قصة ايروتيكية سلام إبراهيم - سرير الرمل

طفا على بحر أحلامه، من أمكنة طفولته الموحشة التي كان يجد نفسه في تيهها وهو يغفو بفيء جدار، ظلال نخلة، باحة مسجد حيث كان يلوذ مذعوراً من عقاب أبيه لذنوب لم يرتكبها. وقتها كان يشعر بنفسه وحيداً ضائعاً في مدن لا يعرفها ولا تعرفه.
برك في الصمت وبقايا مناحي الأحلام تتذاوى في صمت وظلمة الغرفة الضيقة، فوجد نفسه ملقى على أبواب السحر في رمل سرير الزوجية البارد، وإلى جواره يغفو متكوراً جسد ابنه الصغير الذي يتسلل من غرفته منذ أول ليلة قررت فيها هجر غرفة النوم والانتقال إلى غرفة الأطفال.
هذه ليست أول مرة تحمل جسدها الحار بعيداً عنه، وهي العارفة بمدى ولهه به، فطوال الليل لا يكف عن الالتصاق بعريه اللدن الساخن حتى أناء غفوته. يفعل ذلك منذ واحد وعشرين عاماً في بيتهم الأول على حافة الصحراء بجنوب العراق، وفي بيوت سرية أثناء فترة هروبه من الجبهة، في قاعات الطين والكهوف بين رجال العصابات في الجبل، في معسكرات اللجوء التركية والإيرانية وهنا في الدانمارك، على الأفرشة الوثيرة، الخشنة، على التراب، على الصخور، في البرد والحر، في الليل والنهار.
انزاحت مزق أمكنة الحلم الموحش فتوضح المشهد حوله تماماً. ها هو في قفر السرير الشاسع وحيداً يقترب من عامه السادس والأربعين متعباً منهوكاً، يقاوم متشبثاً بالحياة.. يعطف على وحدته تسلل ولده الصغير الليلي واندساسه لصقه في يم هذا الكون الفارغ دونها.
بحلق بعينين فارغتين في هوة النافذة المائلة فوقه.. في ظلامها الذي بدأ يختلط ببهوت السحر الخافت. وزحفت كفه المسكينة الناحلة نحو جسد صلاح العاري الساخن الطالع من بحرها الفوار، المجسد لمعنى ذلك الالتحام المتجدد في مطلق الكينونة البشرية. مسد جسد طفله الناحل متأرجحاً على حافة البكاء والجسد الطفلي تحرك في غفوته نحوه ليلتصق بصدره العاري لافاً بصمت ذراعيه الصغيرتين حول عنقه المائل فوقه، وفيما هو مأسور العنق برخاوة الساعدين الغضين الغافيين ألمت به رجفة خضته مثل عصف ريح مجنونة. اهتز.. تزلزل.. اختض بصمت كابتاً نحيب مفجوع انفجر في أعماقه، فها هو يكاد يقدم في لحظة ضعف أبدية مثل كل مرة، حينما كان يتسلل هارباً من رمل السرير المشترك الخاوي إلى الصالة ليبحر في الصمت ثم في بحر Bach المتلاطم الذي يلقيه عارياً مستلباً إلى ساحلها القريب النائي، المبذول الصعب، الراغب الممتنع، فيتسلق السلالم المؤدية إلى غرف النوم بخطى وجلة خائفة لا يدري هو ممن؟ محاولاً حبس صرير دكات السلالم الخشبية الصارة بصخب لا يناسب جلالة صمت ليالي هذي البقاع. كان يتسلل منهك الروح والمعنى، مخذولاً شاعراً أنه من دونها هباء، وما أن تطأ قدماه مبتدأ الفسحة الصغيرة الكائنة بين غرف النوم الثلاث والحمام حتى يستعيد ذاك الضجيج المبهم في رأسه مجده، فيخوض به في صمت المكان الضيق في الفسحة الماحقة تلك، ضجيج ليس له معنى، لكنه يزخر بكل المعاني. يصبح في نقطة حاسمة، في الصمت، في الرواق العلوي، يخلد في حيرته واقفاً في النقطة الحرجة، وبالعكس من حيرة شخصيات ألف ليلة وليلة غير العارفة بما يختبئ خلف البيبان، يكون هو عارفاً بخواء الغرفة الضيقة التي لا تسع إلا لحجم السرير العريض المشبع برمل الخصام المتحول إلى قفر خاو، وبين باب الغرفة المجاورة الزاخرة بهم.. هي وسط الأطفال عارية شهية تجسد كل المعاني في ذلك الخلود المستكين إلى أنفاس أطفالهم. في اللحظة الماحقة تلك كان يجد نفسه ينساق مثل مخدر بالمعاني نحو باب الوفرة.. باب الدفء.. ومن يقاوم باب عشتار العراقية. فينحرف مساره نحو باحة الزهر. يدور أكرة الباب، يدفعها بأناة، ويدب مثل لص رافعاً غطاءها، ليندس ملتصقاً بعريها المتجمر وكأنه كان ساهراً بانتظاره.
أزاح عن عنقه الذراعين الحارتين، عدل غطاءه ثم أرخى جسده في الظلمة والصمت متكئاً برأسه على حافة السرير في زاوية تتيح له الغور في صفحة السماء المرئية خلال زجاج النافذة العريضة التي تبدو وكأنها ملتصقة في السقف الاسكندنافي المائل مغالباً تلك الرعشة التي تجتاح كيانه الهش المهزوز.. ذلك الرجيف القادم من أعماق الروح.. من غور حرمانات صحاريها الغامضة التي توسعت وامتدت حال بلوغه سن المراهقة لتشل الكيان برمته في قساوة أعراف وتقاليد لا تعرف سوى عماء صرامتها فجعلت منه كياناً مشطوراً إذ تطوطم الجسد الأنثوي ذاهباً إلى مسافات الحلم متجرداً من وجوده المتحقق ليستحيل إلى مطلق جعله يهيم في الليالي عابراً سطوح الجيران متلصصاً على أفخاذ النسوة من الشبابيك المشرعة، خلال زجاج نوافذ حمامات البيوت، هو في النهار غير ذلك تماماً حيث يغور في كتبه ويحاور في الفلسفة والأخلاق والسياسة. من اللجة المضطربة انبثقت بغتة.. من الأعماق المجهولة عامت سمكة طرية لا مثيل لاندفاعها وجنونها. ومن اللقاء الأول على سطح بيتهم أرته كل ما اكتنز في كيانه من أخيلة مباهج الجسد الأنثوي.. وكان جسدها سبحانك يا ربي، سبحان كمال خلقك وما يزال له السحر والعبق الأول نفسه على الرغم من أنها ستدخل الشهر القادم عامها الأربعين.
انتشلته من هول ليله... من أخيلته وفورة جسده الغريب في اللحظة المناسبة، فقد استفحل وضعه البشري آنذاك بعد اضطراب الوضع السياسي وفقدانه الكثير من أحبته وأصدقائه المنشغلين بالسياسة بين مختف ومعتقل ومقتول ومهاجر فبات يلازم البيت، بعد اعتقاله وإجباره على توقيع تعهد بعدم ممارسة أي نشاط سياسي، طوال النهار يحملق بعينين فارغتين بأدراج كتبه غير قادر على مد يده نحوها. وما أن يحل المساء حتى يعب بصمت الكأس تلو الكأس ليرتحل بعدها في سفره الليلي المجنون في أسرار النوافذ والباحات والحمامات وغرف النوم. صار مثل مدمن يهب في السكون بخطى خافتة، ليفتح الباب الخارجية ويهيم في شوارع مدينته باحثاً عن نافذة، عن سياج بيت واطئ، عن فخذ عار، نهد، وهم. ولمرتين كاد أن يُقتل. ففي ذلك الوقت حيث يتحاشى الناس الخروج ليلاً في الشوارع خوفاً من مفارز الشرطة السرية المنتشرة بكثافة، الباحثة عن الشيوعيين الفارين، كان هو يجوب الطرقات أيضاً ليطل من شرخ نافذة، من درفة باب، من سور خفيض، من ثقب مفتاح على لحم أنثوي، لحم متطوطم في المخيلة الجانحة المنهوكة تلك. ولمرتين وبينما كان يتلصص سمع صوتاً يصرخ به:
ـ قف...!!!.
فيتصخر للحظة شاعراً بخور يُعقِل أطرافه قبل أن يلتفت نحو مصدر الصوت والبندقية المصوبة نحوه داركاً هول الموقف. وبغتة ودونما تفكير ينطلق والطلقات تأز بين قدميه، حواليه وفوقه. في الصبيحة التالية وجد نفسه مرة نائماً على العشب في بستان، وفي الأخرى في حديقة بيت أخته الكائنة في الطرف الآخر من المدينة. وقتها قرر وقف ذلك الانقياد المخدر نحو الهيمان الليلي المبهم الخطير، لكنه يجد نفسه بعد الكأس الثالثة يحلق في فضاء حر يبيح له خرق كل الأعراف والمحارم، فلا يصحو إلا وهو في بقعة مجهولة جوار نافذة في فضاء غرفة ببيت والفجر على وشك الانبلاج.
في اللحظة الحاسمة انبثقت بكل مباهجها وحنانها ولهفتها لينسحر بجنون هواها واندفاعها السيل الذي لم يصده شيء لا الأعراف ولا التقاليد، ولا الوعيد على الرغم من أنها لم تبلغ الثامنة عشر حينذاك. انذهل من كل شيء. خُلِق من جديد غارقاً بمباهجها واجداً معنى جديداً لكينونته المضطربة.
تحت سماء النافذة الصافية الظلمة، الناصعة النجوم مسفوحاً على دكة نفسه يغط في موات إسفنج فراش الزوجية جوار جسد صلاح الحار المؤنس الغافي... مصلوباً على خشبته، يحملق بكل القصة.. بفراغ العتمة.. بخواء النفس البشرية.. بعنادات الروح المبهمة، صافحاً عن كل الخطايا.. كل الذنوب.. كل هول الحكايا... شاعراً نفس ذلك الشعور وهو يغفو في ظل نخلة.. في جدار طيني.. باحة مسجد... وقتها كان فداحة الشعور بالوحدة لم يختلط بعد بغريزة الجنس. كانت الوحشة صافية واضحة المنبع شأنها شأن هذي اللحظة في خلوته العارية في يم الإسفنج الميت تحت السماء الباهرة، جوار وهج جسد طالع من خلاصة جسده ومن فضاء وبحور كون رحمها الجليل.
ـ من أين لي إيصال فحواي نحوها؟.
وكيف يستطيع الكلام قول كل هذا؟.
وكيف بي يا إلهي وأنا لست شاعراً؟.
قال بهمس لنفسه وهو ما زال يغالب رعشته الماحقة المكثفة في موجها كل القصة.. كل الحيرة. فالأمر مختلف الليلة.. مختلف .. مختلف.. فإزاء تكرار هجرها المباغت لغرفة النوم متحججة تارة برائحة الشرب ولمشادة بسيطة تحدث غالباً بين حبيبين صغيرين فكيف بهما وهما يكادان يتجاوزا عامهما الواحد والعشرين قريباً دعاها للقاء في إحدى مقاهي المدينة وتحدثا بوضوح. أول مرة يلمس من كلامها تهديداً مبطناً بالافتراق وهي تضع شروطاً محددة لاستواء الوضع البشري بينهما متسائلة:
ـ لماذا تخرب حياتنا؟.
لحظتها شعر بفداحة المسافة الفاصلة بينهما. مدى نأيها عنه إلى تلك المسافة التي لن يبلغها أبداً وتذكر كفافي الذي كتب عن حال ذلك المستيقظ على علو الأسوار التي أحاطته في غفلة والمتسائل عن مبلغ سهومه عن ضجة البنائين والعمال والحجر. مثله تماماً وجد حاله في الطابق الأول بمقهى وسط Copenhagen قبالتها محاطاً بمنطق الكلام:
ـ أحبك.. معنى مطلق!.
لمح ظلال سخرية في توسع عينيها السوداوين المحزونتين الحائرتين بورطة الحياة القويتين المطالبتين بشروط محددة.
ـ في عينيك سخرية. لكن اسمعي أحببتك حرة دون أي مبغى عدا لذة القرب.. في عينيك تترسخ السخرية جلية لا لبس فيها.. لكني وجدتيني ما زلت مثلما وجدتيني قبل إحدى وعشرين سنة على سطح بيتنا البعيد يعبد جسدك وروحك.. لكن بكرامة.. أحبك بكرامة.
ـ لا تحب مني إلا جسدي!.
احتدم في كرسيه وسط المقهى. التهب. تفتت وهو يشعر أنها أصبحت في كون ناءٍ وهي تلقي به من تلك الحافة العمياء إلى يم إبهام الجسد المكثف الأوحد لمعاني التخييل والتأمل. ها هي تلقي به في لحظة فريدة إلى ذلك الفيء الشارد، ظل الجدار في مدن طفولته الموحشة، في باحة مسجد خاضعاً لجلال المكان يرتل آيات كريمات تخفف من استلابه اللابشري المكثف في كف أبيه الغليظة الهاوية على طراوة لحمه الغض الشاعر بإيلامها حتى هذي اللحظة وهو يكاد يدخل السادسة والأربعين.
تأملها بصمت وعمق طويلاً.. ها هي بكل بهاء امرأة محبة تصل ساحل أربعينياتها تجلس قبالته تحاول فرض شروط لم تفكر بها مطلقاً أوقات الحب، الشباب، المغامرة. بل بالعكس كانت أكثر من الريح تحرراً تبغي الحلم دون قياس وتأخذه بكل ذنوبه دون أسئلة مما شجعه على البوح.. والبوح.. حتى أصبحت عارفة.. مصدقة.. أو غير مصدقة بكل قصص لياليه في بواكير مراهقته وانخذال نضجه.
تأملها قبل أن يقول كلاماً قبل نطقه يعرف أنه ورطة.
ـ أنت لا تدركين معنى كلامي.. أنت لا تدركين.. ظنك بسري بك مجرداً بالجسد ليس دقيقاً.. فبرغم عشرتنا الحميمة لأكثر من واحد وعشرين عاماً لم تبلغي ما يجول في أعماقي.. لست فاجراً.. لست حيواناً مثلما تقولين.. وسوف لا أقربك البتة إلا عند رغبتك بي.
كانت تبوح بسخريتها بكل حركة من جسدها المتناسق وهي تنهض من كرسيها لتدفع الحساب ناظرة نحوه بشفقة. لحظتها قرر قطع عضوه دون ذل جسدها المهدد في حركة من ملامحها وخطوها ونبرة كلامها غير آخذ بالحسبان عسف الليالي الموحشة وتأريخ لحمة الجسدين اللذين كانا يتواطآن على الرغم من الزعل والخلافات في النهار فيتحدان معاً في كون السرير المعتم النائر بشذرات الروح والأنفاس واللهاث.
على درجات سلالم المقهى وهما يهبطان قال:
ـ بعد أكثر من عشرين عاماً... تسيئين فهمي؟!!.
ـ ....
احتدم لصمتها صارخاً:
ـ ولعي المجنون بجسدك... ليس ضعفاً بل محبة مطلقة.
ـ فضحتنا.. اخفض صوتك.
قالتها وهي تطأ بلاط الشارع مضيفة:
ـ تسع آلاف مرة سمعت هذي الأسطوانة المشروخة.
واستدارت ميممة شطر محطة القطار. لبث بمكانه مبهوتاً يرقب بعينين مكسورتين طولها المصبوب المفصل تحت بنطلون الجينز والتشيرت القصير ينتفض في مشيته العسكرية القافزة الواثقة. يتأمل قربها الداني ونيلها المستحيل. لم تلتفت.. حتى عند انعطافها نحو موقف الباص جوار المقبرة.
ـ كلب.. كلب أنت.. كلب.. كلب أنتَ!!!.
صـ... صرخ مرتجاً غير آبهة بالمارة الداخلين والخارجين من المقهى والناظرين نحو وقفته الغريبة وسط الرصيف. وقفته الوحشية وملامحه المتلونة بين التصخر والتكسر، الانسحاق والتنمر.. الصارخ بلغة لا يفهمونها. عندما تمالك نفسه أمام مدخل المقهى حدق عميقاً بقصته فأدرك أنها وقعت حقاً على معناه الهش الذي حاول طوال عمره الخلاص منه فغامر بكل شيء. خاض أعنف التجارب. واجه الموت في المعتقل.. في جبهة الحرب الإيرانية ـ العراقية.. تجرع مقاوماً هشاشته، مأثرة الهروب من الجبهات التي عقوبتها الإعدام. التحق برجال العصابات في الجبل وحيداً. ذاق ويل فراقها فعاد سراً من أجلها فقط وتحمل عناء الاختفاء في بيوت الآخرين، ثم بصحبتها الحميمة بوحشية المعيشة بين ثوار الجبل.. وكان صبوراً.. أكثر صبراً من بغل جبلي.. يتحمل فحولة مقاتلين شباب أشداء يلعبون مع الموت كل لحظة وقادرين على المضاجعة من بعيد بنظرات العيون. تطرف بكل شيء متخيلاً أنه قدر على تجاوز محنة الحرمان الماحق وصار سوياً بقياس المعنى الفلسفي لكينونة الإنسان.. حتى أنه لحظة عبه من غازات الكيمياء الهابطة من السماء في غروب ليلة جبلية أعطبته فيزيقياً كل العمر كان يصرخ ليلة إصابته وسط نحيب المقاتلين المصابين.. يصرخ من فرط ألم الجسد المحترق.. حرقة الجفون المطبقة الراجفة المصلية بالخردل والجنون.. وصوتها الواثق الذي جعله يتجرع كل ذلك الألم اللابشري:
ـ ماذا بكَ يا حبيبي.. كن قوياً.
لحظتها وهو على مبعدة خطوة من الموت، استهجن تذلُّله المهين لقدر لحظته، فلزم الصمت جارعاً طعم النار المستعر بجسده طوال تلك الليلة الليلاء وسط صراخ المصابين المتكدسين في غرف فصيل الإسناد.. وها هو هنا بعد رحلة عذابات السفر بين معسكرات اللجوء.. وامتحانه لذاته العنيدة. فقد ترك التدخين بلحظة مستمتعاً بعبق آخر سيجارة في العمر قبل ثمان سنين.. جرب كل العنادات يركض.. يسبح.. يمشي من مدينته إلى المدن المجاورة معتقداً أنه حقق كل المعنى البشري الذي خاض من أجله المتصوفون دروب العذاب في أزمنتهم.. فوصل الكمال.. هذه اللحظة النشوة التي جعلت منه شبه سوي.. ها هي تتفتت في وقفته المسلوبة أمام مدخل المقهى وعيناه مسمرتان على لحظة غيابها في ثنية الشارع الضاج الأخرس.
ـ أي امتحان عسير هذا يا رب الجنون.. أي؟!!.
لحظتها استدار نحو عمق المدينة وتاه في باراتها صعلوكاً جديراً بالخسارات يعب البيرة ويرقص معانقاً أجساد النساء الدانماركيات الصبايا والعجائز.. رقص ليلتها حتى سكرات الليل الأخيرة.. حتى تباشير الصباح.. وملأ الشوارع صراخاً مجنوناً. أشبعها شتماً.. توسلاً.. طعنها في القلب لحظة غضب وأحياها، بكى على صدرها وغفا. لحس حلمتيها وقطع اليسرى بأسنانه المتوحشة.. فعل كل ذلك في الطريق الزراعي المقفر المظلم من المركز حتى منطقته الكائنة في الضاحية الجنوبية. ومنذ ذلك الفجر المكتظ بغناء العصافير وملمس أجساد رشيقة طيعة تتماوج في يم الموسيقى دون عناء.. دون تاريخ.. تحيا مطلق لحظتها الشاردة في بحر العمر الناشف.. وجدها نقلت كل أشيائها من غرفة نومهما.. الملابس والحقائب والصور.. ليلتها ألقى بجسده على وثارة إسفنج السرير وكأنه مبغى لحظته القاحلة.
في الصبيحة التالية.. ضاع الكلام.. تجوهر المعنى.. واستتب العناد.. فهي أمعنت في صمتها المكين متحاشية أي موضع قد يستدعي الكلام المشترك.
الليلة السابعة لهجرها المخيف.. جنتهما أقفرت..
الليلة السابعة..
الليلة السابعة يرزخُ هو بقفره الجديد في كون السرير الخاوي دون قدها الممشوق الضائع في بعثرة غرفة الأطفال المجاورة..
قاوم تلك الليالي السبع بجدارة.. تكثف في روحه ناسياً كل القصة. تلمس جسد ابنه الحار بأطراف أنامله المرتعشة قبل أن يغادر السرير. فتح باب الغرفة الخشبي ودلف إلى الفسحة الصغيرة الكائنة أمام غرف النوم. ينقل خطوه الحذر مخففاً قدر الإمكان من صرير الأرضية الخشبية. امتدت ذراعه في العتمة الباهتة. أطبقت كفه على تدويرة سياج السلالم واستكن للحظات مترسباً في قعر الفجر الوشيك:
ـ هل تغفو الآن ملأ جفونها؟!!.
التفت نحو جسد الباب المسدود. تخيل قوامها الممشوق متوسداً المستطيل الفاصل بين سرير الطفلين. التفت بكل خفقه.. وتمنى لو أنه لم يتطرف في المواقف إلى هذي الحدود التي أصبح بعدها التصرف يُقرن بموقف الكلام.. التفت بكل نبضه وتسائل مثلما تساءل في طفولته وهو يستيقظ من غفوته في فيء جدار.. باحة جامع عن سر إيذاء الآخرين له برغم حبه لهم.. وقتها كان يعجز عن جعل الآخرين يدركون مشاعره مثل هذه اللحظة حيث يقف مصلوباً على حافة الفجر.. على حافة ساحلها.. في الغور المهلك.. في الفسحة الضيقة الفاصلة ملويّ العنق في الصمت، في العتمة الباهتة، مسكيناً لا يعرف أين سيرسو به المطاف.
هبط على السلالم متلمساً حافاتها بأطراف أصابع قدميه العاريتين.. هبط إلى خلوته في عتمة الصالة.. هبط إلى المطلق.. إلى Bach استلقى على الأريكة قبالة النافذة العريضة المطلة على حقول مترامية يعريها الفجر الهابط.. بعد الكأس الرابعة تأرجح على حافة البكاء.. اغتسل بفضة الفجر الجليل، العارف فداحة ألمه..
بعد الخامسة.. وجد نفسه رائقاً مثل الفجر الشاسع الممتد خلف النافذة، في غور الـ Sonate.
شفَّ.. شفَّ.. وورد شقائق النعمان الذي بلون دمه المسفوح يتألق في ذرات الفضة المنهمرة من السماء.. شف متجرداً من كل شوائب الفضة راحلاً في مدن Bach.. مدن الألم والمعاني الغامضة.. مدن الأحلام المستحيلة.. فاستحال إلى وردة شقائق نعمان تتمايل في ريح الصباح دون أسئلة.. دون تفسير.. بذل مطلق. فتح درفة النافذة فرشقته نسمة الصباح مصحوبة بضجة العصافير وغناء بلبل يحط على شجرة كستناء قريبة.
صحا في غور الفجر.. مُلقياً عن كاهله كل الأسئلة. ارتقى درجات السلالم سارحاً.. مسحوراً بمعنى ورد الحقول تغريد البلبل.. نسمة الفجر.. ودون تردد خطى نحو باب غرفة الأطفال. دَورَ أكرتها، فتجسدت تحت ناظريه.. في المستطيل الضيق، محسورة الغطاء والثوب، مطلية بضوء الفجر الساقط من النافذة. تدفن وجهها في مخدتها المعصورة بين ذراعيها، وبطنها الضامرة تلاصق الفراش المبعثر. هبط مثل ملاك جوار هذا الطين الصافي المسفوح المنحوت المتخلق في هذا التكوين الساحر الآسر منذ بدء الخليقة. تأمل السر الإلهي المتجسد في نحت الأصابع ربلة الساق استدارة الفخذ. ومتانة الردفين المتناسقين في ربوتهما المهلكة. نضا عنه القميص والبيجاما وانطراح جوارها. مستعيداً احتدام فراش المحبة وشاعراً بوهجها الحارق يسعر كل عضو فيه رغم أنه لم يلمسها بعد. ومثل طفل لم يبلغ الفطام بعد امتدت أصابعه تحت ثوب النوم نحو تكويرة النهد المتوتر في غفوته. وما أن بلغت الحلمة المستيقظة حتى انتفض الجسد مستنكراً مبتعداً. فجفل مثل طفل مذعور وهي نصف قائمة، نصف مستيقظة، تهمس بغضب:
ـ قلت لك لا تقربني أبداً.

20/7/ 1999
 
أعلى