دراسة حسن إمامي - قراءة في المجموعة القصصية " أنفاس تحترق تحت القمر" للكاتب بوعزة الفرحان..

يمكننا الحديث مع القاص بوعزة الفرحان عن تاريخه الشخصي الذي شكّل الإنسان و طوّره حياتيا و مجتمعيا و ثقافيا، و عن تاريخه السردي الذي أخذ ينقش على درب الوجودِ حروفَ التعريف بهوية الكاتب و صناعة عوالم شخصياته و فضاءات خياله و قدريات صناعته و ميكانيزيمات صيرورتها المفتوحةِ الآفاق و الاحتمالات...

و ما دام الاشتغال هنا سيتركز على الجانب الإبداعي الذي يؤثث نصوصه القصصية فإن الرحلة لابد لها من منطلقات و زوايا و محطات وقوف، و كذا مراقي عروج بين المبنى و العنى و الحرف، بين الدال و المدلول، بين الذات و الموضوع، بين التاريخ الشخصي المادي واللحظة السرمدية المتفجرة التي يشكلها كل نص من النصوص...

و رغم أن اشتغالنا سيكون على مجموعة قصصية بعينها و هي ( أنفاس تحترق تحت القمر )، فيمكننا استراق بوح الكاتب و اختياره لمرافعته التي جعلها في مقدمة مجموعته القصصية الأخرى و التي هي (عندما تتعرى الأيام من أوراقها )... يَعتبر الكاتب نفسه مشاغبا للكلمة الأدبية، كما أن نصوصه متشظية إلى محكيات، منهاالمعيش و المتخيل و الحاضر و المستقبل... ( ص 3 )... بوعزة الفرحان:(( طفل واعٍ مارس لعبة تبادل الحكي بين الواقع و الاستذكار و الاسترجاع و الخيال عن طريق خلق معركة بين اللغة و الأسلوب لتشخيص هذه اللعبة القصصية ))ص3.

و سيكون أبطال قصصه شخوصا حية في كيانه و وعيه، شخوصا يحترمها و يحبها و يربط معها علاقات صداقة و قرب حتى تكون من أهله أو هي منهم و من أصدقائه الذين عاشوا معه طيلة فترة الكتابة... (ص3 ـ عندما تتعرى الأيام من أوراقها )...

يستشهد الكاتب بكُتّاب عالميين، فينسب لهم رسالته و يتبنى رسالاتهم حتى تكون رسالة واحدة بينهم جميعا. هكذا تكون الكتابة حلم يقظة، حياة افتراضية و شعورية يتم فيها حلول ذات الكاتب في ذات شخصيته و العكس صحيح كذلك.(هاروكي موراكي ـ اليابان). و فعل الكتابة و الأدب هو مشاغبة جميلة حتى تبقى الذاكرة يقظة ( الطاهر بن جلون ).. ص 4 من م ق ( عندما تتعرى الأيام من أوراقها ).

سيكون الاشتغال المرتقب على المجموعة القصصية متتبعا لمراحل و محاور و محطات وعتبات. هكذا سيكون الاشتغال على ما يلي: العنوان ـ الغلاف ـ الشخصيات ـ الفضاءات ـ القضايا ـ الوصف ـ التطور الدرامي ـ السخرية و المفارقات ـ العلاقات البين جنسية و تمظهراتها الثقافية ـ النهايات المفتوحة ـ الذات المهندسة...

و هي محاولات للقبض على الأنساق الرابطة و الخفية داخل كل بينة، و بين بنيات النصوص و فيما بينها.


العنوان: أنفاس تحترق تحت القمر:

في اختيار العنوان تركيب لجملة مكونة من عنصرين: الأول يندرج داخل وضعية، و الثاني مراقب صامت.

فالأنفاس رمز لحشرجات و آهات و معاناة الذات ـ الشخصية التي التهبت بتفاعلات شتى فاحترقت غصون اخضرارها وربيعها و أصبحت في مهبّ العدم و الفناء اللذين يليان التيه و الضياع...

أما القمر فسنحتاج إلى تتبع توظيفه داخل متن النصوص القصصية لنستلهم منها رمزيته ووظيفته التي غالبا ما تشتغل ليلا و الناس نيام، و الطبيعة هادئة... كانه ليل يتبرأ مما يقع أو عاجز عن التدخل لتغيير ما يقع، او هو عاكس لما يقع و مرآة تترجمه و تساعد على ظهوره و بروزه، ما دامت شمس النهار تلتهمه و تحرقه و تغطي حقيقته...

فهل احتاج الكاتب للّيلِ و قمره لكشف الحقيقة؟ هل احتاج لصمته لإسماع صوت شخصياته المقهورة غالبا و المنكسرة وجدانيا، بعيدا عن صخب النهار و حرقة شمسه اللاهبة، بعيدا عن الضجيج الملوث للوعي؟

سنبحث داخل النصوص القصصية فنجد الكاتب و قد استحضر القمر ضياء متفاعلا مع النفسيات لمعانا و شحوبا، عاكسا الأنفاس و متراقصا مع تعابيرها و قسماتها الداخلية قبل الخارجية.

و إذا لم يكن من بد لحضور الزمان في فضاء الحكي و سرد القص، فإن هذا الحضور ستعكسه أجواء مناخ متسم مرة بالزوبعة أو بالظلام أو بالهدوء الذي يسبق العاصفة... وباعتبار المشاهد المتسلسة في كل قصة، فسيكون للقمر حضور في صفحات عدة:

ـ ص7: وقفت على أطلال متآكلة تتنفس بصعوبة تحت شعاع القمر...( قصة ليتها توقفت و استمعت )... ـ ص20: سرحت الأم حميدة بفكرها مدة من الزمن، تثقب السقف بنظراتها، ضوء القمر شفاف يتسلل عبر شقوق النافذة، فتنسكب خيوطه على جدران البيت. اهتز جسدها، بردت أطرافها... (قصة لم أقل شيئا لأبي) ـ ص26: صعدتُ إلى سطح العمارة و الجيران نيام. قمر الدنيا يطل على الكون، يتنفس بصعوبة تحت سماء حبلى بالغيوم. جلست على كرسي متآكل الجوانب... ( قصة عندما تغير الأيام ثوبها). ـ ص45: اشتدت ظلمة الليل... أشعة باهتة تتسلل دون حسيس من تحت غمام شفاف، كلما خرج القمر مودعا له يتباطأ في سيره...( قصة راقصة رقصت للسراب ). ـ ص65: ضباب خفيف يمر صامتا فوق رأسه، يلفه من كل الجهات. سكون يطبق على النفس، يذكي الذكريات، يخترق الماضي. عمود كهرباء يتيم يتنفس بصعوبة تحت أشعة قمر ساطع ينشر أشعته الباهتة إلى أبعد نقطة. حشرات طائرة تنغص عليه خلوته...( قصة عندما ترتجف الأحلام ).

و إذا بحثنا في لباس القمر الذي يفترشه بساطا ممتدا فسنجد ما ينوب عن هذا القمر في الوظيفة، و في المرافقة لشخصيات القصص في عزلة الذات و صمتها بعيدا عن صخب المحيط و النهار...

ـ ففي القصة الأولى سينوب ضوء المصباح الزيتي عن القمر في إضاءة دائرة الشخصية الليلية(ص2). ـ في القصة الثانية(ص8) تحضر عبارة ( ليل حالك يلقي نظرته الأخيرة على المنزل المنهار. ـ في القصة الثالثة (ص11)( خلع الليل عباءته... و الظلام يهرب إلى أرض اخرى ). ـ في الرابعة: ص 15، و الظلام يندحر على مهل... ظلمة حالكة لا زالت تجتاح الحارة (ص15 ). في ص17: تعانق الليالي الحمراء... ص 18: يدون كناشه في الأسود معلومات ناقصة... ـ في القصة الخامسة: ص20: احتوى الليل بعباءته كل شيء، و سبحت القرية في ظلام دامس. ليل حالك يذرع الغرفة. بخطى ثقيلة، خوف نادر ينهش صدره...

هكذا، فإذا لم يكن القمر حاضرا و عاكسا، فإنه الليل الذي يحتوي الشخصيات أو بالأحرى النفسيات، فيجعلها تنزوي مع الذات و تنفجر للتعبير عن الاهات... و كأن الليل عراء وعري من لباس و لبوس النهار، و كأن القمر مصباح لهذا العري أو هو مرآته النفسية... و حتى إذا كان القمر غائبا فسينوب عنه الكاتب في جوف الليل أو الظلمة... و كان العنوان مناسبا لتسميته:( ( أنفاس تحترق تحت القمر ) ).

لكن، مع افتراض العنوان مناسبا دلاليا، لماذا لم نجد ( أنفاسا تحترق تحت ضوء القمر ) ووجدنا فقط عبارة ( تحت القمر )؟ ربما تبرئة للقمر من النفسيات و نتاج المجتمعات... ربما كون الضياء غير مكتمل و لا كافٍ، يتماوج مع النفسيات في الشحوب و اللمعان...

الغلاف:

الأدب عرس جمالي و احتفالي و درامي تتراقص داخله الحياة بتلابيب أفراحها و أحزانها، سعادتها و شقائها، كمالها و نقصها... و الفن كذلك.
و يمكننا القول بأن الاشتغال على لوحة الغلاف و على حضورها، هو اشتغال على هذا التزاوج الإبداعي و الهارموني الذي يمكن للفن و الأدب أن يحققانه...

ذلك مبتغى الكاتب في تشكيله أو اختياره للوحة الأرضية الممتدة للانهايات، لون لازوردي مرصع بجوهرة لجينية مستديرة و مشعة ينفلت منها شحوب متناثر على ذات كائن جالس في تلاشٍ فوق صخرة. الصخرة مطلة على واقع شجرة ربما هي محترقة فيكون سوادها ترجمة لعنوان و لكلمة تحترق. و ربما هي في خريف فصولها التي تعريها من كل ازدهار أو اخضرار أوراق... و قد نسترق بهذه الصورة صورة ذهنية نُلَبِّسُها للعنوان. و قد نقول: (انفاس تتعرى أو هي عارية تحت القمر).

لكن الصورة، صورة الغلاف، تعكس ذات الشخوص التي تناولتها الأضمومة، و سيتجلى هذا الانعكاس في محاولتنا لتناول نصوصها و تسجيل بعض الملاحظات في الشكل والمضمون حولها.

لكن، بين تسمية الكاتب فوق على صفحة الغلاف، و تجنيس العمل تحت، سيكون بين البياض و السواد ترجمة لدور الكاتب و حضوره و وظيفته في أن يكون هو هذا القمر ربما سيتخلل بأشعته ببطء هامس ـ كما يحب الكاتب وصفه به ـ نفسيات النصوص القصصية في ثنايا الصفحات...

و نعود للون، فنجد الكاتب و قد دوّن في ص 43: جماهير تهتز من مقاعدها، تلوح بمناديل زرقاء، و الأزرق هو سيد الألوان... ! في قصة ( راقصة رقصت للسراب ). فهل هي جملة اعتراضية أقحمها الكاتب لذاته و اختياره، أم هي مناسبة للحكي؟ ما بين زرقة الغلاف و هذا الاعتراض مناسبة لمساءلة حضور الذاتية في الوصف الموضوعي في الكتابة القصصية... و يبقى الاستفهام و الاستغراب و التعجب كعناصر حاضرة طبعا.

و في كل ما ذكر نستحضر شعرية الكتابة كذلك، لكي نستعين بالتحليل الظاهراتي للكتابة الأدبية و الشعرية، و على الخصوص تفسير غاستون باشلار الذي يستلهم علوم عصره الرائدة في تفسير الظاهرة الأدبية و الفنية، و الذي سينير الطريق لمناهج تحليل حديثة كذلك يستغور بها كل باحث ثنايا النصوص و يستدرجها لاستخراج دررها من محاراتها العميقة الضمور... ( الرجوع إلى المرجع ) الخيال و المتخيل في الفلسفة و النقد الحديثين ـ يوسف الإدريسي/ حيث يعتبر باشلار النار كأول عنصر مادي لاشتغال الخيال الشعري... فالنار حميمية و كونية، تحيا في قلوبنا، كما تحيا في السماء، تصعد من أعماق الجوهر و تُمنح كالحب، و تهبط ثانية داخل المادة و تختفي، و تلوّح بمعنى الحقد و الانتقام.. تقبل بوضوح متماثل قيمتي الحسن و القبح المتعارضتين، فهي تلمع في الجنة و تحرق في جهنم، و هي عذبة و معذِّبة/ص101 كتاب الخيال و المتخيل عن باشلار la psychanalyse du feu.

السياق: الفضاء و الثقافة و الاجتماع

يوقع الكاتب حضور القرية في المدينة و تناقضاتهما و قيمهما المختلفة، و اختلاف عيشهما بين البسيط و المركب. و تكون صدمة الانتقال من البادية إلى المدينة هي صدمة تفاعل مع حداثة إيجابية و سلبية... لكن سلبيات المدينة متعددة وأخطارها يكون من أول ضحاياها هو هؤلاء الآتون من فطرة و براءة او ظروف هجرة قاسية و غفلة...

إن هذه المدينة تبتلع الأفراد بنمط عيشها و اقتصادها، و تكون الأثنى غالبا ضحية للاستغلال داخل مؤسسات التشغيل و داخل الملاهي.. و يكون الإغراء حاضرا يغري بالرقي بالذات و تجاوز الصعاب و توفير الماديات الملحة بكثرة على متطلبات و ضرورات العيش اليومي...

سيكتشف الفرد في المدينة قانونا أعلى و أصعب، مبهما و غامضا لا يفطنه إلا و هو ضحية له، لتكون التجارب أمُّ الحِكَم في التعلم، و يكون الشارع هو مدرسة الحياة الحقيقية. لكنها تخلق أبطالا داخل حكايا القص في الأضمومة رغم أنها ضحايا التراجيدية المرسومة، ماديا و اجتماعيا و عاطفيا و وجدانيا...

من المواضيع الأساسية المطروحة في تفاعل مع ظروف الشخصيات و مسارات حياتهم نجد:

ـ التشغيل للخدامات بالمدن ، العمالة الجنسية ـ التيه في الشوارع ليلا ـ البحث الزئبقي عى الحنين و على قيمة الحب و جوهرها المفقود في الفؤاد قبل فقدانها في العالم الخارجي ـ السكن غير اللائق ـ الضجيج ـ فضاء سطوح العمارات كملجأ ليلي للمناجاة ـ دورة المياه المشتركة... الشخصيات المنكسرة و المستسلمة لقدرية واقعية تترجم رسوب الفرد داخل هذا المجتمع و انكسار طموحاته و تمزق آماله... ـ الفئات المهمشة التي يتستر عليها ظلام الليل بين الشوارع و قماماتها ـ لغة العنف و السرقة و مبدأ الغابة و الغاية تبرر الوسيلة...

و بالانتقال إلى المهد الأول، القرية و البادية، الأم و الأرض، هو مهد الطفولة و الفطرة، البساطة و الهناء الأول، منبع النهر الذي سيعد الأفراد لكي يسبحوا مع التيار، هذا التيار الذي يصب في الغالب، داخل تيار الحياة، في سباحة داخل مصب مزوبع و عاصف، إنه عالم المدينة.

سنجد عالم البادية بكل ما يشكله من مناخ و ظروف و كأنه عالم حنيني لا ندري إن كان نوستالجيًّا بالنسبة للكاتب و السارد أم بالنسبة للشخصيات التي اختار لها أسماء مميزة: عمار ـ جلول ـ مسعود ـ حمدان ـ احمد ـ مفتاحة ـ العرباشي ـ رحيمة ـ زينب ـ حمادي...؟

و يبقى أن نصوص الأضمومة يمكن اعتبارها مختارة لكي تكون متجانسة في دوائر اشتغالها بين الشخصيات و ظروفها و بين تنقلات البادية ـ المدينة، و بين أحداث قد تخلق للمجموعة القصصية عالما مصورا متشابكا يضم داخل جل النصوص مشهدا أو مشاهد سينمائية متجانسة...

هذا الاختيار الواعي لجل النصوص يقابله جدليا اختيار لرحلة العودة لشخصيات أخرى، جربت المدينة ـ وهي ابنة القرية ـ و عادت إلى البادية في احوال مختلفة، بين منكسر عاطفيا او عاجز ماديا، أو متسلق اجتماعيا أراد أن يبني له مركزا مجتمعيا داخل حلم الانتخابات التي سيعتبرها ثقافيا رمزا ضروريا للتوقيع على نجاحه المادي في تجارة ما أو ما شابه ( قصة: متاهة ص69 مثلا).

المفارقات:

سننتقل لتتبع المفارقات و نلتمس بين ثنايا النصوص وجودها و دلالتها على وظيفة سخرية في الحكي، حكي يتهكم من الواقع ليترجم صراعا ازليا في تاريخ الفلسفة على الأقل بين المثالية و الواقعية. كلاسيكية استترت لتستمر في الضحك على ذقون الوعي. هكذا ستبرز تناقضات ساخرة بين أحمر شفاه رخيص و زينة مطلوبة للافتتان و الإثارة، بين أمل في الصعود و الترقي و اندحار يسقط في حفر دامية...

سيلطخ أحمر الشفاه زينة البدويات كدلالة على تحول مشوه ربما في شخصياتهن و نفسياتهن و مطلوبهن للعيش الجديد بين ثقافات المدينة المتناقضة... سنجد عبارات دالة في ثنايا قصص عديدة تتضمن ما ذكر:

ـ ص39 في السطر الثالث: ( عصارة أحمر شفاه تحدث ضجيجا في النفوس...) ـ ص26/27: ( أصباغ باهتة تأكل الخدود، تمص الشفاه...) ـ ص88س7 ( و بسرعة أخرجت أحمر الشفاه من محفظتها، و شرعت في تلوين شفتيها.. تغير إشارة الضوء من الأحمر إلى الأخضر... // و يبدو أن الأحمر الأول قد تحكم في وقوف السائق داخل القصة ( قصة لا تصلح للقراءة ) إشارة إلى متحكمات داخلية و غرائزية، لولا ضربة الزوجة على الكتف لما استفاق و لما عاد إلى يقظة و انتباه في سياقة...

و هنا نجد بين أحمر الشفاه و أحمر الضوء رمزية إشارة إلى أحمر المتعة و احمر الممنوع، بين الزوجة الجامدة و الحامدة و الرغبة الجامحة، مفارقة نهاية القصة، عبثية السارد و تهوره السلوكي و وضعه المتهور امام رصانة زوجته الحسية و الباطنية...

ـ ص 85 ( عضت على شفتها السفلى، من كثرة البلل انتشر أحمر الشفاه بين أسنانها... ـ ص 81 س3..(بلا مجداف تغوص في بحر الضياع، على وجهها رسمت خرائط التيه بألوان مختلفة، بكثافة يحضر الأحمر على الشفتين...

و تحضر الجمل التي تسجل مفارقات المقارنة و التشبيه الغرائبي و النافد إلى مداخل و عمق الوصف سواء النفسي أو الوضعي المرتبط بظرفية الحدث او القصة أو الشخصية...

في ص16 ( كل الرجال ذئاب يأكلون لحوم النساء بالشوكة و السكين... يديرون ظهورهم بعد الشبع...)/ في ص 16 ( جاء يدس مشاكله اليومية في كؤوس الموت البطيء)/ في ص17 ( باتت اللذة في عينيها مرارة...)

و هناك المفارقة التي لا تظهر: جنين ( الخطيئة ) ـ الخوف من عار التهمة ـ التخلي عن وظيفة الأمومة و عن الجنين ـ انتظار الذات الذي يوصل إلى الحمق و المرض العقلي و التيه في الشوارع و الفضح لجروح النفس، عقاب للذات و جلد لها، تعبير بلوحة الدمية كتعويض...

ــ مجتمع يجعل ضحاياه في وضع عقابي بقانون أخلاقي يقسو على الأفراد في حالات الشذوذ و الاستثناء... و السؤال هو: هل لا رحمة خارج دائرة الشرع و القانون...

في ص26 قصة ( عندما تغير الحياة ثوبها ) إسقاط الحالة النفسية على وضعية ما : القمر ـ السيجارة... قمر الدنيا يتنفس بصعوبة تحت سماء حبلى بالغيوم... معكتُ ما تبقى منها تحت قدمي كأني امعك شخصا ما.../ ص30: ( كنت كتبت على بابالبيت الذي اكتريته: خرجت و سأعود لكني لما رأيت طيف ابنة عمي الهرماشي يقف على عتبةقلبي و هو ينظم نبضاته، على الفور كتبت لصاحبالبيت رسالة مستعجلة، خرجت و سوف أعود... بعد أيام قليلة، كانت خطيبتي السابقة و أمها و اخوها الكبير يحتلون بيتالضيوف عندنا...

ــ مفارقة البيت و فضائه و دلالته و وظيفته، مراقصة اللغة لواقع العيش بتنقلاتها الساخرة...

ـ مفارقة النهايات

التي تحملها السطور الأخيرة من كل قصة... غموض عجائبي ـ تعدد الاحتمالات القدرية ـ شباك حيرة تنقل القارئ من مجرد متتبع و مشاهد للحكي إلى متورط في مساره غير البادي و المتروك للمتلقي لكي يكون عنصرا جديدا في القصة و الحكي و الحدث و تفاعلاته.. يكون هناك استمرار حياة للنص و حلول لروحه في روح المتلقي حيث سيكون التفاعل الجديد الذي سيولد نصوصا جديدة مماثلة و مغايرة في آن. ـ و لعل هذا ما يخشاه حراس العقول الذين يريدون الحجر عليها. ربما عدو العقل يفطن لخطورة مادته أكثر من المنتصرين لوظيفته ـ .

ص33: في قصة (عاد يحمل الريح معه): سخرية العدم من ضحاياه الجدد ( نظر العجوز إلى عمار نظرة تنم عن إشفاق، فابتسم ابتسامة حمقاء، و تابع سيره و لم ينبِس بكلمة. زمان يابس يأسر لحم عمار، نسي همه و بقي مشدودا لعجوز يصارع وخز الزمن ).

ــ في القصة سخرية ماكرة من شخص عمار الذي أراد البحث عن حبه الأول علّه ينعش به قلبه. ذهب للبحث عنه في المدينة، نال عقاب المدينة الليلي و شاهد عوالمها الغابوية الموحشة بين الخلائق... حين العودة، كيف ستفسر الزوجة تذكرة السفر التي وجدتها في جَيْبِ ثيابه؟ سؤال متروك للمتلقي لكي يشارك في تصور الآتي و توريطه في عالم القصة.

يمكن القول بأن القارئ يصبح عضوا مؤثثا للأضمومة بمجرد ما يقرأ إحدى لوحاتها المكتوبة، لنتحدث حينئذ عن شكل غرائبي و عجائبي للتفاعل القائم بين النص و المتلقي قائم بينهما، فيكون الكاتب قائما بلعبة الساحر الذي يتحكم في جمهوره و يورطهم في ألاعيبه السحرية المدهشة مع التصفيق اللائق على الاستضافة الجميلة و الغريبة في آن./ ص38 : في قصة تشابه : توقفتْ بالقرب منه حافلة لفظت ما في جوفها من لحوم بشرية. عادت جعجعتهافي الاستمرار، استأنفت سيرها تاركة وراءها... أفرغت الحانات ما كان بداخلها من لحوم بشرية، فتسابق الكل إلى العلب الليلة، حفر الموت البطيء كما يسمونها./ ص39: أيعقل هذا؟ عائشة تقتل ذاتها هنا؟/ و نعود ل ص9: فنجد سخرية من اللحظة بسلاح اللغة ( تلهيت بالحسرة و الأسى، والآهات تأكل و تقتات مني، تفتت عمري بين ظلمة الزنازين، فلم أعد أقوى على مجابهة المصير).( فجأة دبت مخلوقات القرية متباطئة في حركتها) هو تشبيه وجودي طبيعي لحركة الخلائق في الصباح الباكر... ( تهت أمضُغ المرارة في زنقة تدعى السكاكين...) اختيار اسم المكان مناسبا للوضعية النفسية...

ص10: ( طيور جميلة ... تطعم بالتقسيط، تقرأ سر البشر في صمت، و ما هذه الطيور إلا مخلوقات ضعيفة فقدت حريتها بسبب ظلم الإنسان..) ـــ = مفارقة امتلاك الوعي عند الطير أم عند الإنسان... إسقاط نفسية على نفسية...

ص12: من بين المفارقات، نجد داخل قصة ( القادم من الضباب): ( يقرأون جدران المآذن... نسي الناس أسماءهم، خلعوا عباءاتهم، ظهرت ملابسهم التحتية، لا يبيتون، يمشون في الشارع و ألسنتهم متدلدلة... تحامقوا، عزموا على الرحيل، راحوا يبحثون عن وطن جديد... يقال إنه قدم من ضباب أبيض... يحمل.. مفاتيح كبيرة كانت للخليفة هارون الرشيد... تاه في شارع تاريخي..

ــ غرائبية الحكي، شخصية تُسائل الحاضر بالأمجاد التاريخية، شخصية حمدان، شخصية ترمز إلى الربيع العربي الذي جاء بآمال ( المفاتيح )، وزعها على الجميع، لكن سرعان ما عادت خيبة الأمل بعد الأمل. و كأن حمدان هو الزمن الجميل، المفقود و المأمول. و كأن الشيخ الكبير هو حكيم الزمان، الصامت و المتفرج على شتى عيوب و شتى انتظارات... و قد نتساءل عن رمزية التسميات:

(عياش) الذي خرج لصلاة الفجر و بدأ يتساءل و ينتظر...؟ (حمدان)، الذي قدم من الضباب، و رمزية الضباب... مزن ممطر، أفق مأمول...؟

فالمكان في القصة شارع الزمن التاريخي، فضاؤه مكونات تاريخية: تتار جدد ـ ذل السؤال والحاجة ـ كفر المجاعة و الفقر ـ شراء القوت بالإيمان ـ الأفواه مقابر للآهات و الزفرات...

و كأنها مرافعة الكاتب على هذا الزمن و هذا الواقع السياسي و الحضاري المتدني التي تعيشه شعوبه التي ينتمي إليها... سيميائية في الوصف و رمزية كبير يشحن بها القصة لكي يبرأ ذمته كذات من مسؤولية المحاكمة التاريخية التي تدين مجتمعاتنا العربية الإسلامية ـ بحسب سياق الثقافي و السياسي المرتبط بها ـ.

ص45: إذا انتقلنا إلى قصة أخرى و هي ( راقصة رقصت للسراب )، نجد الحكي و قد تمنى أن ترقص الأشجار مجانا للرياح فتنشر من جديد صوتها عبر الجسور، عبر الوهاد... إسقاط لوضعية قدرية في النفس البشرية على وضعية طبيعية تفرض منطقها الذي يفرض على النفس قانونه الأقسى و العسير...

في تتبع العلاقات بين الذكور و الإناث:

لعل تتبع هذه العلاقات يترجم الثقافة الجنسية و الأدوار الاجتماعية و الثقافية التي تتداخل معها و بها... يساعد تحليل النفسيات و منطلقاتها و روائزها الأساسية على رؤية الحياة وبناء مشاريعها و سلوك دروبها... و هي رؤية قد تبدو مألوفة و عادية للذي يعيشها كثقافة يومية بتقاليدها و أعرافها و أخلاقها و مسلماتها التربوية و الوجدانية، لكنها في الآن كذلك طريق لتحليل الشخصيات و معرفة مكوناتها و توازناتها التي تبنيها انطلاقا من سياقها...

( جلول و عائشة ): حب طفولي في قصة ( تشابه ) ص36. قراءة عاطفية و سوسيو سيمائية تجعل الأنثى هي المدينة و المدينة هي الأنثى، تجعل نفسية جلول هي نفسية الذات المشكلة للقرية و البادية و هي الممتدة لتشكل مشروع الانفصال عن عالم المدينة، و البحث عن اتصال و التحام جديدين... تحضر مفارقات الذات بين قيمها و نفسيتها البدوية و بين مآلات المدينة...

هذه القراءة تستفزنا في تذكيرها ببساطة الشخصيتين المتكررتين في شتى نصوصٍ، في تصور أنثى اضطرتها الظروف للهجرة إلى المدينة بحثا عن لقمة عيش نظيفة. لكن سرعان ما تلوثت اللقمة بشروط الحصول عليها، فتصبح ملوثة غير نظيفة، يستسيغها المرء و يتقبّلها و يتعايش معها و يساهم في عجنها و صياغتها و إنتاجها...

( عياد و حليمة ): في قصة ( ليتها توقفت الشمس ): ص6 ـ ص10: حكم قضائي خاطئ... سجن لمدة عشرين سنة. ضياع و تشرد الأسرة. عدم رحمة الواقع بالأبرياء و الضعفاء.

قصة ( امرأة تحاكم ظلها ) ص15: حضور الأنثى و غياب الذكر في عملية إنجاب و استغلال ذكوري لعالم الأنوثة. الضحية جنين. الضحية أم عازبة.../ قصة ( لم أقل شيئا لأبي) ص20: حضور الأم و غياب الأب. بقاء الابن و الآم بدون معيل... /قصة (عندما تغير الحياة ثوبها ) ص25: ذكر بين تجربة علاقة خطوبة( نادية) بنت المدينة، و رغبة في الارتباط بابنة البادية ( زينب )... ضيق الفرد بمتطلبات المدينة و مصاريفها و استهلاكها و بحث عن بساطة عيش، هو رغبة في راحة من الجري وراء معطيات عصر مادي بامتياز...

( عمار و نادية ) : في قصة ( عاد يحمل الريح معه ) ص31: خادمة في المدينة و البحث عن حب قديم...

( مفتاحة و زوجها محمد العجوز ) في قصة ( راقصة رقصت للسراب ) ص41: شخصية شيخة و تاريخ رقص و زواج من مسن و غياب علاقة حقيقية حيث الحضور في الغياب و الغياب في الحضور...

( مسعود و زينب ): في قصة ( متاهة ) ص65، و البحث عن رقي اجتماعي شعبي و الدخول إلى الانتخابات...

في ص47: العرباشي يحصد شوكا: علاقة الأب بابنته المهاجرة للمدينة( شادية ). تحولات شخصية و سلوكية و اشكال تحرر, حرج الأب داخل الدوار و كلام أهل القرية.../ ص53: عزيز و حليمة: مرحلة طفولة و بداية بواكير العشق و الحب و الوصف و التعبير...

في الختم:


يبقى أن نشير في نهاية هذه الرحلة الماتعة في قراءة نصوص مائزة لكاتب أنيق في لغته و بارع في وصفه و بديع في حلة نصوصه، أن النصوص الأدبية عند القاص السيد بوعزة الفرحان تعتبر من اجود ما يمكن للناشئة و لطلبة العلم و اللغة و الأدب أن تعتمده في صقل مواهبها و تمكين قدرتها على التعبير بلغة عربية فصيحة. جمل مرتبة بخيال منظم في حضورنا ضيوفا على فضاء السرد و بلاغة التعبير.

( حسن إمامي )


[*] ـ قُدّمتْ هذه القراءة خلال ملتقى السرد الخامس بمدينة مولاي إدريس زرهون بالمركب الثقافي مولاي إدريس زرهون،

يوم الأحد27 نونبر 2016 تحت شعار ( الكتابة القصصية بين الذات و الموضوع )

و التي تم فيها تكريم القاصين: بوعزة الفرحان و عبدالرحيم التدلاوي.
 
أعلى