكامل من أي ميل جنسيّ على العكس من مفردة أغابي Agape التي تُختزلُ أحياناً إلى مفردة البرّ والإحسان Charity التي يمكن اعتبارها نوعاً من ستورغاي كونية شاملة غير مميّزة بين الأفراد وخالية من أية نوازع جنسية ( غالباً ماتشير مفردة أغابي Agape في السياقات العامة إلى الحبّ المسيحي وبخاصة في المواضع التي يكون مطلوباً فيها التمييز بين الحب العاطفي الإيروتيكي والحب الإنسانيّ الشامل المجرّد من أية نوازع جنسية ، وفي الغالب تستخدَم هنا مفردة " المحبة " بدلاً من " الحبّ " ، المترجمة )
إن الفضائل التي تحوزها أغابي موصوفة في واحدة من رسائل بولس الرسول إلى الكورنثيين ( هُمْ أهل مدينة كورنثوس التي تقع وسط جنوب اليونان ، المترجمة ) والتي نقرأ فيها العبارات التالية : " المحبة تتأنى ، المحبة تترفّق ، المحبة لاتحسد ، ولاتتباهى . هي لاتتفاخر ولاتسيء لكرامات الآخرين ، وهي لاتطلب شيئاً لنفسها ولاتحتفظ بسجلً لأخطاء الآخرين ،،،،،، هي دوماً تحمي الآخرين وتثق فيهم ، وتأمل بالأفضل وتحفظ العهود ...................... " - هذه بالضبط هي الصفات التي يأمل أيٌّ منا في أن تسود أية علاقة إنسانية مرغوبة ، ولكن في الوقت ذاته فإن هذه المواصفات هي التي تجعل الحب الذي على طراز أغابي مفتقداً لسمتيْن اثنتيْن من السمات التي ينبغي أن يحوزها الحبّ كما هو شائع في المفاهيم العامة :
أولاً ، إن الحب يقوم على أساس عزل شخص واحد والاستفراد به ( أو بضعة شخوص على أكثر تقدير ) واعتبار ذلك الشخص ( أو تلك المجموعة ) مميزين وذوي حظوة لايمكن معها إحلال بدائل لهم ، ونعرف جميعاً أن هؤلاء الذين نحبّهم يلعبون في حياتنا دوراً لايمكن للإنسانية جمعاء الإيفاء به أو النهوض بأعبائه ، ومع هذا فإنّ الحب من طراز أغابي يطلب إلينا أن نحبّ الجميع من غير أية استثناءات محدّدة لأي أحد !! .
ثانياً ، إن توجيهنا بأن نحبّ الجميع واحداً بعد الآخر يتضمّن التلميح إلى قدرة المرء على أن يحبّ بمحض إرادته ومتى أراد ذلك ، في حين أنّ الحب ( أو الانزلاق في الحب ) لايبدو أمراً نفعله بمحض إرادتنا وأنّى شئنا .
ثمة مفردة إغريقية رابعة تصف بدقة موضوعة هذا الكتاب - تلك هي إيروس Eros . تتناغم مفردة إيروس بصورة مثالية مع حالة الانجذاب الجنسي العارم ، ومن المؤكّد أن إيروس ( وليس أغابي أو ستورغاي أو حتى فيليا ) هو من ألهم تلك الأعمال العظيمة في الشعر والموسيقى وأعمال الفن - وحتى الجريمة - وعلى نحوٍ لم تفعله أية سمة إنسانية أخرى ، وسأستعير مصطلح ( الهيام أو فرط العشق limerence ) الذي صاغته عالمة النفس الأمريكية دوروثي تينوف Dorothy Tennov للتعبير عن إيروس في أكثر أشكاله تطرفاً وسطوة ، وبعثاً للقلق ، وتخليقاً للرومانسية الشغوفة ، وعلى الرغم من أنّ ذلك المصطلح يبدو غير متداولٍ إلى حد بعيد في اللغة اليومية العادية فإن ثمة العديد من الأسباب المعقولة التي تدعو لخلع صفة خاصة مميزة وغير متداولة على تلك العاطفة ( أي الحبّ ) التي وصفها برناردشو بأنها " العاطفة الأشدّ عنفاً ، والأكثر جنوناً ، والأعظم مخاتلة ، والأكثر إيغالاً في الوقتية والزوال بين كل العواطف الأخرى " ، وبعيداً عن كون مفردة الهيام أو فرط العشق والهوى أبعد ماتكون عن تمثّل الحب الإيروتيكي بكامل تجلياته لكنها في أقلّ التقديرات تعبّر عن معظم مايمثّله ذلك الحب.
 
القسم الثاني


الحب - وبخلاف المفترضات السائدة - ليس انفعالاً أو عاطفة ، وتبدو فكرة الحب أقرب إلى استحضار مشاعر لذيذة رقيقة - تلك المشاعر المُحِبّة هي بالتأكيد نوع من انفعالات أو عواطف بيد أنها أبعد ماتكون عن حسبانها العواطف الوحيدة التي يتشكّل منها الحب الإيروتيكي : يعتمد الأمر كله على الظروف السائدة - أين أنت ؟ وأية حكاية حبّ تخوض فيها ؟ ، وحينها قد يتمظهر الحب في مظاهر حزن أو خوف أو ذنب أو ندم أو مرارة أو غمّ أو احتقار أو إذلال أو غبطة أو اكتئاب أو قلق أو غيرة أو اشمئزاز أو عنفوان قاتل . إن واحداً من البدائل الفضلى هو التفكير في الحب كحالة تسهم في هيكلة وضبط الأفكار والرغبات والانفعالات والسلوكيات التي يُبديها المرء إزاء الشخص المحوري في حياته - المحبوب The Beloved . الحب في حالة مثل هذه يكون مثل موشور يؤثر في كل خبراتنا حتى في تلك التي لايكون فيها المحبوب طرفاً فاعلاً بصورة مباشرة ، وسأدعو هذه الحالة متلازمة Syndrome الحبّ ( المتلازمة مفردة اصطلاحية تقنية شائعة في الأدبيات الطبية الإكلينيكية وتعني مجموعة الأعراض المرضية والعلامات المتزامنة التي تظهر معاً ومن خلالها يتم توصيف الحالة المرضية ، المترجمة ) . الحب ليس محض شعورٍ فحسب بل هو نمط معقد من الانفعالات والسلوكيات والأفكار المؤثرة التي تعمل معاً ، وإذا ماتسبب الحب في تحفيز نوع من الاضطراب الذي قد يستدعي تدخلاً طبياً فإن ذلك الاضطراب ليس على الدوام أمراً غير مناسب أو غير مرغوب فيه بشدة : إنّ امرءاً غاطساً في الحب غالباً مايقال عنه أو يوصف بأنه قد جُنّ بحبّه وبخاصة إذا ماكان هو ومن يحبّ عاشقيْن حدّ الوَلَهْ .
إن هذه المقدمة القصيرة للغاية في موضوعة الحب مكتوبة من وجهة نظر فيلسوف . الفلسفة تعشق الأحجيات ، والحب يوفر خليطاً مشوشاً وفوضوياً من الأحجيات ، ولا أحسب أننا في حاجة للتظاهر بأي تواضعٍ استثنائي عندما نعترف بحجم الحيرة التي تدركنا متى ماتعاملنا مع موضوعة الحب الإشكالية للغاية : الحب معطاء وأناني ، رقيق وقاسٍ ، متقلب وخالد ، فردوسي وجحيمي ، والحب أيضاً حرب : فهو يمتّعنا بالبعض من أفضل الهِبات السماوية وتُرتكبُ باسمه أبشع الجرائم أحياناً في الوقت الذي يقول فيه البعض أن الله محبّة ! وتبدو مسألة حتميةً توفير إجابات مقبولة لكل تلك المعضلات الإشكالية المقترنة بمتلازمة الحب . إن السير مع ماينطوي بين خزائنه على هباتٍ سماوية يمكن أن يكون رحلة عظيمة الإمتاع كما قد يكون محفوفاً بمخاطر هائلة حتى بالنسبة لهؤلاء الذين لايُبدون كبير إهتمامٍ بالموضوع ويكتفون بالتحديق العابر فيه مثل حال المارة عابري السبيل في الطرقات المزدحمة بشتى الألوان . دعونا نبدأ الآن إذن في تناول عيّنةٍ من الأحجيات التي تثيرُها في العادة الأفكار الشائعة عن الحب:
موضوعات الحبّ : ما الذي يمكن أن نحبّه؟
هل يصلح أي شيء لأن يكون موضوعاً لحبّ امرئ ما ؟ هكذا يبدو الأمر للوهلة الأولى : تستطيع أنت - وكلٌّ منا - أن تحب السفر أو الجّزَر أو الرياضيات أو السيارات السريعة ، ولكن كل هذا يبدو أمراً أقرب إلى الولع بالأشياء منه إلى حب تلك الأشياء إذا ماشئنا الصرامة في التوصيف ، وبقدر مايختص الأمر بالحب الإيروتيكي فإن طائفة الموضوعات المحتملة والمرشّحة للحب تبدو أكثر تحديداً وانغلاقاً على نوعٍ محدّد من الموضوعات - الكائنات البشرية وحسب ، وحتى من بين الكائنات البشرية يفترض بعض الناس أن الحب يكون مع نوعٍ جندري وحيد ( وهو مايشير إلى الجنس المقابل في اللغة اليومية السائدة ) ، ولكن يبدو أنّ اثنتيْن على الأقل من هذه الاشتراطات المقيدة للحب الإيروتيكي تخون انحيازاتنا اليومية : الأولى ، حصر موضوع الحب الإيروتيكي في نوعٍ جندري وحيد بعينه ، والثانية هي معرفتنا اليقينية بوجود نوعين جندريّين اثنين لانوعٍ وحيد فحسب ، وربما لم يسيطر عليك عزيزي القارئ أي من هذين الانحيازيْن يوماً ما ولكن ربّما تكون أيضاً مؤيداً لتابواتٍ أخرى غير هذه وبخاصة بعد أن ماعادت الكثير من التابوات تصيبنا بالاندهاش مثلما كانت تفعل فينا من قبلُ ولكن تبقى العلاقات الإيروتيكية هي الأكثر سطوة وغلبة في كل الأحوال .
ثمة تابو وحيد يمكن أن تكون له ذات سطوة الحب الإيروتيكيّ - الزوفيليا Zoophilia : الحب الحميمي الذي يبديه بعض الأفراد تجاه حيواناتٍ بعينها وهو الأمر الذي يثير الكثير من الرعب وبخاصة عندما تتمّ مشابهته بالسلوك الجنسي البهيمي المقترن بالقسوة والغِلظة ( يستكشف إدوارد إلبي Edward Albee بأسلوبه الفاتن اللذيذ هذين النوعين من السلوك في مسرحيته المسمّاة "من هي سيلفيا ؟ Who is Sylvia ? " التي تحكي عن رجلٍ يُبدي شغفاً ونهماً جنسياً لاينطفئ تجاه عنزة !! ) . إن التابو الموضوع على الفعل الحميمي تجاه الحيوان غالباً مايتم الدفاع عنه على أساس أن الحيوانات لايمكنها التصريح بموافقتها على ذلك الفعل ، ومايهمّني أنا في الأمر كله هو أن هذا الدفاع يفضح الكثير بشأن خصوصية وانتقائية توجهاتنا نحو الحيوان والحب والجنس معاً : هل سأل أحد هؤلاء بقرة أو خنزيراً بقصد استحصال موافقته قبل قتله وأكله ؟ . في عصرنا المفترض فيه أن يكون عصراً تنويرياً يبدو أن الحيوانات وحدها هي من تعاني مصيراً أسوأ من الموت ذاته .
ثمة أمرٌ أكثر تحديداً من الموضوعات السابقة ولكنه ينطوي على أحجية تثير السخرية أكثر من الرعب - أعني بذلك "المولعين بالأشياء Objektophiles الذين يدّعون حبهم للاجسام الجامدة التي لاروح فيها ، وكمثال على هذا الأمر فإن إحدى بطلات العالم في الرماية امتلكت على الدوام علاقة عاطفية شغوفة مع قوس Bow جهاز الرماية لديها ، ومن اللافت للنظر أن حبها لقوسها متى ماخبا فإن مهارتها في الرماية كانت تخبو هي الأخرى ، وقد حصل بالفعل أن تقدّمت تلك البطلة لإتمام مراسم زواجها من برج إيفل !! . في كل الأحوال فإنّ الخط الرقيق الفاصل بين الأشياء الجامدة وتلك الضاجّة بالحياة بات باهتاً : تعمل الروبوتات اليابانية باجتهاد مثابر لايعرف الكلل على استبدال الدمى الجنسية القابلة للنفخ بروبوتات جندرية ذات مهارات تخاطبية وعاطفية متزايدة التعقيد ، ونحن نعلم منذ زمن بعيد أن الحيوانات الأليفة ( الطبيعية والروبوتية معاً ) تعمل على تخفيض مستويات القلق وضغط الدم بين النزلاء المعزولين في البيوت المعدّة للمتقاعدين ، ويبدو الأمر مسألة وقتٍ لا أكثر قبل أن تغدو الروبوتات قادرة على توفير رفقة عاطفية وجنسية حميمة لهؤلاء الذين يفتقدون الحب ويلهثون وراءه بين جميع الأعمار ، ومتى ماقيّض لهذا الأمر أن يحصل فسيمكن آنذاك للفلاسفة وعلماء النفس أن يستكشفوا بدقة طبيعة الحبّ الذي يتوق إليه هؤلاء .
لِنقُل الأمر باختصار : في الوقت الذي يُفتَرَضُ فيه أن الحب هو تعبير عن قدرة بشرية حصرية على وجه التخصيص يبدو أن ليست ثمّة محدّدات طبيعية يمكن لها أن تمنع الناس وتصدّهم عن حبّ مايشاؤون ، ويمكن للأفراد منفتحي الذهن أن يعرفوا بسهولة فائقة أن قائمة الأشياء التي نحبها يمكن لها أن تضم الحيوانات والأشياء الجامدة وبعضاً من الأشياء المتدرّجة بينهما . هل ثمة خطأ أو خطبٌ ما في أن يكون المرء واسع الذهن ومتفتح الآفاق ليدرك هذا الأمر ؟ نعرف مثلاً أن المتولّهين بالأشياء ينتابهم شعور قويّ يدفعهم تجاه شيء ما ، ولكن هل يمكن لهذا الشعور أن يكون "حباً" ؟
حسناً ، لِمَ لا ؟ ولكن كيف يمكن لنا أن نتخذ قراراً بشأن تلك الأسئلة ؟ إن أغلب "ذوي الخبرة الإختصاصية" ممّن أفاضوا في الكتابة عن موضوعة الحبّ هم على دراية كافية ويمتلكون حماسة متبصرة تكفي لإخبارِنا عن الحب الحقيقي وتمييزه عمّا سواه من أشكال الحب المزيّفة : بعض أشكال الحب - كما يؤكد لنا هؤلاء - أكثر نبلاً ورفعة ، وبعضها الآخر أقل رفعة وليست إنسانية بالكامل . إن هذا التوصيف ينطوي على دفقة تعبيرية ذات نبرة أخلاقية تمييزية لكني سأعمل بكل ما أوتيتُ من جهد على دفعها ومقاومتها لأن افتراضي الإجرائي الأساسي هنا هو أن ليس ثمة شكل محدّد من أشكال الحب يمكن اعتباره "حقيقياً" أكثر من سواه . هل توجد أشكال للحب كفيلة بجعلك أكثر سعادة ؟ ربما ، ولكن تكييفك المفاهيمي عندئذ لمفردة "الحب" هو على الأرجح مايسهم في حفز فهمك للسعادة بحيث تميل أنت لمقايسة السعادة وحتساب جرعتها بالرجوع إلى خلفية ذلك الفهم المتأصل ، ولكن في كل الأحوال سيكون دوماً ثمة ماهو كيفيّ arbitrary في الحجج والبراهين الخاصة بانتخاب التعريفات المناسبة لمفردة "الحب" ، لذا وبدلاً من محاولة الانجراف في تعريف الحب دعونا نمضي قدماً في مساءلة بضع أحجياتٍ أخرى يقدحها الحديث اليومي المتداول بشأن الحبّ.
 
القسم الثالث

يود المحبوب دوما أن يكون محبوباً بفعل أسباب صحيحة ومعقولة ، ولكن ماهي تلك الأسباب التي لأجلها نُحِبّ ؟؟؟
إن الانجذاب إلى شخصٍ ما أمر يختلف تماماً عن القدرة على حب ذلك الشخص
ربما كان انسحارك بمن تحب يعتمد على عوامل تؤثر فيك أنت بسبب حوادث وظروف تتعلق بحياتك الشخصية وطبيعتك الخاصة

للكاتب الفيلسوف "رولاند دي سوسا" من كتابه (الحب : مقدمة قصيرة جدا) الصادر عن جامعة اوكسفورد 2015



مامقدار الذاتية في الحبّ ؟؟
إن الصعوبة المقترنة مع تحديد مدى الأشياء التي يمكن أن يطالها الحب قد تثير الشك في أن المحِبّ هو ذاته من يختلق تلك الأشياء اختلاقاً ، وبالرغم من الفروقات الفردية فإن الكثير من أحكامنا هي ممّا نتشاركه على نطاق واسع - مثلاً في كل الفروع التي تتناولها الرياضيات ( باستثناء شديدة الغموض والتعقيد منها ) ليس ثمة فسحة للقول "أنا أفهم تماماً ماتقصده ولكني لاأوافقك القول" : ففي كل الظواهر الفيزيائية والتوضيحات المتعلقة بها يمكن أن نشهد عدم قبولٍ ومجادلات مكثفة وذاك أمر عادي تماماً ، ولكننا نتوقع انبثاق إجماعٍ علمي في خاتمة الأمر ، ومتى ماتمّ فض النزاعات بشأن تلك المجادلات فإن هذا يؤكد قناعتنا بأن تلك النزاعات تشير إلى حقائق موضوعية مختلفٍ عليها . يمكن لنا أن نتشارك وعلى نحو عظيم الأثر استجاباتنا العاطفية - الاشمئزاز ، الإعجاب ، الغضب ، الخوف ،،،،، ولكن لايبدو أن هذا الأمر يصدق على الحب : قد يُحسَبُ مثلاً بعض الأفراد جذابين أو مثيرين من قبل ملايين الأفراد غيرهم وهذا مايدفع إلى القول بأن ثمة ماهو ذاتي بشأن نزعة الإنجذاب والإعجاب بالآخرين . إن نزعة الإنجذاب إلى شخص ما أمر تختلف تماماً عن القدرة على حب ذلك الشخص ، ويبدو الحب الإيروتيكي لبعض الناس أمراً نادر الحدوث للغاية بل حتى قد لايحصل على الإطلاق خلال حياة المرء بأكملها ، وفوق ذلك فإن المرء لايتوقع في الحب - ولايرحّب أبداً بِـ - اكتشافه أنّ مَنْ يحبّ هو ذاته موضوعٌ لحب إيروتيكي شغوف جارف يُبديه ملايين الآخرين تجاهه أيضاً .
هل ثمة ما يمكن أن يوجد بطريقة موضوعية في مَنْ تحبّ بحيث يستحوذ على حبّك كله ؟ إذا ماحصل ووُجِد ذلك الشيء فهو يفعل أفاعيله الساحرة عليك أنت وحسب وربّما في البعض القليل الآخر من منافسيك المحتملين . ولكن ألا يمكن أن تصف مُنافسيك من جانب آخر بأنهم ذوّاقة مميزون يتشاركون معك ذوقك الرفيع ؟ ربما كان انسحارك بمن تحب يعتمد على عوامل تؤثر فيك أنت بسبب حوادث وظروف تتعلق بحياتك الشخصية وطبيعتك الخاصة - كأن يكون تماثلاً بين محبوبك وبعضٍ ممّن أسهبوا في العناية بك ومحضوك خالص رعايتهم واهتمامهم وأنت لمّا تزل يافعاً بعدُ ، ولكن هذا التماثل لن يوفر البرهان الحاسم بأن خياراتك في تحديد من تحبّ هي ذاتية خالصة إذ قد يحصل وبفعل الصدفة المحظوظة فحسب أن يكون من يمحضك عنايته الفائقة هو ذاته من يحوز الحب وبطريقة موضوعية للغاية من قبل الآخرين . إن كلّ أم مستجدّة في طور أمومتها تشابه إلى حد بعيد تيتانيا Titania في المسرحية الشكسبيرية " حلم منتصف ليلة صيف Midsumme Night’s Dream " A"
بعد أن صُبّت جرعة دواء سحرية في أذنها ، إذ أن كل أم مستجدة الأمومة تبدي انجذاباً كيميائياً يدفعها للارتباط مع الطفل الذي تراه بعد ولادتها مباشرة .
بصرف النظر عن حجم الحقيقة الكامنة وراء هذا الأمر فإن المدى الذي يبلغه الحب في الاعتماد على صفات المحبوب أو على ميول المُحِبّ يقود إلى تعريف طائفة واسعة من الاحتمالات الممكنة التي تتوزع مابين قطبي الذاتية والموضوعية : على الجانب الموضوعي قد يُقدح الحب بدفعٍ من تطلعاتنا الجوّانية الطامحة في بلوغ ماهو " جميلٌ " و " خيّرٌ " ، وعلى الجانب الذاتي المقابل يبدو أمر الحب كله معقوداً على الصدفة المواتية التي قد يجود بها لقاء أوّلي معقود حتى من غير إعدادات مسبقة . إن كلّ وليد جديد يشبه تماماً فرخ الأوز الذي مضى في اتباع عالم السلوك كونراد لورنز Konrad Lorenz بعد أن تأكّد الفرخ من أنّ رأس كونراد - وليس رأس الأوزة الأمّ - هو أول مارآه بعد فقس بيضته وخروجه منها إلى العالم الفسيح - وعند هذه النهاية المتطرفة من الطيف لاتبدو صفات المحبوب ذات صلةٍ بموضوعة الحب : وعلى اية حال فإن عالم السلوك يحوز على الخير والطيبة والحنان التي تحوزها الأوزة الأم !! .
لكن لو شئنا مصداق القول فإن النهايتيْن المتطرّفتيْن كلتيهما ( الذاتية والموضوعية ) تبدوان باهتتيْن : يربط الحب بين شخوصٍ بعينهم ، وكلّ من هؤلاء الشخوص هو كينونة فريدة ومميزة بالكامل عن الآخرين ( ليس ثمّة استعارة مجازية هنا . إن احتمالية مشاركة فرديْن للجينوم الوراثي ذاته - مالم يكونا توأمين أو مُخلّقيْن بوسائل الهندسة الوراثية المعروفة - هو أمر بعيد الاحتمال للغاية ويعادل في انعدام إمكانية تحققه الاحتمالية التي يمكن بها أن نُصيبَ جسيماً أولياً متناهي الصغر يجول بصورة عشوائية في الكون كله ) . لو كان الحب يمثل انعكاساً للصفات المميزة التي يحوزها أيّ فردين متحابيْن لتوجّب علينا حينئذ أن نتوقع طائفة افتراضية متنوعة لانهائية من أشكال الحب البشري ، ولكنّ مايدعو للعجب والدهشة بالفعل هو أن الفرادة المميزة والفاتنة التي يحوزها المحبوب مع مَنْ يحبه تبدو أنها تميل لاستعراض أنماطها في عدد محدود للغاية - وعلى نحو يدعو للاستغراب - من سيناريوهات الحب الشائعة .
هل ثمة أسبابٌ تدعونا لأن نحبّ ؟
مع أن الكثيرين قد يلعنون السخف المطلق الذي ارتبط مع عواطفهم الشغوفة المبكرة ، غير أن آخرين كثيرين لن ينتابهم الفتور في التأكيد على أن ثمة أسبابا راسخة دفعتهم إلى الحب ، ولكننا متى ما أردنا ترتيب قائمة بتلك الأسباب فقد تبدو عرضة لحسبانها أسباباً تافهة وغير جدية وموغلة في الشخصنة إلى حد عصي على الإدراك . من جانب ، آخر يود المحبوب على الدوام أن يكون محبوباً بفعل أسباب صحيحة ومعقولة ، ولكن ماهي تلك الأسباب التي لأجلها نُحِبّ ؟
إن واحداً من الأجوبة الشائعة ازاء هذا التساؤل هو " ان فلاناً يحبني بسبب كينونتي الخاصة - لكوني كما أنا " ، ولكن عندما يسأل المُحِبّ المحبوب ( لِمَ تحبّني ؟ ) فإن محاولة الحصول على إجابة يمكن أن تكون متوجسة كمن يمشي على أطراف أصابعه في حقل ألغام : إن الأسباب التي يمكن أن يقترحها روميو ويراها تقف وراء حبه لجولييت ليست بالضرورة ذاتها التي ستختارها جولييت وترى فيها أسباباً كفيلة بجعل روميو يحبها . عندما يتغنى روميو وهو يتوقّد حماسة متفجرة بحبّ جولييت ويرى فيها مايماثل الشمس المشرقة فقد تعترض جولييت قائلة : " قد أكون امرأة ساخنة لكنني لست ساخنة كما الشمس لامن قريب أو بعيد ،،، عندما أعزف أسكبُ روحي وأنا أداعب أوتار العود lute ، وأنت - ياروميو - قلّما تصغي لروحي العازفة " . إلى جانب ذلك وبغض النظر عمّا تكونه الأسباب التي دفعت روميو للارتماء في حبّ جولييت فليس عسيراً البتة العثور على امرأة أخرى يمكن لها أن تحوز - بل وحتى تتفوق على - تلك الصفات التي امتلكتْها جولييت ، وحتى لو أنّ روميو لم يترك جولييت بحثاً وراء امرأة أخرى أكثر شبهاً منها بالشمس فإن جولييت سينالها تغيير شامل متى ماعرفت بوجود تلك المرأة - جمالها سيذوي ، وشعرها سيتساقط ، وروحها الجذلة المضيئة سيصيبها الجفاف في مقتل ، وعندها يمكن القول وعلى نحو منطقي للغاية أن روميو ماعاد مفتوناً بحب جولييت ، وحينئذ يبدو أن الأفضل من بين كل الحلول المقترحة هو أن يموت المحِبّ والمحبوب معاً ميتة مبكرة وهما في ريعان شبابهما - ذاك هو الحل الأنسب للمحبين الأسطوريين كما تُعلِّمنا الخيارات المتاحة.
 
-القسم الرابع


هل الحبّ أعمى ؟
دعونا للوهلة الحاضرة نتفق أن روميو أحبّ جولييت لأنه حسبها شمساً ، حسناً ، لايبدو هذا سبباً كافياً أو معقولاً ، ولكن لو حصل ورآها شمساً حقاً فلاعجب إذن أن يكون قد أصابه العمى عندئذ . إن العمى المقترن بالحب حقيقة بدهية truism وهو عمىً ثنائي الأوجه في حقيقة الأمر : سيغفل روميو عن ملاحظة هفوات جولييت وكبواتها وفي الوقت ذاته سيتغافل عن رؤية الميزات الفريدة التي يمكن أن تحوزها أية أمرأة أخرى غير جولييت.
يوصف الحب أحياناً ، وبالإضافة إلى عمائه المعهود ، بأنه "الوضوح الحاد في الاهتمام والملاحظة " : لو أردتَ أنت مثلاً أن تكون محبوباً لشخصك ذاته ستميل - وعلى نحو طبيعي للغاية - إلى أن يراك الآخرون كما أنت وعلى ماهو عليه حالك ، ولن تكون في حاجة لأية زخرفة أو زينة تجميلية ، ولن يتوجب على مُحبّك أن يجترح أية أوهامٍ بشأن الحفاظ على الصورة التي جُبِلت عليها أنت :
عيون عشيقتي لاتشبه الشمس في شيء ،
الحمرة المرجانية أشد كثافة من حمرة شفتيْها ،
وبرغم ذلك ، أشهِدُ الله على أني أرى حبّي لها نادر المثال ،
وقد أخفق حتماً كلّ من حاول اصطناع مقارنة كذوب مع حبي لها ،
شكسبير ، السونيتة 130

My mistress’ eyes are nothing like the sun,
Coral is far more red than her lips’ red …
… And yet, by God, I think my love as rare
As any she belied with false compare.

Shakespeare, Sonnet 130

أن ترى الحب وأن تُرى فيه : تلك مسألة حاسمة يمكن التأكيد على ضرورتها من خلال كثافة التأمل الشامل المتبادل بين المُحبين - لانفتأ نقول دوماً أن المحبين عندما يطيل أحدهما التحديق والتأمل في روح من يحبّ فإن رصيد الرغبة المتبادلة والتوق المتوقد بينهما يتعزّز بلا أدنى شك ، فهم يشعرون حينئذ أنهم عراةٌ حقاً لاعلى الصعيد الجسدي فحسب بل بمعنى كونهم مكشوفيْن وواهِنيْن الواحد تجاه الآخر . إن الرؤية السائدة عن كون الحب رؤية تفضي إلى تفكيك ضيق الأفق تقود بالتأكيد وبصورة طبيعية إلى التوقّع بضرورة التوافق التبادلي بإعتباره وجهاً أساسياً من أوجه الحب : يمكن للحب المتبادل أن يقدح اللحظة التي تنتج عنها النشوة العظمى Ecstasy - المفردة التي تعني بالضبط "أن تغدو مفارِقاً لذاتك وخارجاً عنها" .
لكنّ الاهتمام التبادلي يمكن أن يكون أيضاً عاملاً مغذياً للشكوك والقلق : لبث بعض المحبين في خوف مستديم خشية عدم قدرتهم على الإيفاء بتوقّعات مُحبّيهم ومن ثم دفعهم إلى الوقوع في براثن خيبة الأمل الموجعة . في واحدةٍ من الروايات الشهيرة للشاعر الألماني ذائع الصيت يوهان فولفغانغ فون غوته تصرخ إحدى الشخصيات :"حسناً لو أحببتُك ، ماعلاقتك أنت بالأمر ؟" ، حقاً لو كانت الأنانية معلماً أساسياً للحب الحقيقي فإن الحب غير المتبادل يبدو النوع الأكثر مدعاة لاجتراح السلام والابتعاد عن الشقاق - مهما بدا هذا الأمر عصياً على التصديق - طالما كان هذا الحب لايبتغي الحصول على شيء في المقابل إلى جانب أن عوارضه لايتمّ مشاركتها بدافع من أية أنحيازات أو تفضيلات محدّدة .
ثمة اعتبار إضافي في جانب هؤلاء الذين يرون الحب التبادلي هو وحده الجدير بأن يُعدّ حبّاً حقيقياً ، ويقوم ذلك الاعتبار على أن رؤى المحِب - وبصرف النظر عن مدى كونها حقيقية أم تخييلية - فإنها تعتاش دوماً على خيال تنعشه الفعاليات والخطط المتشاركة مع المحبوب . ومن بديهي القول أن خيالاتٍ مثل هذه في الحبّ المتبادل تكون نتائج وأسباباً في الوقت ذاته للانشغال المتبادل بين المحبين ، أما في الحب غير المتبادل فتستحيل تلك الخيالات محض فنتازيات مرتبطة بزمنٍ أو موقف يُراد له قصدياً أن لايكون واقعياً ، وعلى هذا الأساس يمكن بلوغ المقايسة التالية "إذا ما أريد للحب أن يُحدِث تغييراً ديناميكياً حقيقياً في حيوات المُحبين فلن يكون الحب غير المتبادل خليقاً بتوفير ذلك التغيير الديناميكي المشهود" .
إن موضوعة فيما إذا كانت التبادلية Reciprocity أساسية في الحب تقود على الدوام إلى حدوسات متصارعة ، وليس ثمة من قانون حاكم يفرض نفسه هنا ، ولكن إذا اعتبرْنا الحب موقفاً ينطوي على رؤية مشرقة شفافة ونقية فإن صلة قرابية له بالعاطفة من نوع أغابي قد توفر سبباً مقنعاً يدفعنا لإبطال توكيدنا على مبدأ " التبادلية " في الحب . إن العاطفة الموسومة أغابي هي ذلك الشكل من الحب الذي يتطلّب منّا أن ندرك - ومن غير مقايسات معقلنة مسبقة - السمة الإنسانية الجمعية التي نتشاركها مع اخوتنا البشر ، وقد يحصل ربما أن تتحول تلك العاطفة إلى محبة طاغية يبادلنا إياها إخوتنا البشر في المقابل - تلك صورة عن حجم اللاواقعية التي قد يبلغها الكثيرون في هذا النوع من الحب الجمعي ، وبالإضافة إلى هذا الأمر فإن أغابي تتطلب منّا أن نتجرد عن اهتماماتنا الفردية الضيقة وعلى العكس تماماً مما يحصل في الحب الإيروتيكي حيث تكون للاختلافات الفردية والتفضيلات الشخصية السطوة الأعظم في التطلع والاهتمام ، ولكن على الرغم من أن هاتين المقاربتيْن تبدوان متقاطعتيْن لكن يمكن بلوغ تسوية من نوعٍ ما بينهما : لم تكن جولييت مثلاً في حاجة لأن تبقى غير مدركةٍ لكبوات روميو وهفواته بل كان يكفي لها أن تغض بصرها ولاترى في كبوات روميو أخطاء أو مثالب حقيقية تستوجب التقريع ، وإذا مافُهِم هذا الأمر على النحو الملائم فإن العماء المقترن بالحب حينئذ يمكن أن يُرى أمراً ينتج عن المحاكمة الخاطئة للأمور بدل حسبانه ناتجاً عن النظرة الخاطئة لها وحسب .
ثمة شكل بديل للعماء المرتبط بالحب قد ينتج عن التضليل والمخادعة : كتب الشاعر رينيه ماريا ريلكه Rainer Maria Rilke "ما أسرع مايكذب المحبون على بعضهم مهما طال أمد معرفتهم الواحد بالآخر" . تفاخرت إحدى النساء الشابات مرة بأنها لم تكذب يوماً مع أيّ من محبيها ، وعندما جوبهت بتحدٍّ قاسٍ لها أوضحت الأمر على النحو التالي "أنا أكذب مع زوجي فحسب لأني أحبه ، أما مع عشّاقي فأنا لاأكذب أبداً !!" ، وربما كانت تلك المرأة الشابة غاية في الحكمة والبصيرة إذ تكون العواقب وخيمة حقاً متى مامضينا في إعلان الحقيقة كاملة أمام هؤلاء الذين نحبهم أكثر من آخرين سواهم . يلجأ الأفراد إلى الأكاذيب لأسباب عدّة ولكن ربما قُصِد من أغلبها تجنيبُ مَنْ نحبّ المعاناة الموجعة التي لانبتغيها له ، ويلعب الخداع الذاتي دوراً في الأمر كذلك كما هو موضّح في هذه العبارة الشكسبيرية المستلّة من السوناتة 138 " عندما تُقسِم حبيبتي بأنها مصنوعة من الحقيقة الناصعة ، فإنني أصدّقها حتماً على الرغم من معرفتي بأنها كاذبة" . إن توقعات المحبين ممّن يحبون تكون في العادة غير معقولة ، ووحدها الأكاذيب - إلى جانب الخداع الذاتي - هي مايمكنها أن توفر غطاء من الحماية لهؤلاء الذين يبدو سقف توقعاتهم غير معقول إلى حدود بالغة التطرف ، لذا لايتوجّب أن نرى في أمر الأكاذيب والخداع الذاتي أحجية عسيرة على الفهم بعد كل هذا .
 
أعلى