دراسة أحمد فرج - قراءة في قصة البنت التي طارت عصافيرها لنقوس المهدي

ما أجمل أن يسلمك مبدع مولوده الجديد، باعتباره عملا إبداعيا جاء نتيجة مخاض عسير. و كأنه فلذة كبده تتملى بطلعته، و تتمتع بجماله، طالبا منك أن تعطيه رأيك فيه لأنها تأخذك إلى دنيا الفن و الإبداع و الجمال، و تدعوك إلى التواصل و التفاعل ! و ما أجمل هذه الهدية مع صاحبها .....

عندما تسلمت هذا النص و أنا بالمقهى، سرعان ابتلعته بسرعة فائقة. لم انتظر وقتا أخر ... فكانت هذه القراءة الأولى السريعة محفزا لاكتشاف هذا العمل الجديد للأخ مهدي ناقوس، و لو من خلال إطلالة سريعة، و هذا ذيدن كل شغوف متذوق للفن بمختلف أنواعه.

فما أن عدت إلى البيت حتى انفردت بهذا المولود الجديد لمبدع مشاكس متميز بأسلوبه في الكتابة... موسوعي في ثقافته... متمكن من أدواته اللغوية التي جعلته يبدأ بخلخلة اللغة التي مكنته من انجاز ثورة في الكتابة ......

بحذر كنت أمشي وراء الحروف و الكلمات أتربص بالمعاني.. خوفا من أن تنفلت مني فأتيه عن الجادة... كمن يدخل أول مرة كوكبا غريبا...

فعندما قرأت الجملة الأولى من النص، تلقيت الصدمة الأولى ، لان الكاتب لم يلجأ إلى المقدمات ، فقلت في نفسي أن صاحبنا لا يريد أن يسلك بنا مسالك النجاة منذ البداية، لأربط هذه الجملة بما جاء في الخاتمة لعلي اختصر الطريق فأقبض على التصوير العام لهذا العمل الذي يغويك بالسير فوق نتوءات و تضاريس الواقع الذي يستعصي السفر فيه لصعود إلى قمته، خاصة و انه ملغوم يستعمل تقنية التفخيخ تاركا للمتلقي فرصة تفجير المسكوت عنه ، و لهذا وجب الحذر أثناء رحلتك في زمن الكتابة التي تقودك إلى الولوج في واقع مأزوم...

من ثقب الذاكرة ، استرجعت عبث المشيب لأحمد شوقي الذي قال :

المال حلل كل غير محلل = حتى زواج الشيب بالأبكار

ما زوجت تلك الفتاة و انما = بيع الصبا و الحسن بالدينار

انها ظاهرة عبث المشيب التي سادت داخل المجتمع العربي و الإسلامي، و التي تعكس مدى قوة المال و غياب الوعي في استغلال الإنسان بما فيه المرأة ....

هكذا عسعس ليل المجتمع العربي طويلا.. و لم يتنفس صبحه .. لقد طال ليل الظلم الاجتماعي و الاستبداد السياسي، الذي هو أصل كل بلاء و فساد..

من هذه العتبة، عدت إلى النص، مقارنا بين ما قاله شوقي في زمانه، و بين بطل هذا النص، لأجد انه ليس بالوسيم و لا بالثري، أو صاحب قصور ا وضيعات أو مصانع فكيف يفعل بهذه الطفلة، ما لم تفعله الضباع و ( بلا عقد و لا فاتحة و لا زغاريد يأخذ بيدها )! لا السباغ في فريستها؟
!! هل نحن في زمن السيبة و "الحركات " و سبي النساء ؟


كيف يقود هذا الشيخ الطاعن في السن طفلة في الثالثة عشرة من عمرها بدون عقد و لا فاتحة و لا زغاريد وبدون طقوس كما تقاد الحملان إلى المذابح ؟
و لماذا لم تمنع الأم هذا الرجل من ارتكاب هذه الجريمة النكراء ؟


هل هي متفقة معه، أم أنها مغلوبة على حالها فلم تنبس ببنت شفة و اقتصرت على تشييعها بألم و دموع، و بقلب حزين، آم أنها امرأة سلبية عاجزة كباقي بنات حواء لا ترين في الزواج إلا خلاصا من العار بحكم هذا التفكير الموروث ؟

إنها امرأة بدون زوج ، و معوزة ، و ضعيفة فلم تجد إلا الأسى و الحسرة و الدموع و مجموعة من الوصايا تقدمها لابنتها و المتعلقة بالطاعة و الخنوع و النظافة و آداب الجماع ...لتبقى وحيدة حزينة على ابنتها التي اغتصبت منها بدون مقابل فليس على ظلم الحوادث من معين.

! عجبت لمثل هذه الأمهات كيف تشيع ابنتها إلى مقرها الأخير ؟

إننا أمام مشهد جنائزي ، تراجيدي ، حيث تغتصب الطفولة البريئة ، لتكون عروسا مسلوبة الارادة، قاصرة ، كأنها مسببة...

! أية صورة هذه ... و أي واقع هذا ؟
إنها بمثابة جثة علقت لتأكل الطير منها ما تشاء


أية منفعة ستجني هذه الطفلة من هذا القران من شيخ هرم هو بمثابة هيكل خرب تسكنه روح شريرة خبثية، ترغب في امتصاص رحيق هذه الزهرة التي لم تتفتق بعد ، لتصبها ريح صرصرة عاتية.

هكذا تساق هذه الطفلة من جحيم إلى جحيم ...

ماذا سيقدم لها هذا الشيخ في جحره ، ما عدا هذا الحصير البارد ، و أصوات الصراصير التي لا تبعث إلا على الخوف من المكان و صاحبه الذي يكشر عما تبقى من أسنان منخورة لا تسر الناظرين ، بقدر ما تبعث على التقزز و التقيؤ و الاشمئزاز ، حينما يدعوها إلى الاقتراب منه ليفض عذريتها .

! فبأي شرع يستحل معاشرتها ؟

من حق هذا الشيخ الزواج ، و لكن ليس من حقه الاعتداء على طفلة في سن حفيدته و بدون إرادتها ، و حتى بدون مقابل لأنه رجل منعدم الضمير و لا أخلاق تكبح جماحه الحيوانية العدوانية . فكيف بمجتمع يسمح بهذه

!! التجاوزات ليكرسها و ليضحك و يسخر فيما بعد عندما يفوت الأوان ؟

لعل هذا الشيخ ينتمي إلى العصر الجاهلي ، بحيث يذكرني بقصته (كبيشة بنت معين ) التي مات زوجها في زمن الرسول (ص) و كانت له زوجة أولى ولد معها ابناءا كثرا ورعته الثانية حتى مات ، و عندما توفي جاءها ابن زوجها الأكبر ورمى عليها عباءته و هذا كناية على انه سيفعل بها ما يشاء إن شاء تزوجها و إن شاء أخلى سبيلها و إن شاء ورثها كما تورث أشياء أخرى من الدواب ، و ظلت خائفة لأنها إذا خرجت أو خالفت أمره قتلها أو باعها .. لكنها ذهبت عند رسول الله و حكت له أمرها و كانت قد أسلمت هي وزجها قبل وفاته ، في حين ظلت ضرتها و أبناؤها على الكفر ، فقال الرسول (ص) انتظري حتى يأتي أمر الله فانتظرت و فنزلت فيها الآية الكريمة ( لا ترثوا النساء كرها و لا تعضلوهن ) الآية ... فتحررت و تزوجت من جديد و عاشت حياة طبيعية.

هكذا بت امشي وراء الحروف و الكلمات الدالة ، و كأني ابحث عن هذا الشيخ الذي كنت ألملم شخصيته لأقبض عليه، في هذا النص القصير الذي يندرج ضمن فن القصة القصيرة التي هي شكل من أشكال التعبير عن الوعي الاجتماعي الذي هو نتيجة علاقة التأثر و التأثير بين الفكر و الواقع لرصد مثل هذه القضايا الإنسانية ، معالجا إشكالية اجتماعية خطيرة ، أفرزتها عوامل ذاتية و موضوعية.

هذه الإشكالية تخص عبث المشيب بالقاصرات الفقيرات في المجتمعات المتخلفة التي تحكم على المرأة من مرجعية رؤية دونية في إطار الرق و استعباد الإنسان في غياب الوعي بحقوقه سواء كان امرأة أو رجلا أو طفلا ، و قد تطور هذا الاستعباد في صورة تجارة الرقيق الأبيض في عصر العولمة ....

هكذا يبدأ هذا النص بعبارة ( بلا عقد و لا فاتحة و لا زغاريد اخذ بيدها ) من الذي اخذ بيدها ؟ و ماذا يريد ان يفعل بها ؟

هو شيخ في سن الستين ، لا يعزف على كمان ، و لا شيخ قبيلة ولا شيخ علم و لا شيخ زاوية .
هو شيخ و ليس شابا يستطيع بشبابه غواية هذه الطفلة...


يريد أن "يتزوج" بطفلة في الثالثة عشرة من عمرها ، بدون شريعة المتعاقدين الضامن لحقوق الطرفين ، أي بدون كتاب و لا سنة .. بل يريد اغتصاب أنوثتها و طفولتها البريئة ، و يعبث بمحاسنها ، و يسرق الفرح من عيونها مستغلا فقرها ، و غياب من يدافع عنها سوى أم مغلوبة على حالها ، مخفيا خبثه و شره الذي تفضحه صورته البشعة ، و ابتسامته الماكرة الكاشفة عن قبحه و عنفه استأسد على هذه الطفلة الضحية التي لم تعرف ماذا سيفعله بها من ضرب و تهديد و فزع و اغتصاب و افتراس لا يوصف معتبرا اياها ملكا له يفعل بها ما يشاء .

! قلت ماذا يشفع له بذلك؟

أهي لحيته الكثة ، و أسنانه المنخورة ، أم صورته البشعة ، أم لأنه كائن متسلط عدواني متوحش سادي حتى أثناء اغتصابه لهذه البريئة التي لم ترشد بعد و لم تنهد . ذات الصدر الضامر . لم تشبع بعد من اللعب، و لم تجرب الحياة.

اقتنصها هذا ( الشيبة العصية )، ليخرب ما تبقى من حزنها و خيبة أملها ، فراحت وراءه كأنها تمشي نحو حتفها من حيث لا تدري ، محاولة التملص منه دون جدوى تلتقط الحجر لتلعب الحجلة . لكنها قلبها الكسير ظل يصغي لأنين ناي شجي ألا و هو صوت أمها.فمضت نحو المجهول ، تبكي في صمت نادية حظها التعس الذي رماها بين براتن هذا الوحش الذي لم يرحم براءتها ، مما زاد في خوفها . فلم تجد ملاذا إلا التحليق بخيالها إلى ( الحمائم تحت العريشة الظليلة ، و حيث القبرات تنط على أفنان الشجر المتداغل ) انه خيال لكنه على شكل رفض و هروب من موقف فظيع ورهيب ، لواقع مرير لان فراسة البراءة تدفعها إلى الهروب إلى خيال أوسع ، لكن الواقع اغتال وليد الرجاء في الخيال فكانت ترقص من شدة الخوف و الرعب أمام حركاته الغريبة مستسلمة بعد مقاومة فاشلة متمنية أن ينتهي كل شيء بسرعة منفجرة بالبكاء فشهقت شهقة ارتجت لها المحيطات و طارت على أثرها أسراب الطيور و جفلت الخيل فزعة من هذا الباز الذي سيشرب من بركة دم تنزمن ينبوعها.

عندما ينتهي القارئ من قراءة أي نص ، و خاصة قراءة تتمثل مضامين النص أو ما هو كائن فيه ، لاشك انه يعود لقراءته من جديد على مستوى البناء الفني و الطريقة و الأساليب الفنية التي تم توظيفها لمعالجة هذه القضايا التي تشكل إشكالية النص ، أي كيف تم هذا البناء الفني و هندسته في مختلف الحقول كالحقل التداولي أو اللغوي أو البلاغي ؟

كما يمكن للمرء أن يتساءل لماذا هذا الموضوع من خلال مساءلة النص كحدث لغوي أو بؤرة لمجموعة من المعايير النصية، التي تشكل أهم المرتكزات الأساس للنص ؟

صحيح أن هناك علاقة التأثر و التأثير بين المبدع و محيطه يجعله يتفاعل مع هذه المؤثرات لتنضج هذه التجربة في قالب فني يروم من خلاله الإقناع و الإمتاع الجمالي ، فيكون الغرض هو التصحيح أو تعرية واقع معين للكشف عن طبيعة التناقضات التي يفرخ بها هذا الواقع ، فيكون التصوير المباشر أو استخدام الرمز أو السخرية اللاذعة و البناءة التي تروم من جهة أخرى إلى تحقيق تلك اللذة الفنية و الجمالية لدى القارئ الذي يتفاعل مع هذا القبح الذي يتحول إلى عمل إبداعي يتطابق فيه ما هو فكري و ما هو فني..

ففي هذا النص الذي هو خطاب سردي، يتقاطع فيه الوصف و الحكي ، لان طبيعة المضمون ، تفرض ذلك ، بحيث يصف شخوصه في مشاهد و صور يختزل همومها و معاناتها ، في ظل علاقات اجتماعية مأسوية ، كرسم ملامح و سمات هذا الواقع المتخلف، و الذي يتحمل تداعياته، هؤلاء الشخوص الذين هم نماذج لآلاف الضحايا في المجتمع.

و لهذا يعمد المؤلف إلى عملية تفخيخ النص من خلال جمل ملغومة ، و لا تبوح بكل شيء، بل تترك للمتلقي تفجيرها ( ولم ، ولم ، ولم )

بل يعمد إلى صدمة القارئ منذ البداية ، و بدون مقدمات ... و قد يعمد إلى تصوير المشاهد بأسلوب مباشر و أحيانا أخرى باستعمال تقنية أخرى ، و بلغة موجزة و مكثفة بدون إطناب لتبقى الصورة راسخة بكل ما تحمله من دلالات دون اللجوء إلى أسلوب الرمزية أو الاستعارة كما فعل الكاتب في أعمال سابقة تختلف تماما عما جاء به في هذا النص .إلا انه استعمل أساليب لغوية تمتح من بلاغة عربية فصيحة تؤدي رسالتها ، خاصة و إنها تغرف من قاموس يفي بالغرض ( شيعتها – دست في أذنيها – نضت – دترت – لم يجر ماء الأنوثة في المجريين الصاخبين – و لا سال عسل الغواية – تلعب الغميضة بعيون مفتوحة ) و لعله من الطباق الجميل ، الذي تفرضه طبيعة النص بتناقضاتها...

كما أن النص يبتعد عن الأسلوب المباشر لرسم صور يندى لها الجبين ، ليترجم مدى هول المصيبة بأسلوب و لغة شاعريين ليخلق نوعا من التوتر لدى المتلقي ليحفر في مفهوم الخوف و الذعر و الرعب الذي عاشته هذه الطفلة مع هذا الشيخ .بحيث ارتجفت فرائسها ، و كأنها رجة ، شاركتها الطبيعة في هذا الزلزال الذي جفلت له أسراب الطيور و الخيل في مرابطها....

أهم ما أثار انتباهي في هذا النص تصويره ووصفه لهذه الطفلة الخائفة: شعورها بالانكسار و الذهول و الخوف من الأتي المجهول

خائفة و مذعورة، عيناها تراقبانه في انكسار و ذعر.. و ارتفاع ضربات قلبها ... القشعريرة التي انتابت بدنها ... و هو إحساس غامض بالخوف.. إصابتها بالدهشة جعل محاولتها الفاشلة للهروب منه، و التحليق في عالم الخيال، و استرجاع مشاهد تعوضها عما هي فيه...

طفلة لا حول و لا قوة.. لم تجد حيلة ، فلهذا بكت في صمت .. و هل ينفع مع هذا النوع من البشر البكاء ، لانه لا يملك قلبا رحيما؟

! ماذا يفعل الضعيف أمام القوي، إلا الاستسلام الذي تعكسه الحالة التي كانت توجد عليها ؟

لم يسعها إلا أن تعض على شفتيها ، و تغمض عينيها لتنتهي هذه الهجمة الشرسة بسرعة ، و يسدل الستار على مشاهد دارماتيكية من قصة البنت التي طارت عصافيرها الجفلى مما فعله بها هذا الشيخ

قصة باز يتغذى على دماء ساخنة تنز من ينبوع العفة و العذرية و البراءة..
لقد وظف النص حيزا مهما لتصوير شعور الخوف:
الخوف من فراق الأم ....
الخوف من الابتعاد من المحيط و البيئة التي تربت فيها هذه الطفلة
الخوف من الوحدة ...
الخوف من الغربة ...
الخوف من مواجهة المجهول ...
الخوف من هذا الأخر الذي يريد سوقها مثلما تساق الخراف إلى المذابح ...
!! الخوف من المصير ... و ما أدراك ما المصير
الخوف من الموت
الخوف من الاعتداء عليها ...
الخوف من الاقتراب من هذا الشيخ الذي سيغير مجرى حياتها ...


هذا الشعور الذي أرق الإنسان، منذ مجيئه إلى هذا العالم...

لقد شعر الإنسان بقزامته أمام جبروت الطبيعة فراح يعد العدة للتحكم فيها ، لكنه عاش صراعا طويلا مع أخيه الإنسان إلى اليوم ليتبث وجوده و يهيمن على كل شيء ، مما جعله يتحول من كائن بشري إلى آلة صماء لا تبالي بأي شعور إنساني فلا غرابة إذا رأيناه يقتل ليعيش كأننا في عالم الغاب ... بدون قيم و مبادئ إنسانية تعترف بحرية الأخر ، و تحترم كرامته سواء امرأة أو رجلا أو طفلا و سواء كان فردا أو جماعة . فأين نحن من هذا الحلم الجميل لمدينة فاضلة؟

عندما عدت من هذا السفر القصير،الذي لا قيت من خلاله بعض الصعوبات في سبر أغوار نفوس هذه الشخصيات ، أقررت بان الكتابة عذاب جميل ، و القراءة عذاب أجمل لان المبدع يدعونا للدخول معه في منطقة النار لنحترق معه و هذه ضريبة يؤديها المبدع الوفي المخلص لمبادئه و قيمه النبيلة من الحرية و العدالة الاجتماعية ، و احترام كرامة الأخر ، فقد ولى زمن الحجر و الوصاية و التهميش والإقصاء و حرمان الناس من حقوقهم. و في هذا السياق تدخل هذه القصة القصيرة، لان كاتبها دائما يحمل بوصلة لتوجيه المجتمع، و دق ناقوس الخطر و تصحيح ما ينبغي تصحيحه و إعادة بنائه من رؤية شمولية...

! و لكن هل يعيد الفنان للفرد ما أفسده المجتمع؟

و خاصة لمجتمع يعاني من الأمية ، و الجهل و الضلالة العمياء ، و الفقر المدقع في ظل مجتمع يعرف العديد من الاختلالات . الغنى الفاحش و الفقر المدقع التفاوت الاجتماعي، و التمييز الجنسي و هيمنة ذهنية و عقلية متجاوزة، و تفكير متحجر لا يقبل الحوار و لا يرغب في التغيير بحكم الموروث الثقافي. فكيف يمكن تحرير المجتمع من هذه الأغلال التي ظل يرسف فيها لعقود يرثها الخلف عن السلف؟

ان مجتمعنا العربي الإسلامي .. تمزقه مجموعة من التناقضات : ذهنية قديمة تحكمها روح الكتب الصفراء ، بحيث تجد عالما في سن الثمانين متزوجا بفتاة في الثامنة عشرة بالإضافة إلى زوجة أخرى. فإذا كان مثل هذا العالم يفعل مثل هذا فكيف ببطل قصتنا لا يفعل، و هو رجل أمي لا يفقه شيئا؟

و العقلية الثانية هي هذه الأنماط الحديثة التي جاءتنا من الغرب عبر عدة قنوات و التي جعلتنا تتخلى عن خصوصياتنا الثقافية، و هويتنا الحضارية بحجة التقدم و العصرنة التي أدت في غالب الأحيان إلى الميوعة و الانحلال و التفسخ و الشذوذ الجنسي و ظهور السحاقيات و العنوسة بدريعة التحرر و حقوق الإنسان ، و الفتيات العازبات.

أنني لا التمس لهذا الشيخ أعذارا تبرئه من جريمته، و لكنه هو الأخر منغمس في هذا المستنقع الذي نعيش فيه و الذي يرخي بظلاله علينا من خلال أنواع الدعارة السياسية و الاجتماعية.فكل شيء أصبح يباع و يشترى في سوق تلهث وراء اللذة و المنفعة سواء كانت لوحة تشكيلية أو غادة حسناء تزين مجلسا تعقد فيه الصفقات ينشطه سماسرة الجنس و المال و السياسة و الأعمال من النساء و الرجال. و ما بطل هذه القصة إلا واحد من هؤلاء الذئاب الذين يفترسون المجتمع، بأساليب شيطانية يهتز لها عرش الرحمان، فكيف لا تطير عصافير هذه البنت ؟


إن قراءة هذا النص قراءة تحليلية نقدية، تقتضي منهجية كخارطة الطريق تقود الذات القارئة في ضوء أسئلة النص لمساءلته، و التفاعل معه، قصد استنطاقه بأدوات معرفية تفكك بنيته للوصول إلى ما يريد قوله كرسالة لها بعدها الدلالي الثاوي في طياتها مما يتحتم معه التحليل لمضامينه التيماتيكية .

و لهذه المحاولة مدخل ألا و هو عتبات النص ، كمعرفة المؤلف كفرد بصيغة الجمع أو كجمع بصيغة المفرد، يساعد على التحليل السيكولوجي و البيوغرافي لهذا العمل الإبداعي ... و هذا ما سلكناه خلال مقاربتنا للنص، بحيث حاولنا القبض على التصور العام في تقديم مختزل معرجين على الكاتب ، و كيف تم الاشتغال على القضية من حيث الأسلوب الذي وظفه اثناء تناوله و معالجته لأطروحته .

و هذا ما قادنا إلى نوع من التحليل الأسلوبي في محاولته الكشف عن قوانين تبنينه لإيصال هذا الخطاب السردي للمتلقي كمستهلك متدوق يبحث عن الوجه الجمالي في هذا المنتوج في إطار التواصل النصي ، و في إطار نظرية التلقي باعتبار القارئ منتجا ثانيا للنص ، محاولين رصد اللحظة التاريخية و السوسيو ثقافية لهذا المنطوف النصي الذي يلتقي مع الواقع البيئي و مجاله البشري ، في فضائه الواسع سواء في القرية أو المدينة ، و في مجتمعات كثيرة ، متسائلين عما يتوخاه الكاتب من خلال نصه، للكشف عن مقصدية النص الإستراتيجية .

هكذا عشت خلال هذه القراءة بحس جمالي لحظات متوترة ، ابحث فيها و احلل و أقارن ... و اقرأ المنطرق ... كما اقرأ بين السطور التي تخفي تلك البنية العميقة للنص ، و كأني أجسد تلك المشاهد الدراماتيكية التي قدمت لنا الأم في صورة المرأة المغربية أو العربية السلبية العاجزة عن اتخاذ مواقف شجاعة تنقد ابنتها مما هي مقبلة عليه ، بدل الدموع و الألم و الحسرة و الحزن، لكن شفيعها هو الفقر و الجهل و عدم وجود سند معنوي أو مادي تستند إليه لتخليص ابنتها من هذا القران الفاشل باعتباره صفقة خاسرة ، إذا تكلمنا بلغة الربح والخسارة فمن المسؤول هل الظروف هل المجتمع بتركيبته و سياسته و موروثه؟

إن القارئ يعيش لحظة يحاول أن يطل على الكاتب، و هو يمارس طقوس الكتابة و هو يحترق.... و يصطلي بنار المعاناة نتيجة الهم الثقافي الذي يحمله تجاهنا ... لينقل لنا عصارة عقله و قلبه الذي يكاد ينفطر على ما يعيشه و يعانيه...

كما عشت مع الطفلة البريئة ، التي عاشت أقبح و أقسى مظاهر الخوف و الذعر منذ مغادرتها بيت أمها ، و هي تجر ذيول الخيبة و الذل انتهاء بما حدث لها في جحر ذلك الشيخ الذي أذاقها مرارة الحنظل ، هذا الإنسان هو رمز للذكورة و الأنانية و العدوان و الشراسة التي لا توصف، و مهما قلنا عن الشيخ، فانه جزء من مجتمعه الذي تسود فيه هذه العقلية ، التي اتخذت تمظهرات جديدة ، بحيث نجد شيوخا أغنياء يفعلون في السر و الخفاء ما لم يفعله هذا الشيخ.

و أنا انهي هذه القراءة، قلت في نفسي، لابد من مراجعة أخيرة كي لا يبقى شيء من حتى فإذا بي أمام هذه الملاحظات.

-يتكون النص من جمل قصيرة ، مكثفة، بليغة، و بناء متماسك ، و أسلوب عربي غني بانزياحاته...
-وجدت جملا مفخخة، ملغومة تنتظر من يفجرها بمعرفته..
-حوار قليل بل نادر باستثناء بعض الجمل، لان أحوال الشخوص تغني عن لسان المقال..
-تصوير لمشاهد شخوص يحملون صخورا من الآلام و المعاناة...
-الخوف و الوحدة و الذهول هو عنوان قصة البنت التي طارت عصافيرها...
-اغتيال حلم الطفولة من طرف مجتمع لا يرحم...
-عدم إعطاء المكان حيزا سوى ذلك الجحر المفروش بحصير بارد ، لان فضاء وزمان القصة أوسع....
-حلول الوصف و السرد، مكان الحوار بل يقدم لنا صورا و مشاهد بلغة و أساليب تغني عن ذلك، و تجعل المتلقي يستخلص ما لم تتفوه به هذه الشخصيات...
-استعمال " الفلاش باك " تعيد عبر الخيال ، فضاء تطل منه هذه البنت على ( الحمائم تحت العريشة، و حيث القبرات تنط على أفنان الشجر المتداغل ) كبديل و متنفس عن هذا الواقع المأزوم الذي يخنقها ، ويسلب حريتها و كرامتها....
-استعمال الطباق الذي يخدم طبيعة النص و قضيته التي تتناول ذلك التناقض الصارخ بين الشيخوخة و الطفولة ، بين الحرية و الاستعباد ، بين العتمة و النور بين الغميضة و العيون المفتوحة ، بين رغبة الشيخ في امتلاك هذه الطفلة و بين نفورها منه و محاولة هروبها من تلك الحركات الغريبة التي لم تجد لها حيلة للخلاص سوى الاستسلام....
-توظيف الكاتب للمشهد التراجيدي الأخير لغة تفوق كل لغة، تجعل المتلقي يهتز و يحس بفظاعة هذا الفعل ، و هول هذه المصيبة ....
-النص يستفز و يفي بمقصديته، و الدليل انه دفعني إلى تدوين هذه الأوراق التي نثرتها على صاحبه، و هي بمثابة همسات في أذنه قائلة بان هناك ثمة من يحتفي بكتابتك ، و يقدر مجهوداتك ، و يصغي لك ، بل يتمترس معك في خندق المعاناة ، و يثمنا أعمالك التي جعلت منك شيخ القصة القصيرة ، لأنك تجرنا معك إلى الاحتراق كشمعة تحترق لتنير الآخرين .. و هذا قدرك ....


و ثق بي أخي المهدي ، أن ما ينفع الناس باق ، و أما دون ذلك فما له إلا الزوال و النسيان...

اليوسفية 18/12/2016







ذ. أحمد فرج / اليوسفية
 
أعلى