دراسة نجية الأكرمين - جمالية التقابل في السرد.. قراءة في قصة الفرن لأحمد بن إدريس

يمكن قراءة النص من زوايا عدة ، ويمكن الوقوف فيه ومن خلاله على مستويات جمالية شتى. وعلى غرار الكثير من الروايات والقصص ذات الطابع الكلاسيكي – الواقعي يحضر التقابل كمكون من المكونات الجمالية الأساسية في نص بعنوان (( الفرن)) لكاتبه أحمد ين إدريس. إن عنوان النص يجعلني، وأمثالي، نستحضر في مخزوننا الطفولي، خصوصا ، فرن الْحَيِّ في المدينة، وصورة الفرّان وهو غارق حتى العنق في حفرة يواجه من خلالها لهب بيت النار. الفرن، في الوقت ذاته، عنوان يجعلنا نسابق أفكارنا في حذر مما يمكن أن يكون الكاتب يرغب في أن يوصله إلى المتلقي، مباشرة أو إيحاءً؛ لأن الفرن في ثقافتنا العربية الشعبية ، قد يحيل على : الخبز نفسه، وكم يمرح الأطفال وهم يحملون الخبز للفرن أو يأتون لاستلامه,, مما يحيل على تقابل ضمني في النص من البداية. في الاستهلال يفاجئنا الكاتب أنه موجود في البادية، ويعرض علينا صورة لامرأة قروية ((عجنت العجين، خَمَّرته، قرَصته...."، ثم خرجت ، لتوقد النار في الفرن ، فنفهم أن الأمر يتعلق بفرن تقليدي. كما فهمنا أن عملية إشعال النار والتحكم فيها يستدعي مهارة مع الكثير من الصبر في مواجهة فرن "... التهبت [فيه] النار واضطرمت)). في المقابل كان على المرأة أن تظل منتصبة أمام فوهة الفرن بعنفوان، تجتهد حتى تتأجج النار بالقدر الذي يجعل الفرن جاهزا لطهي الخبز. إنه تقابل آخر في النص يجمع بين أمرين متوازيين: إشعال نار ملتهبة للحصول على سخونة كافية لشي الخبز ، بينما المتعامل شابة، مما جعل المعركة غير متكافئة، وانتهت، فعلا ، بأضرار في جسم المرأة. هي الآن في البيت، تشعر في قرارة نفسها بفرحة النجاح ، لأنها أنجزت مهمتها على أحسن وجه. حين اجتمعت الأسرة حول مائدة الطعام ، إذا بالزوج يصرخ في وجهها : (( مَلَّحْتِ الخبز )) ، في المقابل لم تجد المرأة سوى أن تتعوذ من الشيطان الرجيم وتترحم على روح أمها لإطفاء نار غضبها من قيود تقاليد تكبلها من رأسها إلى أخمس قدميها. وهنا التقابل الأهم : كلام جارح مقابل تعب مضن. إنها المفارقة العجيبة ، التي جسدها الكاتب في شخصية هذه المرأة : شجاعة ومثابرة تحلت بهما في توجيه النار والتحكم في لهيبها المتأجج ، مقابل الانهزامية إلى حد الإحباط الذي انتابها من ردود أفعال الزوج وغضبه. قمة التقابل في سلوك امرأة بين: قوة استمدتها من ذاتها وأعماقها وبيئتها الخشنة، وضعف أمام سلطة مجتمع ذكوري، مما يجعلها كائنا قويا - ضعيفا ، تعارك متاعب الحياة بعنفوان لكنها تغدو وديعة وضيعة في مواجهة الزوج. بل يمتد هذا التقابل السلوكي ليحيل على تقابل آخر انفعالي ترجمه الكاتب في قدرة المرأة على خلق ألفة مع أدوات اشتغالها في مقابل الحميمية الموقتة مع شريك الحياة, إضافة إلى هذه التقابلات المعلنة، هناك تقابل عام مضمر يفهم من السياق ، وهو الأهم ، يعرض فيه صاحب النص للعلاقة في هذا البيت ، وكأنه يعممه على بيوت أخرى، يبين أن العلاقة الاجتماعية التي تربط بين المرأة والرجل يغيب فيها التواصل ، وتنكفئ فيه المرأة على ذاتها في مونولوج حزين، بدل الرد . هكذا، نلاحظ أن القصة تقوم على بناء مفارقات التقابل من لحظة البداية حتى النهاية، في إطار رهان يقوم على التأثير في نفسية القارئ ، الذي يتخذ موقفا ، دون ريب ، خصوصا أمام الحضور القوي للحكاية على الرغم من قصر حجم القصة ، سيما وأن هذا الحضور الحكائي ذو بعد مرجعي يتوافق والتقابلات ، مصدره الواقع المعيش. استطاع الكاتب بحبكة أن يسلط الضوء على وضع اجتماعي ليس هينا، بل قد يبدو بسيطا، لكنه رفعه إلى مستوى عال من خلال توظيفه لتقنيات جمالية في السرد، ينبه من خلالها المتلقي إلى قضية من القضايا العالقة في المجتمع والتي هي بحاجة إلى قراءة جديدة وبحاجة أيضا إلى إيجاد حلول لها. لقد وقفنا على واحدة من تلك التقنيات وهي جمالية التقابل وتوظيف جراح المفارقة في الكتابة. أضف إلى ذلك، إن الكاتب يكتب في غير تكلف، كتابة من النوع الذي نسميه السهل الممتنع، تتوجها الجمل الفعلية - الدالة على الحركية ، في حوارية تجمع بين جمال الأسلوب ومأساة الموضوع. كما اعتمد الكاتب تقنية التكثيف الدلالي متوخيا الرمز الشفاف الذي يثير المتلقي ويفسح له مجال التأويل... من ثمة جاء نص الفرن لوحة ، تحمل الكثير من الدلالات والشحنات العاطفية في عدد قليل من الكلمات. وهذا مسك الختم في قراءة تقابلات هذا النص .

***

* نص : (( الفرن ))
عجنت العجين، خَمَّرته، قرَصته، قلبت فوقه الطَّبَق. خرجت ، وأحضرت الحطب، ثم أوقدت النار في فرن مثل البرج . التهبت النار واضطرمت، واختلط اللهب بالدخان، وتسابقا نحو سقف الفرن حيث الفوهة العليا كالبركان . بينما وقفت المرأة الشابة متأهبة قبالة الفوهة الكبرى، وفي يدها عصا طويلة تقلّب بها، بين الفينة والأخرى، ما يترسب في قاعدة الفرن، لتزيد النار اشْتِعَالاً . كلما شبت النار في تلك العصا، غمستها في سطل ماء مُثبَّت جوار الفرن . أكَلَتِ النَّارُ الحَطَبَ كله، واشتد الحَرّ في الفرن، زادته حرارة الشمس المحرقة تأججا. صنعت المرأة مكنسة من براعم وأوراق الضِّرْو، ونظفت قاعدة الفرن الملتهب، ودسّت بقايا الجمر تَحْتَ الرَّمَاد، ودفعته جانبا. جاءت بقطع العجين، وبسطتها، قرصة قرصة ، داخل الفرن . أقفلت الفوهتين بإحكام لِشَيّ العجين، وجلست تمسح عرقها، وتلحس بقع الحرائق في يديها ، وتمسح أخرى في صدرها... أَخْرَجَت الْخُبْزَ مِنَ الْفُرْنِ، ووضعته في الطَّبَق، وحملته فوق رأسها ، وراحت إلى المطبخ. حينما حضر الزوج ، اجتمعت الأسرة لِتَنَاوُلِ الطَّعَامِ، نسيت أن تحضر الماء، فقامت مسرعة . سمعت صياح زوجها ... وقفت متسمرة... تتعوذ بالله من الشيطان... اقتربت منه متسائلة في هلع ، فرد بصوت عال: - مَلَّحْتِ الخبز يا امرأة ... كَثَّرَتِ مِلْحَهُ ... ألم تعلمك أمك حتى عجن العجين؟ نظرت إليه بأسف، وقالت : - رحمها الله تعالى ... وانسحبت في هدوء
 
أعلى