السرّاج القارئ - مصارع العشاق

بسم الله الرحمن الرحيم
رب يسر. رب أعن.
المأمون يسأل ما هو العشق
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكرياء الجريري قال: حدثنا محمد بن الحسن بن زياد المقري قال: حدثنا أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثنا أبو العالية الشامي قال: سأل أمير المؤمنين المأمون يحيى بن أكثم عن العشق ما هو؟ فقال: هو سوانح تسنح للمرء، فيهتم بها قلبه، وتؤثرها نفسه.
قال: فقال له ثمامة: اسكت يا يحيى! إنما عليك أن تجيب في مسألة طلاق أو محرم صاد ظبياً أو قتل نملةً، فأما هذه فمسائلنا نحن.
فقال له المأمون: قل يا ثمامة، ما العشق؟ فقال ثمامة: العشق جليس ممتع، وأليف مؤنس، وصاحب ملك مسالكه لطيفة، ومذاهبه غامضة، وأحكامه جائزة، ملك الأبدان وأرواحها، والقلوب وخواطرها، والعيون ونواظرها، والعقول وآراءها، وأعطي عنان طاعتها، وقود تصرفها، توارى عن الأبصار مدخله وعمي في القلوب مسلكه.
فقال له المأمون: أحسنت والله يا ثمامة! وأمر له بألف دينار.
العشق داء أهل الظرف
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان المروروذي قال: حدثنا جعفر بن محمد الخالدي قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثني علي بن عبد الله القمي قال: قال لي عبد الله بن جعفر المديني قلت لأبي زهير المديني: ما العشق؟ قال: الجنون والذل، وهو داء أهل الظرف.
العشق أوله لعب وآخره عطب
أنبأنا أبو بكر أحمد علي بن الحافظ إن لم يكن حدثنا قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي الكاتب بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرني المظفر بن يحيى قال: قال بعض الفلاسفة: لم أر حقاً أشبه بباطل ولا باطلاً أشبه بحق من العشق، هزله جد وجده هزل، وأوله لعب وآخره عطب.
ذنوب اضطرار
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: حدثنا رضوان بن عمر الدينوري قال: سمعت معروف بن محمد بن الصوفي الصوفي بالري يقول: سمعت أبا بكر الصيني يقول: سمعت إبراهيم بن الفضل يقول: سمعت يحيى بن معاذ يقول: لو كان إلي من الأمر شيء ما عذبت العشاق، لأن ذنوبهم ذنوب اضطرار لا ذنوب اختيار.
المجنون الشاعر
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أبو علي الحسن بن صالح قال: قال مساور الوراق: قلت لمجنون كان عندنا، وكان شاعراً، ويقال إن عقله ذهب لفقد ابنة عم كانت له، فقلت له يوماً: أجز هذا البيت:
وَما الحُبُّ إلاّ شُعلةٌ قَدحَتْ بها ... عيونُ المَها باللَّحظِ بينَ الجوانِحِ.
قال فقال على المكان:
ونارُ الهوى تَخفَى، وفي القلبِ فِعلُها ... كفعل الذي جادَت به كفُّ قادحِ.
الجنة لمن عشق وعف
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بدمشق قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب بن الحسين بن أيوب القمي إملاء قال: حدثنا أبو عبيد الله المرزباني وأبو عمرو بن حيويه وأبو بكر بن شاذان قالوا: حدثنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي الملقب بنفطويه قال: دخلت على محمد بن داود الأصبهاني في مرضه الذي مات فيه، فقلت له: كيف تجدك؟ فقال: حبُّ من تعلم أورثني ما ترى.
فقلت: ما منعك عن الاستمتاع به مع القدرة عليه؟ فقال: الاستمتاع على وجهين، أحدهما النظر المباح، والثاني اللذة المحظورة، فأما النظر المباح فأورثني ما ترى، وأما اللذة المحظورة فإنه منعني منها ما حدثني أبي قال: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس عن النبي، صلى الله عليه وسلم، أنه قال: من عشق وكتم وعف وصبر غفر الله له وأدخله الجنة، ثم أنشدنا لنفسه:
انظُرْ إلى السّحرِ يجري في لَوَاحظِه، ... وانظر إلى دَعَجٍ في طرفِهِ الساجي.
وانظر إلى شَعَراتٍ فوقَ عارِضِه ... كأنّهُنّ نِمالٌ دَبّ في عاجِ.
وأنشدنا لنفسه:
ما لَهُم أنكرُوا سواداً بخدّي ... ه، ولا يُنْكِرُونَ وَرْدَ الغُصُونِ.

إنْ يَكُنْ عَيْبُ خدّه بُدَدَ الشَّعْ ... رِ، فَعَيْبُ العيونِ شعرُ الجُفونِ.
فقلت له: نفيت القياس في الفقه، وأثبته في الشعر. فقال: غلبة الهوى، وملكة النفوس دعتا إليه.
قال: ومات في ليلته أو في اليوم الثاني.
العاشق الشهيد
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثني محمد بن مخزوم قال: حدثني الحسن بن علي الأشناني وأحمد بن محمد بن مسروق قالا: حدثنا سويد بن سعيد قال: حدثنا علي بن مسهر عن أبي يحيى القتات عن مجاهد عن ابن عباس قال: قال رسول الله، صلى الله عليه وسلم: من عشق فظفر فعف فمات مات شهيداً.
سقراط والعشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: وأخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: قال سقراط الحكيم: العشق جنون، وهو ألوان كما أن الجنون ألوان.
العاشق التقي
أخبرنا الشيخ الصالح أبو طالب محمد بن علي بن الفتح العشاري بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله القطيعي إجازة قال: حدثنا جعفر بن محمد بن نصير الخالدي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا سويد بن سعيد أبو محمد قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة من بعض إخواني: ألا أريك فتىً عاشقاً؟ قال: بلى، والله، فإني أسمع الناس ينكرون العشق وذهاب العقل فيه، وإني لأحب رؤيته، فعدني يوماً أجئ معك فيه.
قال: فوعدته يوماً فمضينا فأنشأ صاحبي يحدثني عن نسكه وعبادته، وما كان فيه من الاجتهاد، قلت: وبمن هو متعلق؟ قال: بجاريةٍ لبعض أهله كان يختلف إليهم، فوقعت في نفسه، فسألهم أن يبيعوها منه، فأبوا، وبذل لهم جميع ماله، وهو سبعمائة دينار، فأبوا عليه ضراراً وحسداً أن يكون مثلها في ملكه، فلما أبوا عليه، بعثت إليه الجارية، وكانت تحبه حباً شديداً: مرني بأمرك، فوالله لأطيعنك ولأنتهين إلى أمرك في كل ما أمرتني به. فأرسل إليها: عليك بطاعة الله، عز وجل، فإن عليها المعول والسكون إليها، وبطاعة من يملك رقك، فإنها مضمومة إلى طاعة ربك، عز وجل، ودعي الفكر في أمري لعل الله، عز وجل، أن يجعل لنا فرجاً يوماً من الدهر، فوالله ما كنت بالذي تطيب نفسي بنيل شيء أحبه أبداً في ملكي، فأمنعه، أمد يدي إليه حراماً بغير ثمن، ولكن أستعين بالله على أمري، فليكن هذا آخر مرسلك إلي، ولا تعودي فإني أكره والله أن يراني الله تعالى، وأنا في قبضته، ملتمساً أمراً يكرهه مني، فعليك بتقوى الله، فإنها عصمة لأهل طاعته، وفيها سلو عن معصيته.
قال: ثم لزم الاجتهاد الشديد، ولبس الشعر وتوحد، فكان لا يدخل منزله إلا من ليل إلى ليل، وهو مع ذلك مشغول القلب بذكرها ما يكاد يفارقه، فوالله ما زال الأمر به حتى قطعه، فو الآن ذاهب العقل واله في منزله.
قال: ثم صرنا إلى الباب واستأذنا فأذن لنا. قال علي: فدخلت إلى دار قوراء سرية، وإذا أنا بشاب في وسط الدار على حصير متزر بإزار ومرتد بآخر. قال: فسلمنا عليه، فلم يرد علينا السلام، فجلسنا إلى جنبه، وإذا هو من أجمل من رأيت وجهاً، وهو مطرق ينكت في الأرض، ثم ينظر إلى ساعده، ثم يتنفس الصعداء، حتى أقول قد خرجت نفسه، وهو مع ذلك كالخلال من شدة الضر الذي به.
قال: فالتفت، فإذا أن بوردة حمراء مشدودة في عضده، قال: فقلت لصاحبي: ما هذه؟ فوالله ما رأيت العام ورداً قبل هذه! فقال: أظن فلانة، وسماها، بعثت بها إليه، فلما سماها رفع رأسه فنظر إلينا ثم قال:
جَعَلتُ من ورْدتِها ... تميمَةً في عَضُدي.
أشُمّهَا مِن حبّهَا ... إذا عَلاني كمَدي.
فمَن رَأى مثلي فتىً ... بالحزنِ أضحى مرتدي.
أسقمَه الحبُّ، فَقَد ... صَارَ حليفَ الأوَدِ.
وَصَارَ سَهْواً دهرُه ... مُقارِناً للْكَمَدِ.

قال: ثم أطرق، فقلت: الساعة، والله، يموت. اقل علي بن عاصم: وورد علي من أمره ما لم أتمالك، وقمت أجر ردائي، فوالله ما بلغت الباب حتى سمعت الصراخ فقلت: ما هذا؟ فقالوا: مات والله! قال علي: فقلت: والله لا أبرح حتى أشهده. قال: وتسامع الناس فجاؤوا بطبيب فقال خذوا في أمر صاحبكم، فقد مضى لسبيله، فغسلوه وكفنوه ودفنوه وانصرف الناس.
فقال لي صاحبي: امض بنا! فقلت: امض أنت فإني أريد الجلوس ههنا ساعة، فمضى، فما زلت أبكي وأعتبر به. وأذكر أهل محبة الله، عز وجل، وما هم فيه. قال: فبينا أنا على ذلك، إذا أنا بجارية قد أقبلت كأنها مهاة، وهي تكثر الالتفات، فقالت لي: يا هذا! أين دفن هذا الفتى؟ قال علي: فرأيت وجهاً ما رأيت قبله مثله، فأومأت إلى قبره؟ قال: فذهبت إليه، فوالله ما تركت على القبر كثير تراب إلا ألقته على رأسها، وجعلت تتمرغ فيه، حتى ظننت أنها ستموت، فما كان بأسرع من أن طلع قوم يسعون حتى جاؤوا إليها، فأخذوها، وجعلوا يضربونها، فقمت إليهم فقلت: رفقاً بها، برحمكم الله! فقالت: دعهم أيها الرجل يبلغوا همتهم، فوالله لا انتفعوا بي بعده أيام حياتي، فليصنعوا بي ما شاؤوا.
قال علي: فإذا هي التي كان يحبها الفتى، فانصرفت وتركتها.
رواية ثانية عن العاشق التقي.
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قراءة عليه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال: أخبرني عبد الله بن نصر المروزي قال: أخبرني عبد الله بن سويد عن أبيه قال: سمعت علي بن عاصم يقول: قال لي رجل من أهل الكوفة من بعض إخواني: هل لك في عاشقٍ تراه؟ فمضيت معه، فرأيت فتىً كأنما نزعت الروح من جسده، وهو مؤتزر بإزار ومرتد بآخر، وإذا هو مفكر، وفي ساعده وردة، فذكرنا له بيتاً من الشعر، فتهيج، وقال: وذكر الأبيات المتقدمة الخمسة، ثم أطرق، فقلنا: ما شأنه؟ فقالوا: عاشق جاريةً لبعض أهله فأعطى بها كل ما يملك، وهو سبعمائة دينار، فأبوا أن يبيعوها. فنزل به ما ترى، وفقد عقله.
قال: فخرجنا فلبثنا ما شاء الله، ثم مات فحضرت جنازته، فلما سوي عليه، إذا أنا بجارية تسأل عن القبر، فدللتها، فما زالت تبكي وتأخذ التراب فتجعله في شعرها، فبينا هي كذلك إذا قوم يسعون فأقبلوا عليها ضرباً، فقالت: شأنكم، والله لا تنتفقون بي بعده أبداً.
عاتبوه في سفك دمي!
ولي من أبيات:
عاتِبوه اليَوْمَ في سَفكِ دمي ... فَعَسى عتبُكم يُحشِمُه.
ثمّ قُولوا للّذي لم يُخطِني ... إذ رَمى، صَائِبَةً أسهُمُه:
أحَلالٌ لكَ في شَرعِ الهَوَى ... دمُ مَن ليسَ حلالاً دمَهُ؟
بيَ جرحٌ في فؤادي من هوى ... شادنٍ أعوزني مَرْهَمُه.
مجنون دير هرقل
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، بباب الندوة، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: حدثنا أبو الفضل جعفر بن محمد بن الصديق بنسف قال: حدثنا أبو يعلى محمد بن مالك الرقي قال: حدثنا عبد الله بن عبد العزيز السامري قال: مررت بدير هرقل أنا وصديق لي، فقال لي: هل لك أن تدخل فترى من فيه من ملاح المجانين؟ قلت: ذاك إليك. فدخلنا فإذا بشاب حسن الوجه، مرجل الشعر، مكحول العين، أزج الحواجب، كأن شعر أجفانه قوادم النسور، وعليه طلاوة تعلوها حلاوة، مشدود بسلسلة إلى جدار، فلما بصر بنا قال: مرحباً بالوفد، قرب الله ما نأى منكما، بأبي أنتما. قلنا: وأنت، فأمتع الله الخاصة والعامة بقربك، وآنس جماعة ذوي المروءة بشخصك، وجعلنا وسائر من يحبك فداءك.
فقال: أحسن الله عن جميل القول جزاءكما، وتولى عني مكافأتكما.
قلنا: وما تصنع في هذا المكان الذي أنت لغيره أهل؟ فقال:
اللهُ يعلمُ أنّني كَمِدُ، ... لا أستطيعُ أبثُّ ما أجِد.
نَفسانِ لي: نفسٌ تضَمّنَها ... بَلَدٌ، وأُخرَى حازَها بَلَدُ.
أمّا المُقيمةُ ليس ينفعُها ... صَبرٌ، وليس بقربها جلَدُ.
وأظنّ غائبَتي كشاهِدَتي، ... بِمكانِها تجِدُ الذي أجِدُ.

ثم التفت إلينا فقال: أحسنت؟ قلنا: نعم!، ثم ولينا فقال: بأبي أنتم ما أسرع مللكم، بالله أعيروني أفهامكم وأذهانكم. قلنا: هات! فقال:
لمّا أناخوا، قُبَيْل الصُّبْحِ، عيسَهُمُ، ... وَرَحّلوها، فسارت بالهوى الإبلُ.
وَقَلّبتْ، من خِلالِ السِّجفِ، ناظرَها، ... ترْنو إليّ وَدَمعُ العينِ مُنْهمِلُ.
فَوَدّعَتْ بِبَنان عَقدُها عَنَمٌ، ... نادَيتُ لا حَمَلَتْ رِجلاكَ يا جَمَلُ.
ويلي مِن البَينِ! ماذا حلّ بي وبِها؟ ... يا نازِحَ الدّارِ حلّ البينُ وارْتحلوا.
يا رَاحِلَ العِيسِ عَرّجْ كيْ أُوَدّعَها، ... يا رَاحلَ العِيس في تَرْحالكَ الأجَلُ.
إنّي على العَهدِ لم أنقض موَدَتكم، ... فليتَ شعري، وطالَ العهدُ، ما فعلوا؟
فقلنا، ولم نعلم بحقيقة ما وصف، مجوناً منا: ماتوا! فقال: أقسمت عليكم! ماتوا؟ فقلنا، لننظر ما يصنع: نعم! ماتوا. قال: إني والله ميت في أثرهم، ثم جذب نفسه في السلسلة جذبةً دلع منها لسانه، وندرت لها عيناه، وانبعثت شفتاه بالدماء، فتلبط ساعة، ثم مات. فلا أنسى ندامتنا على ما صنعنا.
هند المحرمة
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي بقراءتي عليه سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى بن علي النحوي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم عن الأصمعي قال: حدثنا عبد العزيز بن أبي سلمة عن أيوب السختياني عن ابن سيرين قال: قال عبد الله بن عجلان النهدي في الجاهلية:
ألا إنّ هِنداً أصبحَت منك مَحْرَماً ... وأصْبحتَ من أدنى حُموّتها حَمى.
وأصبحتَ كالمقمورِ جفن سلاحهِ ... يُقلّبُ بالكَفّينِ قوْساً وأسْهُمَا.
ومد بها صوته حتى مات.
المجنون الشاعر
أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن عيسى بقراءتي أو قراءة عليه بمصر قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن القاسم بن مرزوق قال: أخبرنا إبراهيم بن علي بن إبراهيم البغدادي قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا أحمد بن إسماعيل قال: حدثني المبرد قال: خرجت أنا وجماعة من أصحابي مع المأمون، فلما قربنا من نحو الرقة فإذا نحن بدير كبير فأقبل إلي بعض أصحابي فقال: مل بنا إلى هذا الدير لننظر من فيه، ونحمد الله، سبحانه، على ما رزقنا من السلامة. فلما دخلنا إلى الدير رأينا مجانين مغلولين، وهم في نهاية القذارة، فإذا منهم شابٌ عليه بقية ثياب ناعمة، فلما بصر بنا قال: من أين أنتم يا فتيان، حياكم الله؟ فقلنا: نحن من العراق. فقال: يا بأبي العراق وأهلها! بالله أنشدوني أو أنشدكم؟ فقال المبرد: والله إن الشعر من هذا لطريف. فقلنا: أنشدنا! فأنشأ يقول:
الله يعلمُ أنّني كَمِدُ ... لا أستطيعُ أبثُّ ما أجِدُ.
روحانِ لي: رُوحٌ تضَمّنَها ... بلَدٌ، وأُخرَى حازَها بلَدُ.
وَأرَى المُقيمَةَ ليس ينفعُها ... صبرٌ، ولا يقوَى بها جَلَدُ.
وأظُنّ غائبَتي، كَشاهِدَتي، ... بِمكانها تجِدُ الذي أجِدُ.
قال المبرد: إن هذا لطريف، والله زدنا! فأنشأ يقول:
لمّا أناخُوا قُبَيْلَ الصُّبْحِ عِيسَهُمُ ... وَرَحّلوها، فسارت بالهوَى الإبلُ.
وَأبرَزَتْ من خِلالِ السِّجْفِ ناظِرَها ... ترنو إليّ وَدمعُ العينِ مُنْهَمِلُ.
وَوَدّعَتْ بِبَنانٍ عَقدُها عَنَمٌ، ... ناديتُ لا حَمَلَت رجلاك يا جَمَلُ!
ويلي من البَينِ! ماذا حلّ بي وبِها، ... من نازِلِ البينِ حانَ الحَينُ وارْتَحَلوا.
يا رَاحلَ العِيس عَجّل كيْ نُوَدّعَها! ... يا رَاحلَ العِيس في ترْحالكَ الأجلُ!
إنّي على العَهدِ لم أنقض مَودّتَهم، ... فليتَ شعري لطولِ العهد ما فعلوا؟
فقال رجل من البغضاء الذين معي: ماتوا! قال: إذاً فأموت. فقال له: إن شئت. قال: فتمطى واستند إلى السارية التي كان مشدوداً فيها فما برحنا حتى دفناه.
فراقية ابن زريق

أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن محمد بن الجاز القرشي الأديب بالكوفة، وأنا متوجه إلى مكة سنة إحدى وأربعين وأربعمائة بقراءتي عليه، قال: حدثنا أبو الحسن علي بن حاتم بن بكير البزاز التكريتي بتكريت قال: حدثني بعض أصدقائي أن رجلاً من أهل بغداد قصد أبا عبد الرحمن الأندلسي وتقرب إليه بنسبه، فأراد أبو عبد الرحمن أن يبلوه ويختبره، فأعطاه شيئاً نزراً، فقال البغدادي: إنا لله وإنا إليه راجعون! سلكت البراري والبحار والمهامه والقفار إلى هذا الرجل فأعطاني هذا العطاء النزر؟ فانكسرت إليه نفسه واعتل فمات.
وشغل عنه الأندلسي أياماً، ثم سأل عنه فخرجوا يطلبونه ، فانتهوا إلى الخان الذي كان فيه وسألوا الخانية عنه، فقالت: إنه كان في هذا البيت، ومذ أمس لم أره، فصعدوا فدفعوا الباب، فإذا بالرجل ميتاً، وعند رأسه رقعة فيها مكتوب:
لا تَعْذُليهِ، فإنّ العَذلَ يولِعُهُ ... قد قلتِ حقّاً، ولكن ليس يسمعُهُ.
جاوَزْتِ في نُصْحِهِ حدّاً أضرّ بِهِ ... من حيثُ قَدّرْتِ أن النصْحَ ينفعه.
قد كان مضطلِعاً بالحَطْبِ يحمِلُه، ... فضُلّعَتْ بخطوب البَينِ أضلُعه.
ما آبَ مِن سفرٍ إلا وأزْعَجَهُ ... عزْمٌ إلى سَفَرٍ بالرُّغْمِ يُزْمِعُه.
كَأنّما هُوَ في حلّ وَمُرْتَحَلٍ ... مُوَكَّلٌ بِقَضَاءِ اللهِ يَذرعه.
أستَوْدعُ الله، في بغداد، لي قمراً ... بالكَرْخِ من فَلَكِ الأزْرَارِ مَطلعُه.
وكم تَشَفّعَ بي أن لا أُفَارِقَهُ، ... وللضّرُوراتِ حالٌ لا تُشَفِّعُه.
وكم تَشبّثَ بي يوْمَ الرّحيل ضُحى، ... وأدمُعي مُسْتَهِلاّتٌ وأدمُعُه.
أُعْطيتُ ملكاً فلمْ أُحسِن سياستَه، ... وكلُّ مَن لا يسُوسُ المُلكَ يخلعُه.
ومَن غدا لابساً ثوْبَ النّعيمِ بِلا ... شكرٍ عليه، فعنهُ اللهُ ينْزِعُه.
قال لنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز وزادني أبو علي الحسن بن علي المتصوف:
والحِرْصُ في المرْء، والأرْزَاق قد قسمتْ، ... بَغيٌ، ألا إنّ بغيَ المرء يصرَعُه.
لو أنني لم تقع عيني على بلد ... في سفرتي هذه إلا وأقطعه.
اعتضتُ من وجه خِلّي، بعد فِرْقَتِهِ، ... كأساً تَجَرّعَ مِنها ما أُجَرَّعُه.
فلما وقف أبو عبد الرحمن على هذه الأبيات بكى حتى اخضلت لحيته، وقال: وددت أن هذا الرجل حي وأشاطره نصف ملكي. وكان في رقعة الرجل: منزلي ببغداد في الموضع المعروف بكذا، والقوم يعرفون بكذا، فحمل إليهم خمسة آلاف دينار وسفتجة، وحصلت في يد القوم وعرفهم موت الرجل.
مجنون على الدرب
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة بقراءتي عليه قال: حدثنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا الفرج أحمد بن محمد بن بيان النهاوندي يقول: مررت بدرب أبي خلف، فإذا جماعة وقوف على مجنون فوقفت، فهش إلي وقال:
سَقِّني قبلَ تَباريحِ العَطَش! ... إنّ يومي يومُ طشٍّ بعدَ رَشّ.
حُبُّ مَن أهوَاهُ قد أدْهَشَني، ... لا خلَوْتُ الدهرَ من ذاكَ الدّهَش.
لحم على وضم
ولي في نسيب قصيدة مدحت بها أحد بني عقيل، رحمه الله، بالشام:
قالَتْ، وَقَدْ قُوّضَتْ خِيامُهُمُ ... واستملوا للنّوَى بِذي سَلَمِ.
للسائقِ المُستحِثّ: رُدّ على ... الواقفِ السَلامَ وَاسْتَقِمِ.
فَصِحتُ وَجداً، والبينُ مُبتسِمٌ، ... ألقاهُ من مَفرِقي بِمُبتسَمي.
اللهَ يا سَلْمَ في صرِيعِ هَوىً ... أبقيتِ منه لحماً على وَضَمِ.
عقربا الصدغين
ولي أيضاً من نسيب قصيدة مدحت بها بعض الرؤساء ببغداد:
يا خَليلَيّ اكشِفا عَنْ قِصّتي ... تجِدا نِضْواً من الحبّ لَقَا.
فَأدالَ اللهُ، يا يومَ النَّوَى، ... مِنكَ، إذ أقْلَقْتَني يوْمَ اللِّقَا.
إنّ في نهرِ المُعَلّى فَرْهَداً ... قَمَراً من فوْقِ غصنٍ في نَقَا.

عَقرَبا صُدْغَيْهِ تسري، فَإذا ... لَدَغَتْ قَلباً تحامَته الرُّقى.
قبر النديم
أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة بن عبيد الله الوراق بقراءتي عليه بتنيس قال: حدثنا أبو علي الحسين بن علي الديبلي قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن علي قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا عبيد النعالي غلام أبي الهذيل قال: انصرفت من جنازة من مسجد الرضى في وقت الهاجرة، فلما دخلت سكك البصرة اشتد عليّ الحرّ فتوخيت سكةً ظليلة فاضطجعت على باب دار، فسمعت ترنماً يجذب القلب، فطرقت الباب واستسقيت ماء فإذا فتىً اجتهرني جماله، إلا أن أثر العلة والسقم عليه بين، فأدخلني إلى خيشٍ نظيف، وفرش سري، فلما اطمأننت خرج الفتى ومعه وصيفة معها طست وماء ومنديل، فغسلت رجلي وأخذت ردائي ونعلي، وانصرفت، فلبثت يسيراً فإذا جارية أخرى وقد جاءت بطست وماء، فقلت: قد غسلت يدي. فقالت: إنما غسلت رجليك، فاغسل الآن يديك للغداء. وإذا الفتى قد أقبل ضاحكاً ليؤنسني، وأنا أعرف العبرة في عينيه وأتي بالطعام فأقبل يأكل نغض بما يأكله، وهو في ذلك يبسطني.
فلما انقضى أكلنا أتينا بشراب فشرب قدحاً وشربت آخر، ثم زفر زفرةً ظننت أن أعضاءه قد نقضت وقال لي: يا أخي! إن لي نديماً، فقم بنا إليه! فقمت وتقدمني، ودخل مجلساً، فإذا قبر عليه ثوب أخضر، وفي البيت رمل مصبوب، فقعد على الرمل، وطرح لي مصلى، فقلت: والله لا قعدت إلا كما تقعد، وأقبل يردد العبرات ثم شرب كأساً وشربت وأنشأ يقول:
أطَأُ الترابَ، وأنتَ رهنُ حَفيرَة، ... هالتْ يدايَ على صَداك ترابَها.
إنّي لأعذر من مشى إن لم أطَأ ... بجفونِ عيني ما حَيِيتَ جِنَابها.
لو أنّ جَمرَ جَوَانِحي مُتَلَبِّسٌ ... بالنّارِ أطْفأ حرَّهَا وأذابَهَا.
ثم أكب على القبر مغشياً عليه، فجاءه غلام بماء فصبه على وجهه، فأفاق فشرب ثم أنشأ يقول:
اليوْمَ ثابَ ليَ السرُورُ لأنّني ... أيقَنتُ أنّي عاجلاً بكَ لاحِقُ.
فَغَداً أُقاسِمُكَ البِلى، وَيسوقُني ... طوْعاً إلَيكَ، من المَنِيّةِ، سائِقُ
ثم قال لي: قد وجبت حقي عليك فاحضر غداً جنازتي! قلت: يطيل الله عمرك. قال إني ميت لا محالة. فدعوت له بالبقاء فقال: لقد عققتني، ألا قلت:
جاور خليلَك مُسعِداً في رَمْسِه، ... كَيما يَنالُكَ في البِلى ما نالَه.
فانصرفت وطالت علي ليلتي، وغدوت فإذا هو قد مات.
مريض مطوح.
أخبرنا أبو علي محمد بن أبي نصر الأندلسي بمصر من لفظه قال: أخبرنا أبو محمد علي بن محمد الحافظ بالأندلس قال: أخبرنا أبو مروان عبد الملك بن أبي نصر السعدي قال: قال أبو النصر مسلمة بن سهل: حدثني أبو كامل مؤمل بن صالح البغدادي قال: قال أبو شراعة: بينا أنا أمشي بالبادية ناحية السماوة مصعداً إذا بفتىً من الأعراب ملوح الجسم معروقه، عليه قطيريتان، وهو محتضن صبياً يقول له: إذا حاذيت أبيات آل فلان، فارفع صوتك منشداً بهذه الأبيات، ولك إحدى بردتي هاتين. فجعل يكررها عليه ليحفظها فحفظها:
مريضٌ بأفناءِ البيوتِ مُطَوَّحُ، ... أبى ما بهِ من لاعِجِ الشوْق يبرَحُ.
يقولونَ: لو جئتَ النَّطاسيّ عل ما ... تَشكّاهُ من آلام وَجدكَ يُمصَحُ.
وَلَيسَ دوَاءَ الدّاءِ إلاّ بخيلَةٌ ... أضرّ بِنا فيها غرامٌ مُبَرِّحُ.
إذا ما سألْناها وِصَالاً تُنِيلُهُ ... فصُمُّ الصَّفا منها بذلك أسْمَحُ.
فتبعت الصبي، وهو لا يشعر بي،فلما حاذباها رفع عقيرته بالأبيات ينشدها، فسمعت من بعض الأبيات قائلاَ يقول:
رَعى اللهُ مَن هامَ الفُؤادُ بحبّهِ، ... وَمَن كِدْتُ من شوْقٍ إليه أطيرُ.
لَئِن كَثُرَتْ بالقلبِ أبراحُ لَوْعَةٍ، ... فإنّ الوُشاةَ الحاضرينَ كَثيرُ.
يمشُّونَ، يستشرونَ غَيظاَ وَشِرّةً، ... وما منهمُ إلاّ أبلُّ غيورُ.
فإنْ لم أزُرْ بالجسمِ رهبَةَ مُرْصَدٍ، ... فَبالقَلبِ آتي نحوكمْ فَأزُورُ.
أفاق بعد لأي، وهو يقول:

أظُنّ هوَى الخودِ الغرِيرَةِ قاتلي، ... فيا ليتَ شِعري ما بنو العمّ صُنّعُ.
أرَاهمْ، وللرّحمنِ دَرُّ صَنِيعِهِم، ... تراكى دمي هدراً، وخابَ المُضَيَّعُ.
حي على البهم
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا أحمد بن سعيد قال: حدثنا محمد بن سعيد قال: حدثنا عباس الترقفي قال: حدثنا عبد الله بن عمرو قال: حدثنا الحسن بن علي قال: حدثنا أبو غياث البصري عن إبراهيم بن محمد الشافعي قال: بينا ابن أبي ملكية يؤذن إذ سمع الأخضر الجدي يتعنى في دار العاص بن وائل ويقول:
صغيرَينِ نرْعى البَهمَ، يا ليتَ أنّنَا ... إلى الآنِ لم نَكبَرْ، ولم تَكبَرِ البَهمُ.
قال: فأسرع في الأذان، فأراد أن يقول: حي على الصلاة، فقال: حي على البهم، حتى سمعه أهل مكة، فجاء يعتذر إليهم.
موت عروة بن حزام
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت بالشام قال: أخبرنا أبو الحسين بن روح قال: حدثنا المعافى بن زكرياء قال: حدثني علي بن سليمان الأخفش قال: أخبرنا محمد بن يزيد قال: حدثني مسعود بن بشر المازني قال: حدثنا العتبي عن أبيه عن رجل عن هشام بن عروة عن النعمان بن بشير بن سعد الأنصاري قال: وليت صدقات بني عذرة، قال: فدفعت إلى فتى تحت ثوب، فكشفت عنه، فإذا رجل لم يبق منه إلا رأسه، فقلت: ما بك؟ فقال:
كأنّ قَطَاةً عُلّقَتْ بجَنَاحِهَا، ... على كَبِدي من شِدّةِ الخَفَقَان.
جعلتُ لعرّافِ اليمامَةِ حُكمَهُ، ... وعرّافِ نجدٍ إنْ هُمَا شَفَياني.
ثم تنفس حتى ملأ منه الثوب الذي كان فيه، ثم بخمد، فإذا هو قد مات، فأصلح من شأنه، وصليت عليه، فقيل لي: أتدري من هذا؟ هذا عروة بن حزام.
ذو الرمة ورسيس الهوى
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ فيما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا أبو محمد عبد الغني بن سعيد الحافظ قال: حدثني جعفر بن هارون بن رياب قال: حدثني عبد الله بن أبي سعد قال: حدثنا يزيد بن محمد بن المهلب بن المغيرة المهلبي قال: حدثني عبد الصمد بن المعذل عن أبيه عن جده غيلان بن الحكم قال: وفد علينا ذو الرمة، ونحن بكناسة الكوفة، فأنشدنا قصيدته الحائية فلما انتهى إلى قوله:
إذا غَيّرَ النّأيُ المحبّينَ لم يَكَدْ ... رَسيسُ الهوَى من حُبّ مَيّةَ يبرَحُ.
قال له ابن شبرمة: أراه قد برح. ففكر ثم قال: لم أجد.
رسيس الهوى من حب مية يبرح.
فرجعت بحديثهم إلى أبي الحكم البحتري، من المختار، فقال: أخطأ ابن شبرمة حين رد عليه، وأخطأ ذو الرمة حيث قبل منه، إنما هذا كقول الله عز وجل: إذا أخرج يده لم يكد يراها أي لم يرها ولم يكد.
موت الصوفي عاشق الغلام
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة: رأيت مع محمد بن قطن الصوفي غلاماً جميلاً، فكانا لا يفترقان في سفر ولا حضر، فمكثا بذلك زمناً طويلاً، فمات الغلام، وكمد عليه محمد بن قطن، حتى عاد جلداً وعظماً، فرأيته يوماً، وقد خرج إلى المقابر، فاتبعته، فوقف على قبره قائماً يبكي، وينظر إليه والسماء تمطر بالمطر، فما زال واقفاً من وقت الضحى إلى أن غربت الشمس لم يبرح ولم يجلس، ويده على خده، فانصرفت عنه، وهو كذلك واقفاً، فلما كان من الغد خرجت لأعرف خبره، وما كان من أمره، فصرت إلى القبر، فإذا هو مكبوب لوجهه ميت، فدعوت من كان بالحضرة فأعانوني على حمله، فغسلته وكفنته في ثيابه ودفنته إلى جانب القبر.
عاشق يخاف معصية الله
وأخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر أيضاً بإسناده قال:

قال أبو حمزة: ونظر محمد بن عبيد الله بن الأشعث الدمشقي، وكان من خيار عباد الله، إلى غلام جميل فغشي عليه، فحمل إلى منزله، واعتاده السقم حتى أقعد من رجليه، فكان لا يقوم عليهما زمناً طويلاً، فكنا نأتيه ونعوده، ونسأله عن حاله وأمره، وكان لا يخبرنا بقصته ولا بسبب مرضه، وكان الناس يتحدثون بحديث نظره، فبلغ ذلك الغلام، فأتاه عائداً، فهش إليه وتحرك وضحك في وجهه، واستبشر برؤيته، فما زال يعوده حتى قام على رجليه، وعاد إلى حالته. فسأله الغلام يوماً المصير إليه معه إلى منزله، فأبى أن يفعل، فكلمني أن أسأله أن يتحول إليه، فسألته، فأبى، فقلت: وما الذي تكره من ذلك؟ فقال: لست بمعصوم من البلاء، ولا آمن من الفتنة، وأخاف أن تقع علي من الشيطان محنة أو عند ظفر بفرصة فتجري بيني وبينه معصية فيحتجب الله عني يوم تظهر فيه الأسرار ويكشف فيه عن ساقٍ فأكون من الخاسرين.
ليلى العامرية ومجنونها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس ابن حيويه الخزاز قراءة عليه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني قاسم بن الحسن عن العمري قال: قال الهيثم بن عدي: حدثنا عثمان بن عمارة عن أشياخهم من بني مرة قال: رحل رجل منا إلى ناحية الشام مما يلي تيماء والشراة في طلب بغية له، فإذا هو بخيمة قد رفعت له، وقد أصابه مطر، فعدل إليها، فتنحنح، فإذا امرأة قد كلمته، فقالت له: انزل، فنزل وراحت إبلهم وغنمهم فإذا أمر عظيم وإذا رعاء كثير، فقالت لبعض العبيد سلوا هذا الرجل من أين أقبل؟ فقلت: من ناحية اليمامة ونجد. فقالت: أي بلاد نجد وطئت؟ قلت: كلها. قالت: بمن نزلت هنا؟ قلت: ببني عامرٍ، فتنفست الصعداء، وقالت: بأي بني عامر؟ فقلت: ببني الحريش. فاستعبرت، ثم قالت: هل سمعت بذكر فتى يقال له قيس ويلقب بالمجنون؟ فقلت، إي والله، ونزلت بأبيه، وأتيته حتى نظرت إليه، يهيم في تلك الفيافي، ويكون مع الوحش لا يعقل ولا يفهم إلا أن تذكر له ليلى فيبكي، وينشد أشعاراً يقولها فيها.
قال: فرفعت الستر بيني وبينها، فإذا شقة قمرٍ لم تر عيني مثلها، فبكت وانتحبت حتى ظننت، والله، أن قبلها قد انصدع، فقلت لها: أيتها المرأة! اتقي الله، فوالله ما قلت بأساً، فمكثت طويلاً على تلك الحال من البكى والنحيب ثم قالت:
ألا لَيْتَ شِعرِي، وَالخُطوبُ كثيرَةٌ، ... متى رَحلُ قيسٍ مُستَقِلٌّ فرَاجِعُ.
بنفسي مَن لا يَستَقِلّ برَحلِه ... ومَن هو، إن لم يحفظ اللهُ، ضائعُ.
ثم بكت حتى غشي عليها، فلما أفاقت قلت: من أنت، بالله؟ قالت: أنا ليلى المشؤومة عليه، غير المساعدة له. فما رأيت مثل حزنها ووجدها، فمضيت وتركتها.
ردوا على المشتاق قلبه الجريح.
ولي من نسيب قصيدة مدحت بها أمير المؤمنين المقتدي بأمر الله:
سَبَحَتْ حينَ أبصرَتَ ْمن دموعي ... لُجَّ بَحْرٍ قد أعْجَزَ السُّبّاحَا.
ثُمّ قالَتْ لِتِرْبِهَا، في خَفَاءٍ ... ليتَ هذا الفَتى قضى فَاسترَاحَا.
أيّها الرّاحِلونَ! رُدّوا على الْ ... مُشتاقِ قَلْباً أثْخَنْتُموهُ جِرَاحا.
كَتمَ الوَجدَ جُهدَهُ، فَإذا الدّمْ ... عُ بِأسرَارِ وَجْدِهِ قدْ باحَا.
باعَكم قَلبَهُ الكئيبَ سفاهاً، ... فَأخَذْتُمْ رُقَادَهُ استرباحَا.
الرشيد وجارية زلزل
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال حدثنا أبو عمر بن حيويه الخزاز قال حدثنا محمد المفضل قال حدثني إسحاق بن إبراهيم المصلي عن أبيه قال لي زلزل وكان اسمه منصور عندي جارية من صالحها ومن صفتها قد علمتني الغناء فكنت اشتهي أن أرها فاستحي أساله فلما توفي زلزل بلغني أن ورثته يعرضون الجارية، فصرت إليهم فأخرجوها، فإذا جارية كاد الغزال أن يكونها لولا ما تم منها ونقص منه، قال: قلت لها: غني صوتاً! فجيء بالعود فوضع في حجرها، فاندفعت تغني وتقول، وعيناها تذرفان:
أقفَرَ من أوْتارِه العُودُ ... فالعُودُ للإقفارِ معمودُ.
وَأوْحشَ المِزْمارُ من صَوْته ... فمَا لَه بعدَكَ تَغريدُ.

مَن للمزاميرِ وَسُمّاعِهَا ... وعامِرُ اللّذاتِ مَفقُودُ.
والخَمرُ تبكي في أبارِيقِهَا ... والقَينةُ الخَمصانَةُ الرُّودُ.
ثم شهقت شهقة ظننت أن نفسها قد خرجت، فركبت من ساعتي، فدخلت على أمير المؤمنين فأخبرته بخبر الجارية، وما سمعت منها، فأمر بإحضارها، فلما دخلت عليه قال لها: عني الصوت الذي غنيت به إبراهيم! فغنت وجعلت تريد البكى فيمنعها إجلال أمير المؤمنين، فرحمها وأعجب بها، فقال: أتحبين أن أشتريك؟ فقالت: يا سيدي أما إذ خيرتني فقد وجب نصحك علي، والله لا يشتريني أحد بعد زلزلٍ فينتفع بي. فقال: يا إبراهيم! أتعلم بالعراق جاريةً جمعت ما جمعت هذه؟ إن وجدت فاشترها بشطر ما لي! فقلت: لا والله يا أمير المؤمنين ولا على وجه الأرض فأمر بشرائها وأعتقها وأجرى عليها رزقاً.
اطلبوا نفسي
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: أنشدنا جحظة لنفسه:
ويح نفسي عهدي بها في التراقي، ... قبلَ يوْمِ الفِراقِ، عند الفِرَاقِ.
اطلبوها في حيثُ كنّا اعتَنَقْنَا، ... هلَكت في اشتغالِنا بالعِنَاقِ.
وجهك أظرف
أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد بن محمد اللبان الرازي قال: حدثنا أبو محمد بيان بن يزداد القمي إجازة قال: أنشدني أحمد بن محمد القمي المؤدب:
يَرَاكَ الفُؤادُ بعينِ الهَوَى، ... وَعينُ المَحَبّةِ لا تُخلِفُ.
إذا غِبْتَ عن ناظرِ المُقلَتَيْ ... نِ فقلبي يراك وما يَطرِفُ.
تمكّنَ في القلبِ من حبّكم ... عيونٌ من الحبّ ما تَنْزَفُ.
فمَن يكُ من حبّه سالياً، ... فإنّيَ من حبّكم مُدْنَفُ.
كلامٌ رَخيمٌ وَدلٌّ مليحٌ، ... وَوَجهُك من كلِّ ذا أظرْفُ.
العيون الدعج
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الشروطي قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو عثمان سعيد بن هارون الاشنانداني قال: أخبرني التوزي قال: سمعت أبا عبيدة يقول: قال رجل من بني فزارة لرجل من عذرة: تعدون موتكم من الحب مزية، أي فضيلةً، وإنما ذلك من ضعف البنية، ووهن العقيدة، وضيق الروية. فقال العذري: أما لو أنكم رأيتم المحاجر البلج ترشق بالأعين الدعج من فوقها الحواجب الزج، والشفاه السمر تفتر عن الثنايا الغر، كأنها سرد الدر، لجعلتموها اللات والعزى، ودفعتم الإسلام وراء ظهوركم.





ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
* كتاب: مصارع العشاق
المؤلف : السرّاج القارئ
 
صريع الغواني

أنبأنا أحمد بن علي قال: حدثنا علي بن أيوب قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا إبراهيم بن محمد بن عرفة عن أبي العباس محمد بن يزيد المبرد: أن مسلم بن الوليد الأنصاري لما وصل الرشيد في أول يوم لقيه أنشده قصيدته التي يصف فيها الخمر، وأولها:
أديرَا عليّ الكَأسَ لا تَشرَبَا قَبْلي، ... ولا تَطلُبا من عند قاتلي ذَحلي.
فاستحسن ما حكاه من وصف الشراب واللهو والغزل وسماه يومئذ صريع الغواني بآخر بيت منها وهو:
هلِ العيشُ إلاّ أن ترُوحَ معَ الصِّبا، ... وتغدو صريعَ الكأس والأعينِ النُّجل.
غليل ودموع
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة قال: أخبرنا ابن حبيب المذكر قال: دخلت دار المرضى بنيسابور فرأيت شاباً من أبناء النعم، يقال له أبو صادق السكري، مشدوداً، وهو يجلب ويصيح، فلما بصر بي قال: أتروي من الشعر شيئاً؟ قلت: نعم! قال: من شعر من؟ قلت: من شعر من شئت. قال: من شعر البحتري؟ قلت: أي قصيدة تريد؟ فقال:
ألَمْعُ بَرقٍ سرى أم ضوْءُ مِصْبَاحِ ... أمِ ابتسامتُها بالمَنظَرِ الضّاحي؟
فأنشدته القصيدة، فقال: فأنشدك قصيدة؟ قلت: نعم! فأخذ في إنشاد قصيدته:
أقصِرَا! إنّ شأنِيَ الإقصَارُ، ... وَأقِلاَ لا ينفَعُ الإكثارُ.
حتى بلغ قوله:
إن جرَى بينَنا وبينَكِ عتَبٌ، ... أوْ تناءتْ منّا ومنكِ الديارُ.


فالغَليلُ الذي عهِدتِ مُقيمٌ، ... والدموعُ التي شهِدتِ غِزارُ.
فقفز وجعل يرقص في قيده ويصيح إلى أن سقط مغشياً عليه.
عبد الله بن جعفر وجاريته.
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأنبوسي، ونقلته من أصله، قال: حدثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثني جدي قال: حدثني عمي قال: حدثني علي بن أبي مريم قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثني بكر بن إسحاق النجلي قال: حدثنا أبو سهل محمد بن عمر الأنصاري عن محمد بن سيرين قال: نظر عبد الله بن جعفر إلى جارية له كان يحبها حباً شديداً وهي تلاحظ مولاه فسألها: بالله هل تحبين فلاناً؟ فقالت: أعيذك بالله يا سيدي! قال فسألها: بالله لا تكتميني ذلك! فسكتت فأعتقها ودعاه فزوجها إياه. قال: ثم إن نفسه تتبعتها فدعا مولاه فقال: أتنزل عنها ولك عشرة آلاف درهم؟ قال: لا والله، ولا مائة ألف درهم. قال: بارك الله لك فيها! قال فأعرض عنها.؟ قال: فلم يلبث بعد ذلك إلا يسيراً حتى مات مولاه وتزوجها ابن جعفر بعد ذلك.
قال ابن حسين فذكرت هذا الحديث لأبي ياسين الرقي فحدثني عن بعض أصحابه أن عبد الله بن جعفر لما دخلت عليه أنشأ يقول:
رضيتُ بحُكم الله في كلّ أمرِه، ... وَسَلّمتُ أمرَ اللهِ فيّ كما مضى.
بَلاني وأبلاني بحُبّ دَنِيّةٍ، ... وَصَبّرَني حتى امَّحى الحبُّ فانقضى.
لَعَمرِيَ! ما حُبّي بحُبّ مَلالَةً، ... ولا كانَ وُدّي زائلاً فَتَنَقّضَا.
ولكنّ حبّي معْهُ دَلٌّ يزينهُ، ... وَيُعرِضُ أحياناً إذا الحِبُّ أعرَضَا.
صريعا الحب
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قراءة عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي الجرادي الكاتب قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه عن يونس قال: انصرفت من الحج فمررت بماوية وكان لي فيها صديق من بني عامر بن صعصعة، فصرت إليه مسلماً، فأنزلني، فبينا أنا عنده، ونحن قاعدان بفنائه، إذا نساءٌ مستبشرات، وهن يقلن: تكلم تكلم! فقلت: ما هذا؟ فقالوا: فتىً منا كان يعشق ابنة عم له، فزوجت، وحملت إلى ناحية الحجاز، فإنه لعلى فراشه منذ حول ما تكلم، ولا أكل، إلا أن يؤتى بما يأكله ويشربه. فقلت: أحب أن أراه. فقام، وقمت معه فمشينا غير بعيد، وإذا بفتىً مضطجع بفناء بيت من تلك البيوت، لم يبق منه إلا خيال، فأكب الشيخ عليه يسأله، وأمه واقفة، فقالت: يا مالك! هذا عمك أبو فلان يعودك، ففتح عينيه، وأنشأ يقول:
ليبكِني اليومَ أهلُ الوُدّ والشَّفَقِ، ... لم يبقَ من مهجتي إلاّ شفا رَمَقِ.
اليوْمَ آخرُ عَهدي بالحياةِ، فَقَد ... أُطلِقتُ من رَبقَةِ الأحزانِ والقَلَقِ.
ثم تنفس الصعداء فإذا هو ميت، فقام الشيخ، وقمت فانصرفت إلى خبائه فإذا جارية بضة تبكي وتتفجع. فقال الشيخ: ما يبكيك؟ فأنشأت تقول:
ألا أُبَكّي لِصَبّ شَفّ مُهْجَتَهُ ... طولُ السَّقامِ وأضنى جسمَه الكَمَدُ.
يا لَيتَ مَن خَلّفَ القلبَ الهَيومَ به، ... عِندي فأشكو إليه بعض ما أجِدُ.
أنَشْرُ تُرْبِكَ أسرَى لي النسيمُ بهِ، ... أم أنتَ حيثُ يُناطُ السَّحرُ والكَبِدُ.
ثم انثنت على كبدها، وشهقت، فإذا هي ميتة.
قال يونس: فقمت من عند الشيخ وأنا وقيذ.
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق قال: حدثنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد فذكر القصة.
أجساد بغير قلوب.
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: أخبرنا أبو محمد بن الجرادي الكاتب قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: أنشدنا العكلي عن أبيه لداود بن سلم التميمي:
ما ذَرّ قَرْنُ الشّمْسِ إلاّ ذَكرْتُها، ... وَيذكِرُنيها ما دَنَتْ لِغُرُوبِ.
واذكُرُها ما بينَ ذاكَ وَبعدَهُ، ... وبالليلِ أحلامي، وَعندَ هُبوبِ.
وَبُلّيتُها شوْقاً، وَبَلاّنِيَ الهَوَى، ... وأعيا الذي بي طِبَّ كلّ طبيبِ.
وأعجبُ أنّي لا أموتُ صَبَابَةً، ... وما كمَدٌ مِنْ عَاشِقٍ بِعَجيبِ.

وكم لامَ فيها من مُؤدّ نصيحَةً، ... فقلتُ له: أقصِرْ، فغيرُ مُصيبِ.
أتَأْمُرُ إنْساناً بفُرْقَةِ قلْبِهِ؟ ... أتُصْلِحُ أجساداً بِغَيْرِ قُلُوبِ؟
وكُلُّ محِبٍّ قد سلا، غيرَ أنّني ... غريبٌ! ألا يا ويحَ كلِّ غريبِ.
السل داء الحب
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي فيما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: أخبرنا محمد بن خلف بن المرزبان إجازة قال: حدثنا أحمد بن منصور بن سوار قال: حدثنا نوح بن يزيد المعلم قال: حدثنا إبراهيم بن سعد قال: حدثني محمد بن إسحاق قال: حدثني محمد بن جعفر بن زبير قال: سمعت رجلاً من بني عذرة عند عروة بن الزبير يحدثه، فقال عروة: يا هذا بحق أقول لكم إنكم أرق الناس قلوباً. فقال: نعم، والله، لقد تركت بالحي ثلاثين قد خامرهم السل، وما بهم داء إلا الحب.
مجنون وعليلة
أخبرنا أبو الحسين محمد بن محمد بن علي الوراق من حفظه قال: حكى لي أبو الحسين علي بن الحسين الصوفي المعروف برباح قال: حدثني بعض أصدقائي أنه دخل إلى بعض المارستانات ببغداد فرأى شاباً حسن الوجه، نظيف الثياب، جالساً على حصير نظيف، وعن يساره مخدة نظيفة، وفي يده مروحة، وإلى جانبه كوز فيه ماء، فسلمت عليه، فرد السلام أحسن رد، فقلت له: هل لك من حاجة؟ فقال: نعم! أريد قرصين وعليهما فالوذج، فمضيت فجئته بذلك، وجلست مقابله حتى أكل، ثم قلت له: أبقي لك حاجة؟ فقال: نعم، ولا أظنك تقدر عليها. فقلت: اذرها، فلعل الله أن ييسرها. فقال: تمضي إلى نهر الدجاج درب أحمد الدهقان، إلى دار على باب زقاق الغفلة، فاطرق الباب وقل: إن فلاناً قال لي:
مُرَّ بالحبيبِ وَقُلْ لهُ: ... مجْنونُكم مَن ذا يحلّه؟.
قال: فمضيت وسألت عن الدرب والزقاق، فدللت عليه، فطرقت الباب، فخرجت إليّ عجوز فأبلغتها الرسالة، فدخلت وغابت عني ساعة، ثم خرجت فقالت:
ارْجعْ إلَيه وقُل لَهُ: ... علِيلُكم مَن ذا أعلّه.
فرجعت إلى الفتى فأخبرته بالجواب، فشهق شهقةً فمات، وعدت إلى القوم أخبرهم بذلك، فوجدت الصراخ في الدار، وقد ماتت الجارية، أو كما قال.
الحب للحبيب الأول
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن الفضل الأرجي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا محمد بن علي بن المأمون قال: حدثنا أبو محمد الرقاقي قال: خرج أبو حمزة يشيع بعض الغزاة، وكان راكباً، فسمع قائلاً يقول:
نَقِّلْ فُؤادَك حيثُ شئتَ من الهوَى، ... ما الحُبّ إلاّ للْحَبِيبِ الأوّل.
فسقط حتى خشينا عليه.
دين الغدر
ولي من قطعة:
يا مَن رَمى قلبي فلم يُخطِه، ... أصميتني قتلاً، ولم أدرِ.
ساعدَكَ الحبُّ على مَقتَلي، ... كلاكما قد دان بالغدرِ.
سواجع وهواتف
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرني الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا الرياشي عن الأصمعي قال: أخبرني مسجع بن نبهان قال: حدثني رجل من بني الصيداء من أهل الصريم قال: كنت أهوى جاريةً من باهلة، وكان قومها قد أخافوني، وأخذوا علي المسالك، فخرجت ذات يوم، فإذا حمامات يسجعن على أفنان أيكات متناوحاتٍ في سرارة واد، فاستفزني من الشوق ما لم أعقل معه بشيء، فركبت، وأنا أقول:
دعَتْ، فوْق أغصَانٍ من الأيكِ مَوهِناً، ... مطوَّقَةٌ ورْقاءُ في إثر آلفِ.
فهاجَتْ عقابيلَ الهوَى، إذ ترَنّمَتْ، ... وَشَبّتْ ضِرَامَ الشوْق بينَ الشراسفِ.
لكني خرجت فآواني الليل إلى حي فخفت أن يكونوا من قومها فبت في القفر، فلما هدأت الرجل إذا قائل يقول:
تمتع من شَميمٍ عَرِارِ نجدٍ ... فما بعدَ العَشيّةِ من عَرَارِ.
فتألمت من ذلك ثم غلبتني عيناي، فإذا آخر يقول:
وَلا شيء بَعدَ اليوْمِ إلاّ تَعِلّةً ... من الطيفِ أو تلقى بها منزِلاً قفرَا.
فزادني ذلك قلقاً، ثم نمت فإذا ثالث يقول:

لن يُلبِثَ القرناءَ أن يتفَرّقوا، ... ليَلٌ يَكُرّ علَيهِمُ وَنَهَارُ.
فقمت، فغيرت وركبت متنكباً عن الطريق، فلما برق الفجر، إذا راعٍ مع الشروق قد سرح غنمه وهو يتمثل:
كَفى باللّيالي مخلّفاتٍ لجِدّةٍ ... وبالموْتِ قَطّاعاً حبالَ القرائنِ.
فأظلمت علي الأرض فتأملته فعرفته، فقلت: فلان؟ قال: فلان.
قلت: ما وراءك؟ قال: ضاجعت، والله، رملة الثرى، فما لبثت أن سقطت عن بعيري فما أفقت حتى حميت الشمس عليّ، وقد عقل الغلام ناقتي، وقد مضى، فكررت إلى أهلي، وأنشأت أقول:
يا رَاعيَ الضّأنِ! قد أبقيتَ لي كَمَداً ... يبقى ويُتلفني، يا راعيَ الضّانِ.
نعيتَ نفسي إلى نفسي، فكيفَ إذاً، ... أبقى، ونفسيَ في أثناءِ أكفاني؟
لوْ كنتَ تَعلَمُ ما أسأرْتَ في كَبِدي، ... بَكيتَ ممّا ترَاهُ اليوْمَ أبْكاني.
من الحب اليائس إلى التعبد
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن شكر قال: حدثنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة قال: حدثنا إبراهيم بن علي قال: حدثنا محمد بن جعفر الكاتب عن محمد بن الحسن البرجلاني عن جعفر بن معاذ قال: أخبرني أحمد بن سعيد العابد عن أبيه قال: كان عندنا بالكوفة شاب يتعبد ملازماً للمسجد الجامع، لا يكاد يخلو منه، وكان حسن الوجه، حسن القامة، حسن السمت، فنظرت إليه امرأة ذات جمال، وعقل، فشغفت به، وطال ذلك عليها، فلما كان ذات يوم وقفت له على طريقه، وهو يريد المسجد، فقالت له: يا فتى اسمع مني كلمات أكلمك بها، ثم اعمل ما شئت. فمضى ولم يكلمها. ثم وقفت له بعد ذلك على طريقه، وهو يريد منزله، فقالت له: يا فتى اسمع كلمات أكلمك بها. فأطرق فقال لها: هذا موقف تهمة، وأنا أكره أن أكون للتهمة موضعاً. فقالت له: والله ما وقفت موقفي هذا جهالةً مني بأمرك، ولكن معاذ الله أن يتشوف العباد إلى مثل هذا مني، والذي حملني على أن لقيتك في هذا الأمر بنفسي معرفتي أن القليل من هذا عند الناس كثير، وأنتم، معاشر العباد، في مثال القوارير أدنى شيء يعيبه، وجملة ما أكلمك به أن جوارحي كلها مشغولة بك، فالله الله في أمري وأمرك.
قال: فمضى الشاب إلى منزله، وأراد أن يصلي فلم يعقل كيف يصلي، فأخذ قرطاساً وكتب كتاباً، ثم خرج من منزله. فإذا بالمرأة واقفة في موضعها، فألقى إليها الكتاب، ورجع إلى منزله. وكان في الكتاب: بسم الله الرحمن الرحيم. اعلمي أيتها المرأة أن الله، تبارك وتعالى، إذا عصي حلم، فإذا عاود العبد المعصية ستر، فإذا لبس لها ملابسها غضب الله، عز وجل، لنفسه غضبةً تضيق منها السموات والأرضون والجبال والشجر والدواب، فمن ذا الذي يطيق غضبه؟ فإن كان ما ذكرت باطلاً، فإني أذكرك يوماً تكون السماء كالمهل، وتصير الجابل كالعهن، وتجثو الأمم لصولة الجبار العظيم، وإني والله قد ضعفت عن إصلاح نفسي، فكيف بصلاح غيري، وإن كان ما ذكرت حقاً فإني أدلك على طبيب، هو ولي الكلوم الممرضة، والأوجاع المرمضة، ذلك الله رب العالمين، فاقصديه على صدق المسألة، فإني متشاغل عنك بقوله، عز وجل: وأنذرهم يوم الآزفة إذ القلوب لدى الحناجر كاظمين، ما للظالمين من حميم ولا شفيع يطاع، يعلم خائنة الأعين، وما تخفي الصدور، والله يقضي بالحق، فأين المهرب من هذه الآية؟ ثم جاءت بعد ذلك بأيام فوقفت له على طريقه، فلما رآها من بعيد أراد الرجوع إلى منزله لئلا يراها، فقالت: يا فتى لا ترجع، فلا كان الملتقى بعد هذا أبداً إلا بين يدي الله، عز وجل. وبكت بكاءً كثيراُ، ثم قالت: أسأل الله، عز وجل. الذي بيده مفاتيح قلبك أن يسهل ما قد عسر من أمرك. ثم تبعته فقالت: امنن علي بموعظة أحملها عنك، وأوصني بوصية أعمل عليها! فقال لها الفتى: أوصيك بحفظ نفسك من نفسك وأذكرك قوله عز وجل: وهو الذي يتوفاكم بالليل، ويعلم ما جرحتم بالنهار.
قال: فأطرقت، وبكت بكاءً أشد من بكائها الأول، ثم أفاقت، فقالت: والله ما حملت أنثى ولا وضعت إنساً كمثلك في مصري وأحيائي. وذكرت أبياتاً آخرها:
لألبسَنّ لهذا الأمرِ مِدْرَعَةً، ... ولا ركنتُ إلى لذّاتِ دنُيايا.

ثم لزمت بيتها فأخذت بالعبادة. قال: فكانت إذا أجهدها الأمر تدعو بكتابه فتضعه على عينيها، فيقال لها: وهل يغني هذا شيئاً؟ فتقول: وهل لي دواء غيره؟ وكان إذا جن عليها الليل قامت إلى محرابها، فإذا صلت قالت:
يا وَارِثَ الأرْض هبْ لي منك مغفِرَةً، ... وحلّ عني هوى ذا الهاجِرِ الدّاني.
وانظُرْ إلى خَلّتي، يا مُشتَكى حَزَني، ... بنَظرَةٍ منك تجلو كلَّ أحزَاني.
فلم تزل على ذلك حتى ماتت كمداً، وكان الفتى يذكرها بعد موتها ثم يبكي عليها، فيقال له: مم بكاؤك، وأنت قد أيستها؟ فيقول: إني ذقت طعمها مني في أول أمرها وجعلت قطعها ذخيرةً لي عند الله، عز وجل، وإني لأستحيي من الله، عز وجل، ؟ أن أسترد ذخيرةً ذخرتها عنده.
قال لنا الشيخ أبو القاسم الأزجي، رحمه الله: ووجدت في نسخة زيادةً مسموعة عن الزينبي شيخنا، رحمه الله، قال: ثم إن الجارية لم تلبث أن بليت ببلية في جسمها، فكان الطبيب يقطع من لحمها أرطالاً لأنه قد عرف حديثها مع الفتى، فكان إذا أراد أن يقطع لحمها يحدثها بحديث الفتى فما كانت تجد لقطع لحمها ألماً ولا كانت تتأوه، فإذا سكت عن ذكره تأوهت. قال: فلم تزل كذلك حتى ماتت كمداً.
خارب بيته
أخبرني القاضي أبو القاسم التنوخي إجازة وحدثني أحمد بن ثابت الحافظ عنه قال: أنشدني أبو عبد الله بن الحجاج لنفسه:
يا سيّدي! عبدُك لِمْ تقتلُه؟ ... رَأيتَ من يفعلُ ما تفعلُه؟
نزلتَ في قلبي، فيا سيّدي ... لِمْ تًخٍربُ البيتَ الذي تنزِلُه؟
آه من البين
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام سنة ست وأربعين وأربعمائة على باب الندوة بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت أبا علي الحسن بن أحمد بن علي الزنجاني الصوفي بأسفرايين يقول: سمعت عبد العزيز بن سعيد المنجوري يقول: سمعت سهلان القاضي يقول: بينا أنا مار في طرقات جبل شورى، وقد مرت علي قافلة عظيمة، إذا نحن بشاب على الطريق ذاهب العقل، مدهوش، عريان وبين يديه خلقان ممزقات فقال لي: أين رأيت القافلة؟ قلت: في موضع كذا.
قال: آه من البين! آه من البين! آه من دواعي الحين! فقلت: وما دهاك؟ فقال:
شيّعتُهم من حيثُ لم يَعلَموا، ... وَرُحتُ، والقلبُ بهِم مُغرَمُ.
سألتُهُم تَسْلِيمَةً مِنْهُم ... عليّ، إذ بانوا، فَما سَلّمُوا.
سارُوا، ولم يرثُوا لمُستَهتَرٍ، ... ولم يُبالوا قَلبَ مَن تَيّموا.
واستحسنوا ظلمي، فمِن أجلِهم ... أحبَّ قلبي كلَّ من يَظلِمُ.
وفاء زوجة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن خلف قال: أخبرني أبو بكر العامري عن مصعب بن عبد الله الزبيري قال: تزوج مالك بن عمرو الغساني بابنة عم النعمان بن بشير فشغف كل واحد منهما بصاحبه، وكان مالك شجاعاً، فاشترطت عليه أن لا يقاتل إذا لقي، شفقةً عليه وضناً به، وإنه غزا حياً من لخم، فباشر القتال، فأصابته جراح فقال، وهو مثقل منها:
ألا ليتَ شِعري عن غزالٍ تركتُه، ... إذا ما أتاهُ مصرعي كيفَ يَصْنَعُ؟.
فَلَوْ أنّني كنتُ المُؤخَّرَ بَعدَهُ، ... لَما بَرِحَتْ نفسي عَلَيه تَطَلّعُ.
وإنه مكث يوماً وليلةً ثم مات من جراحه، فلما وصل خبره إلى زوجته بكته سنةً، ثم اعتقل لسانها فامتنعت من الكلام، وكثر خطابها، فقال عمومتها وولاة أمرها: نزوجها لعل لسانها ينطلق، ويذهب حزنها، فإنما هي من النساء، فزوجوها بعض أبناء الملوك فساق إليها ألف بعيرٍ، فلما كان في الليلة التي أهديت إليه فيها قامت على باب القبة ثم قالت:
يقولُ رِجالٌ: زَوِّجوهَا لَعَلّهَا ... تَقَرُّ، وترْضى بعدَهُ بخَلِيلٍ.
فأخفَيتُ في النّفسِ التي ليسَ بعدَها ... رَجاءٌ لهم، والصّدقُ أفضَلُ قِيلِ.
وَحَدّثَني أصْحابُهُ أنّ مالِكاً ... أقامَ، ونادَى صَحَبَهُ بِرَحيلِ.

وَحَدّثَني أصْحابُهُ أنّ مالِكاً ... ضَرُوبٌ بِنَصْلِ السيفِ غيرُ نكولِ.
وَحَدّثَني أصْحابُهُ أنّ مالِكاً ... خَفِيفٌ على الأحْداثِ غيرُ ثَقيلِ.
وَحَدّثَني أصْحابُهُ أنّ مالِكاً ... صرومٌ كماضي الشّفرَتينِ صَقيلِ.
وأخبرنا أبو محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرنا أبو بكر العامري قال: حدثني عمرو بن محمد العبقري قال: أخبرني شيخ أثق به، وذكر الحديث، وزاد فيه: فلما فرغت من الشعر شهقت شهقةً فماتت.
جميل والبنات العذريات
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن خلف.
قال: أخبرني أبو بكر قال: أخبرنا المدايني قال: قال هشام بن محمد سمعت رجلاً من بني عذرة يحدث قال: لما علق جميل بثينة وجعل ينسب بها استعدى عليه أهلها ربعي بن دجاجة، وهو يومئذ أمير تيماء، قال: فخرج جميل هارباً حتى انتهى إلى رجل من عذرة، بأقصى بلادهم، وكان سيداً، فاستجار به، وكان للرجل سبع بنات، فلما رأى جميلاً رغب فيه، وأراد أن يزوجه ليسلو عن بثينة، فقال لبناته: البسن أحسن ثيابكن وتحلين بأحسن حليكن، وتعرضن له، فلعل عينه أن تقع على إحداكن فأزوجه.
قال: وكان جميل: إذا أراد الحاجة، أبعد في المذهب، فإذا أقبل رفعن جانب الخباء، فإذا رآهن صرف وجهه، قال: ففعلن ذلك مراراً، فعرف جميل م أراد به الشيخ، فأنشأ يقول:
حلفتُ لكيما تعلمينيَ صادِقاً، ... ولَلصِّدق خيرٌ في الأمورِ وَأنجحُ.
لَتَكليمُ يوْمٍ واحدٍ من بُثَينَة ... وَرُؤيتُها عندي ألَذّ وأملَحُ.
من الدهرِ لوْ أخلو بكنّ، وإنّما ... أُعالجُ قلباً طامحاً حيثُ يطمحُ.
فقال الشيخ: أرخين عليكن الخباء، فوالله لا يفلح هذا أبداً .
حبذا ذاك الظلوم
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا الشريف أبو الفضل محمد بن الحسن بن الفضل بن المأمون قال: قُرأ على أبي بكر بن الأنباري، وأنا أسمع، للمؤمل:
أقَاتِلَتي هِندٌ، وَقَتْلي مُحَرَّمُ، ... أما فِيكُمُ يا أيّها الناسُ مُسلِمُ.
يُظَلّمُها في ما تُريدُ بِعاشِقٍٍ، ... ألا حبّذا ذاكَ الظَّلومُ المُظَلَّمُ.
لقد زَعموا لي أنّها نذرَتْ دَمي، ... وما لي بحمَدِ اللهِ لحمٌ ولا دَمُ.
بَرَى حُبُّها لحمي، ولم يُبْقِ لي دَماً، ... وإن زعَمَتْ أنّي صَحيحٌ مُسَلَّمُ.
سَتَقتُلُ جلداً بالِياً فوْقَ أعظُمٍ، ... وَليسَ يبالي القتلَ جِلدٌ وأعظُمُ.
فلَمْ أرَ مثلَ الحُبِّ صَحّ قرينُهُ، ... ولا مثلَ مَن لم يدرِ ما الحبّ يُسقِمُ.
أآذنةٌ لي أنتِ في ذكرِ حاجَةٍ، ... ألا طالما قد كنتُ عنها أُجَمجِمُ.
غدَرْتُم، وَلم نغدرْ، وقلتُم: غدرْتمُ، ... تظُنّونَ أنّا منكمُ نَتَعَلّمُ.
قطعنا، زَعمتُم، والقطيعَةُ منكُمُ، ... زَعمنا، وأنتُم تزعُمُونَ ونزعُمُ.
فإن شئتُمُ كان اجتماعاً، فقلتُمُ ... وقلنا، فإنّ القوْلَ للقوْلِ سُلَّمُ.
وإلاّ فإنّا قد رَضينا بحُكمِكُم ... على كل حالٍ فاتقوا الله واحكُموا.
فوَاللهِ ما أجرَمتُ جُرْماً علمتُهُ، ... فإن سرّكمْ جُرْمي، فها أنا مجْرِمُ.
وعاقَبتُموني في السّلامِ عَلَيْكُمُ، ... ولم يكُ لي ذنبٌ سوى ذاك يُعلَمُ.
فإن تمنَعوا مني السلامَ، فإنّني ... لَغاد على حِيطانِكم فَمُسَلِّمُ.
الظريفة العاشقة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي في ما أذن لنا أن نرويه عنه قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه.
قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرنا عبد الرحمن بن عبد الله السرخسي قال: حدثني عباس بن عبيد قال:

كان بالمدينة جارية ظريفة حاذقة بالغناء، فهويت فتىً من قريش، فكانت لا تفارقه ولا يفارقها، فملّها الفتى وتزايدت هي في محبته وأسفت، فغارت، فولهت وجعل مولاها لا يعبأ بذلك ولا يرق لشكواها، وتفاقم الأمر بها حتى هامت على وجهها، ومزقت ثيابها، وضربت من لقيها، فلما رأى مولاها ذلك عالجها فلم ينجع فيها العلاج، وكانت تدور بالليل في السكك مع الأدب والظرف. قال: فلقيها مولاها ذات يوم في الطريق، ومعه أصحاب له، فجعلت تبكي وتقول:
الحُبُّ أوّلُ ما يكونُ لجَاجَةً، ... يَأتي بِهِ وَتسوقُهُ الأقْدارُ.
حتى إذا اقتحَمَ الفتى لُجَجَ الهوَى، ... جاءَتْ أُمورٌ، لا تُطاقُ، كبارُ
قال: فما بقي أحد إلا رحمها، فقال لها مولاها: يا فلانة امضي معنا إلى البيت، فأبت وقالت:
شغل الحلي أهله أن يعارا.
قال: وذكر بعض من رآها ليلةً، وقد لقيتها مجنونة أخرى، فقالت لها: فلانةُ! كيف أنت؟ فقالت: كما لا أحب، فكيف أنت من ولهك وحبك؟ قالت: على ما لم يزل يتزايد بي على مر الأيام.
قالت لها: تغني بصوت من أصواتك فإني قريبة الشبه بك. فأخذت قصبةً توقع بها وغنت:
يا مَن شَكا ألماً للحُبّ شبّهَهُ ... بالنارِ في القلبِ من حُزْنٍ وتذكارِ.
إنّي لأُعْظِمُ ما بي أن أُشبّهَهُ ... شيئاً يُقاسُ إلى مِثلٍ وَمِقدارِ.
لَوْ أنّ قَلْبيَ في نارٍ لأحْرَقَهَا، ... لأنّ أحزانَهُ أذكى من النّارِ.
ثم مضت.
عليان المجنون
حدثنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد الجرادي الكاتب قال: حدثنا محمد بن أبي الأزهر قال: حدثني عبيد الله بن الزعفراني المحدث عمن حدثه قال: مر بي عليان المجنون البصري في بعض الأيام، فقلت: يا أبا الحسين، قف علينا! فقال: أنت شبعان وعليان جائع يريد أن يأكل شيئاً، فدعوت له بما يأكل، وهو يسمع، فرجع، فلما أكل تنفس الصعداء وأنشأ يقول:
وَذي نَفَسٍ صَاعِدِ، ... يَئنّ بِلا عَائِدِ.
تَبَرَّمَ عُوَّادُه ... بذي السَّقَمِ الزائدِ.
وَذي سَهرَةٍ قد جَفا ... كلُّ أخٍ رَاقِد.
يَكّر عَلى عَسكَرٍ، ... وَيْضعُفُ عَن وَاحِدِ.
ومضى، فقلت لغلامي: رده وارفق به! فرده، فقلت: زدني! فقال: الذي أعطيتني لا يساوي أكثر مما أعطيتك. فقلت للغلام: اسقه قدحاً، فوقف، فلما شربه قال:
وَكنتُ إذا رَأيتُ فَتىً يُبَكّي ... على شَجَنٍ ضَحِكتُ إذا خلَوْتُ.
فأحسبُني أدالَ اللهُ مِنّي، ... فصِرْتُ إذا سمعتُ بهِ بَكيتُ.
فشغلت بخط ما أنشدنيه ومضى.
عاشق يموت كتماناً
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن محمد بن العلاف الواعظ، رحمه الله، بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين قال: حدثنا جعفر بن محمد الصوفي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا زكريا بن إسحاق قال: سمعت مالك بن سعيد يقول: حدثني مشيخة من خزاعة أنه كان عندهم بالطائف جارية متعبدة ذات يسار وورع، وكانت لها أم أشد عبادةً منها، وكانت مشهورة بالعبادة، وكانتا قليلتي المخالطة للناس، وكانت لهما بضاعة مع رجل من أهل الطائف، فكان يبضعها لهما، فما رزقهن الله من شيء أتاهن به.
قال: وبعث يوماً ابنه، وكان فتىً جميلاً مسرفاً على نفسه، إليهن ببعض حوائجهن، فقرع الباب، فقالت أمها: من هذا؟ قال: أنا ابن فلان. قالت: ادخل! فدخل وابنتها في بيتٍ، ولم تعلم بدخول الفتى، فلما قعد معها خرجت ابنتها، وهي تظن أنها بعض نسائهن حتى جلست بين يديه، فلما نظرت إليه قامت مبادرةً فخرجت، ونظر إليها فإذا هي من أجمل العرب.
قال: ووقع حبها في قلبه. فخرج من عندها، وما يدري أين يسلك، فأتى أباه، فأخبره برسالتهن، وجعل الفتى ينحل ويذوب جسمه، وتغير عما كان عليه، ولزم الوحدة والفكر، وجعل الناس يظنون أن الذي به من عبادة قد لزمها، حتى سقط على فراشه.

فلما رآه أبوه على تلك الحال دعا له الأطباء والمعالجين، فجعلوا ينظرون إليه، فكل يصف به دواء، ويقول: به داء لا يقوله صاحبه، والفتى مع ذلك ساكت لا يتكلم، حتى إذا طالت علته واشتد عليه الأمر دعا أبوه فتياناً من الحي، وإخوانه الذين كانوا له أنساً، فقال لهم: اخلوا به وسلوه عن علته لعله يخبركم ببعض ما يجده، فأتوه فكلموه وسألوه، فقال: والله ما بي علة أعرفها فأبينها لكم، وأخبركم بما أجد منها، فأقلوا الكلام.
وكان الفتى فطناً ذا عقل، فلما طال به الوجد دعا امرأة من بعض أهله فخلا بها، وقال: إني ملق إليك حديثاً ما ألقيته إليك إلا عند الإياس من نفسي، فإن ضمنت لي كتمانه أخبرتك وإلا صبرت حتى يحكم الله في أمري ما يحب، وبعد، فوالله ما أخبرت به أحداً قبلك، ولئن كتمت علي لا أخبر به أحداً بعدك، وإن هذا البلاء الذي أرى بي لا شك قاتلي وإنه يجب علي في محبتي له أن أكون لمن أحب صائناً وعليه مشفقاً من تزيد الناس وإكثارهم حتى يصير الصغير كبيراً، والكبير عندهم الباقي ذكره أبداً، الله الله في أمري، واجعليه محرزاً في صدرك فإن فعلت فلك حسن المكافأة، وإن أبيت فالله يحسن لك الشكر.
فقالت له المرأة: قل يا بني ما بدا لك، فوالله ما أجد في الدنيا أحداً أحب بقاءه غيرك، وكيف لي أن يكون عندي بعض دوائك، فوالله لأكتمن أمرك ما بقيت أيام الدنيا. فقال لها: إن من قصتي كذا وكذا! فقالت له: يا بني أفلا أخبرتنا، فوالله ما رأيت كلمةً أسكن بمجامع القلب فلا تفارقه أبداً، من كلمة: محب عاشق أخبر من يحبه أنه له وامق، فتلك الكلمة تزرع في قلوب ذوي الألباب شجراً لا تدرك أصوله. فقال لها: ومن لي بها، وكيف السبيل إليها وقد بلغك حالها وقصتها وشدة اجتهادها وعبادتها؟ قالت له: يا بني علي أن آتيك بما تسر به.
قال: فلبست ثوبها وأتت منزل الجارية، فدخلت فسلمت على أمها وحادثتها ساعةً. فسألتها أمها عن حاله وعن وجعه، فقالت: والله لقد رأيت الأوجاع والآلام، فما رأيت وجعاً قط كوجعه، وإن وجعه يزيد في كل يوم، وألمه يترقى، وهو في ذلك صابر غير شاك لا يفقد من جوارحه شيئاً، ولا من عقله. فقالت أمها: أفلا تدعون له الأطباء؟ قالت: بلى، والله فما وقع أحد منهم على دائه، ولا يفقه دواءه.
ثم قامت فدخلت على الجارية في بيتها الذي كانت تتعبد فيه، فسلمت عليها، وحادثتها ساعةً، وقد كان وقع إلى الجارية خبره، فعلمت أن ذلك من أجلها، فقالت لها المرأة: يا بنية أبليت شبابك وأفنيت أيامك على هذه الحال التي أنت عليها. قالت: يا عمتاه أية حال سوء تريني عليها قالت لا يا بنية ولكن مثلك يفرح في الدنيا ويلذ فيها ببعض ما أحل الله عز وجل لك، غير تاركة لطاعة ربك ولا مفارقة لخدمته، فيجمع الله لك بذلك الدارين جميعاً، فوالله ما حرم الله، عز وجل، على عباده ما أحل لهم.
فقالت: يا عمتاه، أو هذه الدار دار بقاء لا انقطاع لها ولا فناء فتكون الجوارح قد وثقت بذلك، فتجعل لله تعالى منظر هممها، وللدنيا شطرها، فتعد الجوارح إذاً التعب راحةً والكد سلامةً، أم هذه الدار دار فناءً وتلك دار بقاءٍ ومكافأة، والعمل على حسب ذلك.
قالت: يا بنية لا! ولكن الدنيا دار فناء وانقطاع وليست بباقية على أحد، ولا دائمة له، ولكن قد جعل الله تعالى لعباده فيها ساعات صدقة منه على النفوس، تنال فيها ما أحل لها من مخافة الشدة عليها.
فقالت الجارية: صدقت يا عمتاه، ولكن لله عباد قد علموا وصح في هممهم شيء من ذخر ذخروه عنده، فجعلوا هذا الشكر الذي جعله ذخيرة عنده، إذ لم تكن الدنيا كاملة لهم، ولا هم متنقصون شيئاً قدموه لأنفسهم، وسكنت نفوسهم ورضيت منهم بالصبر على الطاعة لتنال جملة الكرامة، وإن كلامك ليدلني على أن تحته علةً، وهو الذي حملك على مناظرتك لي على مثل هذا، وقد كنت أظن قبل اليوم فيك أنك تأمرين بالحرص على طاعة الله، عز وجل، والخدمة له، والتقرب إليه بالأعمال الزكية التي تبلغ رضاه وترفع عنده فقد أصبحت متغيرة عن ذلك العهد الذي كنت أعهدك عليه، فأخبريني بما عندك وأوضحي لي ما في نفسك، فإن يكن لك جواب أعتبتك، وإن يكن فيه حظ تابعتك، وإن يكن أمراً بعيداً من الله تعالى وعظتك.

قالت: يا بنية فأنا مخبرتك به، والذي منعني من إلقائه إليك هيبتك، إذ بسطتني وعلمت أن عندي خيراً وأمرتني بإلقائه، فإن من قصة فلان كذا وكذا.
قالت: قد ظننت ذلك فأبلغيه مني السلام، وقولي: أي أخاه! إني والله قد وهبت نفسي لمليك يكافئ من أقرضه بالعطايا الجزيلة، ويعين من انقطع إليه وخدمه بالهمم الرفيعة، وليس إلى الرجوع بعد الهبة سبيل، فتوسل إلى مولاك ومولاي بمحابه، واضرع إليه في غفران ما قدمت يداك من عمل لم يهبه فيه، ولم يرضه، فهو أول ما يجب عليك أن تسأله، وأول ما يجب علي أن أعظك به، فإذا خدمته بقدر ما عصيته طاب لك الفراغ من سؤال شهوات القلوب وخطرات الصدور، فإنه لا يحسن بعبد كان لمولاه عاصياً وعن أمره مولياً ناسياً لأن ينسي ذنوبه والاعتذار منها، ويلزم نفسه مسألة الحوائج لعلها داعية له إلى الفتنة إن لم يتداركه الله تعالى بكرمه، فاستنفذ نفسك يا أخي من مهلكات الذنوب، فإن له فضلاً وسع كل شيء، ولست مؤيستك من فضله إن رآك متبتلاً إليه ومما قدمت يداك معتذراً أن يمن بي عليك، فإنه الملك الذي يجود على من ولى عنه بكرمه، فكيف من أقبل إليه، فلا يشك أنه إذا جاد على من ولى عنه، يكون لمن أطاعه مكرماً وإليه وقت الندامة مسرعاً، وما أبقيت لك حجة تحتج بها، فليكن ما أخبرتك به نصب عينك ولا ترادني في المسألة، فلا أجيبك والسلام.
قال: فقامت المرأة من عندها، فأتته، فأخبرته بمقالتها. قال: فبكى بكاءً شديداً، فقالت له العجوز: والله يا بني ما رأيت امرأة خوف الله، عز وجل، في صدرها، مثل هذه المرأة فاعمل بما أمرتك به، فقد، والله، بالغت في النصيحة، وأحسنت الموعظة، فلا تلق نفسك في مهلكات الأمور، فتندم حيث لا تغني الندامة، ولو علمت يا بني أن حيلة تنفذ غير الذي دعتك إليه لاحتلتها، ولكان عندي من ذلك ما أرجو أن محتالةً، ولكني رأيت الله، عز وجل،قد جعلته نصب عينيها، فهي إليه ناظرة ومن جعل الله عز وجل نصب عينيه لها عن زينة الحياة الدنيا، ورفعتها، واشتغل بما قد جعله نصب عينيه.
وجعل يبكي ويقول: كيف لي بالبلوغ إلى ما دعت إليه ومتى يكون آخر المدة التي نلتقي فيها؟ قال: فاشتد وجعه ذلك، وحال عن ذوي العقول، فلما نظر القوم إليه في تلك الحال، وجعل لا يقره قرار، حبسوه في بيت، وأوثقوه، وتوهم القوم أن الذي به من عشق، فكان ربما أفلت، فيخرج من منزله فيجتمع عليه الصبيان، فيقولون له: مت عشقاً، مت عشقاً! فكان يقول:
أَأُفشي إلَيكم بعضَ ما قد يَهيجُني ... أم الصبرُ أوْلى بالفتى عند ما يَلقَى.
أَأُوعَدُ وعداً ما لَه، الدهرَ، آخِرٌ ... وَأُومَرُ بالتّقوَى، ومَن ليَ بالتّقوَى.
سلامٌ على مَن لا أُسَمّيهِ باسمِه ... وَلوْ صرْتُ مثلَ الطيرِ في قفصٍ يُلقى.
ألا أيّها الصّبيَانُ لو ذُقتمُ الهوَى ... لأيْقَنتُمُ أنّي مُحَدّثُكم حَقّاً.
أحِبّكم مِن حُبّها، وأراكُمُ ... تقولون لي: مُتْ يا شجاعُ بها عِشقا.
فلَم تُنصِفوني، لا، ولا هيَ أنصَفَتْ ... فرِفقاً رُوَيداً، وَيحَكم بالفتى رِفْقَاً.
فلما صح ذلك عند أهله وعلموا أنه عاشق جعلوا يسألونه عن أمره، فكان لا يجيبهم، وكتمت العجوز قصته، فأخذوه فحبسوه في بيت فلم يزل فيه حتى مات، رحمه الله.
جفني كأس ودمعي الراح
ولي من أبيات من أثناء القصيدة:
صرَعتَنا ألحاظُ غزْلانِ يَبري ... نَ كأنّ اللِّحاظَ منها رِماحُ.
من ظِباءٍ في كلّ جارِحَةٍ من ... ا لألحاظهن يُلقى جِرَاحُ.
استَحَلّوا من قتلِنا كلَّ محْظو ... رٍ وما قَتلُ عاشِقَينِ مُبَاحُ.
يا نديمي إليَكَ بالكأسِ عني، ... إنّ جَفنيَ كأسي ودمعي الراحُ.
رأي سقراط في العشق
أخبرنا أبو القاسم علي بن أبي علي قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: قال سقراط: العشق جنون، وهو ألوان، كما أن الجنون ألوان.
لا أنت تدري بي ولا أدري
أنبأنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي قال: أنشدنا أبو عمر بن العباس قال: أنشدنا أبو عبد الله بن عرفة لبعضهم:

يُنظَرُ في عمري فإن كان في ... عُمرِكَ نقصٌ زيدَ من عمري.
حتى نوافي البَعثَ في ساعَةٍ ... لا أنتَ تدري بي ولا أدري.
أخافُ أن أُطفأ، فيدعوكَ مَنْ ... يهوَاكَ من بعدي إلى غَدري.
شكوى المحبين
ولي ابتداء قصيدة كتبت بها من دمشق إلى الشيخ الفقير أبي الحسن مروان بن عثمان النحوي الإسكندراني، وهو بصور:
وحقِّ مصارعِ أهْلِ الهوَى ... لروعةِ صوتِ غُرَابِ النوَى.
وَشكوَى المُحبِّينَ يوْم الفِرَا ... قِ ما في قلوبِهِم من جوَى.
وَقد لفّ أعناقَهُم مَوْقفٌ ... وَقد رَفَعَ البَينُ فيهم لِوَا.
عَشِيّةَ أجْرُوا عيونَ العُيو ... نِ بينَ العَقيقِ وبينَ اللِّوَى.
دُموعاً كَثُرْنَ فلَوْ أنّهُ ... أتاهُنّ وَفدُ منى لارْتَوَى.
لقد أتمَنّى زَماناً يُضَمّ ... بكَ الشملُ وَهوَ لقلبي هوَى.
مجنون المربد
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن إجازة قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر خلف قال: حدثني محمد بن الفضل قال: حدثني بعض أهل الأدب عن محمد بن أبي نصر الأزدي قال: رأيت بالبصرة مجنوناً قاعداً على ظهر الطريق بالمربد، فكلما مر به ركب قال:
ألا أيّها الرّكبُ اليَمانون عَرّجوا ... علينا، فقَد أمسى هَوَانا يَمانِيا.
نُسائِلكُم: هل سالَ نَعمانُ بعدَنا ... فَحَبَّ إلَينَا بطنُ نَعمانَ وَادِيا.
قال: فسألت عنه فقيل: هذا رجل من أهل البصرة، كانت له ابنة عم، وكان يحبها فتزوجها رجل من أهل الطائف فنقلها، فتوله عليها.
إبراهيم بن المهدي والشعر
كتب إلي أبو غالب بن بشران من واسط قال: أخبرنا ابن دينار قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني في كتاب الأغاني قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثني الحسين بن إسحاق قال: حدثني خالد قال: لما بويع لإبراهيم بن المهدي بالخلافة طلبني، وقد كان يعرفني وقد كنت متصلاً ببعض أسبابه، فأدخلت إليه فقال: أنشدني يا خالد شيئاً من شعرك! فقلت: يا أمير المؤمنين ليس من الشعر الذي قال فيه رسول الله صلى الله عليه وسلم: إن من الشعر لحكماً، وإنما أمزح وأهزل. قال: لا تقل هذا! هات أنشدني، فأنشدته:
عِش فَحُبِّيك سريعاً قاتلي ... والضّنى إن لم تصِلني واصِلي.
ظَفِرَ الشَّوْقُ بِقَلبٍ دَنِفٍ ... فيكَ والسُّقمُ بجسمٍ ناحِلِ.
فهُما بينَ اكتِئاب وَضَنىً ... ترَكاني كالقضِيبِ الذّابِلِ.
قال: فاستملح ذلك ووصلني.
راكب القصبة
أخبرنا أبو غالب بن بشران في ما كتب به إلينا قال: أخبرنا ابن دينار قال: أخبرنا أبو الفرج الأصبهاني قال: حدثني حمزة بن أبي سلالة الشاعر قال: دخلت بغداد في بعض السنين، فبينا أنا مار في الجنينة إذا أنا مار برجلٍ عليه مبطنة نظيفة، وعلى رأسه قلنسوة سوداء، وهو راكب قصبة والصبيان يصيحون خلفه: يا خالد، يا بارد! فإذا أذوه حمل بالقصبة عليهم، فلم أزل أطردهم عنه حتى تفرقوا وأدخلته بستاناً هناك، فجلس واستراح، واشتريت له رطباً فأكل. واستنشدته فأنشدني:
قد حازَ قَلبي فَصَارَ يملِكُهُ ... فكيفَ أسلُو وكيفَ أتركُهُ.
رَطيبُ جِسْمٍ كالمَاءِ تحسِبُهُ ... يخطُرُ في القلبِ منه مسلَكُهُ.
يكادُ يجري من القميص من النّع ... مة لوْلا القَميصُ يُمسكُهُ.
فاستزدته، فقال: ولا حرف.
الأمين وحبه للشعر
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي، رحمه الله، في ما أذن لنا في روايته قال: أخبرنا محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا العباس بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أبو نصر محمد بن موسى الطوسي قال: حدثنا عبد الله بن أحمد أبو هفان قال: حدثني أبو نواس قال: دخلت على الأمين أمير المؤمنين، وهو قاعد في قبة له، ومعه جارية لم أر قط أحسن منها. قال: وإذا على جبين الجارية مكتوب بالغالية مما عمل في طار: الله، وعلى رأسها إكليل وفي حجرها عود، وإذا على الإكليل مكتوب:

واللهٍ يا طرْفَي الجاني على كَبِدي ... لأُطفِئَنّ بدمعي لَوْعَةَ الحَزَنِ.
باللهِ تطمَعُ أن أبلى هوىً وَجوى ... وأنتَ تلتَذّ طِيبَ العَيشِ والوَسَنِ.
وإذا على العود مكتوب:
يا أيّها الزاعمُ الذي زَعمَا ... أنّ الهَوَى ليسَ يورِثُ السقَمَا.
لو أنّ ما بي بك الغداةَ لما ... لُمتَ محِبّاً إذا شكا ألّما.
قال: وبين أيديهما صينية ذهب. قال: وإذا على الصينية مكتوب:
لا شيءَ أحسنُ مِنْ أيّامِ مجْلِسِنَا ... إذ نجعَلُ الرُّسلَ في ما بيننا الحدَقا.
وَإذا حوَاجِبُنا تقضي حَوائِجَنَا ... وَشكلُنا في الهوَى نلقَاهُ متّفِقَا.
ليتَ الوُشاةَ بِنَا والحاسِدينَ لنَا ... في لُجّة البَحرِ ماتوا كلّهم غرَقَا.
أوْ ليتَ من عابَنَا أو ذمّ مجْلِسَنَا ... شُبَّتْ عليه ضِرَامُ النارِ فاحتَرَقا.
وإذا على المَغسلِ مكتوب:
لوْ كانَ يدري مالكٌ ما الذي ... ألقى مِن الأحزَانِ والكَرْبِ.
وَمَا ألاقي مِن ألِيمِ الهَوَى ... عذّبَ أهْلَ النّارِ بالحُبِّ.
قال فملأ الكأس وأعطاني، وإذا على الكأس مكتوب:
الحمدُ للهِ على ما قَضى ... قد كانَ ذا في القَدَر السابقِ.
ما تحملُ الأرْضُ على ظهرِهَا ... أشقى ولا أوْثَقَ مِن عاشِقِ.
فَبَينَما يمشي على مَرْمَرٍ ... إذا بِهِ يَسقُطُ مِنْ حالِقِ.
قال: فشربت الكأس وناولته، فحياني بتفاحة وأترجة، وإذا على التفاحة مكتوب بالذهب:
تُفّاحَةٌ تَأكُل تُفّاحَةً، ... يا ليتني كنتُ التي تُؤْكَلُ.
فَألثمُ الثغرّ، إذا عَضّني ... بِعِلّةِ الأكْلِ، ولا أُؤكَلُ.
قال وإذا على الأترجة مكتوب:
يا لكِ أُتْرُجّةً مُطَيَّبةً ... تُوقِدُ نارَ الهَوَى على كَبِدي.
لوْ أن أُتْرُجّةً بَكَتْ لَبَكَتْ ... لرَحمَتي هذه التي بِيَدي.
؟؟؟؟؟هوى الملاح بلاء
ولي من غزل قصيدة مدحت بها أحد بني منقذ:
أيّها الرّاحلون مِن بطنِ خبتٍ، ... فرِكابُ النَّوَى بِهِم تَتَرَامَى.
إن أتَيْتُم وَادي الأرَاكِ فأهدُوا ... لسلَيمى تحِيّتي وَالسّلامَا.
واطلُبوا لي قلبي وآيتُه أنْ ... تجِدوا فِيهِ مِن هَوَاهَا سِهَامَا.
وَرِدُوا ماءَ ناظِري عِوَضَ الغُد ... رَانِ وارعَوا بينَ الحشا لا الخُزَاما.
ولي أيضاً قصيدة:
كُفّي مَلامَكِ عَنْه وَالعَذَلا، ... قَدْ ضَاقَ ذَرْعاً بالّذي حَمَلا.
وَدَعِي مَدامِعَهُ تَسِحُّ وَإنْ ... لمْ تُطْفِ مِن نارِ الهوَى شُعَلا.
وَذَرِيهِ يَرْفُلُ في غَلائِلَ مِن ... نسج ِالغَليلِ يجرّهَا ومُلا.
يا أُختَ كِندَةَ! رَفّهي كمِداً ... شَرِبَتْ مَفاصِلُهُ الهَوَى نَهَلا.
لَوْ كُنتِ شاهِدَةً مَوَاقفَنا، ... والبَيْنُ يَضْحَكُ بينَنَا جَذَلا.
وَالدَّمعُ قَد سالَ الكَثِيبُ بِهِ ... حتى لَكَادَ يُسَيِّلُ المُقَلا.
لَرَثَيْتِ للْعُشّاقِ رَاحِمَةً، ... وَعَلِمتِ أنّ هَوَى المِلاحِ بَلا.
حجر من أرض لوط
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي قراءة عليه قال: أخبرنا علي بن جعفر السيرواني الصوفي بمكة قال: سمعت المواريني يقول، قال لي رجل من الحاج: مررت بديار قوم لوط وأخذت حجراً مما رجموا به، وطرحته في مخلاة، ودخلت مصر، فنزلت في بعض الدور في الطبقة الوسطى، وكان في أسفل الدار حدث، فأخرجت الحجر من خرجي، ووضعته في روزنة في البيت، فدعا الحدث الذي كان في أسفل الدار صبياً إليه، واجتمع معه فسقط الحجر على الحدث من الروزنة فقتله.
فاسق لم يغفر له

أخبرنا أبو الحسين محمد بن عثمان بن مكي بقراءتي عليه بمصر قال: أخبرنا جدي أبو الحسن أحمد بن عبد الله بن أحمد بن زريق قال: أخبرنا أبو العباس أحمد بن عيسى الوشا المقري قال: سمعت أبا عبد الله محمد بن عبد الله بن الحكم يقول: سمعت يونس بن عبد الأعلى يقول: خرجت حاجاً إلى مكة فلما صرنا كان ليلة عرفات رأى الإمام الذي حج بنا تلك الليلة بمنىً مناماً، فلما صرنا بعد الحج إلى مكة بعد انقضاء الحج، بتنا تلك الليالي في المسجد الحرام، والخلائق جلوس، إذ سمعنا منادياً ينادي فوق الحجر: أنصتوا، يا معشر أهل الحجيج، فأنصتوا، ثم قال: يا معشر أهل الحجيج: إن إمامكم رأى أن الله، عز وجل، قد غفر لكل من وافى العام البيت إلا رجلاً واحداً فإنه فسق بغلامٍ.
امرأة صاحب المسحاة والملك
أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه في ذي القعدة، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري قال: حدثنا أبو عبد الله بن عرفة قال: حدثني محمد بن موسى السامس قال: حدثنا روح بن أسلم قال: حدثنا حماد بن سلمة عن عطاء بن السائب عن أبي البختري عن سلمان قال: كان في بني إسرائيل امرأة ذات جمال، وكانت عند رجل يعمل بالمسحاة، فكان إذا جاء بالليل قدمت له طعامه، وفرشت له فراشه، فبلغ خبرها ملك ذلك العصر، فبعث إليها عجوزاً من بني إسرائيل، فقالت لها: ما تصنعين بهذا الذي يعمل بالمسحاة! لو كنت عند الملك لكساك الحرير، وفرشك الديباج، فلما وقع الكلام في مسامعها جاء زوجها بالليل، فلم تقدم له طعامه، ولم تفرش له فراشه، فقال لها: ما هذا الخلق يا هنتاه! فقالت: هو ما ترى. فقال: أطلقك؟ قالت: نعم، فطلقها. فتزوجها ذلك الملك، فلما زفت إليه نظر إليها فعمي، ومد يده إليها فجفت. فرفع نبي ذلك العصر خبرهما إلى الله، عز وجل، فأوحى الله تعالى إليه: أعلمهما أني غير غافر لهما، أما علما أن بعيني ما عملا بصاحب المسحاة؟
يقتل جاريته بريبة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: حدثنا إسماعيل بن سعيد بن سويد قال: حدثنا الحسين بن القاسم قال: حدثنا عبيد الله بن خرداذبة قال: أخبرني موسى بن المأمون قال: كان فروح الزناء يعشق جاريةً بالمدينة يقال لها رهبة ثم اشتراها فقال:
يا رَهبَ لم يَبقَ لي شيء أُسَرّ بِهِ ... غيرَ الجلوسِ، فَتَسقِيني وأسقِيكِ.
وَتَمزُجينَ بِرِيقٍ مِنكِ لي قَدَحاً، ... وَتَشتَفي بكم نفسي وأشْفِيكِ.
يا رَهْبَ مَا مَسّني شيءٌ أُغَمُّ بِهِ ... إلا تَفَرّجَ عَنّي حينَ آتِيكِ.
قال ثم عثر على ريبةً بينها وبين جارية له، فقتلها، فقال ابن الخياط المديني:
تَنَجّدَ وَاستشرَى على قتلِ كاعبٍ، ... كأنّ فُضَاضَ المِسكِ منها التنفسُ.
فمالتْ على الكَفّينِ خَودٌ غَريرَةٌ، ... كما باتَ بينَ الرّاحِ والصُّهبِ نَرْجِسُ.
قتيل لا يودى
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس قال: أخبرنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثني أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثنا عبيد الله بن سعد الزهري قال: حدثنا عمي قال: حدثني أبي عن صالح بن كيسان قال: حدثني ابن شهاب أن القاسم بن محمد أخبره أن رجلاً ضاف ناساً من هذيل، فخرجت لهم جارية، واتبعها ذلك الرجل، فأرادها على نفسها فتعافسا في الرمل، فرمته بحجر، ففضت كبده، فبلغ ذلك عمر، رحمه الله، فقال: ذاك قتيل الله لا يودى أبداً.
يقتلها ويبكي عليها
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف القاضي قال: حدثني أبو عبد الله اليمامي عن العتبي عن أبيه قال:

كان رجل من العرب تحته ابنة عم له، وكان لها عاشقاً، وكانت امرأةً جميلةً، وكان من عشقه لها أنه كان يقعد في دهليزه مع ندمائه، ثم يدخل ساعة بعد ساعة ينظر إليها، ثم يرجع إلى أصحابه عشقاً لها، فطبن لها ابن عم لها، فاكترى داراً إلى جنبه، ثم لم يزل يراسلها حتى أجابته إلى ما أراد، فاحتالت، فنزلت إليه، ودخل الزوج كعادته لينظر إليها، فلم يرها، فقال لامرأةٍ: أين فلانة؟ قالت: تقضي حاجةً، فطلبها في الموضع، فلم يجدها، فإذا هي قد نزلت، وهو ينظر إليها، فقال لها: ما وراءك؟ فوالله لتصدقني. قالت: والله لأصدقنك، من الأمر كيت وكيت، فأقرت له، فسل السيف فضرب عنقها، وقتل أمها، وهرب وأنشأ يقول:
يا طَلعَةً طَلَعَ الحِمامُ عَلَيها ... فجَنى لهَا ثَمَرَ الرَّدى بيَدَيها.
رَوّيتُ من دَمِها الثرَى، وَلَطالَما ... رَوّى الهَوى شفَتَيّ من شفَتيها.
حكَمتُ سيفي في مجال خِناقِها، ... وَمدامعي تجري على خَدّيْها.
ما كانَ قتلِيها لأني لم أكُنْ ... أخشى إذا سقَطَ الغُبارُ عليها.
لكن بخلتُ على العُيونِ بحُسنِها، ... وأنِفتُ من نَظرِ العيونِ إليها.
قال: وزادني غير أبي عبد الله: وكان لها أخت شاعرة فقالت تجيبه:
لَوْ كنْتَ تُشفِقُ أوْ تَرِقّ عَلَيها ... لَرَفعْتَ حدّ السيف عن وَدْجَيها.
وَرَحمتَ عَبرَتَها وطولَ حنِينِها، ... وَجزعتَ من سوءٍ يَصِيرُ إلَيهَا.
مَن كان يفعلُ ما فعلتَ بِمثلِها، ... إذ طاوَعَتكَ، وَخالفَتْ أبَوَيهَا.
فَترَكتَها في خِدرِها مَقتُولَةً، ... ظُلماً، وَتبكي، يا شِقيّ، عَلَيهَا.
ظبيات لهن أسرى وقتلى
ولي ابتداء قصيدة:
بينَ بابِ ابرزوا ونهرِ المُعلّى ... ظَبيَاتٌ لهُنّ أسْرَى وَقَتْلى.
فَاتِكاتٌ حَلَلْنَ، يوْمَ التَقَيْنَا، ... من دمي بالإعرَاضِ ما ليسَ حلاّ.
هَجَرُوا مع تصَاقُبِ الدارِ، واست ... لّ هَوَاهُم مِن جِسمِيَ الرّوحَ سَلاّ.
وَأبَوْا أنْ يُسامِحُوا بِحُبَالٍ ... رُبّمَا نَفّسَ الهُمومَ وَسَلاّ.
فَعَلَيهِم، معَ الصبى والتّصابي ... مِن سَلامي، مَا دَقّ مِنه وَجَلاَّ.
إهدار دم الفاسق
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا أبو الفتح محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا أبو الحسين بن بيان الزبيبي قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي قال: حدثنا أحمد بن زهير قال: حدثنا داود بن رشيد قال: حدثنا أبو المليح عن الزهري قال: كان رجل يهوى امرأةً، فأرادها، فأغلقت الباب دونه، فأدخل الرجل رأسه من إسكفة الباب، فأخذت المرأة حجراً أو خشبةً، فضربت رأسه فدمغته، فرفع ذلك إلى عبد الملك بن مروان فقال: به لا بظبي، وأهدر دمه.
عمر وابن الشيخ الأنصاري
أخبرنا أبو طاهر بن السواق قال: حدثنا محمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا أحمد بن منصور الرمادي قال: حدثنا عبد الله بن صالح قال: حدثني الليث قال: قال عمر بن الخطاب: لا أهدر دم أحد من المسلمين. وإنه أتي يوماً بفتىً أمرد قد وجد قتيلاً ملقىً على وجه الطريق. فسأل عمر عن أمره واجتهد فلم يقف له على خبر، ولم يعرف له قاتل. فشق ذلك عليه، وقال: اللهم أظفرني بقاتله، حتى إذا كان رأس الحول أو قريباً من ذلك وجد صبي مولود ملقىً بموضع القتيل، فأتي به عمر، رحمة الله عليه، فقال: ظفرت بدم المقتول، إن شاء الله، فدفع الصبي إلى امرأة وقال لها: قومي بشأنه، وخذي منا نفقته، وانظري من يأخذه منك، فإذا وجدت امرأة تقبله وتضمه إلى صدرها، فأعلميني بمكانها.

فلما شبّ الصبي، وطاب، جاءت جارية فقالت للمرأة: إن سيدتي بعثتني إليك، لتبعثي بالصبي لتراه، والمرأة معها، حتى دخلت على سيدتها، فلما رأته أخذته فقبلته وضمته إليها، وإذا هي بنت شيخ من الأنصار من أصحاب النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، فأخبرت عمر خبر المرأة، فاشتمل عمر على سيفه، ثم أقبل إلى منزلها، فوجد أباها متكئاً على باب داره فقال: يا أبا فلان! ما فعلت ابنتك فلانة؟ قال: يا أمير المؤمنين جزاها الله خيراً، هي من أعرف الناس بحق الله تعالى، وحق أبيها، مع حسن صلاتها وصيامها، والقيام بدينها. فقال عمر: قد أحببت أن أدخل عليها فأزيدها رغبةً في الخير وأحثها على ذلك. فقال الشيخ: جزاك الله خيراً يا أمير المؤمنين! فقال له: امكث مكانك حتى أرجع إليك.
فاستأذن عمر عليها، فلما دخل أمر عمر كل من كان عندها بالخروج، فخرجوا عنها، وبقيت هي وعمر في البيت ليس معهما أحد، فكشف عمر عن السيف فقال: لتصدقني، وكان عمر لا يكذب، فقالت: على رسلك يا أمير المؤمنين، على الخبير وقعت، فوالله لأصدقن: إن عجوزاً كانت تدخل علي، فاتخذتها أماً، وكانت تقوم من أمري بما تقوم به الوالدة، وكنت لها بمنزلة البنت، فأمضت بذلك حيناً، ثم إنها قالت: يا بينة إنه قد عرض لي سفر، ولي بنت في موضع أتخوف عليها فيه أن تضيع، وقد أحببت أن أضمها إليك، حتى أرجع من سفري، فعمدت إلى ابن، كان لها، شاب أمرد فهيأته كهيأة الجارية، وأتتني به، وأنا لا أشك أنه جارية، فكان يرى مني ما ترى الجارية من الجارية، حتى اغتفلني يوماً وأنا نائمة، فما شعرت حتى علاني وخالطني، فمددت يدي إلى شفرة كانت إلى جنبي فقتلته، ثم أمرت به فألقي حيث رأيت، فاشتملت منه على هذا الصبي، فلما وضعته ألقيته في موضع أبيه، فهذا والله خبرهما على ما أعلمتك.
فقال لها عمر، رحمة الله عليه: صدقت بارك الله فيك! ثم أوصاها ووعظها، ودعا لها، وخرج من عندها، وقال لأبيها: بارك الله في ابنتك، فنعم الابنة ابنتك، وقد وعظتها وأمرتها. فقال له الشيخ: وصلك الله يا أمير المؤمنين، وجزاك خيراً عن رعيتك!.
سوسن العابدة ومراوداها
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا ابن فارس قال: حدثنا الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني أحمد بن زهير قال: قال غيلان: حدثنا أبو عوانة عن إسماعيل بن سالم عن أبي إدريس الأودي قال: كان رجلان في بني إسرائيل عابدان وكانت جارية يقال لها سوسن، عابدةٌ، وكانوا يأتون بستاناً فيتقربون فيه بقربان لهم، فهوي العابدان سوسن فكتم كل واحد منهما عن صاحبه، واختبأ كل واحد منهما خلف شجرة ينظران إليها، فبصر كل واحد منهما بصاحبه، فقال كل واحد منهما لصاحبه: ما يقيمك ههنا؟ فأفشى كل واحد منهما إلى صاحبه حب سوسن، فاتفقا على أن يراوداها عن نفسها، فلما جاءت لتقرب قالا لها: قد عرفت طواعية بني إسرائيل بني إسرائيل لنا، فإن لم تؤاتينا قلنا، أصبحنا: إنا أصبنا معك رجلاً، وإن الرجل فاتنا، وإنا أخذناك، فقالت لهما: ما كنت لأطيعكما، فأخذاها، وأخرجاها، وقالا: أخذنا سوسن مع رجل، وإن الرجل سبقنا وذهب، فأقاموا سوسن على المصطبة، فكانوا يقيمون المذنب ثلاثة أيام، فتنزل نار من السماء، فتأخذه، فأقاموا سوسن، فلما كان اليوم الثالث جاء دانيال، وهو ابن ثلاث عشرة سنةً، فوضعوا له كرسياً، فجلس عليه، وقال: قدموهما إلي! فجاءا كالمستهزئين، فقال: فرقوا بين الشاهدين! قال لأحدهما: خلف أي شجرة رأيتها؟ فقال: وراء تفاحة، وقال للآخر: خلف أي شجرة رأيتها؟ فاختلفا، فنزلت نار من السماء، فأحرقتهما، وأفلتت سوسن.
قال أبو بكر: وفي خبر آخر أنها وقفت لترجم فنزل الوحي على دانيال وهو ابن سبع سنين.

.../...
 
يخون الغازي فيقتل
أخبرنا أبو علي زيد بن أبي حيويه القاضي بمدينة تنيس في سنة خمس وخمسين وأربعمائة قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن نصر قال: حدثنا أبو عمرو عثمان بن محمد بن أحمد السمرقندي بتنيس قال: حدثنا أحمد بن شيبان الموصلي قال: حدثنا مؤمل عن حماد بن سلمة وحماد بن زيد عن أيوب: أن رجلاً خرج غازياً، فخرج من جيرانه فأبصر في بيته ذات ليلة مصباحاً، فقام قريباً من منزله، فسمع:
وَأشعَثَ غَرَّهُ الإسلامُ مني ... خلَوْتُ بعِرْسهِ ليلَ التَّمام.
أبِيتُ على ترَائبِها وَيُضْحي ... على جَرْداءَ لاحقةِ الحِزَامِ.
كأنّ مَوَاضعَ الرَّبَلاتِ منهَا ... فِئَامٌ يَنتَمِينَ إلى فِئَامِ.
قال: فدخل عليه فقتله، ثم رمى به، فلما أصبح أخبر عمر به فقام يخطب الناس فقال: أنشد الله رجلاً، وأعزم على من علم من هذا الرجل علماً إلا أخبرنا به. فقام الرجل فأخبره بما رأى وبما سمع، فقال عمر: اقتل! قال: فعلت يا أمير المؤمنين.

ما أذنبت إلا ذنب صحر
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي ولقيته بمدينة الرسول، صلى الله عليه وآله وسلم، في سنة ست وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب قال: أخبرنا ابن دريد قال: حدثنا العكلي عن ابن أبي خالد عن الهيثم عن مجالد عن الشعبي قال: كان لقمان بن عاد بن عاديا، الذي عُمّرَ عمرَ سبعة أنسر، مبتلى بالنساء، وكان يتزوج المرأة فتخونه، حتى تزوج جاريةً صغيرةً لم تعرف الرجال، ثم نقر لها بيتاً في صفح جبل، وجعل له درجةً بسلاسل ينزل بها ويصعد، فإذا خرج رفعت السلاسل، حتى عرض لها فتىً من العماليق فوقعت في نفسه، فأتى بني أبيه، فقال: والله لأجنين عليكم حرباً لا تقومون لها! قالوا: وما ذلك؟ قال: امرأة لقمان بن عاد هي أحب الناس إلي. قالوا: فكيف نحتال لها؟ قال: اجمعوا سيوفكم ثم اجعلوني بينها، وشدوها حزمةً عظيمة، ثم ائتوا لقمان، فقولوا: إنا أردنا أن نسافر، ونحن نستودعك سيوفنا حتى نرجع، وسموا له يوماً! ففعلوا وأقبلوا بالسيوف فدفعوها إلى لقمان، فوضعها في ناحية بيته.
وخرج لقمان وتحرك الرجل فخلت الجارية عنه، فكان يأتيها، فإذا أحست بلقمان جعلته بين السيوف حتى انقضت الأيام، ثم جاؤوا إلى لقمان فاسترجعوا سيوفهم، فرفع لقمان رأسه بعد ذلك فإذا نخامة تنوس في سقف البيت، فقال لامرأته: من نجم هذه؟ قالت: أنا، قال: فتنخمي! ففعلت، فلم تصنع شيئاً، فقال: يا ويلتاه! والسيوف دهتني، ثم رمى بها من ذروة الجبل فتقطعت قطعاً، وانحدر مغضباً، فإذا ابنة له يقال لها صحر فقالت له: يا أبتاه! ما شأنك؟ قال: وأنت أيضاً من النساء، فضرب رأسها بصخرة فقتلها، فقالت العرب: ما أذنبت إلا ذنب صحر، فصارت مثلاً .

الحسناء المهجورة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان المحولي قال: حدثني عبد الله بن عمرو قال: حدثني علي بن عبد الله بن سليمان النوفلي قال: ذكر أبو المختار عن محمد بن قيس العبدي قال: إني لبالمزدلفة بين النائم واليقظان، إذ سمعت بكاءً متتابعاً ونفساً عالياً، فاتبعت الصوت، فإذا أنا بجارية كأنها الشمس حسناً، ومعها عجوز، فلطئت بالأرض لأنظر إليها وأمتع عيني بحسنها، فسمعتها تقول:
دعوتك يا مولاي سراً وجهرةً ... دعاء ضعيف القلب عن محمل الحب.
بليت بقاسي القلب لا يعرف الهوى ... وأقتل خلق الله للهائم الصب.
فإن كنت لم تقض المودة بيننا ... فلا تخل من حب له أبداً قلبي.
رضيت بهذا في الحياة، فإن أمت ... فحسبي ثواباً في المعاد به حسبي.
وجعلت تردد هذه الأبيات، وتبكي، فقمت إليها، فقلت: بنفسي أنت، مع هذا الوجه يمتنع عليك من تريدينه؟ قالت: نعم، والله، وفي قلبه أكثر مما في قلبي، فقلت: إلى كم هذا البكاء؟ قالت: أبداً أو يصير الدمع دماً وتتلف نفسي غماً. فقلت لها: إن هذه لآخر ليلةٍ من ليالي الحج، فلو سألت الله التوبة مما أنت فيه، رجوت أن يذهب حبه من قلبك. فقالت: يا هذا! عليك بنفسك في طلب رغبتك، فإني قد قدمت رغبتي إلى من ليس يجهل بغيتي. وحولت وجهها عني، وأقبلت على بكائها وشعرها، ولم يعمل فيها قولي وعظتي.

إنما يرحم الصحيح السقيما
أنشدنا أبو محمد الجوهري قال: أنشدنا ابن حيويه قال: أنشدنا عبيد الله بن أحمد قال: أنشدني أبي خالد الكاتب:
عِشتُ مُستَهتراً وَعِشتُ سَلِيما، ... حيثُ ما كنتُ لا عدِمتُ النّعِيمَا.
عَجَبٌ أنْ تَكُونَ يَا حَسَنَ ال ... وَجْهِ رَؤوفاً بِعَاشِقِيكَ رَحِيمَا.
بَدَني نَاحِلٌ، وَأنتَ صَحِيحٌ، ... إنّمَا يَرْحَمُ الصّحِيحُ السّقِيمَا.
عَلِمَ الخَلْقُ أنّ رُوحي وَجِسمي ... لَقِيَا في هَوَاكَ أمْراً عَظِيمَاً.

يخصي المغني
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي ثابت الحافظ قال: حدثنا أبو نعيم الحافظ الأصبهاني بها قال: حدثنا سليمان الطبراني قال: حدثنا محمد بن جعفر بن أعين قال: حدثنا علي بن حرب المؤملي عن عامر بن الكلبي عن حماد الراوية قال: حدثني بعض خدم سليمان بن عبد الرحمن قال: خرج سليمان بن عبد الملك يريد بيت المقدس، وكان أغير قريش وأسرعها طيرةً، فنزل منزلاً من غور البلقاء بدير لبعض الرهبان، فحف بالدير أهل العسكر، وكان في من خرج معه رجل من كلب، يقال له سنان، وكان فارساً ومغنياً محسناً، وشجاعاً، وبغيرة سليمان عبد الملك عارفاً، ولم يك يسمع له صوت في عسكره، فزاره في تلك الليلة فتية من أهله، فعشاهم، وسقاهم، فأخذ فيهم الشراب، فقالوا: يا سنان! ما أكرمتنا بشيء أن لم تسمعنا صوتك. فترنم فغناهم، فقال:
مَحجُوبةٌ سَمِعَتْ صَوْتي فأرّقَهَا ... مِنْ آخِرِ اللّيلِ لمّا بَلّهَا السّحَرُ.
تَثْني عَلى فَخْذِهَا مُثْنَى مُعَصْفَرَة ... وَالحَلْيُ مِنْهَا عَلى لبّاتِهَا حَصِرُ.
لم يَحجُبِ الصّوْتَ أحرَاسٌ وَلا غَلَقٌ ... فَدَمعُهَا لطُرُوقِ الصّوْتِ مُنحَدِرُ.
في لَيلَةِ النّصْفِ ما يَدرِي مُضَاجِعُها ... أوَجْهُهَا عِنْدَهُ أبْهَى أمِ القَمَرُ.
لَوْ خُلّيَتْ لمَشَتْ نَحْوِي عَلى قَدمٍ ... تَكَادُ من رِقّةٍ للمَشيِ تَنْفَطِرُ.
فلما سمع سليمان الصوت قام فزعاً يتفهم ما سمع، وكان معه جاريته عوان، ولم يكن لها نظير في زمانها في الجمال والتمام والحذق بالغناء، وكان يحبها، فلما فهم الصوت ارتعدت فرائصه غيرة، ثم أقبل نحو عوان، وهي خلف ستر، فكشف الستر رويداً لينظر أنائمة هي أم مستيقظة، فوجدها مستيقظة، وهي صفة الأبيات: عليها معصفرة، وحليها على لباتها، فلما أحست به، وعلمت بأنه قد علم بأنها مستيقظة قالت: يا أمير المؤمنين! قاتل الله الشاعر حيث يقول:
ألا رُبّ صَوْتٍ جَاءَني مِنْ مُشَوّهٍ ... قَبيحِ المُحَيّا وَاضِعِ الأبِ واَلجَدّ.
قَصِيرِ نِجَادِ السّيفِ جَعْدٍ بَنَانُهُ ... إلى أمَةٍ يُعزَى مَعاً وَإلى عَبْدِ.
فسكن من غضبه قليلاً، ثم قال لها: فقد راعك صوته على ذلك؟ فقالت: يا أمير المؤمنين صادف مني استيقاظاً، فقال: ويحك يا عوان! كأنه، والله، يراك وينعتك في غنائه في هذه الليلة، والله لأقطعنه أطباقاً كائناً ما كان. ثم بعث في طلبه فبعثت عوان خادماً إليه سراً، وقالت له: إن أدركته فحذرته، فأنت حر، ولك ديته. فخرج سليمان حتى وقف على باب الدير، فسبقت رسل سليمان، فأتوا به إلى سليمان مربوطاً حتى وقفوه بين يديه، فقال له: من أنت؟ قال: أنا سنان الكلبي فارسك يا أمير المؤمنين. فأنشأ سليمان يقول:
تَثكَلُ في الثّكلى سنَاناً أُمُّه ... كَانَ لها رَيحَانَةً تَشُمّه.
وَخَالُهُ يَثْكَلُهُ وَعَمُّه ... ذُو سَفَهٍ هَنَاتُه تَعُمّه.
فقال سنان: يا أمير المؤمنين:
استَبْقِني إلى الصّبَاحِ أعتَذِرْ ... إنّ لسَاني بالشّرَابِ مُنكَسِرْ.
فارِسُكَ الكَلبيُّ في يوْمٍ نَكِرٌ، ... فإنْ يكُنْ أذنَبَ ذَنباً أوْ عَثَرْ.
فَالسّيّدُ العَافي أحَقُّ مَنْ غَفَرْ.
فقال سليمان: أعلي تجترئ يا سنان! أما إني لا أقتلك، ولكني سأنكل بك نكالاً يؤنبك من تفحلك. فأمر به فخصي، فسمي ذلك الدير دير الخصيان.
تقتل حفاظاً على عرضها
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني إسحاق بن محمد قال: حدثنا محمد بن زياد الأعرابي قال:
نزل رجل من العرب بامرأة من باهلة، وليس عندها زوجها، فأكرمته وفرشته، فلما لم ير عندها أحداً سامها نفسها، فلما خشيته قالت له: امكث، أستصلح لك، ثم راحت فأخذت مديةً، فأخفتها ثم أقبلت إليه، فلما رآها ثار إليها فضربت بها في نحره، فلما رأت الدم سقطت مغشياً عليها، وسقط هو ميتا، فأتاها آتٍ من أهلها فوجدها على تلك لحال، فأجلسها حتى أفاقت، فقال أعشى باهلة في ذلك:
لَعَمرِي لَقد حَفّتْ معَاذَةُ ضَيفَها ... وَسَوّتْ عَلَيْهِ مَهْدَهُ ثمّ بَرّتِ.
فَلَمّا بَغَاهَا نَفسَهَا غَضِبَتْ لهَا ... عرُوقٌ نمَتْ وَسطَ الثرَى فاستَقرّتِ.
وَشدّتْ على ذي مديَةِ الكَفّ مِعصَماً ... وَضِيئاً وَعَرّتُ نَفسَها فاستَمَرّتِ.
فأمّتْ بها في نحرِه وَهوَ يَبتَغي ال ... نّكَاحَ فَمَرّتْ في حَشَاهُ وَجَرّتِ.
فَثجّ كأنّ النيلَ في جَوْفِ صَدْرِهِ، ... وَأدْرَكَهَا ضُعْفُ النّسَاءِ فخَرّتِ.
هل يأتيكم نفسي
وأنشد لخالد الكاتب:
إني إذا لم أجد شخصاً لأرسله ... وضاق بي منتهى أمري وملتمسي
لمرسل زفرة من بعدها نفس، ... يا ليت شعري هل يأتيكم نفسي؟
المرأة الفاجرة والحية
حججت فإني لفي رفقة مع قوم إذ نزلت منزلاً ومعنا امرأة، فنامت، وانتهت، وحية منطوية عليها قد جمعت رأسها وذنبها بين ثدييها، فهالنا ذلك وارتحلنا، فلم تزل منطوية عليها لا تضرها، حتى دخلنا أنصاب الحرم فانسابت، فدخلنا مكة فقضينا نسكنا. فرآها الغريض فقال: أي شقية ما فعلت حيتك؟ قالت: في النار! فقال: ستعلمين من في النار؛ ولم أفهم ما أراد فظننت أنه مازحها، واشتقت إلى غنائه، ولم يكن بيني وبينه ما يوجب ذلك عليه، فأتيت بعض أهله، فسألته ذلك فقال: نعم، فوجه إليه أن اخرج بنا إلى موضع كذا وكذا، ثم قال لي: اركب بنا، فركبنا حتى سرنا قدر ميل، فإذا الغريض هناك، فنزلنا، فإذا طعام معد، وموضع حسن، فأكلنا وشربنا، ثم قال: يا أبا يزيد هات بعض طرائفك! فاندفع يغني، ويوقع بقضيب:
مرضت فلم تحفل علي جنوب، ... وأدنفت، والممشى إلي قريب
فلا يبعد الله الشباب وقولنا ... إذا ما صبونا صبوة سنتوب
فقلد سمعت شيئاً ظننت أن الجبال التي حولنا تنطق معه شجا صوت وطيب غناء، وقال لي: أتحب أن نزيدك؟ فقلت: إي والله، فقال له: هذا ضيفك وضيفنا، وقد رغب إليك وإلينا، فأسعفه بما يريد. فاندفع يغني بشعر مجنون بني عامر:
عفا الله عن ليلى الغداة، فإنها ... إذا وليت حكماً علي تجور
أأترك ليلى ليس بيني وبينها ... سوى ليلة؟ إني إذاً لصبور
فما عقلت بما غنى من حسنه، إلا بقول صاحبي: نجور عليك يا أبا يزيد، عرض بأني لما وليت الحكم عليه، جرت في سؤالي إياه أكثر من صوت. فقلت له، بعد ساعة، سراً: جعلت فداءك إني أريد المضي في أصحابي، نريد الرحلة، وقد أبطأت عليهم، فإن رأيت أن تسأله، حاطه الله من السوء والمكروه، أن يزيدني لحناً واحداً، فقال: يا أبا يزيد! أتعلم ما هو أشهى إلى ضيفنا؟ قال: نعم، أرادك على أن تكلمني في أن أغنيه. قلت: فهو والله ذاك، فاندفع يغني:
خذي العفو مني تستديمي مودتي، ... ولا تنطقي في سورتي حين أغضب
فإني رأيت الحب في الصدر والأذى ... إذا اجتمعنا، لم يلبث الحب يذهب
فقال له: قد أخذنا العفو منك، واستدمنا مودتك، ثم أقبل علينا فقال: ألا أحدثكم بحديث حسن؟ قلنا: بلى! فقال: قال شيخ من أهل العلم وبقية الناس وصاحب علي بن أبي طالب، وخليفة عبد الله بن عباس على البصرة، أبو الأسود الدؤلي لابنته ليلة البناء: أي بنية! النساء كن بوصيتك وتأديبك أحق مني، ولكن لابد مما لابد منه، يا بنية: إن أطيب الطيب الماء، وأحسن الحسن الدهن، وأحلى الحلاوة الكحل.
يا بنية لا تكثري مباشرة زوجك فيملك، ولا تتباعدي عنه فيجفوك، ويعتل عليك. وكوني كما قلت لأمك:
خُذي العفوَ مني تستديمي موَدّتي ... ولا تَنطِقي في سَوْرَتي حينَ أغضَبُ.
فإني رأيتُ الحُبّ في الصّدرِ والأذى ... إذا اجتَمعَا لم يلبَثِ الحُبُّ يذهبُ.


فقلت له: فديتك ما أدري غناؤك أحسن أم حديثك، والسلام عليك، ونهضت وركبت، وتخلف الغريض وصاحبه في موضعهما، وأتيت أصحابي وقد أبطأت، فرحلنا منصرفين، حتى إذا كنا في المكان الذي رأيت فيه الحية منطويةً على صدر المرأة، ونحن ذاهبون، رأيت الحية والمرأة وهي منطوية عليها فلم ألبث أن صفرت الحية فإذا الوادي يسيل علينا حيات، فنهشنها حتى بقيت عظاماً، فطال تعجبنا من ذلك، ورأينا ما لم نر مثله قط، فقلت لجارية كانت معنا: ويحك أخبرينا عن هذه المرأة! قالت: علقت ثلاث مرات، وكل مرة تلد ولداً، فإذا وضعته سجرت التنور، ثم ألقته فيه، فذكرت قول الغريض، حين سألها عن الحية فقالت في النار ستعلمين من في النار.
أبو نواس والغلام عند الحجر الأسود
وجدت بخط محمد بن نصر بن أحمد بن مالك يقول: حدثنا أبو بكر محمد بن الفضل بن قديد بن أفلح البزاز قال: حدثنا الحسن بكر بن أحمد بن الفرج بن عبد الرحيم بكازرون قال: حدثنا عباد قال: قال الأصمعي: كنت مع أبي نواس بمكة، فإذا أنا بغلام أمرد يستلم الحجر، فقال لي أبو نواس: والله لا أبرح حتى أقبله عند الحجر، فقلت: ويلك! اتق الله، عز وجل، فإنك في بلد الله الحرام، وعند بيته. فقال: ما منه بد. ثم دنا من الحجر، وجاء الغلام يستلمه فبادر أبو نواس، فوضع خده على خد الغلام، وقبله، والله، وأنا أرى فقلت: ويلك لقد ارتكبت أمراً عظيماً في حرم الله تعالى. فقال: دع ذا عنك فإن ربي رحيم، ثم أنشأ يقول:
وعاشِقَانِ التَفّ خَدّاهُمَا ... عندَ استِلامِ الحَجَرِ الأسوَدِ.
فاشتَفَيا مِنْ غيرِ أنْ يَأتئمَا ... كأنّما كانا على مَوْعِدِ.
الزاغ الشاعر العاشق
أخبرنا علي بن محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الجريري قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني أبو علي محرز بن أحمد الكاتب.
قال: حدثني محمد بن مسلم السعدي قال: وجه إلي يحيى بن أكثم يوماً، فصرت إليه، وإذا عن يمينه قمطرة مجلدة، فجلست، فقال: افتح هذه القمطرة، ففتحتها، فإذا شيء قد خرج منها، رأسه رأس إنسان، وهو من سرته إلى أسفله خلقة زاغ، وفي صدره وظهره سلعتان، فكبرت وهللت، وفزعت، ويحيى يضحك، فقال لي بلسان فصيح طلق ذلق:
أنا الزّاغُ أبو عَجْوَه ... أنا ابنُ اللّيْثِ واللّبوَه.
أُحِبّ الرّاحَ والرَّيْحَا ... نَ والنّشوَةَ وَالقَهوَه.
فلا عَدْوَ يدي يُخشى ... ولا يُحذرُ لي سَطْوَه.
ولي أشيَاءُ تُستَط ... رَفُ يَوْمَ العِرْسِ والدَّعوَه.
فَمِنها سِلْعَةٌ في الظَهْ ... رِ لا تسترُها الفَرْوَه.
وَأمّا السِّلعَةُ الأخرَى ... فلَوْ كانَتْ لهَا عُرْوَه.
لمَا شَكّ جَميعُ الناسِ في ... هَا أنّهَا رَكْوَه.
ثم قال: يا كهل أنشدني شعراً غزلاً! فقال لي يحيى: قد أنشدك الزاغ، فأنشده، فأنشدته:
أغَرّكَ أنْ أذنَبْتَ ثُمّ تَتابَعتْ ... ذنوبٌ، فلَم أهجُرْكَ، ثُمّ ذنوبُ.
وأكثرْتَ حتى قلتَ ليسَ بصارمي ... وقدْ يَصرِمُ الإنْسانُ وهوَ حبيبُ.
فصاح: زاغ زاغ زاغ، وطار، ثم سقط في القمطرة. فقلت ليحيى: أعز الله القاضي، وعاشق أيضاً! فضحك. قلت: أيها القاضي! ما هذا؟ قال: هو ما تراه، وجه به صاحب اليمن إلى أمير المؤمنين، وما رآه بعد، وكتب كتاباً لم أفضضه، وأظن أنه ذكر في الكتاب شأنه وحاله.
الزاغ في رواية أخرى
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدثنا جحظة قال: أخبرني بعض بني الرضا قال: قال علي بن محمد: دخلت على أحمد بن أبي دؤاد، وعن يمينه قمطر مجلد، فقال لي: اكشف وانظر العجب! فكشفت، فخرج علي رجل طوله شبر، من وسطه إلى أعلاه رجل، ومن وسطه إلى أسفل صورة الزاغ ذنباً ورجلاً، فقال لي: من أنت؟ فانتسبت له، فسألته عن اسمه فقال:
أنا الزّاغُ أبو عَجوَه ... حليفُ الخمرِ والقَهوَه.

ولي أشيَاءُ تُستَط ... رَفُ يَوْمَ العِرْسِ والدّعْوَه.
فمِنها سِلعَةٌ في الظّهْ ... رِ لا تَستُرُهَا الفَرْوَه.
ومِنها سِلعَةٌ في الصّدْ ... رِ لَوْ كانَ لها عُرْوَه.
لمَا شكّ جميعُ الناسِ حَ ... قّاً أنّها رَكْوَه.
ثم قال: أنشدني شيئاً في الغزل، فأنشدته:
وَلَيلٍ في جَوَانِبِهِ فُضُولٌ ... مِنَ الإظلامِ أطلسَ غيهَباني.
كأنّ نجومَهُ دَمْعٌ حَبِيسٌ ... ترَقرَقَ بينَ أجفانِ الغَوَاني.
فصاح: وا أبي، وا أمي! ورجع إلى القمطر، وستر نفسه. فقال ابن أبي دؤاد: وعاشق أيضاً!
البلبل الناطق
أخبرنا القاضي أبو علي زيد بن أبي حيويه بتنيس سنة خمس وخمسين وأربعمائة بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد الحسن بن عمر بن علي بن زريق الجلباني قال: حدثنا أبو الفرج محمد بن سعيد بن عمران قال:حدثنا أبو بكر أحمد بن عليل بن محمد المطيري الحافظ قال: حدثنا سليمان بن عبد الملك قال: حدثنا مروان بن دؤالة قال: حدثنا الحارث بن عطية عن موسى بن عبيدة عن عطاء في قوله: ولقد همت به وهم بها. قال: كان لها بلبل في قفص، إذا نظر إليها صفر لها، فلما رآها قد دعت يوسف، عليه السلام، إلى نفسها، ناداه بالعبرانية: يا يوسف لا تزن، فإن الطير فينا إذا زنى تناثر ريشه.
عزة وكثير
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد قال: حدثنا محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني يزيد بن محمد قال: أخبرني محمد بن سلام الجمحي قال: أرادت عزة أن يعرف ما لها عند كثير فتنكرت له، وقامت به متعرضة، فقام فاتبعها، فكلمها، فقالت له: فأين حبك عزة؟ فقال: أنا الفداء لك، لو أن عزة أمة لي لوهبتها لك. قالت: ويحك! لا تفعل، فقد بلغني أنها لك في صدق المودة، ومحض المحبة والهوى على حسب الذي كنت تبدي لها من ذلك وأكثر ، وبعد، فاين قولك:
إذا وَصَلَتنا خِلّةٌ كي نُزيلَها ... أبَينا، وقلنا: الحاجِبِيّةُ أوّلُ.
فقال كثير: بأبي أنت وأمي! أقصري عن ذكرها، واسمعي ما أقول، ثم قال:
ما وَصْلُ عَزّةَ إلاّ وَصْلُ غانيَةٍ ... في وَصْلِ غانيَةٍ من وصلها خَلَفُ.
ثم قال: هل لك في المخالة؟ فقالت له: كيف بما قلت في عزة وسيرته لها؟ فقال: أقبله فيتحول إليك، ويصير لك. قال: فسفرت عن وجهها، عند ذلك، وقالت: أغدراً وانتكاثاً يا فاسق؟ وإنك لها هنا، يا عدو الله! فبهت وأبلس ولم ينطق، وتحير وخجل، ثم إنها عرفته أمرها ونكثه وغدره بها، وأعلمته سوء فعاله، وقلة حفاظه، ونقضه للعهد والميثاق، ثم قالت: قاتل الله جميلاً حيث يقول:
لحَى اللهُ مَن لا يَنفَعُ الوِدُّ عِندَهُ، ... ومَن حَبلُهُ إنْ مُدّ غيرُ متينِ.
وَمَن هوَ ذو وَجهَينِ ليسَ بدائِمٍ ... على العَهدِ حلاّفٌ بِكلّ يمِينِ.
قال: فأنشأ كثير يقول بانخزالٍ وحصر وانكسار، يعتذر إليها، ويتنصل مما كان منه، ويحتال في دفع زلته، متمثلاً بقول جميل، ويقال: بل سرقه من جميل وانتحله لنفسه فقال:
ألا لَيتني قبلَ الذي قلتُ شِيبَ لي ... من المُذعِفِ القاضي سِمامُ الذَّرَارِحِ.
فَمُتّ ولمْ تَعلَمْ عليّ خِيَانَةً، ... ألا رُبّ باغي الرِّبْحِ ليْسَ برَابِحِ.
فَلا تحمِليهَا واجْعلِيها خِيَانَةً، ... تَروّحتُ منها في مياحةِ مائِحِ.
أبوءُ بذَنبي أنّني قَدْ ظَلَمْتُها، ... وإني بِباقي سِرِّهَا غيرُ بائِحِ.
يرى الدم حلالاً
ولي، وهما بيتان لا غير:
إنّ في الجِيرَةِ الذينَ استَقَلّوا ... من زَرُودٍ، وبطنَ وجرةَ حلّوا.
لَغزَالاً يرَى دِماءَ محِبّي ... هِ حَلالاً لهُ، وما الدمُ حِلُّ.
هبني لا أبوح
أخبرنا أحمد بن علي بن ثابت بالشام قال: أخبرنا أبو القسم عبيد الله بن أحمد الصيرفي قال: أخبرنا أبو بكر بن شاذان قال: أنشدنا أبو عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة النحوي قال: أنشدني بعض أصحابنا:

جَعَلْتُ مَحلّةَ البَلَوى فُؤادي، ... وَسَلّطتُ السُّهادَ على رُقادي.
ونِمتَ مُوَدِّعاً وَسهِرْتُ لَيلاً، ... أما استَحيا رُقادُكَ من سُهادي؟
فَهبَني لا أبوحُ بِمَا أُلاقي، ... ألَيسَ الشَّوْقُ من كَبِدي يُنَادي؟.
ما كان قلبي حاضراً
أنشدنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أنشدني قاضي القضاة أبو عبد الله الحسين بن علي بن جعفر بن ماكولا لأبي بكر الخوارزمي الطبري من طبرية الشام من تشبيب قصيدة في الصاحب أبي القاسم عباد:
يَفُلُّ غداً جيشُ النَّوَى عسكرَ اللِّقا ... فرَأيُكَ في سَحّ الدموعِ مُوَفَّقَا.
وَلمّا رَأيْتُ الإلفَ يَعْزِمُ للنّوَى ... عزَمتُ على الأجفانِ أن تَتَرَقرَقَا.
وخُذ حجّتي في ترْكِ جِسميَ سالماً ... وقلبي، ومن حقَّيِهما أن يُخَرَّقَا.
يدي ضَعُفَتْ عن أن تُخَرّقَ جيَبَها، ... وما كان قلبي حاضراً فيَمُزَقَّا.
لم يبق إلا نفس خافت
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، رحمه الله، سنة أربع وأربعمائة بقراءتي عليه، قلت له: قرأت على أبي علي الحسن بن حفص بن الحسن البهراني ببيت المقدس قلت: أخبركم أبو سليمان حمد بن محمد بن إبراهيم الخطابي قال: حدثنا عبد الله بن موسى قال: سمعت الحسن الصوفي الأذربيجاني يقول: حضرنا ببغداد في جماعة من الفقراء مجلس سماع، فتواجد بعض المشايخ، قال: فقمنا إليه وقلنا، كيف تجدك، أيدك الله؟ فقال:
لم يَبقَ إلاّ نَفَسٌ خافِتُ، ... ومُقلَةٌ إنسانُها باهِتُ.
ذابَ فما في الجسمِ من مفصِلٍ، ... إلاّ وَفيهِ سَقَمٌ ثابِتُ.
عَدُوّهُ يَبكي لَهُ رَحْمَةً، وحسبُكم، من راحمٍ، شامتُ.
فَعيُنُه تَبكي، وأحْشاؤه ... تضْحَكُ، إلاّ أنّه ساكتُ.

ثغر يقرع ثغراً
أخبرني أبو عبد الله الصوري قال: قرأت على أبي القاسم علي بن عمر بن جعفر الشيخ الصالح، رحمه الله، بالرملة قلت له: أنشدكم أبو القاسم علي بن محمد بن زكيرا بن يحيى الفقيه لبعضهم:
إذا نحنُ خِفنَا الكاشِحينَ، فلمْ نُطِقْ ... كلاماً، تَكَلّمنا بأعيُنِنا شَزْرَا.
نَصُدّ، إذا ما كاشِحٌ مالَ طرْفَهُ ... إلَينا، ونُبدي ظاهِراً بينَنَا هَجْرَا.
فإنْ غَفَلوا عنّا رَأيْتَ خُدُودَنَا ... تَصافَحُ، أوْ ثَغراً قَرَعنَا بهِ ثَغْرَا.
ولَوْ قَذَفَتْ أجسادُنَا ما تَضَمّنَتْ ... من الضّرِّ والبَلوَى إذاً قذفتْ جَمرَا.
ابنة أبي ربيعة وأبو مسهر
أخبرنا أبو طاهر بن السواق أحمد بن علي قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: كتب إلي أبو علي الحسن بن عليل العنزي، ثم لقيته بعد ذلك، فحدثني به قال: حدثني أبو شراعة القيسي قال: حدثنا شيبان بن مالك قال: قال حماد الراوية: أتيت مكة فجلست في حلقة فيها عمر بن أبي ربيعة، فتذاكروا العذريين وعشقهم وصبابتهم، فقال عمر: أحدثكم عن بعض ذلك: إنه كان لي خليل من عذرة، وكان مستهتراً بحديث النساء، يشبب بهن، وينشد فيهن على أنه لا عاهر الحلة ولا سريع السلوة، وكان يوافي الموسم كل سنة، فإذا أبطأ ترجمت له الأخبار، وتوكفت له السفار، حتى يقدم، وإنه راث عني ذات سنة خبره، وقدم وفد عذرة، فأتيت القوم أنشد عن صاحبي، فغذا غلام قد تنفس الصعداء ثم قال: عن أبي المسهر تسأل؟ قلت: عنه نشدت وإياه أردت. قال: هيهات أصبح، والله، أبو مسهر لا مؤيساً منه فيهمل، ولا مرجواً فيعلل، أصبح والله كما قال:
لَعَمرُكَ ما حبّي لأسماءَ تاركي ... صحيحاً، ولا أَقضي به فأموتُ.
قال قلت: وما الذي به؟ قال: به مثل الذي بك من طول تهكمكما في الضلال، وجركما أذيال الحسار، كأن لم تسمعا بجنة ولا نار. قال قلت: من أنت منه يا ابن أخي؟ قال: أنا أخوه. قال قلت: والله ما يمنعك من أن تركب طريق أخيك التي ركبها، وتسلك مسلكه الذي سلك، إلا أنك وأخاك كالوشي والبجادن لا يرقعك ولا ترقعه، ثم انطلقت وأنا أقول:

أرَائِحَةٌ حُجّاجُ عُذرَةَ روحةً، ... ولمّا يَرُحْ في القوْم جَعدُ بنُ مَهجَعِ.
خليلينِ نشكو ما نلاقي من الهوَى، ... فتىً ما أقُلْ يسمَعُ وإن قالَ أسمَعِ.
فلا يُبعِدَنْكَ اللهُ خِلاً، فإنّني ... سألقى كما لاقَيْتَ في الحُبّ مصرَعي.
فلما حججت وقفت في الموضع الذي كنت أنا وهو نقف فيه بعرفات، وإذا أنا براكب قد أقبل حتى وقف، وقد تغير لونه وساءت هيئته، فما عرفته إلا بناقته، فإقبل حتى خالف بين عنق ناقتي وناقته، ثم اعتنقني وجعل يبكي. فقلت: ما الذي دهاك وما غا لك؟ فقال: برح العذل وطول المطل، ثم أنشأ يقول:
لئِنْ كانتْ عديلةُ ذاتَ بَثٍّ ... لَقَد عَلِمَتْ بأنّ الحُبّ داءُ.
ألَمْ تَنظُرْ إلى تغييرِ جِسْمي، ... وإني لا يُزَايِلُني البُكَاءُ.
وأني لَوْ تَكَلّفْتُ الذي بي ... لعَفّى الكَلْمُ وانكشَفَ الغِطاءُ.
وإنّ مَعاشِري وَرِجالَ قَوْمي ... حُتُوفُهُمُ الصَّبَابَةُ وَالِّلَقاءُ.
إذا العُذرِيّ ماتَ بحَتْفِ أنْفٍ، ... فَذاكَ العَبدُ يَبكِيهِ الرِّشاءُ.
فقلت: يا أبا مسهر! إنها ساعة عظيمة، وإنك في جمعٍ من أقطار الأرض، ولو دعوت كنت قميناً أن تظفر بحاجتك، وأن تنصر على عدوك. قال: فجعل يدعو حتى إذا تدلت الشمس للغروب وهم الناس بأن يفيضوا سمعته يهمهم، فأضحت له مستمعاً، فإذا هو يقول:
يا رَبَّ كلِّ غدوَةٍ وَرَوْحه، ... من مُحرِمٍ يشكو الضّحى ولُوحه.
أنتَ حسيبُ الخَطبِ يوْمَ الدَّوحه.
فقلت له: وما يوم الدوحة؟ قال: سأخبرك إن شاء الله! إني امرؤ ذو مالٍ كثيرٍ من نعم وشاءن وإني خشيت على مالي التلف، فأتيت أخوالي من كلبٍ، فأوسعوا لي عن صدر المجلس وسقوني بجمة البئر، فكانوا خير أخوال حتى هممت بمواقعة إبل لي بماء يقال له الخرزات، فركبت وتعلقت معي شراباً كان أهداه إلي بعض الكلبيين، وانطلقت، حتى إذا كنت بين الحي ومرعى النعم، ورفعت لي دوحة عظيمة، فقلت: لو نزلت تحت هذه الشجرة، وتروحت مبرداً؟ فنزلت فشددت فرسي بغصنٍ من أغصانها ثم جلست تحتها، فإذا بغبار قد سطع، فتبينت فبدت لي شخوص ثلاثة، فإذا رجل يطرد مسحلاً وأتانا، فلما قرب مني إذا عليه درع أصفر وعمامة خر سوداء، وإذا هو تنال فروع شعره كتفيه، فقلت في نفسي: غلام حديث عهدٍ بعرس، فأعجلته لذة الصيد فنسي ثوبه وأخذ ثوب امراته. فما لبث أن لحق بالمسحل فصرعه ثم ثنى طعنة الأتان فصرعها، ثم أقبل، وهو يقول:
نَطْعَنُهُم سُلكى وَمخلوجَةً ... كَرَّكَ لأمينِ عَلى نابِلِ.
قال فقلت: إنك قد تعبت وأتعبت. فلو نزلت. فثنى رجله فنزل فشد فرسه بغصن من أغصان الشجرة ثم أقبل حتى جلس قريباً مني، فجعل يحدثني حديثاً ذكرت به قول الشاعر:
وَإنّ حَديثاً مِنْكِ، لو تَبذُلينَه، ... جنى النحلِ في ألبانِ عَودٍ مَطافِلِ.
قال: فبينا هو كذلك إذ حك بالسوط على ثنيته، فرأيت، والله، يا ابن أبي ربيعة ظل السوط بينهما، فما ملكت نفسي أن قبضت على السوط فقلت: مه! فقال: ولم؟ قلت: إني أخاف أن تكسرهما، فإنهما رقيقتان. قال: هما عذبتان، ثم رفع عقيرته فجعل يغني:
إذا قَبّلَ الإنْسانُ آخرَ يَشْتَهي ... ثَنَاياهُ لم يَأثَمْ وكانَ له أجْرَا.
فإن زَادَ زادَ اللهُ في حَسَنَاتِهِ ... مَثاقِيلَ يمحو اللهُ عنه بها الوِزْرَا.
ثم قال لي: ما هذا الذي تعلقت في سرجك؟ قلت: شراب أهداه إلي بعض أهلط، فهل لك فيه؟ قال: وما أكرهه. فأتيته به فوضعه بيني وبينه، فلما شرب منه شيئاً نظرت إلى عينيه كأنهما عينا مهاة، قد أضلت ولداً، أو ذعرها قانص، فعلم أين نظري، فرفع عقيرته يغني:
إنّ العُيونَ التي في طَرْفِها حَوَرٌ ... قَتَلْنَنَا ثُمّ لَمْ يُحيينَ قتلانا.
يصرَعْنَ ذا الُّلبِّ حتى لا حَرَاكَ بِهِ، ... وهُنّ أضْعَفُ خَلقِ اللهِ أركانا.
فقلت له: من أين لك هذا الشعر؟ قال: وقع رجل منا باليمامة وأنشدنيه، ثم قمت لأصلح شيئاً من أمر فرسي، فرجعت وقد جر العمامة عن رأسه، وإذا غلام كأنه الدينار المنقوش، فقلت: سبحانك اللهم ما أعظم قدرتك وأحسن صنعتك! قال: كيف قلت ذاك؟ قلت: مما راعني من نورك وبهرني من جمالك. قال: وما الذي يروعك من زرق الدواب وحبيس التراب، ثم لا تدري أينعم بعد ذلك أم ييأس.
ثم قال إلى فرسه، فلما أقبل برقت لي بارقة الدرع، فإذا ثدي كأنه حق. قلت: نشدتك الله أإمرأة؟ قال: إي، والله، امرأة تكره العهر، وتحب الغزل. قلت: والله وإنا كذلك. قال: فجلست تحدثني، ما أفقد من أنسها حتى مالت على الدوحة سكراً، واستحسنت والله، يا ابن أبي ربيعة الغدر، وزين في عيني، ثم إن الله، عز وجل، عصمني بمنه، فجلست منها حجرة، فما لبثت أن انتبهت مذعورة، فلاثت عمامتها برأسها، وأخذت الرمح، وجالت في متن فرسها، فقلت: أما تزوديني منك زاداً؟ فأعطتني ثيابها، فشممت منها كالنبات الممطور، ثم قلت: أين الموعد؟ فقالت: إن لي أخوة شرسين، وأباً غيوراً، والله لأن أسرك أحب إلي من أن أضرك. قال: ثم مضت، فكان آخر العهد بها إلى يومي هذا فهي، والله، التي بلغت بي ما تراه من هذا المبلغ، وأحلتني هذا المحل.
قال قلت: وأنت والله يا أبا مسهر ما استحسن الغدر إلا بك، فإذا قد اخضلت لحيته بدموعه. قال قلت: والله ما قلت لك ذلك إلا مازحاً، وداخلتني له رقة، فلما انقضى الموسم، شددت على ناقتي، وشد على ناقته، وحملت غلاماً لي على بعير، وحملت عليه قبة أدم خضراء كانت لأبي ربيعة، وأخذت معي ألف دينار ومطرف خز، ثم خرجت حتى أتينا كلباً، فإذا الشيخ في نادي قومه، فأتيته، فسلمت عليه، فقال: وعليك السلام، من أنت؟ قلت: عمر بن أبي ربيعة بن المغيرة المخزومي. قال: المعروف غير المجهول، فما الذي جاء بك؟ فقلت: جئت خاطباً. قال: أنت الكفؤ لا يرغب عن حسبه، والرجل لا يرد عن حاجته.
قال قلت: إني لم آتك في نفسي، وإن كنت موضع الرغبة، ولكت أتيتكم لابن أختكم العذري.
قال: والله إنه لكفيء الحسب كريم المنصب، غير أن بناتي لم يقعن إلا في الحي من قريش.
قال: فعرف الجزع من ذلك في وجهي، فقال: أما إني لم أصنع بك شيئاً لم أصنعه بغيرك، أخيرها ما اختارت.
قال قلت له: والله ما أنصفتني. قال: وكيف ذاك؟ قال: كنت تختار لغيري، ووليت الخيار لي غيرك.
فأومأ إلي صاحبي أن دعه يخيرها. قلت: خيرها.
فأرسل إليها أن من الأمر كذا وكذا، فارتإي رأيك. قال: فأرسلت إليه: ما كنت أستبد برأي دون القرشي، أما الخيار فخياري ما اختار.
قال: قد صيرت الأمر إليك. فحمدت الله تعالى وصليت على نبيه، وقلت: قد زوجته الجعد بن مهجع، وأصدقتها هذه الألف دينار وجعلت تكرمتها العبد والقبة، وكسوت الشيخ المطرف، فقبله وسر به، وسألته أن يبني بها من ليلته، فأجابني إلى ذلك، وضربت القبة وسط الحي وأهديت إليه ليلاً وبت عند الشيخ خير مبيتٍ. فلما أصبحت غدوت، فقمت بباب القبة، فخرج إلي وقد تبين الجذل في وجهه. قال: فقلت له: كيف كنت بعدي، وكيف هي بعدك؟ فقال: أبدت لي كثيراً مما أخفت يوم رأيتها. فقلت: ما حملك على ذلك؟ فأنشأ يقول:
كَتَمتَ الهَوَى إني رأيتُكَ جازِعاً ... فقلتُ فتىً بعضَ الصّديقِ يُرِيدُ.
وَإنْ تطرَحَنّي أوْ تقولُ: فَتِيّةٌ ... يُضِرّ بها بَرْحُ الهَوَى فَتَعودُ.
فَوَرّيتُ عمّا بي وفي الكَبِد الحشا ... منَ الوَجْد بَرْحٌ، فاعلَمَنّ، شَديدُ.
قال فقلت: أقم على أهلك، بارك الله لك! وانطلقت إلى أهلي، وأنا أقول:
كَفَيتُ أخي العُذرِيَّ ما كانَ نابَهُ ... وَمِثلي لأثقالِ النَّوائِبِ أحْمَلُ.
أما استَحسَنت مني المكارِمُ والعُلى، ... إذا اطُّرِحَتْ، أني أقولُ وَأفْعَلُ.

ماني الموسوس وعائداته
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: حدثنا محمد بن خلف إجازة قال: أنشدت لماني:
سلي عَائِداتي كيف أبصَرْنَ كُرْبَتي، ... فإن قلتِ قد حابينني، فاسألي النّاسا.
فإنْ لم يقولوا مات، أوْ هُوَ مَيّتٌ، ... فزيدي إذاً قَلبي جُنوناً وَوَسوَاسَا.
من أشعار ماني
أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني إجازة قال: أخبرني المظفر بن يحيى قال: أخبرنا علي بن محمد قال: أنشدني ابن عروس لماني:
لم يَبقَ إلاّ نَفَسٌ خَافِتُ ... وَمُقلَةٌ إنْسانُها باهِتُ.
بلى، وما في جسمه مَفْصِلٌ ... إلاّ وفيهِ سَقَمٌ ثابِتُ.
فدمْعُهُ يجري وأحشاؤه ... تُوقَدُ إلاّ أنّهُ سَاكِتُ.
وله، أعني ماني:
مُعَذَّبُ القَلبِ بالفِرَاقِ ... قدْ بَلَغَتْ نفسُه التراقي.
وَذابَ شَوْقاً إلى غَزَالٍ ... أوضَعَ للبَينِ بانْطِلاقِ.
لم يُبْقِ منهُ السَّقامُ إلاّ ... جِلداً على أعْظُمٍ رِقَاقِ.
لَوْلا تَسَلّيه بالتّبَكّي ... آذَنَتِ النّفْسُ بالفِرَاقِ.
لحى الله يوم البين
ولي من أثناء قصيدة:
لحى يوْمَ البَينِ كم دمٍ عاشِقٍ ... أرَاقوا بهِ لا يطلُبونَ بِثَارِهِ.
وَعاذِلَةٍ أضْحَتْ تَلُومُ على الهَوَى ... أخا لَوْعَةٍ لمّا يُفِقْ مِن خُمارِه.
ومنها:
وأغيَدَ في جيشٍ من الحُسن أفتدي ... لمَاهُ وَعَينَيهِ وَخَطّ عِذارِه.
حكى الظبيَ ظبيَ الرّملِ جِيداً ومُقلَةً، ... فيَا ليتَهُ لم يحكِهِ في نِفارِهِ.

لروعات الحب نيران
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الآبنوسي ونقلته من خطه قال: حدثنا علي بن عبد الله بن المغيرة أبو محمد الجوهري قال: حدثنا أبو بكر محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن قال: حدثنا عمي عن أبيه قال: سمعت أعرابياً يقول: اشرحوا الرأي عند الهوى، وافطموا النفوس عند الصبي، ولقد تصدعت كبدي للعاشقين من لوم العاذلين، ولروعات الحب نيران على أكبادهم مع دموع على الغواين كغروب السواني.

ذو الرمة وميّ
أخبرنا أبو طالب محمد بن علي البيضاوي بقراءتي عليه من أصل أبي بكر بن شاذان، وفيه سماعه، قال: أخبرنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: قرأ على أبي عبد الله إبراهيم بن محمد بن عرفة نفطويه.
قال ذو الرمة:
عَدَتني العوَادي عنكِ يا ميُّ بُرْهَةً ... وقد يَلتَوي دونَ الحبِيبِ فيَهجُر.
عَلى أنّني في كُلّ سَيرٍ أسيرُهُ، ... وفي نَظَري مِنْ نحوِ أرْضِكِ أصْدُرُ.
فَمَا تُحدِثُ الأيّامُ يا ميُّ بَينَنَا ... فلا نأثُرَنْ سِرّاً ولا تَتَغَيّر.

اقرأ السلام
وأنشد نفطويه لآخر:
اقرَأ السّلامَ على مَن كنتَ تألفُه، ... وقُل له: قد أذَقتَ القلبَ ما خَافَا.
فَما وجدتُ على إلفٍ فُجِعتُ بِهِ ... وجدي علَيكَ، وَقَد فارَقْتُ أُلاّفا.

أيهما أصدق عشقاً
أنبأنا القاضي الإمام أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري قال: حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: حدثنا محمد بن عائشة قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من بني عامر بن لؤي ما رأيت بالحجاز أعلم منه: حدثني كثير أنه وقف على جماعة يفيضون فيه وفي جميل، وفي أيهما أصدق عشقاً، ولم يكونوا يعرفومه بوجهه، ففضلوا جميلاً في عشقه، فقلت لهم: ظلمتم كثيراً، كيف يكون جميل أصدق عشقاً من كثير، ولما أتاه عن بثينة بعض ما يكره قال:
رَمى الله في عينَي بُثَينَةَ بالقَذى، ... وفي الغُرّ من أنيابها بالقوادِحِ.
والقوادح ما بنقبها ويعيبها، وكثير أتاه عن عزة ما يكره فقال:
هَنيئاً مَرِيئاً غَيرَ داءٍ مخامِرٍ ... لعَزّةَ من أعرَاضِنا ما استَحلّتِ.
قال: فما انصرفوا إلا على تفضيلي.

يزيد بن عبد الملك وحبابة
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد اللأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا العباس بن الحسين الفارسي ببغداد قال: حدثنا علي بن الحسين بن أحمد الكاتب قال: حدثنا إسماعيل بن محمد الشيعي من شيعة بني العباس قال: حدثنا عمر بن شبة عن أبي إسحاق قال: بلغني أن جاريةً غنت بين يدي يزيد بن عبد الملك:
وإني لأهوَاهَا وأهوَى لِقَاءَهَا ... كما يشتهي الصّادي الشرَابَ المبرَّدا.
فراسلتها سلامة فغنت:
عَلاقَةُ حُبٍّ كانَ في سنن الصِّبا، ... فأبْلى، وما يزداد إلاّ تجدّدا.
فغنت حبابة:
كَريمُ قُرَيشٍ حينَ يُنسَبُ والذي ... أُقِرَّ لَهُ بالفضْلِ، كَهْلاً وأمْرَدا.
فراسلتها سلامة فغنت:
ترْوي بمجدٍ من أبِيهِ وَجَدِّه ... وَقد أوْرَثَا بُنْيَانَ مجْدٍ مُشَيَّدا.
فطرب سزسد وشق حلة كانت عليه حتى سقطت في الأرض ثم قال: أفنأذنان لي في أن أطير؟ قالت له حبابة: على من تدع الأمة؟ قال: عليك.

أبو السائب وشعر جرير
وبإسناده قال علي بن عمر بن أبي الأزهر قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا محمد بن حسن قال: أنشد إنسان أبا السائب القاضي قول جرير:
غَيّضْنَ من عَبَرَاتِهِنّ، وقُلنَ لي: ... ماذا لَقِيتَ منَ الهَوَى ولَقِينَا؟
وهو على بئر فطرح في البئر بثيابه.

عمر الوادي والراعي
أخبرنا أبو بكر الأردستاني بمكة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: حدثنا يوسف بن عمر الزاهد قال: حدثنا جعفر بن محمد بن نصير قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا مؤمل بن طالوت قال: حدثنا مكين العذري قال: سمعت عمر الوادي قال: بينا أنا أسير بين العرج والسقيا إذ سمعت رجلاً يتغنى بيتين لم أسمع بمثلهما قط، وهما:
وكُنتُ إذا ما جِئتُ سُعدى بأرْضِهَا ... أرَى الأرضَ تُطَوى لي ويدنو بعيدُها.
من الحَفِرَاتِ البِيضِ ودَّ جليسُها ... إذا ما انقَضَتْ أُحدوثَةٌ لو تعيدها.
قال: فكدت أسقط عن راحلتي طرباً، فسمت سمته، فإذا هو راعي غنم، فسألته إعادته، فقال: والله لو حضرني قرىً أقريكه ما أعدته، ولكني أجعله قراك الليلة، فإني ربما تغنيت بهما وأنا غرثان فأشبع، وظمآن فأروى، ومستوحش فآنس، وكسلان فأنشط، فاستعدته إياهما، فأعادهما حتى أخذتهما، فما كان زادي حتى وردت المدينة غيرهما.

من عشق فعف دخل الجنة
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم بن بيان قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا زكريا بن يحيى الكوفي قال: قال محمد بن حريث الشيباني عن أبيه عن أبي سعد البقال عن عكرمة عن ابن عباس قال: من عشق فعف فمات دخل الجنة.

قتل العاشق
ولي قطعة مفردة:
قل للظباء بذي الأرا ... ك إذا مررت بهن جائز.
ألكن قتل العاشقي ... ن محل في الشرع جائز.
أوعدتم فوفيتم، ... والوعد منكم غير ناجز.
إن الذي رحل الخليط ... بقلبه وأقام عاجز.
ألا تجشم في هواه ... إثرهم قطع المفاوز.
حتى يظل يجيبه ... قلقاً، ويمسي الطرف غامز.
أترى متى أنا منكم ... بوصالكم يا فوز فائز.
ولقد خلوت بها وأب ... عدت العذارى والعجائز.
ليلاً، فكان عفافنا ... ما بيننا والصون حاجز.
حاشا صحيح الحب يوْ ... ماً أن يقام مقام ماعز.
يريد ماعز بن مالك الذي أقر على نفسه بالزنا ورجمه النبي، صلى الله عليه وسلم.

سنان الصوفي والغلام
أخبرنا إبراهيم بن سعيد بمصر قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي الصوفي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي:
كنت مع سنان بن إبراهيم الصوفي فنظر إلى غلام فقال: الحمد لله على كل حال! كنا أحراراً بطاعته، فصرنا عبيداً بمعصيته لأاحاظ قد بلغت بنا جهد البلاء، وأسلمتنا إلى طول الضناء، فلبثنا مع بلائنا وطول ضنائنا لا نخسر الآخرة، كما تولت عنا الدنيا، ثم بكى، فقلت له: ما يبكيك؟ فقال: كيف لا أبكي، وأنا مقيم على غرورٍ ومتخوف من نزول محذور من نظر شاغل أو بلاء شامل أو سخط نازل، ثم شهق وسقط إلى الأرض.

قتيل القيان
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي إجازة قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا أبو حفص عمر بن بنان الأنماطي قال: حدثني الحسام بن قدامة المكي باليمن:
لا تَلُوما فُلانَ حينَ مَلامَه ... أقلَقَ الحبُّ نفسَهُ المُستَهامَه.
قَتَلتني بِشَكْلِهِنّ الجَوَاري، ... والجواري في شكلهنّ عرَامه.
فإذا متّ فاجمَعوا الحَرَمِيّ ... اتِ وصُفّوا مولَّدات اليمامَه.
وَذَوَاتِ الحَقائِبِ المَدَنِيّ ... اتِ ذَوَاتِ المَضَاحكِ البسّامه.
ثمّ قُوموا على الحجونِ، فقولوا: ... يا قَتيلَ القِيانِ، يا ابن قُدامَه.

لا سبيل إلى وصله
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري في ما أجاز لنا قال: حدثنا ابن روح قال: حدثنا القاضي أبو الفرج النهرواني قال: حدثنا محمد بن يحيى الصولي قال: أنشدنا محمد بن يزيد لأبي حيان الدارمي البصري في أبي تمام الهاشمي، وكان الدارمي يتهم به:
سباكَ من هاشِمٍ سَلِيلُ ... ليسَ إلى وَصْلِهِ سَبِيلُ.
مَن يتَعاطى الصّفاتِ فِيهِ، ... فالقوْلُ من وَصْفه فضُولُ.
للحسنِ في وَجهِهِ هِلالٌ ... لأعيُنِ الخَلقِ ما تزُولُ.
وَطُرّةٌ لا يَزَال فِيهَا ... لنُورِ بَدرِ الدّجى مَقيلُ.
وَلاحَظَتهُ العُيُونُ حَتى ... تشقى به الكاعبُ البتُولُ.
فإن يقِفْ، فالعُيونُ نُصْبٌ، ... وإنْ تَوَلّى، فهنّ حُولُ.

الواثق وشعر الدارمي
وبإسناده قال: أخبرنا المعافى قال: حدثنا عبد الله بن منصور الحارثي قال: حدثنا محمد بن زكريا الغلابي قال: حدثني الفضل ابن بنت أبي الهذيل قال: كنت مع جدي عند الواثق قبل أن يلي الخلافة، فتذاكروا الشعراء إلى أنشده أبو الهذيل:
برَزْنَ ، فلا ذو اللُّبِّ وفَرْنَ عَقْلُهُ ... عليه، ولم يُفصِحْ بِهِنّ مُريبُ.
يقول: استوى الناس في النظر إليهن. فقال: يا أبا الهذيل، شعر وقع إلي لا ادري لمن هو، يقول فيه:
مَا مَرّ في صَحْنِ قصرِ أوْسٍ، ... إلاّ تَسَجّى لَهُ قَتِيلُ.
فإنْ يَقِفْ، فَالعُيونُ نُصْبٌ، ... وإن تَوَلّى، فهَنُ ّحُولُ.
ما سمعت في هذا المعنى بأجود منه. فقال له: أصلح الله الأمير، هذا الشعر لرجلٍ بالبصرة يكنى بأبي حيان الدارمي، عمارة بن حيان، فقال: يحمل إلينا، فورد الكتاب وقد مات.

الغلام وجارية المهدي
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن بن محمد المكتفي بالله قال: حدثنا جحظة قال: حدثني ابن أخت الحاركي: أن خادماً ممن خدم أباه جاءه يخبره أن عند جاريةٍ في بعض قصوره رجلاً، فلبس حلةً وسار إلى إلى القصر، فألفى عندها غلاماً شاباً، له ذؤابتان، كأنه قضيب فضة، فسأله عن دخوله وكيف كان، وما شأنه. فقال: إن هذه الجارية كانت لوالدتي، وكان بيني وبينها ألفة، فلما بيعت لأمير المؤمنين، صرت إلى الباب متعرضاً لها، فأذنت في الدخول، فدخلت على أحد أمرين: إما أن أظفر بما أريد أو أقتل فأستريح.
فأمر المهدي بإحضار سياط، ونصبه بينها، ثم ضربه عشرين سوطاً، ورفع عنه الضرب وقال: ما أصنع بتعذيبك، ولست بتاركك حياً، ولا تاركها، يا غلام، سيف ونطع! فلما أتي بذلك، وأجلس الغلام في النطع قال: يا أمير المؤمنين! قبل أن ينزل بي القتل، وهو دون حقي، اسمع مني ما أقول! قال: هات، فأنشأ يقول:
ولَقد ذكرْتُكِ والسّياطُ تنوشُني ... عندَ الإمامِ وساعدي مَغلُولُ.
وَلَقَد ذكرْتُكِ والذي أنا عبدُه ... والسيفُ بينَ ذُؤابتي مَسلُولُ.
فأطرق المهدي وتغرغرت عيناه بالدموع. ثم قال: يا غلام، ائتني بإزار! فأتي به، فقال: الففهما به جميعاً، بعد أن تنزع ثيابهما، وأخرجهما عن قصري، ففعل ذلك.

سيد العشاق
حدث أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني أبو بكر العامري قال: حدثني أبو عبد الله القرشي وحدثنا الدمشقي عن الزبير قال: حدثني مصعب بن عبد الله الزبيري قال: عشق رجل من ولد سعيد بن العاص جاريةً مغنية بالمدينة، فهام بها، وهو لا يعلمها بذكل، ثم إنه ضجر فقال: والله لأبوحن لها، فأتاها عشيةً، فلما خرجت إليه، قال لها: بأبي أنت أتغنين:
أتُجْزُونَ بالودّ المُضاعَفِ مثلَه، ... فإنّ الكريم مَن جزَى الودَّ بالودِّ.
قالت: نعم، وأغني أحسن منهن ثم غنت:
للّذي وَدّنا الموَدّةُ بالضِّعْ ... فِ، وَفَضْلُ البادي بِهِ لا يُجازَى.
لَوْ بَدا ما بِنَا لَكُم ملأ الأر ... ضَ وأقطارَ شامِهَا والحِجَازَا.
فاتصل ما بينهما، فبلغ الخبر عمر بن عبد العزيز، وهو أمير المدينة، فابتاعها له و أهداها إليه، فمكثت عنده سنة ثم ماتت، فبقي مولاها شهراً أو أقل ثم مات كمداً عليها، فقال أبو السائب المخزومي: حمزة سيد الشهداء، وهذا سيد العشاق، فامضوا بنا حتى ننحر على قبره سبعين نحرة، كما كبر النبي، صلى الله عليه وسلم وآله وسلم، على قبر حمزة، رضي الله عنه، سبعين تكبيرة. قال: وبلغ أبا حازم الخبر، فقال: ما من محب في الله يبلغ هذا إلا وليّ.

قتيل الهجران
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الخياط قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله بن الحسن بمكة قال: حدثنا أحمد بن أبي عمران قال: سمعت أبا بكر الرازي قال: سمعت عبد الرحمن الصوفي يقول: كنت ببغداد في سوق النخاسين، فرأيت قوماً مجتمعين، فدنوت منهم، فرأيت شاباً مصروعاً مغشياً عليه، فقلت لواحد منهم: ما الذي أصابه؟ فقال: سمع آيةً من كتاب الله، عز وجل، فقلت: أية آيةٍ كانت؟ فقال: قوله، عز وجل: ألم يأن للذين آمنوا أن تخشع قلوبهم لذكر الله؟ قال: فلما سمع أفاق، وأنشأ يقول:
ألمْ يأنِ للهِجرَانِ أن يَتَصَرّما ... وللغُصْنِ، غُصْنِ البَانِ، أن يتبسّما.
وللعاشِقِ الصَّبّ الذي ذابَ وانحنى، ... أما آنَ أن يُبْكي عليهِ وَيُرْحَما.
كَتَبْتُ بِمَاءِ الشّوْقِ، بينَ جَوَانحي، ... كِتاباً حَكى نَقشَ الوُشاةِ مُنمنَما.

ولما شكوت الحب
أخبرنا عبد العزيز بن علي الطحان قال: أخبرنا علي بن عبد الله الهمذاني في المسجد الحرام قال: حدثني الجنيد قال: أرسلني سري في حاجةٍ يوماً فمضيت فقضيتها، فرجعت، فدفع رجل رقعة، وقال: ما في هذه الرقعة أجرتك لقضاء حاجتي، ففتحتها، فإذا فيها مكتوب:
وَلمّا شَكَوْتُ الحُبَّ قالَتْ كَذَبتني ... ألستُ أرَى مِنكَ العِظامَ كوَاسِيَا.
وَما الحُبُّ حتى يَلصَقَ الكِبدُ بالحَشا، ... وَتَخمُدَ حتى لا تجيبَ المُنادِيَا.
وَتَضْعُفَ حتى لا يُبَقّي لكَ الهوَى ... سوى مُقلَة تَبكي بها وَتُنَاجِيَا.


دماء أهل الهوى هدر
 
دماء أهل الهوى هدر
ولي من أثناء قصيدة:
لا تَطلُبوا بدمِ العشّاقِ طائَلةً، ... دماءُ أهلِ الهَوى مَطلولَةٌ هَدَرُ.

مواقع الأنفس
أنبأنا أبو بكر أحمد بن أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن عل بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثنا ابن عرفة النحوي عن محمد بن يزيد قال: قال أبو نواس:
يا نَظرَةً ساقَتْ إلى ناظِرٍ ... أسبابَ ما يدعو إلى حَتفِهِ.
من حُبِّ ظَبْيٍ حَسَنٍ دَلُّهُ ... يُقصّرُ الواصِفُ عن وَصْفِهِ.
في البَدرِ من صَفحتِه لمحَةٌ ... ولمحَةٌ في الظبيِ مِن طَرْفهِ.
موَاقِعُ الأنفُسِ في ثغرِهِ، ... وفي ثَنَاياهُ وفي كَفّهِ.

يجتمعان في القبر
ذكر أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان قال: حدثنا إبراهيم بن محمد قال: حدثنا الحسن بن محمد بن عيسى المقري قال: أخبرني محمد بن عبيد الله العتبي قال: حدثنا ابن المنبه قال: سمعت أبا الخطاب الأخفش يقول: خرجت في سفر فنزلنا على ماءٍ لطيء فبصرت بخيمة من بعيد فقصدت نحوها فإذا فيها شاب على فراشٍ كأنه الخيال، فأنشأ يقول:
ألا ما للحَبيبَةِ لا تَعودُ، ... أبخلٌ بالحبِيبَةِ أم صُدودُ.
مَرِضْتُ فعَادني عُوّادُ قَوْمي، ... فما لكِ لم تُرَيْ في مَن يَعودُ.
فلَوْ كنتِ المَريضَ، ولا تكوني، ... لعُدتُكم، ولوْ كثُرَ الوَعِيدُ.
ولا استَبطَأتُ غَيركِ، فاعلمِيهِ، ... وحولي من ذَوي رَحِمي عديدُ.
قال: ثم أغمي عليه، فمات. فوقعت الصيحة في الحي، فخرج من آخر الماء جارية كأنها قلقة قمر، فتخطت رقاب الناس حتى وقفت عليه فقبلته، وأنشأت تقول:
عَذابي أن أعودَكَ، يا حبيبي، ... معَاشِرُ فَيهِمُ الواشي الحَسودُ.
أذَاعُوا ما عَلِمتَ مِنَ الدّوَاهي، ... وعابُونَا وما فِيهِمْ رَشِيدُ.
فأمّا إذْ حَلَلْتَ بِبَطنِ أرْضٍ ... وقصرُ الناسِ كُلّهِمِ اللُّحُودُ.
فَلا بَقِيَتْ ليَ الدنْيَا فُوَاقاً، ... ولا لُهم، ولا أثرَى، عَديدُ.
قال: ثم شهقت شهقةً فخرت ميتةً منها، فخرج من بعض الأخبية شيخ فوقف عليهما، فترحم عليها، وقال: والله لئن كنت لم أجمع بينكما حيين لأجمعن بينكما ميتين! فدفنهما في قبر واحد احتفره لهما، فسألته، فقال: هذه ابنتي وهذا ابن أخي.

رد فؤادي
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد العتيقي في ما أجاز لنا قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه قال: أنشدنا أبو عبد الله النوبختي:
قلتُ لَهُ: رُدّ فؤادي، فَقَد ... أبلَيتَ بالهَجْرِ نَوَاحيه.
فقال لي مُبتَسِماً ضاحكاً: ... قَد غلق الرّهنُ بِمَا فِيه.

حديث عاشقين
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب قال: حدثنا أبو عبيد المرزباني قال: حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فجعلا يتحدثان من أول الليل إلى الغداة.

أموت بدائي
أخبرنا عبد العزيز بن علي الأزجي قراءة عليه قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عبد الله الهمذاني بمكة قال: أنشدنا محمد بن عبد الله ليحيى بن معاذ:
أموتُ بِدائي لا أُصيبَ مُداويا ... ولا فَرَجاً ممّا أرَى من بَلائيا.
إذا كانَ هذا العَبدُ رِقَّ مَلكِيه، ... فمَن دونه يرجو طبيباً مداويا.
معَ اللهِ يمضي دهرُهُ مُتَلَدِّداً، معطياً له ما عاش أم كان عاصيا.
مصارع العشاق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: حدثنا علي بن أيوب قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرني محمد بن يحيى قال: قال علي بن الجهم:
نُوَبُ الزّمانِ كَثيرَةٌ، وأشَدُّها ... شَملٌ تَحَكّمَ فيهِ يوْمُ فِرَاقِ.
يا قلبِ لِمْ عرّضْتَ نفسَكَ للهوَى، ... أوَما رَأيْتَ مصَارِعَ العُشَّاقِ؟.

غريقا الهوى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري بقراءتي عليه سنة إحدى وأربعين وأربعمائة قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن أحمد الكاتب قال: حدثنا ميمون بن هارون الكاتب قال: حدثني عبد الرحمن بن إسحاق القاضي قال: انحدرت من سر من رأى مع محمد بن إبراهيم أخي إسحاق، ودجلة تزخر من كثرة مائها. فلما أن سرنا ساعة قال: ارفق بنا، ثم دعا بطعامه، فأكلنا، ثم قال: ما ترى في النبيذ؟ قلت له: أعزك الله أيها الأمر، هذه دجلة قد جاءت بمد عظيم يرعب مثله، وبينك وبين منزلك مبيت ليلةٍ، فول شئت أخرته. قال: لابد لي من الشرب فضربت ستارة، واندفعت مغنية تغني، واندفعت أخرى فغنت:
يَا رَحْمَتَا للعَاشِقِينَا ... ما إن أرى لهمُ مُعِينَا.
كَمْ يُشتَمونَ ويُضرَبُو ... نَ ويُهجَرُونَ فَيَصْبرُونا.
فقالت لها المغنية الأولى: فيصنعون ماذا؟ قالت: يصنعون هكذا، فرفعت الستارة، وقذفت بنفسها في دجلة، وكان بين يدي محمد غلام ذكر أنه شراه بألف دينار، وبيده مذبة، لم أر أحسن منه، فوضع المذبة، وقذف بنفسه في دجلة، وهو يقول:
أنْتَ التي غَرّقْتِني ... بَعْدَ القَضَا لَوْ تَعلمِينَا.
فأراد الملاحون أن يطرحوا أنفسهم خلفهما، فصاح بهم محمد: دعوهما يغرقا إلى لعنة الله! قال: فرأيتهما، وقد خرجا من الماء متعانقين ثم غرقا.
التطير من البكاء
أنشدنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال قال: أنشدنا أبو الحسن أحمد بن محمد لن موسى قال: أنشدنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أنشدنا عبد الله بن عمرو بن لقيط:
يا شوْقَ إلفَينِ حالَ النّأيُ بينهُما ... فعَافَصَاهُ على التوْديعِ فاعتَنَقا.
لَوْ كنتُ أملِكُ عيني ما بكيتُ بِها ... تَطَيّراً من بُكائي بعدَهم شَفَقَا.

ما لقتيل الحب قود
ولي من أثناء قصيدة:
وطالبٍ بدمي ثأراً، فقلت له: ... هيهاتَ ما لقتيلِ الحبِّ من قَوَدِ.
للهِ قلبي لقد أضحى، غَداةَ غَدَت ... حُمولُهم، للجَوى حِلفاً وللكَمَدِ.

الحب حلو ومر
أنبأنا الشيخ أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة أن أبا عبيد الله محمد بن عمران المرزبان أخبرهم إجازة قال: أخبرنا عبيد الله بن أحمد الكاتب قال: حدثنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدني إبراهيم بن عبد الله الوراق لمحمد بن أبي أمية:
وَضاحِكٍ من بُكائي حينَ أُبصِرُهُ ... لَوْ كانَ جَرّبَ ما جَرّبتُ أبكَاهُ.
لا يُرْحَمُ المُبتَلى ممّا تَضَمّنَه ... إلاّ فتى مُبتَلى قد ذاقَ بَلوَاهُ.
ما أسرَعَ الموْتَ إن تمّتْ غريمتُهم ... على القَطِيعَةِ إن لمْ يرْحَمِ اللهُ.
الحُبُّ حلوٌ ومُرٌّ في مَذَاقَتِهِ، ... أمرُّهُ هَجرُكمْ والوَصْلُ أحلاهُ.
لم يفتها جواره ميتاً
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا السكن بن سعيد عن العباس بن هشام عن أبيه عن جده قال: حدثني مصدع بن غلاب الحميري وكان مخضرماً، وأدركته وهو ابن ثماني عشرة ومائة سنة وما في فرته ولحيته بيضاء، قال: حدثني أبي غلاب قال: كان بذمار فتىً من حمير، من أهل بيت شرف يقال له: زرعة بن رقيم، وكان جميلاً شاعراً لا تراه امرأة إلا صبت إليه، وكان في ظهر ذمار رجل شيخ كثير المال، وكانت له بنت تسمى مفداة، بارعة الجمال، حصيفة اللب، ذات لسان مصلق، تفحم البليغ، وتخرس المنطيق، وكان زرعة يتحدث إليها في فتية من الحي، وكان ممن يتحدث إليها فتىً من قومها يقال له حيي، ذو جمال وعفاف وحياء، فكانت تركن إلى حديه، وتشمئز من زرعة لرهقه، فساء ذلك زرعة وأحزنه، فاجتمعا ذات يوم عندها فرأى إعراضها عنه وإقبالها على حيي، فقال:
صُدودٌ وإعرَاضٌ وإظْهارُ بَغضَةٍ، ... غَلاَم وَلِمْ يا بينتَ آل العُذافرِ؟.
فقالتْ:
عَلى غَيرِ ما شَرٍّ، ولكِنّكَ امرؤٌ ... عُرِفتَ بِغل المومِساتِ العَواهِرِ.
فقال حيي:
جَمَالُكَ يا زَرعَ بنَ ارقَمَ إنّما ... تُنَاجي القُلوبَ بالعيونِ النّوَاظِرِ.
فقالَ زَرعةُ:
فإنْ يَكُ مما خَسّ حظي لأنّني ... أَصَابني فتُصْبِيني عيونُ القَصَائِرِ.
وَإني كَريمٌ لا أُزَنَ بِرِيبَةٍ ... وَلا يَعْتري ثوْبيَّ رينُ المَعايرِ.
فقالت المفداة:
كذاك فكُن، يسلمْ لكَ العِرضُ، إنه ... جمالُ امرئ أن يرتدي عِرضَ طاهر.
فقال حيي:
حَيَاءَكُمَا لا تَعْصِيَاهُ، فإنّمَا ... يكونُ الحَياءُ من تَوقّي المعايرِ.
فانصرفت زرعة وقد خامره من حبها ما غلب على عقله، فغبر أياماً عنها، وامتنع من الطعام والشراب والقرار، وأنشأ يقول:
يا بُغيَةً أهدَتْ إلى القلبِ لوْعَةً ... لقد خُبئَتْ لي منك إحدى الدهارسِ.
وما كنتُ أدري والبَلايا مُظِلّةٌ ... بأنّ حِمامي تحتَ لحظِ مُخالِسِ.
جَلَستُ على مَكتوبَةِ القَلبِ طائِعاً، ... فيَا طَوْعَ مَحبوسٍ لأعنَفِ حابِسِ.
فشاع هذا الشعر في الحي وبلغ المفداة، فاحتجبت عنه، وامتنعت من محادثة الرجال، فامتنع من الحركة والطعام، فغبر على ذلك حول، ومات عظيم من عظماء القبائل فبرز مأتم النساء، فبلغ زرعة أن المفداة في المأتم، فاحتمل حتى تنائى نشزاً، واجتمع إليه لذاته يفندون رأيه ويعذلونه، فأنشأ يقول:
لمْ يُلَمُ في الوَفاءِ مَن كَتَمَ الْ ... حُبّ وأغضى عُلى فؤادٍ لَهِيدِ.
صَابَنا ذاك لاسم من جلبَ السّ ... مَ علَيه ونفسُهُ في الوَريدِ.
ثم شهق، فمات، وتصايح أصحابه ونساؤهن وبلغ المفداة خبره، فقامت نحوه حتى وقفت عليه، وقد تعفر وجهه، وأهله ينضحونه بالماء، فهمت أن تلقي نفسها عليه، ثم تماسكت، وبادرت خباءها، فسقطت تائهة العقل، تكلم فلا تجيب، سحابة يومها، فلما جنّ عليها الليل رفعت عقيرتها فقالت:
بِنَفْسِي يَا زَرْعَ بْنَ أرْقَمَ لوْعَةٌ ... طَوَيتُ علَيها القلبَ والسرُّ كاتِمُ.
لَئِنْ لمْ أمُتْ حُزْناً عَلَيْهِ فَإنّني ... لألأمُ مَن نِيطَتْ عَلَيه التّمائِم.
لَئِنْ فُتّني حَيّاً فَلَيْسَ بِفَائِتي ... جوَارُك مَيْتاً حيثُ تَبلى الرَّمَائِم.
ثم تنفست نفساً نبه من حولها فإذا هي ميتة فدفنت إلى جنبه.
وقالت امرأة من حمير أشبلت على ولدها بعد زوجها:
وَفَيتُ لابنِ مالكِ بن أرطأه ... كما وَفَتْ لزرعة المُفَدّاه.
واللهِ لا خِسْتُ بهِ أو ألقاه ... حيثُ يُلاقي وامقٌ من يهواه.
من ممتَطٍ، ناحِيَةً، شَمَرْداه ... وعاثِرٍ قد خَذَلَته رِجلاهْ.
تريد قول الجاهلية: إن الناس يحشرون ركباناً على البلايا، ومشاةً إن لم تعقر مطاياهم على قبورهم، وهذا شيء كان من فعل الجاهلية.

تفارق قومها باكية
حدث شيخنا أبو علي بن شاذان قال: حدثني أبي أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان بن داود بن محمد الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثنا هارون بن موسى قال: حدثني عبد الله بن عمرو الفهري عن عمه الحارث بن محمد بن عيسى بن عبد الأعلى قال: كانت بالمدينة جاريةً لآل أبي رماثة، أو لآل أبي تفاحة، يقال لها: سلامة. قال: فكتب فيها يزيد بن عبد الملك لتشترى له، فاشتريت بعشرين ألف دينار، فقال أهلها: لا تخرج حتى نصلح من شأنها، فقالت الرسل: لا حاجة لكم بذاك! معنا ما يصلحها. قال: فخرج بها حتى أتي بها سقاية سليمان، قال: فأنزلها رسله فقالت: لا والله لا أخرج حتى يأتيني قوم كانوا يدخلون علي فأسلم عليهم، قال: فامتلأ ذلك الموضع من الناس، قال: ثم خرجت فوقفت بين الناس، وهي تقول:
فارَقوني وقد عَلِمتُ يَقِيناً ... ما لمَن ذاقَ فُرقَةً من إيابِ.
إنّ أهلَ الحِصَابِ قد ترَكوني ... في وُلوعٍ يذكو بأهلِ الحِصَابِ.
سكنوا الجِزْعَ وهو جِزْعُ أبي مو ... سى إلى النخلِ من صفيّ الشبابِ.
أهلُ بَيتٍ تَتَابعُوا للمَنَايَا، ... ما على الدهرِ بعدهم من عِتابِ.
قال: فما زالت على ذلك تبكي ويبكون حتى راحت، ثم أرسلت إليهم بثلاثة آلاف درهم.

يزيد يموت حزناً على حبابة
حدث أبو علي بن شاذان قال: حدثني أبي أحمد بن إبراهيم بن شاذان قال: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن سليمان الطوسي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: حدثني هارون بن موسى قال: حدثني موسى بن جعفر بن أبي كثير وعبد الملك بن الماجشون قال: لما مات عمر بن عبد العزيز قال يزيد: والله ما عمر بأحوج إلى الله مني.
قال: فأقام أربعين ليلةً يسير بسيرة عمر، فقالت حبابة لخصي له كان صاحب أمره: ويحك قم بي حيث يسمع كلامي ولك علي عشرة آلاف درهم، فلما مر يزيد بها قالت:
بَكَيتُ الصِّبي جهلاً فمن شاء لامني ... ومَن شاءَ آسى في البُكاءِ وأسعَدا.
ألا لا تَلُمه اليَوْمَ أن يَتَلَبّدا ... فقَد مُنِعَ المَحزُونُ أن يَتَجَلّدا.
وَما العَيشُ إلاّ ما تَلَذُّ وتَشتَهي ... وإنْ لامَ فيهِ ذو الشنّانِ وَفَنّدا.
إذا كنتَ عِزْهاةً عن اللّهوِ والصِّبي ... فكن حجراً من يابِس الصّخرِ جَلمَدا.
قال أبو موسى: وهذا الشعر للأحوص، فلما سمعها قال للخصي:ويحك! قل لصاحب الشرط يصلي بالناس. وقال يوماً: والله إني لأستحيي أن أخلوا بها، ولا أرى أحداً غيرها، وأمر ببستان، وأمر بحاجبه أن لا يعلمه بأحد.
قال: فبينما هو معها أسر الناس بها، إذ حذفها بحبة رمان، أو بعنبة، وهي تضحك، فوقعت في فيها فشرقت فماتت، فأقامت عنده في البيت حتى جيفت، او طادت تجيف، ثم خرج فدفنها، وأقام أياماً، ثم خرجن وهليه الهم بادياً، حتى وقف على قبرها فقال:
فإن تسلُ عنكِ النفسُ أوْ تدع الصِّبي ... فباليَأسِ أسلو عنكِ لا بالتّجَلّدِ.
وَكُلُّ خَلِيلٍ لامَتني فهوَ قائِلٌ ... من أجِلكِ هذا هامَةُ اليوْمِ أوْ غَدِ.
ثم رجع فما خرج من منزله حتى خرج بنعشه.

الصوفي المتعفف
أخبرنا إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الحافظ قال: قال أبو حمزة الصوفي: رأيت ببيت المقدس فتىً من الصوفية يصحب غلاماً مدةً طويلةً، فمات الفتى، وطال الغلام عليه، حتى صار جلداً وعظماً من الضنى والكمد. فقلت له يوماً: لقد طال حزنك على صديقك حتى أظن أنك لا تسلو بعده أبداً. فقال: وكيف أسلو عن رجلٍ أجل الله تعالى أن يعصيه معي طرفة عين وصانني عن نجاسة الفسوق في طول صحبتي له وخلواتي معه في الليل والنهار.

هويت شادناً
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة قال: أخبرنا أبو عمر بن حيويه قراءة عليه قال: أخبرنا أبو بكر محمد بن خلف قال: قال عمر بن أبي ربيعة:
طَبِيبَيّ داوَيتُما ظاهِراً، ... فمن ذا يُداوي جَوىً باطِنا.
فعوجا على مَنزلٍ بالغَمِي ... مِ، فإني هَوِيتُ بِهِ شَادِنَا.

دهر يشت ويجمع
أخبرنا أبو الحسين محمد بن أحمد النرسي قال: أخبرنا أبو حاتم محمد بن أحمد الرازي قال: أنشدني أبو مضر ربيعة بن ميسرة بن علي البزار بقزوين لبعضهم:
فلا تحسَبي أني تَبَدّلتُ خِلّةً ... سواكِ ولا أني بِغَيرِكِ أقنَعُ.
ولا عَن قِلىً كان القَطيعَةُ بَينَنَا، ... ولكنّهُ دَهْرٌ يُشِتّ وَيَجْمَعُ.
لو بدلت مساكنها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد الجرادي الكاتب قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثني العكلي عن المدايني قال: أنشد الحارث بن خالد المخزومي عبيد الله بن عمر:
إني وما نحَروا غَداةَ مِنىً ... عندَ الجِمارِ يؤودها العَقلُ.
لَوْ بُدّلَتْ أعلى مَساكِنها ... سُفلاً، وأصْبَحَ سِفلُها يَعلو.
لَعَرَفتُ مَغنَاها بما احتَمَلَتْ ... مني الضّلوعُ لأهلِها قَبلُ.

الفرزدق والبدوية الحسناء
أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق قال: أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرني الرياشي، يرفعه عن الفرزدق، قال: أبق غلام لرجلٍ من نشهل فخرجت في طلبه أريد اليمامه، وأنا على ناقةٍ لي عيساء، فلما صرت على ماء لبني حنيفة ارتفعت سحابةٌ فرعدت وبرقت وأرخت عزاليها، فعدلت إلى بعض ديارهم، فسألتهم القرى، فأجابوا، فأنخت ناقتي، وجلست تحت بيتٍ لهم من جريد النخل، وفي الدار جويرية سوداء، وفتاة كأنها فلقة قمرٍ، فسألت السوداء: لمن هذه العيساء؟ فأشارت إلي وقالت: لضيفكم هذا. فعدلت إلي فسلمت، وقالت: ممن الرجل؟ قلت: من بني تميم. قالت: من أيهم؟ قلت: من بني نهشل. قالت: فأنت الذين يقول لكم الفرزدق:
إنّ الذي سَمَكَ السماءَ بنى لَنَا ... بَيتاً دَعَائِمُهُ أعزُّ وَأَطْوَلُ.
بَيْتٌ زرَارَةُ محْتَبٍ بِفِنَائِهِ ... ومُجاشِعٌ وأبو الفَوَارِسِ نهشَلُ.
قلت: نعم. قال: فضحكت، وقالت: فإن جريراً هدم عليه بيته حيث يقول:
أخْزَى الذي سَمَكَ السماءَ مُجَاشِعاً ... وأحَلّ بَيتَكَ بالحَضِيضِ الأوْهَدِ.
قال: فأعجبتني، فلما رأت ذلك في عيني قالت: أين تؤم؟ قلت: اليمامة. فتنفست الصعداء ثم قالت:
تَذَكَّرْتُ اليَمامَةَ، إنَّ ذِكري ... بِها أهلَ المُرُوءةِ والكَرَامَة.
ألا فَسَقى المَلِيكُ أجَشَّ جَوناً ... يجودُ بِسَحّهِ تلكَ اليَمامَه.
أُحيّي بالسّلامِ أبَا نجِيدٍ، ... وأهْلٌ للتّحِيّةِ والسّلامَه.
قالت: فأنست بها، فقلت: أذات خدين أنت أم ذات بعلٍ؟ فقالت:
إذا رَقَدَ النّيامُ فإنّ عَمراً ... هُوَ القَمَرُ المُنيرُ المُسْتَنيرُ.
وما لي في التّبَعّلِ من مِرَاحٍ ... ولوْ رُدّ التّبَعّلُ لي أسيرُ.
ثم سكت كأنها تسمع كلامي فأنشأت تقول:
تخيَّلَ لي، أبا كعب بن عمرو، ... بأنَّك قد حُمِلتَ على سريرِ.
فإن يكُ هكذا، يا عمرو، إني ... مُبكِّرةٌ عليكَ إلى القبورِ.
ثم شهقت شهقةً فماتت. فقيل لي: هي عقيلة بنت النجاد بن النعمان بن المنذر، وسألت عن عمرو فقيل لي: ابن عمها، وكان مغرماً بها، وهي كذلك، فدخلت اليمامة، فسألت عن عمرو، فإذا به قد مات في ذلك اليوم من ذلك الوقت.

العشق شغل قلب فارغ
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: حدثنا أبو الحسن علي بن أيوب القمي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزياني قال: أخبرني أحمد بن يحيى قال: حدثنا أبو العيناء قال: حدثنا ابن عائشة قال: قلت لطبيبٍ كان موصوفاً بالحذق: ما العشق؟ قال: شغل قلب فارغ.
وأنشد لبعضهم:
وَقَائِلَةٍ جَدِّد لِعَيْنَيكَ نَظرَةً ... تُسَكّنُ ما بالقَلبِ مِن ألمِ الوَجدِ.
فقلتُ لها: يَكفِيكِ ما بي مِن الهَوَى ... تُريدينَ أن أزْدادَ جُهداً على جُهدِ.

يتهدد بالهجر
أنشدنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أنشدنا طلحة الشاهد قال: أنشدنا أبو عبد الله محمد بن داود بن الجراح قال: أنشدني إسحاق بن عمار لسلم الخاسر:
وّلمّا رّأَى شَوْقي إلَيه وَحَسرَتي ... علَيه وأني لستُ أقوَى عَلى الهَجرِ.
تَهَدّدَني بالهَجرِ حتى كَأنّمَا ... رَآني مُدِلاً بالعَزَاءِ وبالصّبْرِ.

لا جسم ولا قلب
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت الخطيب بدمشق قال: أخبرنا أبو بكر عبد الله بن علي بن حيويه بن ابرك الهمذاني بها قال: أخبرنا أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي التميمي قال: حدثنا أحمد بن علي الناقد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن يحيى بن جرير قال: قال أبو بكر محمد بن فرخان: لقيت غورك المجنون، وفي عنقه حبل قصير، والصبيان يقودونه، فقال لي: يا أبا بكر! بم يعذب الله أهل جهنم؟ قلت: بأشد العذاب. قال: صف لي، قلت: ومن يصف عذاب رب العالمين؟ قال: أنا في أشد من عذابه، ثم رفع ثوبه جسده، فإذا هو ناحل الجسم دقيق العظم فقال لي:
انْظُرْ إلى مَا فَعَلَ الحبُّ، ... لم يَبقَ لي جِسمٌ ولا قَلْبُ.
أنحَلَ جِسْمي حبُّ مَن لم يزَل ... من شأنِها الهِجَرانُ والعَتْبُ.
ما كان أغنانيَ عن حبِّ مَن ... مِن دُونِهَا الأسْتَارُ والحُجْبُ.

الحب أعظم من الجنون
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثنا زكريا بن موسى قال: حدثني شعيب بن السكن عن يونس النحوي قال:
لما خولط قيس بن الملوح وزال عقله وامتنع من الأكل والشرب صارت أمه إلى ليلى فقالت لها: إن ابني جن من أجلك، وذهب حبك بعقله، وقد امتنع من الطعام والشراب، فإن رأيت أن تصيري معي إليه فلعله، إذا رآك، يسكن بعض ما يجد. فقالت لها: أما نهاراً فما يمكنني ذلك، وإن علم أهل الماء لم آمنهم على نفسي، ولكن سأصير إليه في الليل. فلما كان الليل صارت إليه، وهو مطرق يهذي، فقالت له: يا قيس! إن أمك تزعم أنك جننت على رأسي، وأصابك ما أصابك؟ قال: فرفع رأسه فنظر إليها وتنفس الصعداء، وأنشأ يقول:
قالَتْ جُنِنتَ على رأسي، فقلتُ لها: ... الحُبّ أعظَمُ ممّا بِالمَجَانينِ.
الحُبُّ لَيسَ يُفِيقُ الدّهرَ صاحِبُهُ، ... وإنّما يُصْرَعُ المَجْنُونُ في الحِينِ.

كثير على قبر عزة
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي قال: أخبرنا أبو بكر بن دريد قال: أخبرنا عبد الأول بن مربد قال: أخبرني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: خرج كثير يريد عبد العزيز بن مروان فأكرمه، ورفع منزلته، وأحسن جائزته، وقال: سلني ما شئت من الحوائج! قال: نعم، أحب أن تنظر لي من يعرف قبر عزة، فيوقفني عليه. فقال رجل من القوم: إني لعارف به. فوثب كثير فقال لعبد العزيز: هي حاجتي أصلحك الله. فانطلق به الرحيل حتى انتهى به إلى موضع قبرها فوضع يده عليه، ودمعه يجري، وهو يقول:
وَقَفْتُ عَلى رَبْعٍ لِعَزّةَ نَاقَتي، ... وفي البُرْدِ رَشّاشٌ من الدّمعِ يسفحُ.
فَيَا عَزَّ أنْتِ البَدرُ قَد حالَ دونَهُ ... رَجيعُ التّرَابِ والصّفِيحُ المضرَّحُ.
وقَد كنتُ أبكي مِن فِراقِكِ حِقبَةً ... فأنْتِ لَعَمْري اليوْمَ أنأى وأنزَحُ.
فَهَلاّ فَداكِ الموتُ مَن أنتِ زَينُه، ... ومَن هوَ أسْوا منكِ حالاً وأقبَحُ.
ألا لا أرى بعد ابنَةِ النَّضرِ لَذّةً ... لِشيءٍ، ولا مِلْحاً لِمَنْ يَتَمَلّحُ.
فلا زالَ وادي رَمسِ عَزّةَ سائِلاً ... بِهِ نِعمَةٌ من رحمَةِ الله تسفَحُ.
فإنّ التي أحبَبتُ قد حالَ دونها ... طوَالُ اللّيالي والضّريحُ المصَفَّحُ.
أربَّ بِعَينَيَّ البُكا، كُلَّ لَيلَةٍ، ... فقَد كادَ مجْرَى دمع عيني يَقرَحُ.
إذا لم يكُنْ ماءٌ تَحَلَّبَتَا دَماً، ... وشرُّ البكاءِ المستَعادُ الممَنَّحُ.

الموت أيسر محملاً
أخبرنا القاضي أبو الحسن أحمد بن علي التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد بن علي الجرادي الكاتب قال:
إلّو شَهِدتَ مَوَاقِفَ العُشّاقِ ... ومَدامِعاً تجري من الآمَاقِ.
تستَنّ من سَيل الجفون معَ الدِّما، ... حتى تَكَادُ تسيلُ بالأحْداقِ.
لمّا تَقارَبَتِ النفوسُ لفُرْقَةً ... والتَفّتِ الأعْنَاقُ بالأعناقِ.
ورَأيتُ كُلاً سائِلاً لحَبِيبِه: ... أزِفَ النوَى فمتى يكون تلاقِ؟.
لحَلفتَ أنّ الموْتَ أيسَرُ محْمَلاً ... من يوْم توديعٍ ويوْم فِرَاقِ.

العينان القاتلتان
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال: أخبرنا أبو محمد عبيد الله بن محمد الجرادي قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن سهل لبعض المحدثين:
يا ذا الذي في الحبّ يَلحى أما ... واللهِ لَوْ حُمّلْتَ مني كمَا،
حُمّلتُ من حُبٍّ بديعٍ لمَا ... لُمتَ على الحبِّ فدَعني وما،
ألقى فإني لَستُ أدري بِمَا ... قُتِلتُ، إلاّ أنّني بَينَمَا،
أنا بِبَابِ الدارِ في بعضِ ما ... أطْلُبُ من دارِهم إذ رَمَى،
ظَبيٌ فؤادي بِسِهام، فَمَا ... أخطأ سَهْمَاهُ وَلكِنّمَا،
سَهْمَاهُ عَينَاهُ التي كُلّمَا ... أرادَ قَتلي بهما سَلّمَا.

مات على قبر حبيبته

أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن طاهر الدقاق بقراءتي عليه قال: أخبرنا الأمير أبو الحسن أحمد بن محمد بن المكتفي بالله قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرني الرياشي عن الأصمعي عن جبر بن حبيب قال: أقبلت من مكة أريد اليمامة فنزلت بحي من عامر، فأكرموا مثواي، فإذا فتىً حسن الهيئة قد جاءني، فسلم علي، فقال: أين يريد الراكب؟ قلت: اليمامة. قال: ومن أين أقبلت؟ قلت: من مكة. فجلس إلي، فحادثني أحسن الحديث ثم قال لي: أتأذن في صحبتك إلى اليمامة؟ قلت: أحب خير مصحوب، فقام، فما لبث أن جاء بناقة كأنها قلعة بيضاء، وعليها أداة حسنةٌ، فأناخها قريباً من مبيتي، وتوسد ذراعها، فلما هممت بالرحيل أيقظته فكأنه لم يكن نائماً، فقام فأصلح رحله فركب وركبت، فقصر علي يومي بصحبته، وسهلت علي وعوث سفري، فلما رأينا بياض قصور اليمامة تمثل:
وأعرَضَتِ اليَمامَةُ واشمَخَرّتْ ... كَأسْيَافٍ بأيدي مُصْلِتِينَا.
وهو في ذلك كله لا ينشدني إلا بيتاً معجباً في الهوى، فلما قربنا من اليمامة مال عن الطريق إلى أبيات قريبة منا، فقلت له: لعلك تحاول حاجةً في هذه الأبيات؟ قال: أجل! قلت: انطلق راشداً. فقال: هل أنت موفٍ حق الصحبة؟ قلت: أفعل. قال: مل معي! فملت معه، فلما رآه أهل الصرم ابتدروه، وإذا فتيان لهم شارةٌ، فأناخوا بنا و عقلوا ناقتينا، وأظهروا السرور، وأكثروا البر، ورأيتهم أشد شيء له تعظيماً، ثم قال: قوموا إن شئتم، فقام، وقمت لقيامه، حتى إذا صرنا إلى قبرٍ حديث التطيين ألقى نفسه عليه، وأنشأ يقول:
لَئِن مَنَعوني في حَياتي زيارَةً ... أُحامي بِها نفساً تَمَلّكَها الحبُّ.
فَلَن يَمنعوني أن أُجاورَ لحدَها ... فيَجمَعَ جِسمَينَا التجاورُ والتُّرْبُ.
ثم أن أناتٍ، فمات. فأقمت مع الفتيان حتى احتفروا له ودفناه. فسألت عنه، فقالوا: ابن سيد هذا الحي، وهذه ابنة عمه، وهي إحدى نساء قومه، وكان بها مغرماً، فماتت منذ ثلاث، فأقبل إليها وقد رأيت ما آل إليه أمره. فركبت وكأنني والله قد ثكلت حميماً.

قبور العشاق
وجدت في مجموع سماه جامعه زهر الربيع قال: أنشدت عبد الله بن المعتز:
مَساكينُ أهلُ العِشقِ، حتى قبورُهم ... عَلَيها تُرَابُ الذلّ بينَ المَقابِرِ.
فقال لي: لعن الله صاحب هذا الشعر، لا والله ما اذل الله تراب قبر عاشقٍ قط، بل أجله وشرفه ونضره وحسنه.
قال ابن المعتز: ولي في هذا المعنى أملح من قول هذا لبارد، وأنشدني لنفسه:
مرَرْتُ بِقَبرٍ مُشرِقٍ وَسْطَ رَوْضَةٍ ... عَلَيه من الأنوارِ مثلُ الشَّقائِقِ.
فَقُلتُ: لمَنْ هذا؟ فقال ليَ الثَّرَى: ... ترَحّمْ عَلَيْهِ إنّهُ قبرُ عَاشِقِ.
ما ضرهم
ولي وهي قطعة مفردةٌ:
بَانَ الخَلِيطُ فَأدمُعي ... وَجْداً عَلَيهِم تستهِلُّ.
وحدا بهم حادي الفرَا ... قِ عَنِ المَنَازِلِ فاستَقَلّوا.
قُلْ للّذينَ تَرَحّلُوا ... عن ناظِري والقلبَ حَلّوا،
ودَمي بلا جُرْمٍ أتي ... تُ غداة بينهم استحلُّوا،
ما ضرّهُم لوْ أنهَلوا ... من ماءِ وَصْلِهِمِ وَعَلّوا.

تعلل ساعة
وجدت بخط أحمد بن محمد الأبنوسي حدثنا أبو محمد بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن إسحاق الغطفاني قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني سليمان بن عياش السعدي قال: حدثني أبي قال: سرت في بلاد بني عقيل أطلب ضالةً لي، فرأيت فتاةً تدافع في مشيتها كتدافع الفرس السابق المختال. قال: فأسرعت المشي في إثرها، حتى أدركتها، وقد كادت تلج خباءها، فاستوقفتها، فوقفت، فجعلت أسائلها، وأكلمها، والله ما يقع بصري على شيء منها إلا ألهاني عن غيره. قال: فصاحت بي عجوز: ما يوقفك على هذا الغزال النجدي، فوالله ما تنال منه طائلاً. فقالت لها الفتاة: دعيه يا أمتاه يكون كما قال ذو الرمة:
فإنْ لم يَكُنْ إلاّ تَعَلّلُ سَاعَةٍ ... قَلِيلٌ فإن نَافِعٌ لي قَلِيلُهَا.

فتاة مراد وخطيبها البكري
أخبرنا أبو الحسن علي نب صالح بن علي الروذباري بقراءتي عليه بمصر قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب في ما اجاز لنا قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال: أخبرنا أبو عبيدة قال: خطب رجل من بكر بن وائل إلى رجل من مراد ابنته فهم أن يزوجه، فبينا الجارية يوماً تلعب مع الجواري، إذ جاء الخاطب فقلن لها: هذا خاطبك؟ فقالت: ما رجل هو أحب إلي أن أكون قد رأيته منه. فلما رأته رأت رجلاً كبير السن قبيح الوجه، فقالت: أوقد رضي أبي به؟ قلن: نعم! فدخلت البيت، فاشتملت على السيف وشدت عليه، فسبقها عدواً، ونالته بضربةٍ، فقال همام السلولي، وهو يشبب بامرأة:
أخافُ بِأنْ تجزي المُحِبَّ كمَا جَزَتْ ... فتاةُ مُرادٍ شَيخَ بَكرِ بنِ وائِلِ.
فَلَوْ لم يَرُغْ رَوْغَ الحَيارَى تَفَتّحَتْ ... ذَوَائِبُه مِنْهَا بِأبْيَضَ قَاصِلِ.
ولا ذَنبَ للحَسنَاءِ لمّا بدا لها ... ضعيفٌ كخيطِ الصّوفِ رِخوَ المفاصِلِ.

التبسم النمام
أخبرني أبو عبد الله بن أبي نصر الأندلسي بدمشق قال: أنشد بحضرة بعض ملوك الأندلس قطعةٌ لبعض أهل المشرق وهي:
وَمَاذا عَلَيهِم لوْ أثَابُوا فَسَلّمُوا، ... وقَد عَلِموا أني المشوقُ المُتَيَّمُ.
سرَوا ونجُومُ الليْلِ زُهْرٌ طَوَالِعٌ ... عَلى أنّهُم بالليْلِ للنّاسِ أنجُمُ.
وأخفَوا عَلى تِلْكَ المَطايا مَسيرَهُمْ، ... فَنَمّ عَلَيهِم في الظلامِ التبَسّمُ.
فافرط بعض الحاضرين في استحسانها، وقال: هذا ما لا يقدر أندلسي على مثله، وبالحضرة أبو بكر يحيى بن هذيل فقال بديهاً:
عَرَفتُ بِعَرْفِ الرّيحِ أين تَيَمّموا، ... وأينَ استقلّ الظاعِنونَ وخَيّموا.
خَلِيلَيّ ردّاني إلى جانِبِ الحمى، ... فَلَستُ إلى غَيرِ الحِمى أتَيَمّمُ.
أبيت سَميرَ الفَرْقَدَينِ كَأنّمَا ... وسادي قَتادٌ، أو ضجيعي أرْقَمُ.
وأحوَرَ وسنَانِ الجفونِ كأنّه ... قضيبٌ مِنَ الرَّيحانِ لدنٌ مُنَعَّمُ.
نَظَرْتُ إلى أجْفَانِهِ أوّلَ الهَوَى ... فَأيْقَنْتُ أني لَستُ مِنُهنّ أسْلَمُ.
كما أنّ إبرَاهِيمَ أوّلَ مَرّةٍ ... رَأى في الدّرَاري أنّه سوفَ يَسقَمُ.

مي الغادرة
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بم محمد الجوهري في ما أذن لنا أن نرويه عنه قال: أخبرنا عمر بن حيويه محمد بن العباس قال:حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرني أحمد بن شداد قال: حدثنا عبد الله بن أبي كريم قال: أخبرنا ميسرة بن عبد الله بن الحارث قال: أخبرني أبي قال: كان رجل من بني سليم يقال له عمرو بن مسلم، وكانت له امراة يقال لها مي، وكانت تبغضه، ولم يكن يعلم ذلكن وكان من أشد الناس حباً لها، فدخل عليها ذات يوم، وهي تقرأ في المصحف. فقال: يا مي أسالك بما أنزل الله تعالى في هذا المصحف أتحبينني أو تبغضينني؟ فقال: لا والله لا أخبرتك إلا أن تعطيني سؤلةً أسألكها. فقال: وأي شيءٍ سؤلتك؟ قالت: تجعل أمري في يدي. قال: نعم، وظن أنها مازحة، قالت: فلا والله وما أنزل فيه ما أحببتك ساعةً قط. فلما جعل أمرها بيدها اختارت نفسها، فكاد يموت أسفاً عليها، وانشأ يقول:
هَيا ربِّ أدعُوكَ العَشِيّةَ مُخْلِصاً، ... دُعاءَ امرِئٍ عمّتْ بلابلُه الصّدرا.
فإنّكَ إن تجمَعْ بِمَيٍّ لُبَانَتي ... معَ الناسِ قبل الموت أُحدِثْ لكَ الشُّكْرَا.
فتَجمعْ بها شملَ امرئٍ لم تَدَعْ له ... فؤاداً، ولم يُرزَقْ على نأيِها صَبرا.
إلى اللهِ أشكو أنّ مَيّاً تَحَكّمَتْ ... بعَقلِيَ مَظلُوماً وَوَلّيتُهَا الأمْرَا.
خطاءٌ مِنَ الرّأيِ الضَعيفِ، ولم يخفْ ... لمَيّةَ غدراً، واسْتَخارَتْ بيَ الغَدرا.
وبَاتَتْ تَجُذّ الحَبْلَ بَيَني وَبَيْنَهَا، ... هَنيئاً لها إذ حَمّلَتْ نَفسَها الإصرَا.
وَخَانَتْ خَلِيلاً لم يَخُنهَا ولمْ يُرِدْ ... بهَا بَدَلاً في الناسِ شَفعاً ولا وِترَا.
عَشِيّةَ ألوي بالرِّداءِ على الحَشَا ... كَأنّ قَمِيصي مُشعِلٌ تحتَه جَمْرَا.
عَشِيّةَ أبْكي، والبكى هَوْنُ ما أرَى، ... وداعي الفتى عَمراً، وهَيهاتَ لا عَمرا.
فَرِحتُ بِها لَوْلا كِتابٌ وَمُدّةٌ ... مؤجَّلَةٌ ما عْشَتُ خَمساً ولا عَشرَا.
تحَسّنَتِ الدنْيَا بِمَيٍّ لَيالِياً ... قَلائِلَ ثمّ استبدلَتْ جُرَعاً كُدرَا.
مَرَارَاتُ صابٍ حينَ وَلّتْ وَعَلقَمٌ، ... تحَسّيتُ من غُصّاتِها جُرَعاً وحُمْرَا.

اللص والمرأة التي أحبها
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي بن محمد السواق قال: أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا أبو الحسين بن بيان الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرني أحمد بن زهير قال: حدثنا أبو سعيد الأشج قال: حدثنا ابن إدريس عن الأعمش قال: كان في بني إسرائيل رجل لص يقال له برزين المناقيب، فتاب وكان يحدث الناس عما مان فيه، فقال: أعجبني امرأة في ناحية من نواحي الكوفة، فأخذت سيفي وخرجت في السحر، فلقيت بعير سقاء، فضربت عنقه، ث توجهت نحوها فتسورت عليها، فعالجتها، فلم أقدر عليها، وامتنعت أن تدخل معي في الحرام، فجمعت يدي في السيف ثم ضربت به وسط رأسها ثم انصرفت، فقلت: لأنظرن إلى أثر سيفي.
فعدت لإلى موضع البعير فإذا البعير ورأسه ناحيةً، ثم أتيتها بعد لأعلم الخبر، فغذا هي وسط النساء تحدث وتقول: والله لضرب رأسي، فما أخطأ منه شعرة.

أبو دهبل والمرأة الشامية
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثني أبو العابس أحمد بن يحيى قال: حدثنا الزبير بن أبي بكر قال: حدثني عمي مصعب بن عبد الله قال: حدثني إبراهيم بن أبي عبد الله قال: خرج أبو دهبل الجمحي يريد الغزو وكان رجلاً جميلاً صالحاً، فلما كان يجيرون جاءته امراة فأعطته كتاباً، فقالت له: اقرأ هذا! فقرأه لها، ثم ذهبت، فدخلت قصراً، ثم خرجت إليه، فقالت له: لو بلغت معي إلى هذا القصر فقرأت الكتاب على امرأة فيه كان لك أجر، إن شاء الله. فبلغ ا معها القصر، فلما دخل، إذا فيه جوار كثيرة، فأغلقن عليه باب القصر، فإذا امرأة جميلة قد أتته فدعته إلى نفسها، فأبى، فأمرت به فحبس في بيت من القصر، وأطعم وسقي قليلاً قليلاً حتى ضعف وكاد يموت، ثم دعته إلى نفسها، فقال: أما في الحرام فلا يكون ذلك أبداً، ولكن أتزوجك. قالت: نعم! فتزوجها، وأمرت به فاحسن إليه حتى رجعت نفسه إليه، فأقام معها زماناً طويلاً لم تدعه يخرج من القصر، حتى يئس منه أهله وولده، وزوج أولاده بناته واقتسموا ميراثه.
وأقامت زوجته تبكي، ولم تقاسمهم ماله، ولا أخذت من ميراثه شيئاً، وجاءها الخطاب، فأبت واقامت على الحزن والبكاء عليه، قال: فقال أبو دهبل لامرأته يوماً: إنك قد أثمت فيّ وفي ولدي، فأذني لي أن أخرج إليهم، وأرجع إليك. فأخذت عليه أيماناً ألا يقيم إلا سنةً حتى يعود إليها، وأعطته مالاً كثيراً، فخرج من عندها بذلك المال حتى قدم على أهله، فرأى زوجته وما صارت إليه من الحزن، ونظر إلى ولده ممن اقتسم ماله، وجاؤوه فقال: ما بيني وبينكم عمل! أنتم ورثتموني وأنا حي، فهو حظكم، والله لا يشرك زوجتي أحد في ما قدمت به. وقال لزوجته: شأنك بهذا المال فهو كله لك، ولست أجهل ما كان من وفائك، وأقام معها وقال في الشامية:
صاحِ! حَيَّ الإلهُ حَيّاً وَدُوداً ... عندَ أصْلِ القَنَاةِ من جَيرُونِ.
فبِتِلكَ اغتَرَبْتُ بالشّام حتى ... ظَنّ أهلي مرَجَّماتِ الظّنونِ.
وَهيَ زَهرَاءُ مثلُ لؤلؤةِ الغَوّ ... صِ مِيزَتْ مِن لؤلؤٍ مَكنونِ.
وفي هذه القصيدة يقول أبو دهبل:
ثمّ فارَقتُها على خيرِ ما كا ... نَ قرينٌ مقارناً لقَرينِ.
وبكَتْ خشيةَ التفرّق والبَيْ ... نِ بكاءَ الحزينِ نحوَ الحزينِ.
فاسألي عَنْ تَذَكّرِي واكتِئابي ... جُلَّ أهلي إذا همُ عذلوني.
وقد روي هذا الشعر لعبد الرحمن بن حسان، وليس بصحيحٍ. قال: فلما جاء الأجل أراد الخروج إليها ففاجأه موتها، فأقام.

الصوفي وغلامه
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال بمصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن عدي السمرقندي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة الصوفي: رأيت مع أحمد بن علي الصوفي ببيت المقدس غلاماً جميلاً، فقلتك مذ كم صحبك هذا الغلام؟ فقال: منذ سنين، فقلت: لو صرتما إلى بعض المنازل فكنتما فيه بحيث لا يراكما الناس كان أجمل بكما من الجلوس في المساجد والحديث فيها. فقال: أخاف احتيال الشيطان علي فيه في وقت خلوتي به، وإني لأكره أن يراني الله معه على معصية فيفرق بيني وبينه يوم يظفر المحبون بأحبابهم.

يكره الخلو بالغلام
أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت بالشام قال: حدثنا ابن أيوب القمي قال: أخبرنا أبو عبيد الله المرزباني قال: حدثني أبو عبد الله الحكيمي قال: حدثنا أحمد بن إبراهيم قال: حدثنا أبو أسامة قال: كنا عند شيخ يقرئ، فبقي عنده غلام يقرأ عليه، وأردت القيام فأخذ بثوبي وقال: اصبر حتى يفرغ هذا الغلام، وكره أن يخلو هو والغلام.

على طريقة ابن مدرك الشيباني
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: كنت في الحداثة أنشأت كلمةً مسمطة على نحو قصيدة مدرك الشيباني في عمرو النصراني، فكان مما ذكرته في كلمتي هذه عند صفة عين إنسان ونسيت الكلمة به:
سُقْمٌ أوَى أحسنَ عينٍ تَطرَفُ ... تَقوَى به وللقُلوبِ تُضْعِفُ.
كاسم في الأفعى بفي من يحصِفُ، ... يحيا به، وللنفوس يُتلِفُ.
ثم قلت:
دواءُ مَن أقصَدَه بسَهمِهِ ... تَكرَارُه نحوَ مَرَامي سَهمِهِ.
كالأُفْعُوَان يُشتَفى من سمّه ... بشرْبِ دِرْياق كَريهِ لَحمِه.
قال المعافى بن زكيرا ولنا أيضاً في كلمة:
وسقاني بسُقمِ مُقلةِ ظبيٍ ... قدّ قلبي منه بأحسنِ قدِّ.
سُقمُها لي شفاءُ دائي، إذا جا ... دتْ وداءٌ إذا تصَدَّتْ لصَدّ.
وأنا أستغفر الله تعالى من مساكنة ما يشغل عن عبادته، ومما يضارع ما وصفنا في هذا الفضل من وجه قول ابن الرومي:
عَيني لِعَينِك حينَ تُبصِرُ مَقتَلُ ... لكِنّ عينَك سَهمُ حتَفٍ مُرْسَلُ.
ومن العَجائِبِ أنّ مَعنىً واحداً ... هوَ منك سَهمٌ، وهوَ مني مَقتَلُ.

عناية الله بخائفيه
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: أخبرني أحمد بن جرب قال: حدثني عبد الله بن محمد قال: حدثني أبو عبد الله البلخي: أن شاباً كان في بني إسرائيل لم ير شابٌ قط أحسن منه، قال: وكان يبيع القفاف، قال: فبينا هو ذات يومٍ يطوف بقفافه، إذ خرجت امرأة من دار ملك من ملوك بني إسرائيل، فلما راته رجعت مبادرة فقالت لابنة الملك: يا فلانة، إني رايت شاباً بالباب يبيع القفاف لم أر شاباً قط أحسن منه. قالت: أدخليه! فخرجت إليه، فقالت: يا فتى ادخل نشتر منك! فدخل، فأغلقت الباب دونه ثم قالت: ادخل، فدخل فأغلقت باباً آخر دونه.
ثم استقبلته بنت الملك كاشفةً عن وجهها ونحرها، فقال لها: اشتر عافاك الله، فقالت: إنا لم ندعك لهذا، إنما دعوناك لكذا، تعني تراوده عن نفسه، فقال لها: اتقي الله! قالت له: إنك إن لم تطاوعني على ما أريد أخبرت الملك أنك إنما دخلت علي تكابرني على نفسي. قال: فأبى، ووعظها، فأبت، فقال: ضعوا لي وضوءاً! فاقلت: أعلي تعلل؟ يا جارية! ضعي له وضوءاً فوق الجوسق، مكان لا يستطيع أن يفر منه، ومن الجوسق إلى الأرض أربعون ذراعاً.
قال: فلما صار في أعلى الجوسق قال: اللهم إني دعيت إلى معصيتك وإني أختار أن أصبر نفسي، فألقيتها من هذا الجوسق، ولا أركب المعصية، ثم قال: بسم الله، وألقى نفسه من أعلى الجوسق فاهبط الله، عز وجل، ملكاً من الملائكة، فاخذ بضبعيه، فوقع قائماً على رجليه، فلما صار في الأرض قال: اللهم إنك إن شئت رزقتني رزقاً يغنيني عن بيع هذه القفاف. قال: فأرسل الله، عز وجل، إليه جراداً من ذهب، فأخذ منه حتى ملأ ثوبه، فلما صار في ثوبه قال: اللهم إن كان هذا رزقاً رزقتنيه في الدنيا فبارك لي فيه، وإن كان ينقصني مما لي عندك في الآخرة فلا حاجة لي به. قال: فبنودي: إن هذا الذي أعطيناك جزء من خمسة وعشرين جزءاً لصبرك على إلقائك نفسك من هذا الجوسق، قال: فقال: اللهم لا حاجة لي في ما ينقصني مما لي عندك في الآخرة. قال: فرفع.

المجنون الأديب
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بباب الندوة قال: حدثنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب قال: سمعت أبا سعيد أحمد بن رميح الزيدي يقول: سمعت محمد بن إبراهيم الأرجاني يقول: سمعت محمد بن يعقوب الأزدي عن أبيه قال: دخلت دير هرقل، فرأيت مجنوناً مكبلاً، فكلمته، فوجدته أديباً، فقلت له: ما الذي صيرك إلى ما أرى؟ فقال:
نَظَرْتُ إلَيها فاستَحَلّتْ بنَظرَتي ... دمي، ودَمي غالٍ، فأرخَصه الحُبُّ.
وغَالَيتُ في حُبّي لها، وَرَأَتْ دَمي ... رَخِيصاً، فمِن هذينِ داخَلَها العُجبُ.

أربع نسوة وأربعة غربان
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن محمد بن أحمد العتيقي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله الأهوازي قال: أخبرني بعض أهل الأدب أن بعض البصريين أخبره قال: كنا لمة نجتمع ولا يفارق بعضنا بعضاً، وكنا على عدد أيام عند أحدنا، فضجرنا من المقام في المنازل، فقال بعضنا: لو عزمتم فخرجنا إلى بعض البساتين، فخرجنا إلى بستان قريب منا، فبينا نحن فيه إذ سمعنا ضجةً راعتنا، فقلت للبستاني: ما هذا؟ فقال: هؤلاء نسوة لهن قصة، فقلت له أنا دون أصحابي: وما هي؟ قال: العيان أكبر من الخبر، فقم حتى أريك وحدك. فقلت لأصحابي: أقسمت ألا يبرح أحد منكم حتى أعود. فنهضت وحدي، فصعدت إلى موضع أشرف عليهن، وأراهن، ولا يرينني، فرأيت نسوةً أربعاً كأحسن ما يكون من النساء وأشكلهن، ومعهن خدم لهن وأشياء قد أصلحت من طعام وشراب وآلة، فلما اطمأن بهن المجلس، جاء خادم لهن، ومعه خمسة أجزاء من القرآن، فدفع إلى كل واحدةٍ منهن جزءاً ووضع الجزء الخامس بينهن، فقرأن أحسن قراءة، ثم أخذن الجزء الخامس فقرأت كل واحدة منهن ربع الجزء، ثم أخرجن صورةً معهن في ثوب دبيقي فبسطنها بينهن فبكين عليها ودعون لها، ثم أخذن في النوح، فقالت الأولى:
خلسَ الزّمانُ أعَزَّ مختَلَسِ، ... ويَدُ الزّمَانِ كثيرَةُ الخَلَسِ.
للهِ هالكةٌ فُجِعْتُ بِهَا، ... ما كانَ أبعَدَها من الدّنَسِ.
أتَتِ البِشَارَةُ والنّعيُّ بِهَا، ... يَا قُرْبَ مأتَمِهَا من العُرُسِ.
ثم قالت الثانية:
ذَهَبَ الزّمَانُ بِأُنْسِ نفسي عَنوَةً، ... وبَقيتُ فَرْداً ليسَ لي من مُؤنِسِ.
أودى بمَلْكَ ولَوْ تُفادى نفسُهَا، ... لَفَدَيتُها ممن أُعِزّ بِأنْفُسِ.
ظَلّتْ تُكَلّمني كَلاماً مُطْعِماً، ... لم أسترِبْ فيه بشيءٍ مُؤيِسِ.
حتى إذا فَترَ اللّسانُ وأصْبَحَتْ ... للمَوْتِ قَد ذَبُلَتْ ذُبولَ النَّرْجِسِ.
وتَسَهّلَتْ مِنْهَا مَحَاسِنُ وَجْهِهَا، ... وَعَلا الأنِينُ تحثّهُ بِتَنَفّسِ.
جَعَلَ الرّجاءُ مَطامِعي يأساً كمَا ... قَطَعَ الرّجاءُ صَحِيفَةَ المُتَلَمّسِ.
ثم قالت الثالثة:
جَرَتْ على عَهدِها الليالي، ... وَأُحْدِثَتْ بَعدَها أُمورُ.
فاعتضْتُ باليأس منكِ صَبراً، ... فاعتَدَلَ اليأسُ والسرُورُ.
فَلَستُ أرجو، ولستُ أخشى ... ما أحدَثَتْ بَعدكِ الدهورُ.
فَليبلُغِ الدهرُ في مَساتي، ... فَما عَسى جُهْدُه يَضِيرُ.
ثم قالت الرابعة:
عِلْقٌ نَفِيسٌ من الدنيَا فُجِعتُ به، ... أفضى إلَيه الرَّدى في حَوْمةِ القَدَرِ.
وَيحَ المَنايا أمَا تَنْفَكّ أسهُمُها ... معَلَّقاتٍ بِصَدرِ القوْسِ والوَتَرِ.
يَبلى الجديدان، والأيّام بالِيَةٌ، ... والدهرُ يَبلى، وتَبلى جِدّةُ الحَجَرِ.
ثم قمن فقلن بصوتٍ واحد:
كنّا من المَساعِده، ... نحيا بنفسٍ واحده.
فمات نِصْفُ نفسي ... حينَ ثَوَى في الرَّمسِ.
فَما بَقائي بعدَه ... وشَطرُ نفسي عندَه.
فَهَلْ سَمِعتُم قَبلي ... في مَنْ مَضى بِمِثلي.
عاشَ بِنِصْفِ روحِ ... في بَدَنٍ صَحِيحِ.
ثم تنحين وقلن لبعض الخدم: كم عندك منهن؟ قال: أربعة. قلن: ائت بهن، فلم ألبث إلا قليلاً حتى طلع بقفصٍ فيه أربعة غربان مكتفة، فوضع القفص بين أيديهن، فدعون بعيدان، فأخذت كل واحدة منهن عوداً فغنت:
لَعَمري! لقد صاحَ الغُرَابُ بِبَنيهِم، ... فأوجَعَ قلبي بالحديثِ الذي يُبدي.
فقلتُ له: أفصحتَ لا طِرْتَ بعدها، ... بِريشٍ، فهل للقَلبِ ويحَكَ من رَدّ!.
ثم أخذن واحداً من الغربان فنتفن ريشه حتى تركنه كأن لم يكن عليه ريش قط، ثم ضربنه بقضبان معهن لا أدري ما هي حتى قتلنهن ثم غنت:
أشاقَكَ، والليلُ ملقي الجِرَانِ، ... غُرَابٌ يَنوحُ على غُصْنِ بانِ.
أحصُّ الجَناحِ، شديدُ الصّيَاحِ، ... يَبكي بِعَيْنَينِ ما تهملانِ.
وفي نَعَبَاتِ الغُرَابِ اغْترَابٌ، ... وفي البانِ بَينٌ بعيدُ التّداني.
ثم أخذن الثاني فشددن في رجليه خيطين وباعدن بينهما وجعلن يقلن له: أتبكي بلا دمع وتفرق بين الألاف، فمن أحق بالقتل منك؟ ثم فعلن به ما فعلن بصاحبه. ثم غنت الثالثة:
ألا يا غُرَابَ البين لَونُكَ شاحِبٌ، ... وأنْتَ بِلَوْعاتِ الفِرَاقِ جَديرُ.
فَبَيّنْ لَنَا ما قلتَ، إذ أنتَ واقِعٌ، ... وبَيّن لَنَا ما قُلتَ حينَ تَطيرُ.
فإنْ يكُ حقّاً ما تَقولُ، فَأصْبَحْتْ ... هُمومُكَ شَتّى، والجَنَاحُ كَسيرُ.
ولا زِلتَ مَكسوراً عديماً لِنَاصرٍ، ... كَما لَيسَ لي من ظالميّ نَصِيرُ.
ثم قالت له: أما الدعوة فقد استجيبت، ثم كسرت جناحيه، وأمرت ففعل به ذلك، ثم غنت الرابعة:
عَشِيّةَ ما لي حيلَةٌ غيرَ أنّني ... بلَقطِ الحصى، والخطِّ في الدّارِ مولَعُ.
أخُطُّ وأمحو كلّ ما قَد خَطَطتُه ... بدمعيَ والغِرْبانُ في الدارِ وُقَّعُ.
ثم قالت لأخواتها: أي قتلةٍ أقتله؟ فقلن لها: علقيه برجليه وشدي في رأسه شيئاً ثقيلاً حتى يموت، ففعلت به ذلك، ثم وضعن عيدانهن، ودعون بالغداء، فأكلن، ودعون بالشراب، فشربن، وجعلن كلما شربن قدحاً شربن للصورة مثله، وأخذن عيدانهن فغنين، فغنت الأولى كأنها تودع به:
أبكى فِرَاقَكُمُ عَيني فأرّقَهَا، ... إنّ المُحِبّ على الأحبابِ بكّاءُ.
ما زالَ يعدو عَلَيهِم ريبُ دهرِهمُ ... حتى تَفَانَوْا، وريبُ الدهرِ عَدّاءُ.
ثم غنت الثانية:
أما والذي أبكى وأضْحَكَ، والذي ... أمَاتَ وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ.
لقد تركَتْني أحسُدُ الوَحشَ أن أرَى ... ألِيفَينِ منها لا يرُوعُهُما الذّعرُ.
ثم غنت الثالثة:
سأبكي على ما فاتَ منكِ صَبابَةً ... وَأندُبُ أيّامَ الأماني الذّوَاهِبِ.
أحينَ دَنَا مَن كنتُ أرْجو دنُوَّه ... رَمَتني عُيونُ الناسِ من كل جانبِ.
فأصْبَحتُ مَرْحوماً، وكنتُ مُحَسَّداً، ... فَصَبراً على مَكُروهِ مرِّ العَوَاقِبِ.
ثم غنت الرابعة:
سأُفني بِكَ الأيّامَ حتى يَسُرّني ... بك الدهرُ، أو تَفنى حياتي معَ الدهرِ.
عَزَاءً وصبراً! أسعِداني على الهوَى، ... وأحمَدُ مَا جَرّبتُ عاقبَةُ الصّبرِ.
ثم أخذت الصورة فعانقتها، وبكت، وبكين، ثم شكون إليها جميع ما كن فيه، ثم أمرن بالصورة، فطويت، ففرقت أن يتفرقن قبل أن أكلمهن، فرفعت رأسي إليهن فقلت: لقد ظلمتن الغربان. فقالت: لو قضيت حق السلام، وجعلته سبباً للكلام، لأخبرناك بقصة الغربان. قال قلت: إنما أخبرتكن بالحق. قلن: وما الحق في هذا، وكيف ظلمناهن؟ قلت: إن الشاعر يقول:
نَعَبَ الغُرَابُ بِرُؤيَةِ الأحبَابِ، ... فلذاك صِرْتُ أُحِبّ كُلّ غُرَابِ.
قالت: صحفت وأحلت المعنى، إنما قال: بفرقة الأحباب، فلذاك صرت عدو كل غراب. فقتل لهن: فبالذي خصكن بهذا المجلس، وبحق صاحبة الصورة، لما خبرتنني بخبركن؟ قلن: لولا أنك أقسمت علينا بحق من يجب علينا حقه ما أخبرناك.
كنا صواحب مجتمعات على الألفة، لا تشرب منا واحدة البارد دون صاحبتها، فاحترمت صاحبة الصورة من بيننا، فنحن نصنع في كل موضع نجتمع فيه مثل الذي رأيت، وأقسمنا أن نقتل في كل يومٍ نجتمع فيه ما وجدنا من الغربان لعلة كانت. قلت: وما تلك العلة؟ قلن: فرق بينها وبين أنسٍ كان لها، ففارقت الحياة، فكانت تذمهن عندنا، وتأمر بقتلهن، فأقل ما لها عندنا أن نتمثل ما أمرت به، ولو كان فيك شيء من السواد لفعلنا بك فعلنا بالغربان.
ثم نهضن فمضين، ورجعت إلى أصحابي فأخبرتهم بما رأيت، ثم طلبتهن بعد ذلك، فما وقعت لهن على خبر، ولا رأيت لهن أثراً.

أبو السائب والغراب
أخبرنا أبو الحسن علي وأبو منصور أحمد ابنا الحسن بن الفضل الكاتب في ما أجازاه لي قالا: حدثنا أبو عبد الله أحمد بن محمد بن عبد الله بن خالد الكاتب من لفظه قال: أخبرنا أبو محمد علي بن عبد الله بن العباس بن المغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن سعيد الدمشقي قال: حدثنا الزبير بن بكار قال: قال الخليل بن سعيد: مررت بسوق الطير، فإذا الناس قد اجتمعوا يركب بعضهم بعضاً، فإذا أبو السائب قائماً على غراب يباع قد أخذ طرف ردائه وهو يقول للغراب: يقول لك قيس بن ذريح:
ألا يا غُرَابَ البَينِ، قد طِرْتَ بالّذي ... أحاذِرُ من لُبنى، فَهَل أنتَ وَاقِعُ؟
ثمّ لا تَقَع، ويضربه بردائه والغراب يصيح.

لبنى صاحبة قيس بن ذريح والغربان
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني عبد الجبار بن عبد الأعلى قال: قال خندف بن سليم: حدثني أحمد بن هود أن لبنى أمرت غلاماً لها فاشترى لها أربعة غربان، فلما رأتهن بكت وصرخت، وكتفتهن، وجعلت تضربهن بالسوط حتى متن جميعاً، وجعلت تقول بأعلى صوتها:
لقد نادى الغُرَابُ ببَين لُبنى ... فطارَ القَلبُ من حَذَرِ الغُرَابِ.
فَقُلتُ: غَداً تَباعدُ دارُ لُبنى ... وَتَنْأَى بَعدَ وُدٍّ واقترَابِ.
فَقُلتُ: تَعِستَ وَيحَكَ من غُرَابٍ ... أكُلَّ الدهرِ سَعْيُكَ في تَبابِ.
لقَد أولِعتَ، لاقَيتَ خَيراً، ... بِتَفرِيقِ المحِبِّ عن الحِبَابِ.
فدخل زوجها، فرآها على تلك الحال، فقال: ما دعاك إلى ما أرى؟ قالت: دعاني أن ابن عمي وحبيبي قيساً أمرهن باوقوع فلم يقعن حيث يقول:
ألا يا غُرَابَ البَين، قد طِرْتَ بالذي ... أُحاذِرُ من لُبنى، فَهَل أنتَ وَاقعُ؟
فآليت أن لا أظفر بغراب إلا قتلته، قال: فغضب، وقال: لقد هممت بتخلية سبيلك، فقالت: لوددت أنك فعلت، وإني عمياء، فوالله ما تزوجتك رغبةً فيك، ولقد كنت آليت أن لا أتزوج بعد قيس أبداً، ولكني غلبني أبي على أمري.

قلبي باك

.../...
47ٍ
 
قلبي باكٍ
أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة في ما أجاز لنا قال: أخبرنا أبو عبيد الله محمد بن عكران المرزياني إجازة قال:
أعادُ من حُبِّكِ لا من ضَنىً ... وأكثرُ العُوَّادِ أشراكي.
وَلَستُ أشكوكِ إلى عَائِدٍ، ... أخافُ أن أشكو إلى شاكي.
إن كنتُ لا أبكي حِذارَ العِدى، ... فإنّ قَلبي أبَداً باكي.

قاتل الله الرقيب
ولي من قصيدة أولها:
إذا كنت من أسر الهوى غير منفك، ... فدع جسدي يضنى ودع مقلتي تبكي.
وفيها:
ألا قَاتَلَ اللهُ الرّقِيبَ ومَوْقِفاً ... بَكينَا به، والبَين يَفتَرّ بالضّحْكِ.
وغرّبَ غرْبانَ النوَى، حينَ بشّرَتْ، ... نعِيباً من البينِ المفرِّقِ بالوَشكِ.
فيَا وَيحَ للعُشّاقِ أمسَتْ دماؤهُم ... تُطَلّ غَرَاماً وهيَ هَيّنَةُ السفكِ.

معبد المغني وغلامه
أخبرنا أب الفتح عبد الواحد بن أحمد بن الحسين بن شيطا وأبو الحسين أحمد بن علي التوزي قالا: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قالك أخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي.
قال: حدثنا أحمد بن أبي طاهر قال: حدثني حماد بن إسحاق عن أبيه قال: كان لمعبد مملوك رباه وأحسن أدبه، فمر به فتىً، فاستطرف الغلام، فاشتراه منه، فلما رحل سمع الفتى الغلام يبكي، ويقول:
وما كُنتُ أخشى مَعبَداً أن يَبِيعَني ... بشيء ولَوْ أضْحَتْ أنامِلُهُ صِفْرَا.
أخوكُمْ ومَوْلاكُم، وصَاحِبُ سرّكم، ... ومَن قد نشا فيكم، وعاصركم دهرَا.
فقال له مولاه: الحق بأهلك، فهم في حل من ثمنك.

الفضل بن الربيع يهوى غلاماً
وبالإسناد قال: أخبرنا الحسين بن القاسم قال: حدثنا أبو محمد عبد الله بن عمر الوراق قال: أخبرني دوست الخراساني قال: اشترى خزام صاحب دواب المعتصم خادماً نظيفاً، وكان عبد الله بن العباس بن الفضل بن الربيع يتعشقه، وقد نشب في ابتياعه، فسأله هبته له، أو بيعه منه، فلم يفعل، فصنع أبياتاً، وعمل فيها لحناً، واتصل خبرها بخزام، وخاف أن يتصل الخبر بالمعتصم فيأتي عليه، فوجه به إليه، وهذه هي الأبيات:
يوْمُ سبتٍ فَصَرِّفا لي المُدامَا ... واسقِيَاني لَعَلّني أن أنامَا.
شَرّدَ النّوْمَ حُبُّ ظَبْيٍ غَريرٍ، ... ما أُرَاهُ يَرَى الحَرَامَ حَرَاما.
اشتَرَاهُ فَتىً بِقَضْمَةِ يَوْمٍ ... أصبَحتْ غِبَّهُ الدوابُّ صُياما.

دمعة هطلت في ساعة البين
وبالإسناد أيضاً قال: أخبرنا الحسين بن القاسم قال: حدثني محمد بن عجلان قال: أخبرني ابن السكيت أن عبد الله بن طاهر عزم على الحج، فخرجت إليه جارية شاعرة، فبكت لما رأت آلة السفر، فقال محمد بن عبد الله:
دَمعَةٌ كاللَؤلؤ الرّط ... بِ على الخدّ الأسيلِ.
هَطَلتْ في ساعةِ البَيْ ... نِ من الطرفِ الكَحيلِ.
ثم قال لها: أجيزي، فقالت:
حِينَ هَمّ القَمَرُ الزّاهِرُ عَنّا بالأفولِ.
إنّما يفتضحُ العشّاقُ في يَوْمِ الرّحِيلَ.
حنّ شوقاً وأنَّ
ولي من نسيب قصيدة:
وأخي لَوْعةٍ لَقِيتُ فَما زا ... لَ بِماءِ الجُفونِ يُبكي الجَفنَا.
يَشتَكي وجدَهُ إليّ وأشكُو ... ما يقاسي قَلبي المشوقُ المعنّى.
ثُمّ لمّا كفّت دموعُ مآقي ... هِ ومني، وَحَنّ شَوْقاً وَأنّا:
قد أفَاقَ العُشّاقُ من سكرَةِ البَيْ ... نِ جَميعاً، فما لنَا ما أفَقنَا؟
قُلتُ: جارَ الهوَى عَلَينَا، فلوْ كنّ ... ا غَداةَ الفِرَاقِ مُتنَا استرَحنَا.

إياس وابنة عمه صفوة
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي التنوخي في ما أجاز لنا قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العابس بن حيويه الخزاز قراءة عليه قال: أخبرنا محمد بن خلف إجازة قال: حدثنا قاسم بن الحسن قال: حدثنا العمري قال: أخبرني الهيثم بن عدي أن إياس بن مرة بن مصعب القيسي كان له أخ يقال له فهر، وكانا ينزلان الحيرة، وأن فهراً ارتحل بأهله وولده، فنزل بأرض السراة، وأقام مرة بالحيرة، وكانت عند مرة امرأة من بكر بن وائل، فلبثت معه زماناً لم يرزق منها ولداً، حتى يئس من ذلك. ثم أتي في منامه، ليلةً من ذلك، فقيل له: إنك إن باشرت زوجتك من ليلتك هذه رأيت سروراً وغبطةً، فانتبه، فباشرها فحملت فلم يزل مسروراً إلى أن تمت أيامها، فولدت له غلاماً، فسماه إياساً، لنه كان آيساً منه، فنشأ الغلام منشأً حسناً.
فلما ترعرع ضمه أبوه إليه، وأشركه في أمره، وكان إذا سافر أخرجه معه لقلة صبره عنه، فقال له أبوه يوماً: يا بني، قد كبرت سني، وكنت أرجوك لمثل هذا اليوم، ولي إلى عمك حاجة، فأحب أن تشخص فيها. فقال له إياس: نعم يا أبه، ولي إلى عمك حاجة، فأحب فأنا لحاجتك. فأعلمه الحاجة، فخرج متوجهاً حتى أتى عمه، فعظم سروره به وسأله عن سبب قدومه، وما الحاجة فأخبره بها، ووعده بقضائها، فأقام عند عمه أياماً، ينتظر فيها قضاء الحاجة.
وكان لعمه بنت يقال لها صفوة، ذات جمال وعقل، فبينا هو ذات يوم جالس بفناء دارهم، إذ بدت له صفوة زائرة بعض أخواتها وهي تهادى بين جوار لها، فنظر إليها إياس نظرة أورثت قلبه حسرة، وظل نهاره ساهياً، وبات وقد اعتكرت عليه الأحزان، ينتظر الصباح، يرجو أن يكون فيه النجاح، فلما بدا له الصبتح خرج في طلبها ينتظر رجوعها، فلم يلبث أن بدت له، فلما نظرت إليه تنكرت ثم مضت فأسرعت، فمر يسعى خلفها، يأمل منها نظرة، فلم يصل إليها، وفاتته فانصرف إلى منزله، وقد تضاعف عليه الحزن واشتد الوجد، فلبث أياماً، وهو على حاله، إلى أن أعقبه ذلك مرضاً أضناه وأنحل جسمه، وظل صريعاً على الفراش.
فلما طال به سقمه وتخوف على نفسه بعث إلى عمه لينظر إليه ويوصيه بما يريد، فلما رآه عمه ونظر إلى ما به سبقته العبرة إشفاقاً عليه، فقال له إياس: كف، جعلت فداك يا عم، فق أفرحت قلبي. فكف عن بعض بكائه، فشكا إليه إياس ما يجد من العلة. فقال له: عز، والله، علي يا ابن أخي، ولن أدع حيلةً في طلب الشفاء لك. فانصرف إلى منزله، وأرسل إلى مولاةٍ له كانت ذات عقل فأوصاها به، وبالتعاهد له، والقيام عليه.
فلما دخلت المولاة عليه فتأملته علمت أن الذي به عشق، فقعدت عند رأسه، فأجرت ذكر صفوة لتستيقن ما عنده، فلما سمع ذكرها زفر زفرةً، فاقلت المرأة: والله ما زفر إلا من هوىً داخله ولا أظنه إلا عاشقاً. فأقبلت عليه كالممازحة له فقالت له: حتى متى تبلي جسمك، فوالله ما أظن الذي بك إلا هوى. فقال لها إياس: يا أمه، لقد ظننت بي ظن سوء، فكفي عن مزاحك. فقالت: إنك والله لن تبديه إلى أحد هو أكتم له من قلبي. فلم تزل تعطيه المواثيق وتقسم عليه إلى أن قالت له: بحق صفوةّ فقال لها: لقد أقسمت علي بحق عظيم لو سألتني به روحي لدفعتها إليك، ثم قال: والله يا أمه ما أعظم دائي إلا بالاسم الذي أقسمت علي بحقه، فالله الله في كتمانه وطلب وجه الحيلة فيه.
فقالت: أما إذ أطلعتني عليه، فسأبلغ فيه رضاك، إن شاء الله، فسر بذلك، وأرسل معها بالسلام إلى صفوة. فلما دخلت عليها ابتدأتها صفوة بالمسألة عن الذي بلغها من مرضه وشدة حاله، فاستبشرت المولاة بذلك، ثم قالت: يا صفوة ما حالة من يبيت الليل ساهراً محزوناً يرعى النجوم ويتمنى الموت؟ فقالت صفوة: ما أظن هذا على ما ذكرت بباقٍ، وما أسرع منه الفراق.
ثم أقبلت عى المولاة فقالت: إني أريد أن أسألك عن شيء فبحقي عليك لما أوضحته. فقالت: وحقك إن عرفته لا كتمتك منه شيئاً.
قالت: فهل أرسلك إياس إلى احد من أهل وده في حاجة؟ فقالت المولاة: والله لأصدقنك، والله ما جل دائه وعظم بلائه إلا بك، وما أرسلني بالسلام إلا إليك، فأجيبيه إن شئت،أو دعي. فقالت: لا شفاه الله، والله لولا ما أوجب من حقك لأسأت إليك، وزجرتها، فخرجت من عندها كئيبة، فأتته فأعلمته فازداد على ما كان به من مرضه، وأنشأ يقول:
كتمتُ الهوَى حتى إذا شبّ واستوَتْ ... قُوَاه، أشاعَ الدّمعُ ما كنتُ أكتُمُ.
فَلَمّا رأيتُ الدّمعَ قد أعلنَ الهوَى ... خَلَعتُ عِذاري فِيه، والخَلعُ أسلَمُ.
فيا وَيحَ نفسي كيف صَبري على الهوَى ... وقلبي وروحي عندَ مَن ليسَ يرْحمُ.
قال: ثم إن عمه دخل عليه ليعرف خبره، فقال له: يا عم، إلي مخبرك بشيء لم أخبرك به حتى برح الخفاء ولم أطق له محملاً، فأخبره الخبر، فزوجه فأفاق وبرأ من علته.

إبليس يغني
أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في ما أجاز لنا قال: أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا الربيعي قال: قال إبراهيم القارئ: رأيت إبليس في النوم شيخاً أبيض الرأس واللحية، وهو يغني بصوتٍ شجٍ:
أسهَرْتَ لَيلَ المُستَهامْ، ... ونَفَيتَ عن عيني المنامْ.
وَهَجَرْتَني مُتَعَمّداً، ... ما هكَذا فِعلُ الكِرَامْ.

محنة العاشق
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: أخبرني أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: أخبرني الصولي قال: قال أبو تمام:
أنتَ في حلّ فزِدني سَقَما، ... افنِ صَبري واجعل الدمعَ دما.
وارْضَ لي الموْتَ بهَجرتكَ فإن ... ألِمَتْ نَفْسي، فَزِدْني ألَمَا.
محْنَةُ العَاشِقِ ذلٌّ في الهَوَى، ... فَإذا استُودِعَ سِرّاً كتَمَا.
ليسَ مِنّا مَن شَكا عِلّته، ... مَن شَكا ظُلمَ حَبِيبٍ ظَلَمَا.

المأمون والعباس بن الأحنف
أخبرنا أبو الحسين محمد بن علي بن الجاز القرشي بالكوفة بقراءتي عليه سنة إحدى وأربعين وأربعمائة، وأنا متوجه إلى مكة، قال: حدثنا أبو محمد عبد الرحمن بن عمر بن محمد بن سعيد بن إسحاق البزاز في ما كتب به إلينا قال: حدثنا أبو هريرة أحمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسن بن محمد بن إسماعيل بن موسى قال: رأيت في كتاب الأخبار لأبي أن المأمون لما خرج إلى خرسان كان في بعض الليل جالساً في ليلة مقمرة إذ سمع مغنياً يغني من خيمة له:
قالُوا: خُرَاسان أقصى ما تحاوِلُه، ... ودونَ ذاكَ، فقَد جُزْنا خُرَاسانا.
ما أقدَرَ اللهَ أن يُدني بِعِزّتِه ... سُكانَ دِجلَةَ من سكان جَيحانا.
عَيناً أظُنّ أصَابَتنَا، فلا نَظَرَتْ، ... وَعُذّبت بِصنُوفِ الهجرِ ألوَانا.
متى يكونُ الذي أرجو وآمُلُه، ... أما الذي كنتُ أخشاه فقد كانا.
فخرج المأمون من موضعه حتى وقف على الخيمة، وعلمها، فلما كان من الغد وجه فأحضر صاحب الخيمة، وهو شاب، فسأله عن اسمه، فقال العباس بن الأحنف. قال: أنت الذي كنت تقول:
متى يكونُ الذي أرجو وآمُلُه، ... أمّا الذي كنتُ أخشاه فقد كانا.
قال: نعم. قال: ما شأنك؟ قال: يا أمير المؤمنين تزوجت ابنة عم لي، فنادى مناديك يوم أسبوعي في الرحيل إلى خراسان، فخرجت، فأعطاه رزق سنة، ورده إلى بغداد، وقال: أقم إلى أن تنفقها، فإذا نفدت رجعت.

مهجور لا مسحور
أنبأنا أبو سعيد مسعود بن ناصر السخبري، وقد قدم علينا بغداد، قال: أنبأنا أبو القاسم بن عمر ببغداد قال: أنشدنا أبو علي الحسن بن عبد الله الزنجاني لبعضهم:
قال الطّبِيبُ لأهلي حينَ أبْصَرَني: ... هذا فَتاكُم، وحقِّ الله، مَسحورُ.
فقُلتُ: ويحَكَ! قد قارَبتَ في صِفتي ... عينَ الصّوَابِ، فَهَلاّ قلتَ: مهجورُ.

صيرت لحظها سلاحاً
أخبرنا أبو سعيد أيضاً قال: حدثني أبو غانم حميد بن مأمون بهمذان قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن عبد الرحمن الشيرازي قال: أخبرني أبو العباس الوليد بن بكر الأندلسي قال: أنشدنا أبو عمر يوسف بن عبد الله الملقب بأبي رمال، على البديهة، إذ غبر عليه حبيبه:
بُحتُ بوَجدي، ولوْ غَرَامي ... يكونُ في جَلْمَدٍ لَبَاحا.
أضَعتُمُ الرُّشدَ في مُحِبٍّ ... لَيسَ يرَى في الهوَى جُناحا.
لم يستطِعْ حملَ ما يلاقي، ... فَشَقّ أثوَابَه وَناحَا.
مُحَيَّرَ المُقْلَتَيِنِ قُلْ لي: ... هلْ شَرِبَتْ مُقلتاكَ رَاحَاً؟
نَفسي فِدَا لِمّةٍ وَوَجْهٍ ... قَد كمّلا اللّيلَ والصّبَاحَا.
وَمُقْلَةْ أُولِعَتْ بِقَتلي، ... قد صَيّرَتْ لحْظَها سِلاحا.
وَعَقرَبٍ سُلّطَتْ عَلَينَا، ... تَملأ أكبَادَنَا جِرَاحَا.

جمال يلهي الناس
أخبرنا إبراهيم بن سعيد بمصر في سنة خمس وخمسين وأربعمائة بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة:
كان كامل بن المخارق الصوفي من أحسن ما رأيته من أحداث الصوفية وجهاً، وكان قد لزم منزله، وأقبل على العبادة، فكان لا يخرج إلا من جمعة إلى جمعة، فإذا خرج يريد المسجد، وقف له الناس، ورموه بأبصارهم ينظرون إليه، فقدم به علينا حجار بن قيس المكي دمشق، وكان أحد الفصحاء العقلاء، وكان لي صديقاً، فكلمني جماعة من أصحابه أسأله أن يجلس لهم مجلساً يتكلم عليهم فيه، ويسألونه، فكلمته فوعدهم يوماً، فاتعدنا لذلك اليوم، ودعا الناس بعضهم بعضاً.
فلما أن كان يوم الجمعة وصلى الناس الغداة، أقبلوا من كل ناحية، فوقف يتكلم علينا، فبينا هو كذلك، إذ أقبل كامل بن المخارق، فلما رأته النسا رموه بأبصارهم، وشغلوا بالنظر إليه عن الاستماع منه، وفطن بهم حجار، فقطع كلامه، وقال: يا قوم! ما لكم لا ترجون لله وقاراً، ألم تروا كيف خلق الله سبع سموات طباقاً، وجعل القمر فيهن نوراً، وجعل الشمس سراجاً، فوالله لما تنظرون منهما على بعدهما أعجب إلي من نظركم إلى هذا، فاحذروا أن تعود عليكم النفوس بعوائد حكمهان إذا حالت القلوب في غامض فكرها، أتنظرون إلى جمال تحول عنه نضرته، ووجه تتخرمه الحادثات بعد خبرته؟ ما هذا نظر المشتاقين، اين تذهب منها محبوب نفوسكم ومطالبة قلوبكم إلا بإحدى ثلاثٍ: إما بتوبة يتلافاكم الله، عز وجل، بها، أو عصمة يتغمدكم برحمته فيهان أو يطلقكم وما تطلبون، فإما أن تحول أقداره بينكم وبين شهواتكم، وإما تبلغوا منها إرادتكم فتسخطوه عليكم، أما سمعتموه، تعالى ذكره، يقول: ذلك بأنهم اتبعوا ما أسخط الله وكرهوا رضوانه، فأحبط أعمالهم؟ ثم أخذ في كلامه، فأحيطت من أحرم من مجلسه ذلك اليوم نيف على سبعين بين رجل وغلام.

مجنون مصفد بالحديد
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام سنة ست وأربعين وأربعمائة.
قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: حكي لي عن حبيب بن محمد بن خالد الواسطي قال: دخلت يوماً على علي بن عثام، فوجدته باكياً حزيناً ذاهب النفس، فانكرته، فسألته عما دهاه، فقال: اعلم أني مررت بالحريبة فرأيت مجنوناً مصفداً في الحديد يتمرغ في التراب ويقول:
ألا ليتَ أنّ الحِبّ يعشقُ مَرّةً، ... فيَعرِفَ ماذا كان بالناس يصنْعُ.
يقولونَ فُزْ بالصّبرِ! إنّكَ هالِكٌ، ... ولَلصّبرُ مني، إن أُحاوِلْه، أجزَعُ.

إما موت أو حياة
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا محمد بن القاسم قال: أنشدني إبراهيم بن أحمد الشيباني لقيس بن ذريح:
لقَد عَنّيْتَني يا حُبَّ لُبنى، ... فَقَعْ إمّا بِمَوْتٍ أوْ حَيَاةِ.
فإنّ المَوْتَ أيسَرُ من حَيَاةٍ ... منَغَّصَةٍ لها طَعمُ الشّتاتِ.
وقالَ الآمِرُونَ: تَعَزّ عَنْهَا، ... فقلتُ: نَعَم، إذا حانَتْ وفاتي!.

عاشقان يصليان
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن أيوب قال: حدثنا محمد بن عمران قال: حدثني أحمد بن محمد الجوهري قال: حدثنا الحسن بن عليل العنزي قال: رأيت عاشقين اجتمعا، فجعلا يتحدثان من أول الليل إلى الغداة، ثم قاما إلى الصلاة.

الحياء المانع
قال محمد بن عمران وأخبرنا الصولي قال: أنشدنا محمد بن القاسم:
كم قد خَلَوْتُ بمَن أهوَى فيمنَعُني ... منه الحَياءُ، وقد أوْدى بِمَعقُولي.
بَأبي الحَيَاءُ وَشَيْبي أنْ أُلِمّ بِهِ، ... وَخَشيَةٌ بَعدُ مِن قالٍ ومِن قِيلِ.

العشاق الأعفاء
قال وأنشدنا إبراهيم بن محمد بن عرفة لنفسه:
كم قد ظفِرْتُ بمَن أهوَى فيمنَعُني ... منهُ الحَياءُ وخوْفُ الله والحَذَرُ.
وكم خَلَوْتُ بمَن أهوَى فَيُقنِعُني ... منه الفُكاهَةُ والتّحديثُ والنَّظَرُ.
كذلك الحب لا إتيان معصيةٍ، ... لا خير في لذةٍ من بعدها سقر.
وللعطوي من أبيات:
إن أكنْ عاشِقاً فإني عفيفُ الل ... حْظِ واللفظِ عن ركوبِ الحَرَامِ.
كنت ماراً بين تيماء ووادي القرى، وأظنه في سنة اثنتين وأربعين وأربعمائة، صادراً من مكة، فرأيت صخرةً عظيمةً ملساء فيها تربيع بقدر ما يجلس عليها النفر كالدكة، فقال بعض من كان معنا من العرب، وأظنه جهيناً: هذا مجلس جميلٍ وبثينة فاعرفه.

سيوف البين
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: أخبرنا محمد بن القاسم الأنباري قال: أنبأني أبي قال: أنشدنا أحمد بن عبيد:
ضَعُفتُ عن التسلِيمِ يوْمَ فِرَاقها، ... فَوَدّعتُها بالطّرْفِ والعَينُ تَدمَعُ.
وأمسَكتُ عن رَدّ السلامِ، فمن رَأى ... مُحبّاً بطَرْفِ العَينِ قَبلي يُوَدِّعُ.
رَأيتُ سُيوفَ البينِ عندَ فِرَاقِهَا، ... بأيدي جنودِ الشوْقِ، بالمَوْتِ تَدفَعُ.
عَلَيكِ سَلامُ اللهِ مني مُضَاعَفاً، ... إلى أن تغيبَ الشمسُ من حيثُ تَطلُعُ.

لقاء في الجنة
أخبرنا أحمد بم علي بن محمد السواق قال: اخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال: حدثنا عبد الله بن إبراهيم الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا عبد الله بن عبيد قال: حدثني محمد بن الحسين في إسناد لا أحفظه قال: علق فتىً من الحي بنت عم له، فخطبها إلى أبيها، فرغب بها عنه، فبلغ ذلك الجارية، فأرسلت إليه: قد بلغني حبك إياي، وقد أحببتك لذلك لا لغيره، فغن شئت خرجت إليك بغير علم أهلي، وإن شئت سهلت لك المجيء. فأرسل إليها: كل ذلك لا حاجة لي فيه، إني أخاف أن يلقيني حبك في نار لا تطفأ وعذاب لا ينقطع أبداص. فلما جاءها الرسول بكت، ثم قالت: لا أراك راهباً، والله، ما أحد أولى بهذا الأمر من أحدٍ، إن الخلق في الوعد والوعيد مشتركون.
قال: فتدرعت الشعر وأقبلت على العبادة، فكبر ذلك على أهلها وعلى أبيها، فلم تزل تتعبد حتى ماتت. فكان الفتى يأتي قبرها كل ليلة، فيدعوه لها ويستغفر وينصرف. فأخبرنا أنه رآها في المنام فقال لها: فلانة؟ قالت: نعم، ثم قالت:
نعم المحبة، يا سؤلي، محبتكم، ... حب يجر إلى خير
إلى نَعيمٍ وعَيشٍ لا زَوَالَ لَه، ... في جنّة الخلدِ خلدٍ ليسَ بالفاني.
قال: فقلت لها: أيتها الحبيبة، أفتذكرينني هناظ؟ قال: فقالت: والله إني لأتمناك على مولاي ومولاك، فأعني على نفسك بطاعته، فلعله يجمع بيني وبينك في داره، ثم ولت، فقتل لها: متى أراك؟ قلت: تراني قريباً إن شاء الله. قال: فلم يلبث الفتى بعد هذه الرؤيا إلا قليلاً حتى مات فدفن إلى جانبها.

صخر بن الشريد وزوجته
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الحازري بقراءتي عليه قال: حدثنا المعافى بن زكريا قال: حدثنا محمد بن الحسن بن دريد قال: حدثنا أبو حاتم قال: حدثنا الأصمعي قال: التقى صخر بن عمرو بن الشريد السلمي ورجل من بني أسد، فطعن الرجل صخراً، فقيل لصخر: كيف طعنك؟ قال: كان رمحه أطول من رمحي بأنبوب، فضمن صخر منها، وطال مرضه، وكانت أمه إذا سئلت عنه، قالت: نحن بخير ما رأينا سواده بيننا، وكانت امرأته، إذا سئلت عنه، قالت: لا هو حي فيرجى، ولا ميت فينعى، فقال صخر:
أرَى أُمَّ صَخْرٍ لا تَمَلّ عِيادتي، ... ومَلّتْ سُلَيمى مضْجَعي ومكاني.
إذا ما امرُؤ سَوّى بأُمٍّ حَلِيلَةً، ... فَلا عاشَ إلاّ في شَقا وهَوَانِ.
لَعمري لقد أيقظتِ من كان نائماً، ... وأسمَعتِ مَن كانتْ له أُذُنانِ.
بَصِيراً بوَجهِ الحَزْمِ لوْ يستطيعُه، ... وقد حِيلَ بينَ العَيرِ والنّزوَانِ.
قال المعافى بن زكيرا ويروى: أهم بأمر الحزم لو أستطيعه. وقول أم صخر: ما رأينا سواده أي شخصه. قال الشاعر: بين المخازم يرتقبن سوادي، أي شخصي.

نوم الفهد
أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح الروذباري بقراءتي عليه بمصر، سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو مسلم الكاتب إجازة قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرنا عبد الرحمن عن عمه قال: مرض أعرابي من بني نمير يقال له: حنيف بن مساور، وكانت له امرأة من قومه يقال لها زرعة بنت الأسود، وكان لها محباً. فلما اشتد وجعه جلست عند رأسه، فأنشأ يقول:
يا زٍرْعَ دومي واحفظي لي عَهدي، ... كَمْ مِنْ مُنِيرٍ بَينَنَا مسدّي.
وَكاشِحٍ، يا زَرْعَ، بادي الحِقدِ، ... يا زرعَ إن وَسّدتِني في لحدي.
وَجَاءَكِ الخاطِبُ بَعدَ الوَفْدِ، ... وقلتِ: عَبدٌ بدَلٌ من عَبْدٍ.
فَخَصّكِ اللهُ بِفَذٍّ ... وَغْدِ يَنَامُ في بَيتِكِ نَوْمَ فَهْدِ.
قال: فمات، فوالله ما انقضت عدتها، إلا ريثما تزوجت، فكأنه كان يرى زوجها، وهو كما وصف.

لم يفوا ولم يرحموا
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا الأستاذ أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا الفوارس بن حنيف بن أحمد بن حنيف الطبري قال: سمعت أبا الحسن العيشي المؤدب يقول: انحدرت من بالس أريد العراق، فدخلت الموصل، فأقمت بها أياماً، فبينا أنا مار في بعض أزقتها، إذا صياح وجلبةٌ، فسألت عنها فقيل: ههنا دار المجانين، وهذا صوت بعضهم، فدخلت، فإذا شاب مشدود متشحط في الدم، فسلمت، فرد السلام، وقال: من أين؟ تجيء قلت: من بالس. قال: وأين تريد؟ قلت: العراق. فقال: أتعرف بني فلان؟ وأشار إلى أهل بيتٍ. قلت: نعم. قال: لا صنع الله لهم ولا خار لهم، هم الذين أدهشوني وتيموني وأحلوني هذا المحل. قلت: وما فعلوا؟ قال:
زَمّوا المَطايا واستَقلّوا ضُحىً ... ولم يُبالوا قلبَ مَن تَيّمُوا.
ما ضَرّهُم، واللهُ يرْعاهُمُ، ... لوْ وَدّعُوا بالطَّرْفِ أوْ سَلّموا.
ما زِلتُ أذري الدمعَ في إثرِهِم، ... حتى جرَى من بَعدِ دمعي دمُ.
ما أنصَفوني، يوْمَ بانوا ضُحىً، ... ولم يفُوا عَهدي ولم يَرْحَمُوا.

ضجيج الكواكب
أنبأنا محمد بن أبي نصر بدمشق قال: أنشدني علي بن أحمد ليحيى بن هذيل:
إذا حَبَستُ على قَلبي يدي بِيَدي، ... وَصِحتُ في الليلَةِ الظَّلماءِ واكبِدي.
ضَجّتْ كَوَاكِبُ ليلى في مَطالِعِها، ... وَذابَتِ الصّخرَةُ الصّمَّاء من كَمَدي.

الهوى حلو ومر
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا المعافى بن زكريا الجريري قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثنا ابن أبي الدنيا قال: حدثني أبو الوضاح عن الواقدي عن أبي الجحاف قال: إني لفي الطواف وقد مضى أكثر الليل وخف الحاج إذا امرأة قد أقبلت كأنها شمس على قضيب غرس في كثيب، وهي تقول:
رَأيتُ الهوَى حُلواً إذا اجتمَعَ الوَصْلُ، ... ومُرّاً على الهِجرَان، لا بل هوَ القتلُ.
وَمَنْ لمْ يَذُقْ للهَجْرِ طَعْماً، فَإنّهُإذا ذاقَ طَعْمَ الحبّ لم يدرِ ما الوَصْلُ.
وقد ذُقتُ من هذين في القرْبِ والنَّوَى، ... فأبعَدُه قَتلٌ وأقرَبُه خَبْلُ.

زليخا ويوسف
أخبرنا القاضي أبو علي زيد بن أبي حيويه قال: حدثنا أبو محمد الحسن بن عمر بن علي الحلباني.
قال: حدثنا محمد بن سعيد قال: حدثنا ابن عليل المطيري قال: حدثنا ابن الدروقي قال: حدثنا سلمة بن شبيب قال: حدثنا إسماعيل بن عبد الكريم عن عبد الصمد بن معقل عن وهب قال:
لما خلت زليخا بيوسف، عليه السلام، ارتعد يوسف. فقالت زليخا: من أي شيء ترعد، إنما جئت بك لتأكل وتشرب وتشتم رائحتي، وأشتم رائحتك. قال: يا أمة الله، لست لي بحرمة. قالت: فمن أي شيء تفزع؟ قال: من سيدي. قالت: الساعة، إذا نزل من الركوب، واخذت بيدي الكأس المذهب والإبريق المفضض، سقيته شربةً من السم، وألقيت لحمه عن عظمه. قال لها: لا تفعلي، فلست ممن يقتل الملوك، وإنما أخاف من إله السماء. قالت له: فعندي من الذهب والفضة والجواهر والعقيق ما أفديك منه. قال: هو لا يقبل الرشا. قالت: دع عنك هذا! قم اسق أرضي. قال: لا ازرع أرض غيري. قالت: فارفع رأسك انظر إلي! قال: أخاف العمى في آخر عمري. قالت: فمازحني ترجع إلي نفسي. قال: يا أمة الله! لست لي بحرمة فأمازحك. قالت: فلا صبر لي عن هذه الذؤابة التي بلغت إلى قدميك، ليتني وسمتها مرةً واحدةً. قال: أخشى أن تحشى من قطران جهنم، يا هذه، هوذا الشيطان يعينك على فتنتي، لا تشوهي بخلقي ذا الحسن الجميل، فادعى في الخلق زايناً، وفي الوحوش خائناً، وفي السماء عبداً كفوراً.
قال وهب: ولان من يوسف، عليه السلام، مقدار جناح بعوضة، فارتفعت الشهوة إلى وجهه، وفاستنارت، وكان سرواله معقوداً تسع عشرة عقدةً، فحل أول عقدة، وإذا قائل يقول من زاوية البيت: إن الله كان عليكم رقيباً! ثم حل العقدة الثانية، فإذا قائل يقول: ولا تقربوا الفواحش ما ظهر منها وما بطن. فأوحى الله، عز وجل، إلى جبريل: الحقه، فغنه المعصوم في ديوان الأنبياء! فانفرج السقف في أقل من اللمح فنزل جبريل، عليه السلام، فضرب صدره ضربةً، فخرجت شهوته من أطراف أنامله فنقص منه ولد، فولد لكل رجل من أولاد يعقوب، عليه السلام، اثنا عشر ولداً، ما خلا يوسف، عليه السلام، فإنه ولد له أحد عشر. فقال: يا رب ماذا خبري؟ لم ألحق بأخوتي في الويد، فأوحى الله، عز وجل، إليه: إن الشهوة التي خرجت من أناملك حاسبناك بها.
وبإسناده قال وهب: لما أراد الله بيوسف الخير قامت زليخا إلى طاق لها، فارخت عليه ستراً، وكان لها في الطاق صنم من خشبٍ تعبده، فقال لها يوسف، عليه السلام: ماذا صنعت؟ قالت: استحييت من إلهي أن يراني أصنع الفاحشة. قال: فأنت تستحيين من إله من خشب لا يضر ولا ينفع ولا يخلق ولا يسمع ولا يبصر، فأنا أستحيي ممن أكرم مثواي، واحسن مأواي، واستبقا الباب. قالت زليخا: يا يوسف، بليت منك بخصلتين: ما رأيت بشراً أحسن منك، والثانية زوجي عنين. فلما تزوجها يوسف، عليه السلام، فأبصر بعينيها حولاً قال: يا زليخا! أو حولاء؟ قالت له: ما علمت؟ قال: لا والله! قالت: ما استحللت أن أملأ عيني منك.
قال وهب بن منبه: وكانت زليخا ممنوعة من الشقاء، وكانت أجمل من بطشابع صاحبة داود، عليه السلام.

انتظري الدهر
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه قال: حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا عبد الله بن جعفر بن إسحاق الجابري الموصلي بالبصرة قال: حدثنا محمد بن ياسر الكاتب كاتب ابن طولون قال: حدثني أبي قال: حدثنا علي بن إسحاق قال: اشترى عبد الله بن طاهر جاريةً بخمسة وعشرين ألفاً على ابنة عمه، فوجدت عليه، وقعدت في بعض المقاصير، فمكثت شهرين لا تكلمه، فعمل هذين البيتين:
إلى كم يكونُ العَتْبُ في كلّ سَاعَةٍ، ... وكم لا تَمَلّينَ القَطِيعَةَ والهَجرَا.
رُوَيْدَكِ! إنّ الدهرَ فِيهِ كِفايَةٌ ... لتَفريقِ ذاتِ البَينِ، فانتَظرِي الدهرَا.
قال: وقال للجارية: اجلسي على باب المقصورة فغني به! قال: فلما غنت البيت الأول لم تر شيئاً، فلما غنت البيت الثاني، إذا هي قد خرجت مشقوقة الثوب حتى أكبت على رجله فقبلتها.

هبوا ساعةً
أخبرني أبو عبد الله الحافظ الأندلسي بدمشق قال: أنشدني أبو عبد الله بن حزم لنفسه:
صِلوا رَاحِلاً عَنكُم بتَأنِيس لَيلَةٍ، ... فسوْفَ يَغِيبُ المَرْءُ عنكم لَيالِيَا.
هَبوا ساعةً يسترجع الطَّرفُ ضِعفَها، ... فِدىً لكُمْ نَفْسي وأهلي وَمالِيَا.
وَلا تَحسَبوا عَوْنَ الزّمانِ، فأنّه ... لَنَا وَلَكُم يُمسي ويَضْحَى مُعاديا.

الله يحب التوابين
أخبرنا أبو الحسن علي بن صالح بن علي بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو مسلم محمد بن أحمد الكاتب في ما أجاز لنا قال: حدثنا ابن دريد قال: أخبرنا الحسن بن خضر قال: أخبرني رجل من أهل بغداد عن أبي هاشم المذكر قال: أردت البصرة، فجئت إلى سفينة أكتريها، وفيها رجل ومعه جاريةٌ، فقال الرجل: ليس ههنا موضع! فسألته الجارية أن يحملني، فحملني، فلما سرنا، دعل الرجل بالغداء، فوضع، فقال: انزلوا بذكل المسكين ليتغدى، فأنزلت على أنني مسكين، فلما تغدينا، قال: يا جارية هاتي شرابك، فشرب، وأمرها أن تسقيني، فقلت: رحمك الله، إن للضيف حقاً، وهذا يؤذيني. قال: فتركني، فلما دب فيه النبيذ قال: يا جارية هاتي العود وهاتي ما عندك، فأخذت العود، ثم غنت:
وكُنّا كَغُصْنَي بانَةٍ لَيسَ وَاحِدٌ ... يزُولُ على الحالاتِ عن رأي واحِدِ.
تَبَدَلّ بي خِلاًّ فَخَالَلْتُ غيرَهُ، ... وَخَلّيْتُهُ لمّا أرَادَ تَبَاعُدي.
فَلَوْ أنّ كفّي لم تُرِدني أبَنْتُها،وَلمْ يَصْطَحِبْها، بعدَ ذلكَ، ساعِدي.ألا قَبّحَ الرّحمنَ كلَّ مماذقٍيكونُ أخاً في الحَفض لا في الشدائد.
ثم التفت إلي فقال: أتحسن مثل هذا؟ فقلت: أحسن خيراً منه، فقرأت: إذا الشمس كورت، وإذا النجوم انكدرت، وإذا الجبال سيرت. فجعل يبكي، فلما انتهيت إلى قوله: وإذا الصحف نشرت، قال: يا جارية اذهبي، فأنت حرة لوجه الله، عز وجل، وألقى ما معه من الشارب في الماء، وكسر العود، ثم دنا إلي، فاعتنقني وقال: يا أخي أترى الله يقبل توبتي؟ فقلت: إن الله حب التوابين، وحب المتطهرين، قال: فآخيته بعد ذلك أربعين سنة حتى مات قبلي، فرأيته في المنام فقلت: إلام صرت بعدي؟ فقال: إلى الجنة. فقلت: يا أخي بم صرت إلى الجنة؟ قال: بقراءتي علي: وإذا الصحف نشرت.

رجل لا يملك دمعه
أخبرنا إبراهيم بن سعيد إجازة قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي، وحدثني أبو الغمر حسام بن المضاء المصري قال: غزوت في زمن الرشيد في بعض المراكب فلججنا في البحر، فانكسر بنا في بعض جزائر صقلية، فخرج من أفلت، وخرجت معه فرأيت في بعض الجزائر رجلاً لا يملك دمعه من كثرة البكاء، فسألته عن حاله، وقلت له: ارفق بعينيك، فإن البكاء قد أضر بهما. قال: إلا ذلك. فقلت: وما جنايتهما عليك حتى تتمنى لهما البلاء؟ فقال: جناية لا أزال معتذارً منها إلى الله تعالى أيام حياتي. قلت: وما هي؟ قال: سرعة نظرهما إلى الأمور المحظورة عليها، ولقد أوقعتاني في ذنب نظرت إليه، لولا الرجاء لرحمة الله لأيست أن يعفو لي عنه. وبالله لو صفح الله لي عنه وأدخلني الجنة ثم تراءى لاستحييت أن أنظر إليه بعينين عصتاه، ثم صعقن وسقط مغشياً عليه.

حنين المغنية الحسناء إلى بغداد
أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر الأندلسي بمصر، وكتبه لي بخطه قال: أخبرني أبو محمد اليزيدي قال: حدثنا الزبير قال: حدثني أبو علي بن الأشكري المضري قال: كنت من جلاس تميم بن أبي أوفى، وممن يخف عليه، فبعث بي إلى بغداد، فاتبعت له هناك جاريةً رائعة جداً، فلما حصلت عند أقام دعوةً لجلسائه، قال: وأنا فيهم، ثم وضعت الستارة، وأمرها بالغناء ليسمع غناءها، ويحاسن الحاضرين بها، فغنت:
وبَدا له من بَعد ما اندَمل الهوَى ... برْقٌ تَألّقَ موهناً لمَعَانُه.
يبدو كحاشِيَة الرِّداءِ، ودونَه ... صَعبُ الذُّرَى متَمَنّعٌ أركانُه.
فالنارُ ما اشتَمَلَتْ عَلَيه ضلوعُه، ... والماءُ ما سَمَحَتْ به أجفانُه.
قال: فأحسنت ما شاءت، وطرب تميم وكل من حضر، ثم غنت:
سَيُسلِيكَ عمَّا فاتَ دولةُ مُفضِلٍ ... أوَائِلُهُ مَحْمودَةٌ وأوَاخِرُه.
ثنى اللهُ عِطفَيه وألّفَ شخصَهُ، ... على البِرّ، مذ شُدّتْ عليه مآزِرُه.
قال: فطرب تميم ومن حضر طرباً شديداً، ثم غنت:
أستودع الله في بَغْدادَ لي قَمَراً ... بالكَرْخِ من فَلكِ الأزرارِ مطلِعُه.
قال: فاشتد طرب تميم، وأفرط جداً، ثم قال لها: تمني ما شئت، فلك متمناك. فقالت: أتمنى عافية الأمير وبقاءه. فقال: والله لا بد لك أن تتمني. فقالت: على الوفاء أيها الأمير بما أتمنى؟ فقال: نعم!، فقالت له: أتمنى أن أغني بهذه النوبة ببغداد. قال: فاستنقع لون تميم، وتغير وجهه، وتكدر المجلس، وقام وقمنا كلنا.
قال ابن الأشكري: فلحقني بعض خدمه، وقال لي: ارجع فالأمير يدعوك فرجعت، فوجدته جالساً ينتظرني، فسلمت وجلست، فقال: ويحك أرأيت ما امتحنا به؟ قلت: نعم أيها الأمير. فقال: لا بد من الوفاء لها، وما اثق في هذا بغيرك، فتأهب لتحملها غلى بغداد، فإذا غنت هناك فاصرفها. فقلت: سمعاً وطاعةً. قال: ثم قمت وتأهبت وأمرها بالتأهب وأصحبها جاريةً سوادء تخدمها، وأمر بناقةٍ ومحمل، فأدخلت فيهن وجعلها معين ثم دخلنا الطريق إلى مكة مع القافلة، فقضينا حجنا، ثم دخلنا في قافلة العراق، فلما وردنا القادسية، أتتني السوداء عنها، فقالت: تقول لك سيدتي: أين نحن؟ فقلت لها: نحن نزول بالقادسية. فانصرفت إليها وأخبرتها، فلم أنشب أن سمعت صوتها قد اندفع بالغناء:
لمّا وَرَدنَا القَادِسِيّ ... ة حيثُ مجْتَمَعُ الرّفِاقِ.
وَشممتُ من أرْض الحجا ... زِ نَسيمَ أنفاسِ العرَاقِ.
أيْقَنتُ لي ولمَن أُحِ ... بّ بجمعِ شَملٍ واتّفاقِ.
وَضَحِكتُ من فَرحِ اللّقا ... ء كما بَكيتُ من الفرَاقِ.
فتصايح الناس من أقطار القافلة: أعيدي بالله! فما سمع لها كلمة. قالك ثم نزلنا بالياسرية، وبينها وبين بغداد قريب في بساتين متصلة من الناس فيبيتون ليلتهم، ثم يبكرون لدخول بغداد، فلما كان قرب الصباح، إذا أنا بالسوداء قد أتتني ملهوفة. فقلت: ما لك؟ فقالت: إن سيدتي ليست حاضرةً! فقلت:وأين هي؟ قالت: والله ما أدري. قال: فلم أحس لها أثراً، فدخلت بغداد، وقضيت حوائجي بها، وانصرفت إلى تميم فأخبرته الخبر، فعظم ذلك عليه، ثم ما زال بعد ذلك ذاكراً لها واجماً عليها.

الأسود المتيم بالله
أخبرنا أبو الحسن علي ن محمود الزوزني شيخ الرباط بقراءتي عليه قال: سمعت محمد بن محمد بت ثوابة يقول: حكي لي عن الشبلي أنه دخل إلى مارستان، فإذا هو بأسود، إحدى يديه مغلولة إلى عنقه، والأخرى إلى سارية، وهو مقيد بقيدين. قال: فلما رآني قال لي: يا أبا بكر قل لربك أما كفاك أن تيمني بحبك حتى قيدتني؟ ثم أنشأ يقول:
على بُعدِكَ لا يصْبِرُ مَن عادَتُهُ القربُ.
وعن قُرْبِكَ لا يصْبرُ من تيّمه الحُبّ.
فإن لم تَرَكَ العَيْنُ فقد أبصرَكَ القلبُ.
قال: فزعق الشبلي، وأغمي عليه، فلما أفاق رأى الغل مطروحاً والقيد والأسود مفقودين.

hلشبلي وشعر المجنون
أخبرنا أبو الحسن الزوزني أيضاً على أثره قال: قال لي علي بن المثنى: دخلت على أبي بكر جحدر بن جعفر الملقب بالشبلي في داره يوماً، وهو يهيج ويقول:
على بُعدكَ لا يَصْبِرُ مَن عادتُهُ القربُ.
ولا يقوَى على حَجبِكَ من تَيّمه الحبُّ.
لئِن لمْ تَرَكَ العَينُ فقد يُبصرُكَ القلبُ.
سأل الله أن يبتليه
حدثنا أبو طاهر محمد بن محمد بن علي العلاف الواعظ من حفظه قال: سمعت أبا الحسين محمد بن أحمد بن سمعون الواعظ شيخنا يقول: سمعت أبا عبد الله الغلفي، أو قال لي أبو عبد الله الغلفي بطرسوس صاحب أبي العباس بن عطاء يقول: سمعت أبا العباس بن عطاء يقول: قرأت القرآن، فما رأيت الله، عز وجل، ذكر عبداً فأثنى عليه في ما تبتليني، فما مضت الأيام والليالي حتى خرج من داري نيف وعشرون ما رجع منهم أحد، وذهب ماله، وذهب عقله، وذهب ولده وأهله.
قال أبو عبد الله الغلفي: فمكث بحكم الغلبة سبع سنين أو نحوها، فما رأيت أحداً صحا بعد غلبة فنطق بالحكمة أحسن من أبي العباس بن عطاء، فكان أول شيء قال بعد صحوه من غلبته:
حَقّاً أقولُ لقد كَلّفتني شَطَطَاً ... حملي هَوَاك وصَبري ذانِ تعجِيبُ.
جمَعتَ شيئينِ في قَلبٍ له خَطَرٌ، ... نَوْعَينِ ضِدّينِ: تَبِريدٌ وتَلْهِيبُ.
نارٌ تُقَلقِلُني، والشوْقُ يُضرِمُهَا، ... فكَيفَ قَد جُمِعا، والعقلُ مسلوبُ.
لا كنتُ إن كنتُ أدري كيفَ يُسلمني ... صَبري إلَيكَ كما قد ضُرّ أيّوبُ.
لما تَطاوَلَ بَلوَاه اقشَعَرَّ لها، ... فصَاحَ، من حَملِها، غَرْثانُ مَكرُوبُ:
قد مَسّني الضَّرّ والشيطانُ ينصُبُ بي، ... وأنتَ ذو رحْمَةٍ، والعَبْدُ مَنكوبُ.
قال لنا شيخنا أبو طاهر بن العلاف: قال لنا أبو الحسين بن سمعون، رحمه الله: أظن كان بقي عليه من الغلبة شيء فقال: لقد كلفني شططاً، وأنا أقول: لقد حملتني عجباً.

ريحانة ناطقة
أخبرنا أبو حفص عمر بن محمد المكي صاحب قوت القلوب بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو الفتح يوسف بن عمر القواس إملاء قال: حدثنا أحمد بن الحسن بن محمد بن سهل الواعظ قال: حدثنا محمد يعني ابن جعفر قال: حدثنا إبراهيم بن الجنيد قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا روح بن منصور قال: قال عباد العطار: قمت ذات ليلة فقلت: اللهم اكس وجهي منك حياءً، فصرخت ريحانة: ادعو لك بإسقاط العرى، أنت مراءٍ، وتدعو بالحياء؟ الورع أولى بك من ذا، وأنشأت تقول:
تَعَوّدْ سَهَرَ اللّيلِ، فإنّ النَّوْمَ خُسرَانُ.
وَلا تَرْكنْ إلى الذَّنْبِ، فعُقبى الذنبِ نيرَانُ.
وَكُنْ للْوَحْيِ دَرّاساً، فَلِلقُرْآنِ أخدانُ.
إذا ما اللّيلُ فاجاهُم، فهم في الليلِ رُهْبَانُ.
يَمِيلون كمَا مالَتْ، من الأروَاحِ، أغصانُ.
قال: فبكيت حتى اشتفيت.

عيسى بن مريم والأسد
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد الشاهد قال: حدثنا الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي قال: حدثنا أبو يوسف الضخم قال: حدثنا عبد الله بن مقوم التنوخي قال: أخبرنا عبد المنعم عن أبيه قال: خرج عيسى بن مريم، عليه السلام، في ليلة شاتية في سياحته فأخذته السماء بالمطر والريح، فأتى كهفاً ليسكن فيه، فإذا هو بسبع قد خرج إليه يبصيص، فلما رآه عيسى رجع وقال: أنت أحق بموضعك، وجعل يقول: يا رب لكل ذي روح ملجأ يسكن إليه، وليس لعيسى مسكن، فأوحى الله، عز وجل، إليه: استبطأتني، وعزتي لأزوجنك، يوم القيامة، حوراء، ولأولمن عليك أربعة آلاف سنة.

كمون الحب في الحشا
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي الوكيل قال: حدثنا الحسن بن حسين بن حكمان قال: حدثنا أبو الفتح البصري قال: حدثنا إبراهيم بن محمد الصوفي قال: حدثنا أبو العباس بن عطاء قال: حكي لنا عن الأصمعي قال: دخلت بعض أحياء العرب فإذا بقوم شحبٍ ألوانهم، فقلت في نفسي: إن هؤلاء قد وقعوا على داء، فأنا أخرج من بينهم.
قال: فذهبت لأخرج فإذا بعضهم يقول لي: إلى أين، يا أخا العرب؟ فقلت: أطلب لدائكم دواءً. فقال: ارجع، عافاك الله، فإنا قوم ليس لدائنا دواء، نحن قوم فشت في قلوبنا محبة الله، فتغيرت ألواننا.قال الأصمعي: فأعجبيني ما سمعت لأنني ما سمعت مثله قط. قال: فرجعت إلى الحي، ولم أزل أور فرأيت خباء شعر منفرداً عن البيوت، فقصدته، فاطلعت فيه، فإذا أنا بفتىً حسن الوجه في عنقه سلسلة مشدودة سكة في الأرض، قال: فهالني ما رأيت منه، فقلت: يا فتى ما شأنك؟ فقال: يا ابن عمي! يقولون إني مجنون! فقلت: أهو كما يقولون؟ فقال لي: لا والله ما أنا بمجنون، ولكني بحب الله مفتون.
قال: قلت فصف لي الحب! فقال: إليك عني، يا أخل العرب، جل عن أن يحد، وخفي أن يرى، كمن في الحشا كمون النار في الحجر، إن قدحته أورى، وإن تركته توارى، ثم صفق وأنشأ يقول:
أأنْتَ الذي أصْفَيتَ منكَ موَدّةً ... قلائِعُها في ساحَةِ القلبِ تُغرَسُ.
وإن كان لي من فَقد قلبي موحشٌ، ... فقد ظلّ لي من فكرَتي فيك مؤنسُ.
أناجِيكَ بالإضْمارِ حتى كَأنّني ... أرَاك بعينَيْ فكرَتي، حينَ أجلِسُ.
كل محب عليل
أخبرنا أبو الحسن محمد بن أحمد بن حسنون النرسي بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حاتم محمد بن عبد الواحد الرازي قال: أخبرني محمد بن هارون الثقفي قال: أنشدنا المسروقي قال: أنشدنا بعض أصحابنا:
ونفسُ محبٍّ الله نفسٌ عليلةٌ، ... وأيُّ محبٍّ تراه عليلا؟.

الكفوف المجذوم
أنبأنا أحمد بن علي بن ثابت الحافظ قال: حدثنا عبد الرحمن بن فضالة النيسابوري قال: أخبرنا محمد بن عبد الله بن شاذان المزكي قال: سمعت طيباً المخملي بالبصرة يقول: سمعت علي بن سعيد العطار يقول: مررت بعبادان بمكفوف مجذوم، وإذا الزنبور يقع عليه، فيقطع لحمه، فقلت: الحمد لله الذي عافاني مما ابتلاه، وفتح من عيني ما أغلق من عينيه! قال: فبينا أنا أردد الحمد إذ صرع، فبينا هو يتخبط نظرت إليه، فإذا هو مقعد، فقلت: مكفوف يصرع، ومقعد مجذوم؟ قال: فما ساتتممت كلامي حتى صاح: يا مكلف! ما دخولك في ما بيني وبين ربي؟ دعه يعمل بي ما شاء. ثم قال: وعزتك وجلالك لو قطعتني إرباً إرباً، وصببت علي العذاب صباً، ما ازددت لك إلا حباً.

زوجتان من الحور العين
أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن إبراهيم بن غيلان قراءة عليه، غير مرة، في سنة تسع وثلاثين وأربعمائة قال: حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الله الشافعي إملاء قال: حدثنا إبراهيم الحربي قال: حدثنا الحسن بن عبد العزيز عن الحارث عن ابن وهب قال: حدثني بكر بن مضر أن عبد الكريم بن الحارث حدثه عن رجل أنهم كانوا مرابطين في حصن، فخرج رجلان إلى الجيش، فقال أحدهما لصاحبه: هل لك أن تغتسل لعل الله أن يعرضنا للشهادة؟ فقال صاحبه: ما أريد أن أغتسل، فاغتسل صاحبه، فلما فرغ سقط حجر من الحصن فأصاب الرجل، فمررت بهم، وهم يجرونه إلى خيامهم، فسألتهم ما شأنه؟ فأخبروني الخبر، فانصرفت إلى أصحابي، ثم رجعت إليهم، فأقمت عندهم، وهم يشكون هل مات أو عاد إليه الروح.
فبينا هو كذلك إذ ضحك فقلنا: إنه حي، ث مكث ملياً، ثم ضحك، ثم مكث ملياً، ثم بكى، ففتح عينيه. فقلنا: ابشر يا فلان، فلا بأس عليك، لقد رأينا منك عجباً، كنا نظن أنك قد مت إذ ضحكت، ثم مكثت ملياً. قال: إني لما أصابني ما اثابني أتاني رجل فأخذ بيدي فمضى بي إلى قصر من ياقوتةٍ، فوقف بي على الباب، فخرج إلي غلمان مشمرين لم أر مثلهم، فقالوا: مرحباً بسيدنا! فقلت: من أنتم، بارك الله فيكم؟ قالوا: نحن خلقنا لك.
ثم مضى بي حتى أتى بي قصراً آخر، وخرج إلي منه غلمان مشمرين هم أفضل من الأولين فقالوا: مرحباً وأهلاً بسيدنا! فقلت: من أنتم، بارك الله فيكم؟ فقالوا: محن خلقنا لك.
ثم مضى بي إلى بيت لا أدري من ياقوت أو زبرجدٍ أو لؤلؤ، فخرج إلي غلمان مشمرين سوى الأولين فقالوا مثل ما قال الأولون، وقلت لهم مثل ذلك، فوقف بي على باب البيت، فإذا بيت مبسوط فيه فرش موضوعة بعضها فوق بعض ونمارق مبسوطة، فأدخلني البيت، وفيه بابان، فألقيت نفسي بين الوسادتين، فقال: أقسمت عليك إلا ألقيت نفسك فوق هذه الفرش، فإنك قد نصبت في يومك هذا. فقمت فاضطجعت على تلك الفرش على وطاء لم أضع جنبي على مثله قط.
فبينا أنا كذلك إذ سمعت حساً من أحد البابين، فإذا أنا بامرأة لم أر مثل جمالها، وعليها حلي وثياب لم ار مثلها، وأقبلت حتى وقفت علي، ولم تتخط تلك النمارق، ولكن أقبلت بين السماطين حتى وقفت وسلمت، فرددت عليها السلام. فقلت: من أنت، بارك الله فيك؟ فقالت: أنا زوجتك من الحور العين، فضحكت فرحاً بها، فأقامت تحدثني، وتذكرني أمر نساء أهل الدنيا، كأن ذلك معها في كتاب.
فبينا أنا كذلك إذا سمعت حساً من الشق الآخر، فإذا أنا بامرأة لم أر مثلها ولا مثل حليها وجمالها، فأقبلت، حتى وقفت كنحو ما صنعت صاحبتها، ثم مكثت تحدثني، فأقصرت الأخرى، فأهويت بيدي إلى أحداهما، فقالت: تأن لم يأن لك، إن ذلك مع صلاة الظهر، فما أدري أقالت ذلك أم رمي بي إلى صحراء، فلم أر منهم أحداً، فبكيت عند ذلك.
فقال الرجل: فما صليت الظهر أو عند الظهر، حتى قبضه الله، عز وجل.

الشهداء في قباب ورياض
أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان أيضاً قال: أخبرنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا محمد بن يونس بن موسى قال: حدثنا يعقوب بن إسحاق الحضرمي قال: حدثنا يزيد بن إبراهيم التستري عن أبي هارون الغنوي عن مسلم بن شداد عن عبيد بن عمير عن أبي بن كعب قال: الشهداء يوم القيامة بفناء العرش، في قباب ورياض بين يدي الله، عز وجل.

عيناء الجنة
أخبرنا أبو طالب محمد بن محمد بن غيلان قال: حدثنا أبو بكر الشافعي قال: حدثنا أحمد الحسن بن عبد الجبار قال: حدثنا الحسن بن الصباح البزاز قال: حدثنا إسحاق ابن بنت داود بن أبي هند قال: أخبرنا عباد بن راشد البصري عن ثابت البناني قال: كنت عند أنس بن مالك، إذ قدم عليه ابن له من غزاة، يقال لها أبو بكر، فساءله، فقال: ألا أخبرك عن صاحبنا فلان؟ بينا نحن قائلون في غزاتنا إذ ثار، وهو يقول: وا أهلاه، وا أهلاه، فثرنا إليه، وظننا أن عارضاً عر ض له، فقلنا: ما لك؟ فقال: إني كنت أحدث نفسي ألا أتزوج حتى أستشهد، فيزوجني الله تعالى من الحور العين، فلما طالت علي الشهادة قلت في سفرتي هذه: إن أنا رجعت، هذه المرة، تزوجت، فأتاني آت في المنام قال: أأنت القائل إن رجعت تزوجت؟ قم، فقد زوجك الله العيناء، فانطلق بي إلى روضة خضراء معشبة، فيها عشر جوار.
وذكر الحديث وقطع الحديث، بسبب ما وقع في الجامع، وذلك أنه تكلم رجل في المذهب، فعاونه رجل فضولي في رواق الجامع، وأخرجوه فقتل وانقطع عنا الحديث، وقبر في غد في قبر معروف، فسئل الشافعي أن يملي تمام هذا الحديث، في يوم الجمعة لسبع خلون من جمادى الأولى، فأملاه علينا، وبيد كل واحدةٍ صنعة تصنعها، لم أر مثلهن في الحسن والجمال. فقلت: أفيكن العيناء؟ فقلن: نحن من خدمها، وهي أمامك. فمضيت، فإذا روضة أعشب من الأولى، وأحسن، فيها عشرون جارية في يد كل واحدة صنعة تصنعها، وليس العشر إليها بشيء في الحسن والجمال، قلت: أفيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيت، فإذا بروضة وهي أعشب من الأولى والثانية في الحسن والجمال، فيها أربعون جارية في يد كل واحدة منهن صنعة تصنعها وليس العشر والعشرون إليهن بشيء في الحسن والجمال، قلت: أفيكن العيناء؟ قلن: نحن من خدمها، وهي أمامك.
فمضيت فإذا بياقوتة مجوفة فيها سرير عليه امرأة قد فضل جنباها عن السرير، فقلت: أأنت العيناء؟ قالت: نعم! مرحباً بك، فأردت أن أضع يدي عليها، قالت: مه، إن فيك شيئاً من الروح بعد، ولكن تفطر عندنا الليلة، قال: فانتبهت.
قال: فما فرغ الرجل من حديثه، حتى نادى المنادي: يا خيل الله اركبي، قال: فركينا فصاف الرجل العدو، وقال: فإني لأنظر الرجل، وأنظر إلى الشمس، وأذكر حديثه، فما ؟أدري أرأسه سقط أم الشمس سقطت.

جارية تزو رفي المنام
أخبرنا أبو الحسن أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه، في سنة أربعين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو القاسم إسماعيل بن محمد بن سويد قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أخبرنا عبد الله بن خلف قال: حدثنا أبو بكر محمد بن سماعة قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا محمد بن عبد العزيز القرشي قال: حدثني إسماعيل بن أبي خالد قال: كان عندنا فتىً باليمن بطال مسرف على نفسه. وكان مع ذلك ذا مال وجمال، فرأى ليلةً، في نومه، جاريةً، قد أقبلت إليهن وعليها ثوب من اللؤلؤ تتثنى أطرافه، وبيدها كتاب من حرير أخضر مكتوب بالذهب، فقالت له: بأبي أنت اقرأ لي هذا الكتاب، فقرأه فإذا هو:
مِن التي صَاغَها الرّحمنُ في غُرَفٍ، ... من مِسكَةٍ عُجِنَتْ في ماءِ نِسرينِ.
إلى الذي حبُّه في القَلبِ محْتَبسٌ، ... وَقَلُبه عَنُه في لَهوٍ وَتَفتِينِ.
يا سهْلُ بادِرْ، فَقَد أوْرَثتَني حَزَناً، ... كم عَنكَ ما لا أُحبّ، الدهرَ، يأتيني.
ألستَ تشتاقُ أن تَلهو على فُرُشٍ ... موْضُونَةٍ مع جوارٍ خُرّدٍ عِينِ؟
قال: فأصبح الفتى تاركاً لكل ما كان عليه من البطالة والصبى، ولم يزل متنسكاً أحسن تنسك حتى مات. قال: وكان اسمه سهلاً. قال أبو بكر بن الأنباري: الخرد الحسان. والموضونة: المنسوجة بالذهب. والعين: الحسان الأعين.
خود في قصر زبرجد
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال: حدثنا أبو الحسن أحمد بن محمد البزاز قال: حدثنا عثمان بن أحمد قال: حدثنا أحمد بن محمد الطوسي قال: حدثنا أبو الطيب بن الشهوري قال: حدثني زريق الصوفي قال: أخبرني محمد بن الحسين عن حبيب الفارسي قال:
دخلت يوماً إلى الرجان، فإذا بمجنون يقال له أبنا. قال: فهاج على قلبي آية من كتاب الله، عز وجل، فقرأت: حور مقصورات في الخيام، لم يطمثهن إنس قبلهم ولا جان. قال: فهاج ثم أنشأ يقول:
مِن حُبِّ سيّدة تَبَوّأ جَنّةً ... قد حُفّفَتْ أنهارُها بخِيامِ.
مع خَوْدة في جوْفِ قصرِ زَبرْجدٍ ... مَكنونَةٍ في خِدرِها كغُلامِ.
وَرَصَانَةٍ في قوْلِها وَحَديثِها، ... لا تأْيَسَنْ بِرَاقِدٍ نَوّامِ.

الجارية المجنونة والزرع
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي بهذا الإسناد عن زريق الصوفي عن عبد الواحد قال: قال عتبة الغلام: خرجت من البصرة والأبلة، فإذا أنا بخباء أعراب قد زرعوا، وغذا أنا بخيمة، وفي الخيمة جارية مجنونة عليها جبة صوف لا تباع ولا تشترى، فدنوت فسلمت، فلم ترد السلام، ثم وليت فسمعتها تقول:
زَهِدَ الزّاهِدونَ والعابِدونا، ... إذ لَمْولاهم أجاعوا البطونا.
أسهرُوا الأعينَ القريحةَ فِيهِ، ... فَمضى ليلُهم، وهُم ساهِرُونا.
حَيّرَتهُم مَحَبّةُ اللهِ حتى ... علمَ الناسُ أنّ فِيهم جُنونا.
هم ألِبّا ذوو عقولٍ، ولكِن ... قد شجاهُم جميعُ ما يَعرِفونا.
قال: فدنوت إليها فقلت: لمن الزرع؟ فقالت: لنا إن سلم، فتركتها وأتيت بعض الأخبية، فأرخت السماء كأفواه القرب فقلت: والله لآتينها فأنظر قصتها في هذا المطر، فإذا أنا بالزرع قد غرق، وإذا هي قائمة نحوه وهي تقول: والذي أسكن قلبي من طرف سحر بصفي محبة اشتياقك، إن قلبي ليوقن منك بالرضا، ثم التفتت إلي فقالت: يا هذا! إنه زرعه، فأنبته، وأقامه، فسنبله، وركبه، وأرسل عليه غيثاً فسقاه، واطلع عليه فحفظه، فلما دنا حصاده، أهلكه، ثم رفعت راسها نحو السماء فقالت: العباد عبادكن وأرزاقهم عليك، فاصنع ما شئت! فقلت لها : كيف صبرك؟ فقالت: اسكت يا عتبة.
إنّ إلهي لَغَنيُّ حَمِيد، ... في كل يوْمٍ منه رِزْقٌ جديد.
الحمْدُ لله الذي لم يَزَلْ ... يفعل بي أكثر مما أُريد.
قال عتبة: فوالله ما ذكرت كلامها إلا هيجني.

دعاء ريحان المجنون
وحكى الصقر بن عبد الرحمن الزاهد قال: كان ريحان المجنون يقول في دعائه: اللهم قصدتك آمالي، الطمع رغبتي فيك، وولهت بك جوارحي لمواصلات الوداد إليك. ثم يقول:
كَتَبَ الناسكُ بِالدّمْ ... عِ إلى الحُورِ كِتَابا.
لا بِأقْلامٍ ولكِنْ ... خَطّ بالدّمعِ سَحَابَا.
من فتىً أقلَقَهُ الشَوْ ... قُ وَأضْنى وَأذابَا.
لا تمرض ولا تهرم ولا تموت
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد الحبال بقراءتي عليه بمصر، في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بن عاصم البزاز الصوفي قراءة عليه بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: كنت مع محمد بن الفرج السائح، فنظر إلى جارية جميلة تعرض على رجل ليشتريها، فقال: بكم تباع هذه الجارية؟ فقيل له: بألف دينار، فرفع رأسه إلى السماء وقال: اللهم! إنك تعلم أني لا أملكها، ولا تنالها يدي، وإني لأعلم من كرمك أني لو سألتك إياها لم تردني عنها ولم تمنعني منها، تفضلاً منك علي وإحساناً إلي، وإني أسالك ما هو أنفس عندي منها، بادنةً لا تمرض ولا تهرم ولا تموت، ومهرها أن لا تراني نائماً بليل، ولا طاعماً بنهار، ولا ضاحكاً إلى أحد من خلقك أبداً، وأنا أجد في المهر من وقتي هذا، فأنجز لي، إذا لقيتك، ما سألتك يا كريم. قال: فما رأيناه نائماً بليل، ولا طاعماً بنها، ولا ضاحكاً إلى أحد من الناس حتى لحق بالله، عز وجل.

الغلام الشهيد
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر بإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي:
طنت مع عبيد الله بن محمد الغسكندراني ببلاد الروم فنظر إلى غلام جميل يحمل على علج من الروم، ويرجع عنه أحياناً، فدنا منه، وقال: فدتك النفس أنا تشتاق إلى أن ترى وجهاً هو أحسن من وجهك وأبهج من شخصك؟ فقال: بلى، والله يا عم. فقال: والله ما بينك وبين أن ترى الله، عز وجل، إلا أن يقتلك هذا العلج، فصاح الغلام، وحمل عليه، فقتله العلاج، فكان عبيد الله بن محمد يقول بعد ذلك إذا ذكره: رحمة الله علينا وعليه، إني لأرجو أن يكون الله، عز وجل، قد ضحك غلى وجهه الحسن الجميل بما بذل له من مهجة نفسه.
ابن جويرية والغلام الجميل
وبإسناده قال: قال أبو حمزة وحدثني إسماعيل بن هرثمة الوقاص قال: حدثنا الأسود بن مالك الفزاري قال: حدثني أبي قال: حضرت أبا مسلم سعيد بن جويرية الخشوعي، وقد نظر إلى غلام جميل فأطال النظر إليه، ثم قرأ: إن في خلق السموات والأرض واختلاف الليل والنهار لآيات لأولي الألباب، سبحان الله، ما أهجم طرفي على مكروه نفسه، وأقدمه على سخط سيده، وأغراه بما قد نهى عنه، وألهجه بالأمر الي حذر منه، لقد نظرت إلى هذا نظراً لا أحسبه إلا أنه سيفضحني عند جميع من عرفني في عرصة القيامة، ولقد تركني نظري هذا، وأنا أستحيي من الله، عز وجل، وإن غفر لي، وأراني وجهه، ثم صعق.
يحن بالجنان
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام بباب الندوة قال: أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: حدثنا أبو الفضل العباس بن هزار بن محمد بن هزار الخطيب بمرو الروذ قال: حدثنا أبو القاسم عبد الله بن محمد بن عبد العزيز .
قال: حدثنا علي بن الجعد قال: حدثنا شعبة قال: بلغني عن عبد العزيز بن يحيى بن عبد العزيز النخعي أنه كان يصلي في مسجد على عهد عمر فقرأ الإمام ذات ليلة: ولمن خاف مقام ربه جنتان، فقطع صلاته وجن، وهام على وجهه، فلم يوقف له على أثر.

العظة القاتلة
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بقراءتي عليه بمصر، سنة خمس وخمسين، قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: أبو حمزة الصوفي: حدثني محمد بن مصعب بن الزبير المكي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أهل المدينة، ونحن ببلاد الروم في سرية عليها محمد بن مصعب الطرطوسي قال: كان بالمدينة غلام من بني مخزوم موصوف ببراعة الجمال، فإذا كان في أيام الحج حجبه أبوه عن الخروج إلى المسجد حتى يصدر آخر الحاج إشفاقاً عليه من أعين الناس وحذراً عليه منهم، فاشتهر بجماله ووصف بكماله، فكانت الرفاق تتحدث بحديثه، فقدم علينا رجل من الصوفية عند انقضاء عمرتهم، وقد رجعوا من الحج لزيارة قبر النبي، صلى الله عليه وآله وسلم، وما بالمدينة يومئذ أحد من الحاج غيرهم، فخرج المخزومي في ذك اليوم، فأتى قبر النبي، صلى الله عليه وسلم، فسلم عليه، ثم قعد في الروضة ينتظر الصلاة، فوقف عليه طلحة ينظر إليه ملياً، فرأى شيئاً لم ير مثله قط، ثم قال: يا فتىً اسمع عني مقالتي واعرض على قلبك كلامي، وافهم مني عظتي، فإني قد بدأتك بالنصيحة لما أملت لك من الله، عز وجل، فيها من حسن الجزاء، وجميل الثناء.
يا حبيبي أتدري من يراك، ومن يشهد عليك؟ قال: ومن هما يا عم؟ قال: الله تعالى يراك، ونبيه، صلى الله عليه وسلم، يشهد عليك، فإياك واقتراف المعاصي بحضرة نبيك، صلى الله عليه وسلم، فإنك لا تأتي أمراً في هذه البلدة يكون عليك فيه تبعة، إلا والله تعالى له حفيظ، والنبي، صلى الله عليه وسلم، عليك به شعيدن وأصحابه لك خصوم، وكفى خصماً أن يكون القاضي عليه خالقه، والشاهد عليه نبيه، صلى الله ليه وسلم، والخصوم له خيرة الله من خلقه الصالحون من عباده فانتفض الغلام وسقط مغشياً عليه، واجتمع الناس فاحتملوه إلى منزله، فما أتى عليه ثلاثة أيام حتى مات.

خليلان في الجنة
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو صالح السمرقندي الصوفي.
قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: حدثان أبو حمزة الصوفي قال: حدثنا محمد بن الأحوص الثقفي قال: حدثني أبي قال: حدثني رجل من أصحابنا قال: كان محمد بن الحسين الضبي وعبد العزيز بن الشاه التيمي كأنهما هلالان أو درتان من حسنهما وجمالهما، فسمعا كلام أبي عبد الله الديلمي، وكان من أحسن الناس كلاماً وأظهرهم خشوعاً وأكثرهم صلاة واجتهاداً، فصحباه، وكانا معه لا يامن عليهما أبواهما أحداً غيره، فكان يحج بهما في كل عام، ويرابط معهما في السواحل سائر سنيه، حتى أخذا منهن ووعيا عنه، وتأسيا بأخلاقه، واحتذيا عاى طريقتهن وكانا مقبلين على طلب الخير والجهاد، فخرج بهما فرآهما رجل من الجند، فرأى شيئاً لم ير مثله، فأراد أخذهما منه، فحال بينه وبينهما، وأعانه الناس على ذلك، وكان مشهوراً بالنسك والعفاف، فاغتاله الجندي فقتله، وقبض على الغلامين، فمتنعا عليه، واستغاثا بالناس، فجاؤوا فنظروا إلى ابي عبد الله الديلمي مقتولاً، فأخذوا الجندي، وأتوا به السلطان فقتله.
قال أبي: فحدثني هذا الرجل قال: كنت حاضراً لهما، وقد دفناه ورجعا عن قبره، يعرف الحزن عليهما، والكآبة فيهما، فسمعت أحدهما يقول لصاحبه: ما ترى، يا اخي؟ قال: أرى أن يكون على عزيمتنا أو يمضي على ما عقدناه من نيتنا حتى نقضي راطنا، ونرجع إلى بلادنا، فقال له الآخر: لست أرى رأيك ولا ما أشرت بهن ولكن مصيبتنا بهذا الرجل ليست بصغيرة ولا حقه علينا بيسير، ه علينا حق الوالد بالشفقة، وحق التعليم وطول الصحبة، وطهارة العشرة، وحسن المرافقة، قال: فما ترى؟ قال: أرى أن نقيم على قبره مقدار رباطنا نستغفر له، ثم ننصرف، فإن عزمت أن نرابط بعد فعلنا، وإن أحببت أن نرجع صدرنا.
قال: قد قلت قولاً لن أخالفك عليه، فاسألاني الإسعاد لهما على ذلك، فأقمت معهما نيفاً على عشرين يوماً، فاعتل محمد بن الحسن، فاشتدت علته، فقلن عبد العزيز قلقاً شديداً، وجزع جزعاً لم أره من أحد قط، فقلت: ما هذا الجزع يا أخي؟ قال: أفلا يحق لي أن أجزع على أخ شقيق وحبيب شفيق؟ فسمعنا محمد فقال: يا عبد العزيز لا تجزع فإن الجزع لا يغني عني شيئاً مما نزل بي من الموت، واعلم يا أخي أنك أرفع عند الله، عز وجل، ردحةً مني.
فقال: وبم ذاك؟ قال: بمصابك بي، فبكى عبد العزيز حتى ألصق خده بالأرض وأبكى من حضر من النساك وغيرهم، فقال له محمد: يا أخي لا تبك فإني في أمر عظيم، وعلى خطر جسيم هو أكبر عندي وأجل في قلبي من بكائك، وقد شغلني الفكر فيك وفي وحدتك بعدي عن بعض ما أنا فيه من ألم العلة، وقد تزايدت علتي لما أراه في وجهك من الحزن والغم، فإن استطعت أن تحتسبني عند الله، عز وجل، فافعلن، ولا تطلقن علي عبرةً ولا تذرين بعدي دمعة، فإني منقول إلى رحمة وصائر إلى نعمة، لول كان أحد أحق بالبكاء من أحد لكنت أحق به لما نزل بي من الموت وشدة كربه وحياء مما حضرني من ملائكة ربي.
فصعق عبد العزيز، وخر مغشياً عليه، فدنوت من محمد بن الحسن، فقلت: ألك حاجة أو أمر توصيني به؟ فقال: أوصيك بإيثار تقوى الله، عز وجل، على جميع الأمور، وحاجتي أن تحفظني في أخي هذا، فإنه من أهم من أترك بعدي.
فقال له أبو المغلس الصوفي، وكان يشبه خشوعه بخشوع أبي عبد الله الديلمي: يا أبا عبد الله! قد عشتما مصطحبين منذ كنتما صغيرين، لا نعرف لأحد منكما خزيةً ولا نحفظ عليكما زلةً، فنشأتما على أمر واحد لم تتهاجرا، ولم تختصما، ولم تتفرقا، وقد تكلم بعض الناس فيكما بكلام قد رفع الله أقداركما عنه لما بيَّن الله تعالى اليوم من أموركما، ونشر من حسن طويتكما، فالحمد لله على ما أولاكما من ذلك. وقد تذكر أن أعلام الموت إليك قد أقبلتن والملائكة منك قد اقتربت، وإني أثق بفهمك، لما أعلم من حسن عقلك، فهل ترى أحداً منهم؟ فقال: إني أرى صوراً تقبل ولا أثبتها على حقيقة النظر.
قال: فما تجد؟ قال: أجد ألماً لو قسم على جميع الخلائق لكانوا في مثل حالي.
قال: صفه لي.
قال: وما عسى أن أصف لك منه؟ أجد نفسي كأنها بين جبلين قد اصطكا علي، وكأن أسنةً توخز في بدني، وكأن ناراً توقد في عيني، وأجد لهاتي قد يبست، فما أجد فيها شيئاً من ريقي.
فقال له أبو المغلس: إني قرأت بعض الأخبارن وما روي في الآثار: حتى يرى مقعده من النار، أو الجنة. فهل رأيت شيئاً من ذلك؟ قال: أما في وقتي هذا فلا.
فلما اشتد به الامر وكاد أن يغلبه الكرب أومأ بيده إلى أبي المغلس، فأصغى بأذنه إليه، فقال: إنك سألتني عن مقعدي، وهذه الروح قد خرجت من بعض جسدي، وارتفعت إلى حقوي، وقد رأيت مقعدي.
قال: وأين رايته؟ قال: رأيته في جنة عدن.
قال: فهل رأيت أبا عبد الله الديلمي؟ قال: إن روحه لترفرف علي، وقد رايت مقعده أفضل من مقعدي، ودرجته أفضل من درجتي، ولا احسب أنه قال إلا بالعلم الذي سبق إليه قبلي، أو بالشهادة التي اختصه الله تعالى بها دوني، وهذه روحه تبشر روحي بما أعده الله تعالى لي مما لم يبلغه عملي، ولا أحاط به فهمي، ولا استحقه بفعلي مما يعجز عن صفته قول، ثم مد يده وغمض عينيه، وقضى، رحمة الله عليه.
ثم إن عبد العزيز أفاق بعد طويل فحضر غسله وجهازه، ودفنه، ورجع، ورجعنا معه، فمكث أياماً لا يطعم ولا يتكلم، وحضرت صلاة الغداة، فقام إلى جانبي في الصف، فسمعته يدعو بعدما فرغ من الصلاة، وهو يقول: اللهم لا تجمع علي كرب الدنيا وعذاب الآخرة، وعجل خروجي عن الدنيا سالماً منها غل رضاك ومغفرتك، وارحم غربتي، وأجب دعوتين واجمع بيني وبين من أحبني فيك، وأحببته لك، ولا تفرق بيني وبينه، واجعل اجتماعنا في محل الفائزين.
ثم قال: أقسمت عليك ألا فعلت. ثم خر ساجداً فظننت أنه قد سجد وأطال السجود، فدنوت منه، فحركته، فإذا هو قد قضى، فدفنته إلى جنب صاحبه، فكنا حيناً من الدهر نتحدث بحديثهم، وبما وهب الله، عز وجل، لهم من الاجتماع في الدنيا والآخرة، وبما أفضوا إليه من الكرامة والرحمة.
قال: فمكثت سنين أتمنى أن أرى واحداً منهم في منام، فرأيت عبد العزيز بن الشاه، وعليه ثياب خضر، وهو يطير بين السماء والأرض، فناديته، فوقف، فقلت: ما عل الله بك؟ قال: غفر لي.
قلت: بماذا غفر لك؟ قال: بقول الناس في ما لا يعلمون وبرميهم إياي بالإفك والظنون.
قلت: فما فعل محمد بن الحسن؟ قال: جمع الله بيني وبينه، وأنا وهو في درجة واحدة.
قلت: فما فعل أبو عبد الله الديلمي؟
3ا - ل: هيهات! ذاك رجل أبيح له الجنة، فهو يسرح فيها، ويحل منها حيث يشاء.
قلت: وبم ذاك؟ قال: بما سبق له من السعادة، وبفضل أجر الشهادة، وبحفظه لفرجه عن الحرام، وطرفه ولسانه عن الآثام.
فقلت " كيف وجدت الموت؟ قال: هونه الله علي لما علم من ضعفي وطول حزني.
قلت: هل رأيت جهنم؟ قال: وهل الصراط إلا عليها، والورود إلا إليها؟ نعم قد رأيتها ووردتها، فما آلمني حزها، ولا أفزعني زفيرها.
قلت: فكيف كان ممرك على الصراط؟ قال: كما يجري الفرس الجواد على الأرض البسيطة التي ليس فيها حجر يخاف أن يعثر به.
قلت: هل رأيت منكدراً الشعراني؟ قال: رأيته وسلمت عليه، وما أقرب درجته من درجة أبي عبد الل الديلمي.
قلت: وبم أعطي ذلك؟ قال: بغضه لطرفه وحفظه لفرجه.
قلت: فهل رايت مغلساً الصوفي؟ قال: نعم، رايته على فرس من ياقوت أحمر، يطير به في الجنة.
فقلت له: اين تريد؟ فقال: أريد أن أستقبل أرواح قوم قتلوا في البحر.
قلت: وكيف أعطي ذلك؟ قال: بفضل رحمة الله.
قلت: قد علمت أنه إنما نال ذلك بفضل الله تعالى وبرحمته.
قال: بكثرة البكاء وملازمة الدعاء وطول الظّماء وصبره على البلاء.

الهارب إلى ربه والآبق من ذنبه
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو الفتح يوسف بن عمر بن مسرور الزاهد القواس، رحمه الله، قال: حدثنا أبو الفضل محمد بن أحمد بن محمد بن سهل إملاء سمعته من لفظه قال: حدثنا سعيد بن عثمان بن عباس الخياط قال: حدثنا أحمد محمد بن عيسى الإسكندراني واصله مصيصي قال: حدثني منصور بن عمار قال: بينا أنا سائر في بعض طرقات البصرة، إذا أنا بقصر مشيد، وخدم وعبيد، وبسمر القنا منصوبةً وقباب الأدم مضروبةً، وإذا حاجب قد جلس على كرسي من حديد، وثنى رجلاً على رجل، كأنه جبار عنيد، فهممت بأن أدنو من القصر، فصاح بي تجبراً وتحكماً: ويحك! أما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره؟ قلت: هذا ملك يكوت والحي في السماء ملك لا يموت، والله لأدنون من القصر، فأنظر لمن هو.
فدنوت من ورائه فإذا أنا بمنابر طوال مشبكة بقضبان الذهب والفضة، وإذا بغلام جالس على كرسي من ذهب مرصع بأنواع الجوهر، كأنه غصن بان أو مشق قضيب ريحان، أخضر الشارب صلت الجبين، سهل الخدين مقرون الحاجبين، كأن لبته صفحة فضة، وخده أشبه بخدود النساء من خدود الرجال، قد حزق في الفنك والسمور، ورقيق الكتان، وهو ينادي بحنين جرمه: يا نشوان! فما لبثت أن خرجت علي جارية كأنها خوط بان أو مشق قضيب ريحان، عليها مرط حرير أخضر، قد لصق على رطوبة جسمها، تمشي على فاضل شعرها تطرق بنعلها، وتفنن، والله، من رآها، فلا أدري، والله، الجارية كانت أحسن أم الغلام، فخشيت أن تغشاني، ففتحت الأبواب، فخرج الغلمان فتلببوني وقالوا: ويحك! ما كان لك قصد غير هذا الطريق إلى غيره حتى نظرت إلى حرمة الملك.
فقلت: لمن يكون هذا القصر؟ فقالوا: لملك البصرة، وابن سيدها.
فدخلت إليبه فنظر إلي وأجال حماليق عينيه، كأنهما عينا ظبي تتفرس إلي، فقال لي " لقد اجترأت علي إذ نظرت غلى حرمتي.
فقلت: أيها الملك! جد بعفوك على ضعفي، وبحلمك على جهلي، فإني رجل طبيب، ولا يرى في كتب الحكماء قتل الطبيب، وإني لأرى في جسمك هذا مدخلاً قد التوت عليه الضلوع والأعضاء، وهو رقيق في الضمير، ما بين الأحشاء. يا غلام قد حزقت في الفنك والسمور، هل لك صبر على مقطعات التيران، وسرابيل القطران، وصوت مالك وعرض الرحمن؟ أما سمعت أنه ينادى بالنار يوم القيامة بأربعة أصوات: يا نار كلي ولا تقتلي، يا نار أحرقي، يا نار أنضجي، يا نار اشتفي، فإذا سمعت النار يا نار كلي، أكلت بوهج اللهب من بين أطباقها، فويل للطبقة السفلى من الطبقة العليا كيف يتراكب عليهم الدخان من بعد مهاويها، وقد شدوا في سلاسلها وقرنوا مع شياطينها، وأرسلت عليهم حياتها وعقاربها.
فصرخ الغلام صرخةً، ثم قال: يا طبيب قتلتني، وبأسهم المنايا رشقتني، فما أخطأت صميم كبدي،ويحك يا طبيب، ما أحر مكاويك، وأرشق نبلك.
فقلت له: حبيبي قد أعجبك نشوان، فلو نظرت إليها بعد ثالثة من وفاتها، وقد تمعط شعرها، وسال صديدها، وبلي بدنها، إذن لمقتهان أفلا أصف لك نشوان الجنان التي ذكرها الله تعالى في القرآن: إنا أنشأناهن إنشاءً، فجعلناهن أبكاراً عرباً أتراباً لأصحاب اليمين، جارية إذا خطرت مالت الأشجار إلى حسن وجهه، وصفرت الطير إلى جمالها طرباً، وإذا وقفت وقف جاري الماء لوقوفها، وإذا مشت تبسمت الحضرة من تحت زمام نعلها، ويكاد ينظوي من رطوبة جسمها، جارية خلقت من الزعفران والمسك الأذفر، بلا تعب ولا نصب، فترى مجرى الدم منها كما ترى الخمرة في الزجاجة البيضاء. قال لها بارئ النسم: كوني فكانت.
قال: فصاح الغلام: يا طبيب قتلتني، وبسهم المنايا رشقتني، ثم ضرب بيده إلى أقبيته فشقها، ورمى بسيفه ومنطقته، ووثب قائماً على قدميه يرتعد كالسعفة في يوم ريح عاصف، ثم اقل: يا قصر! عليك السلام قد هربني هذا الطبيب الشفيق الرفيق.
قال منصور: فصرخت نشوان صرخةً من داخل القصر، وقالت: يا مولاي والله ما تنصفني، تهرب وتتركني، رويداً مكانك، فخرجت علي نشوان، وقد قصرت من شعرها، ثم قالت: يا مولاي! من أراد السفر إلى بلد قفر هيأ الزاد، ومن أراد التوبة شمر لها.
قال منصور: ثم هربا جميعاً، فخرجت إلى باب القصر، فإذا أنا بالقباب قد نزعت، وبالخيام قد رفعت، وبالحجب قد نحيت، فوقفت فناديت بأعلى صوتي: يا أيها الهارب إلى ربه، والآبق من ذنبه، لقد هربت إلى أكرم الأكرمين.
قال منصور: فلما كان بعد حولين كاملين حججت إلى بيت الله الحرام، فبينا أنا في الطواف إذ سمعت صوت محزون مكروب مغموم، وهو يقول: إلهي وسيدي! نحل جسمي ودق عظمي ورق جلدي وخرجت من مالي رجاء أن تريني وجهك الكريم الجميل، وتجمع بيني وبين نشوان في الجنان.
قال منصور: فدنوت منه فقلت: يا غلام ما أقل حياءك! بأي حق تطلب من ربك نشوان الجنان؟ فنظر إلى وبكى وقال لي: رفقاً يا طبيب! رفقاً هكذا تضرب بسوطك جسماً عليلاً، ثم لا تعرفه؟ أنا والله ملك البصرة وابن سيدها.
قال منصور: فوالله ما عرفته إلا بخال كان في وجهه، وقد نحل وذاب جسمه، فقلت له: حبيبي ما فعلت نشوانك؟ فبكى وقال: يا ابن عمار، والله لو رأيتها ما عرفتها، قد ذهب البكى ببصرها، ومحت الدموع محاسن وجهها.
فقلت له: حبيبي! ما كان أحوجني إلى رؤيتها، فاخذ بيدي، فأوقفني إلى باب خيمة من الشعر، فقلت: أحبتي! بعد القصور صرتم إلى خيام الشعر، لقد أبلغتم في العبادة.
فخرجت نشوان من داخل الخيمة فقالت: بالله! أنت منصور بن عمار؟ فقلت لها: نعم! فقالت لي: يا منصور أترى ربي يسكنني الجنان ويريني نشوان الجنان؟ فقلت لها: جدي في الطلب، وأحسني المعاملة، تخدمك الولدان، وتسكنني الجان، وتري نشوان الجنان، وتزوري الله، عز وجل، الملك الديان.
قال منصور بن عمار: فشهقت شهقةً خرت منها ميتةً بإذن الله، قال: فبكى الغلام وقال: بأبي والله من كانت مساعدتي على الشدة والرخاء! ولم يتمالك الغلام أن شهق أيضاً شهقةً خر منها ميتاً.
قال منصور: فأخذنا في جهازهما، وغسلناهما وكفناهما، وصلينا عليها، ودفناهما، رحمهما الله.

الدب المنقطع إلى الله
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الخياط قال: حدثنا أبو الحسن علي بن جهضم بمكة قال: حدثنا أحمد بن محمد بن سالم قال: قال سهل يعني ابن عبد الله: أول ما رأيت من العجائب والكرامات أني خرجت يوماً إلى موضع خال وطاب لي المقام، وكأني وجدت من قلبي قربةً إلى الله، عز وجلن وحضرت الصلاة، وأردت الطهور، وكانت عادتي من صباي أن أجدد الوضوء عند كل صلاة، وكأني اغتممت لفقد الماء، فبينا أنا كذلك إذا دب يمشي على رجليه، كأنه إنسان، ومعه جرة خضراء ممسك بيده عليها.
قال سهل: فلما رأيته من بعيد توهمت أنه آدمي، حتى إذا دنا مني وسلم علي ووضع الجرة بين يدي قال: أبو محمد؟ فجاءني العلم يعترض، وذلك من شريطة الصحة، فقلت في نفسي: هذه الجرة، والماء من أين هو؟ فنطق الدب، وقال: يا سهل! إنا قوم من الوحش قد انقطعنا إلى الله، عز وجل، بعزم التوكل والمحبة، فبينا نحن نتكلم مع أصحابنا في مسألة إذ نودينا: ألا إن سهل بن عبد الله يريد ماءً للوضوء، فوضعت هذه الجرة في يدي، وبجنبتي ملكان، حتى دنوت منك فصاب فيها هذا الماء من الهواء، وأنا أسمع خرير الماء.
قال سهل: فغشي علي، فلما أفقت إذا أنا بالجرة موضوعة، ولا علم لي بالدب أين ذهب، وأنا متحسر إذ لم أكلمه، فتوضأت، فلما فرغت أردت الشرب منه، فنوديت من الوادي: يا سهل! لم يأن لك أن تشرب هذا الماء بعد. فبقيت الجرة، وأنا أنظر إليها تضطرب، فلا أدري أين مرت.

تصفيق القناديل
أخبرنا عبد العزيز بن علي قال: أخبرنا علي بن عبد الله الهمذاني بمكة قال: حدثي محمد بن إبراهيم بن أحمد الأصبهاني بطرسوس قال: سمعت أبا طالب يقول: كنت مع سمنون، وهو يتكلم في شيء من المحبة، وقناديل معلقة، فرأيت القناديل تصفق حتى تكسرت.

المشتاق إلى الجنة
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي المحتسب قال: حدثنا أبو القسم إسماعيل بن محمد بن سويد قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثنا الكديمي قال: حدثنا إسماعيل بن نصر العبدي قال: صاح صائح في مجلس صالح المري: ليقم البكاؤون المشتاقون إلى الجنة! فقام أبو جهير. فقال أبو جهير. فقال: يا صالح، اقرأ! فقرأ: وقدمنا إلى ما عملوا من عمل، فجعلناه هباءً منثوراً، أصحاب الجنة يومئذ خير مستقراً وأحسن مقيلاً. فقال: أعدها يا صالح، فأعادها، فما انتهى حتى مات أبو جهير.

أشعر من قال في منىً
أخبرنا أبو علي الحسن بن محمد بن عيسى القيسي بقراءتي عليه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة.
قال: حدثنا أبو الحسن محمد بن مغلس بن جعفر السراري قال: حدثنا القاضي أبو الطاهر محمد بن أحمد بن عبد الله بن نصر الذهلي قال: أنشدنا ثعلب قال: وسئل جعفر بن موسى الليثي: من اشعر من قال في منىً وعرفات والحج؟ فقال: ما قال أحد أصحابنا القرشيون، ولقد أحسن الملحي، يعني كثيراً، حين يقول:
تَفَرّقَ أنوَاعُ الحجِيجِ على مِنىً ... وفَرّقَهُم، شَعْبَ النوَى، مشيُ أربعِ.
فَلَمْ أرَ داراً مِثلَها دارَ غِبطَةٍ، ... وَمَلقىً إذا التَفّ الحَجِيجُ بمَجمَعٍ.
أقَلَّ مُقِيماً رَاضِياً بمَقامِهِ، ... وأكثرَ جاراً ظَاعِناً لمْ يُوَدَّعِ.
فَشاقُوكَ لمّا وَجّهُوا كلَّ وجهَةٍ ... سِرَاعاً، وَخَلّوا عَن مَنازلَ بلقَعِ.
فرِيقانِ منهُم سالِكٌ بطنَ نخلَةٍ، وآخرُ منهُم سالِكٌ خبتَ يَفرَعِ.
أعين الإنس لا أعين الجن
أخبرنا أبو بكر محمد بم أحمد الأردستاني بمكة في المسجد الحرام قال: أخبرنا الحسن بن محمد بن حبيب المذكر قال: سمعت أبا علي الحسين بن أحمد البيهقي القاضي يقول: سمعت أبا بكر بن الأنباري يقول: سمعت العابس بن سالم الشيباني يقول: سمعت ابن الأعرابي قال: ومن جيد شعره، يعني مجنون بني عامر:
وَجاؤوا إلَيه بالتعاويذِ والرُّقى، ... وصَبّوا عليه الماءَ من ألم النُّكسِ.
وقالوا بهِ مِن أعينِ الجِنّ نظرَةٌ، ... ولَوْ عقلوا قالوا: به أعين الإنسِ.

قميص سعدون
أخبرنا أبو بكر الأردستاني محمد بن أحمد بمكة قال: حدثنا أبو القاسم بن حبيب المذكر.
قالك سمعت الحاكم الحسين بن محمد يقول: سمعت إبراهيم بن فاتك يقول: سمعت يوسف بن الحسين يقول: سمعت ذا النون المصري يقول: خرجت يوماً بكرةً إلى مقابر عبد الله بن مالك فرأيت شخصاً مقنعاً كلما رأى قبراً منخسفاً وقف عليه، فإذا هو سعدون، فقلت: أي شيء تصنع ههنا؟ فقال: إنما يسأل عما أصنع من أنكر ما أصنع، فأما من عرف ما أصنع، فما يغني سؤاله، فقلت: يا سعدون تعال نبك على هذه الأبدان قبل أن تبلى! فقال: البكى على القدوم على الله، عز وجل، أولى بنا من البكى على الأبدان، فإن يكن عندها خير، فخيرها عند ربها أكثر من بلاها، وإن يكن عندها شر، فشرها عند ربها من بلاها في القبور، فليتها تركت تبلى في القبور، ولم تبعث للحساب.
يا ذا النون إنك إن تدخل النار فلا ينفعك في النار دخول غيرك الجنة. وإن تدخل الجنة لا يضرك دخول غيرك النار.
ثم قال: يا ذا النون! وإا الصحف نشرت، ثم صاح: وا غوثاه بالله، ماذا نقابله في الصحف؟ قال: فغشي علي غشية، فلما أفقت إذا هو يسمح وجهي بكمه، ويقول: يا ذا النون! من اشرف منك غن مت مكانك هذا؟ قال محمد بن الصباح: وقرات على قميص سعدون:
عينِ فابكي عليّ، قبل انطلاقِ، ... بدُموعٍ تَمَلّ مِنها المآقي.
وانظري مصرَعي، فقد قُضيَ الأمْ ... رُ ونوحي عليّ قبل الفِرَاقِ.

ذو النون الصوفي والمشتاقون
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي قال: أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد الهمذاني بمكة قال: سمعت أبا بكر محمد بن علي قال: حدثنا أحمد بن محمد بن عيسى قال: حدثنا يوسف بن الحسين قال: وصف ذو النون المشتاقين فقال: سقاهم من صرف المودة شربةً، فماتت شهواتهم في القلوب من خوف عواقب الذنوب، وذهلت أنفسهم عن الماطعم من حذر فوت المناعم، قد أنحلوا الأبدان بالجوع وصفوا القلوب من كل كدر، فهي معلقة بمواصلة المحبوب، ثم قال: يا حسن غراس الأشجان في رياض الكتمان! وذكر كلاماً ثم تنفس وقال:
شوُقٌ أضَرّ بمُهجَةِ المُشتَاقِ ... فجَرَتْ سوَابقُ عَبرَةِ الآماقِ.
لَعِبتْ يدُ العَبَرَاتِ في وَجَناته ... وكذا بِهِ لَعِبَتْ يدُ الأشوَاقِ.

يا من يعز علي
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بمكة بقراءتي عليه، في المسجد الحرام، بباب الندوة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن محمد بن الحسين السلمي قال: حدثنا يوسف بن عمر الزاهد قال: قرأت على جعفر بن محمد الحواص حديث إبراهيم بن محمد المروزي قال: رأيت الوليد بن عتبة قد سمع صوتاً وهو يقول: يا من يعز علي ما لي أهون عليك؟ ثم صاح ووقع في الطين فبقي أربعين يوماً مريضاً.

كل كريم طروب
أخبرنا الأردستاني بمكة قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت الإمام أبا سهل محمد بن سليمان بن روزبة يقول: سمعت أبا محمد السوري يقول: سمعت أبا العباس محمد بن يزيد يقول: حدثت أن معاوية قال لعمرو بن العاص: امض بنا إلى هذا الذي قد تشاغل باللهو في هدم مروءته، نبقي عليه فعله، يريد عبد الله بن أبي طالب، فدخلا عليه وعنده سائب خاسر، وهو يلقي على جوار له، فأمر عبد الله الجواري أن يتنحين لدخول معاوية، وتنحى عبد الله عن سريره لمعاوية، فرفع معاوية عمراً، فأجلسه إلى جنبه، ثم اقل لعبد الله: عد إلى ما كنت عليه! فأمر بالكراسي فألقيت، وأمر الجواري أن يخرجن، فخرجن فجلسن على الكراسي، فتغنى سائب:
ديارُ التي كنّا ونحنُ نزُورُها ... تَعَفّتْ بأرياحِ الصَّبا والجنائبِ.
ومضى في الشعر ورددت الجواري عليه النغم الطيب، وحرك معاوية يديه، وتحرك في مجلسه، ثم مد رجليه، فجعل يضرب وجه السرير.
فقال له عمرو: اتئد فإن الذي جئت تلحاه أحسن حالاً منك، وأقل حركةً. فقال معاوية: اسكت، لا أبا لك، فإن كل كريم طروب.
عروة بن حزام
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري إجازة قال: أخبرنا أبو الحسين بن روح قراءة عليه.
قال: حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني ابن فهم قال: حدثنا عبد الله بن شبيب عن سليمان بن عبد العزيز قال: حدثني خارجة المكي قال: حدثني من رأى عروة بن حزام يطاف به حول البيت قال: فدنوت منه، فقلت: من أنت؟ قال: أنا الذي أقول:
أفي كلّ يوْمٍ أنتَ رامٍ بِلادَها ... بعَينَينِ إنساناهُما غَرِقَانِ.
ألا فاحمِلاني، بارَكَ اللهُ فِيكُما، ... إلى حاضِرِ الرَّوْحاءِ ثُمّ ذرَاني.

جفون وجفون
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي الحافظ قال: أخبرنا علي بن أيوب القمي قال: انشدنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني قال: أنشدني محمد بن أحمد الكاتب قال: أنشدني محمد بن موسى البربري:
يا جُفوناً سَوَاهِراً أعْدَمَتُها ... لَذّةَ النوْم والرّقادِ جُفُونُ.
إنّ للهِ في العِبادِ مَنَايا ... سَلّطَتها على القُلوبِ العُيُونُ.

القاتلات الضعائف
أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال: أخبرنا أبو عبد الله محمد بن عمران المرزباني إجازة قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن ابن أخي الأصمعي عن عمه عن أبي عمرو بن العلاء قال: لقيت أعرابياً بمكة، فاستنطقته فوجدته ظريفاً، فاستنسبته، فأخبر له أنه عذري. فقلت: إنكم لقبيلة قد ضشاع عنكم في العرب ما شاع من رقة القلوب وصدق المقة مع العفاف، وتجنب المآثم، فهل صحبت شبيبتك بشيء من ذلك؟ فقال: والله لقد كنت أصحب الشباب بالتصابي، وأتحدث إلى العقائل. فقلت: فهل قلت في ذلك شيئاً؟ فأنشدني:
تَتَبّعنَ مرْمى الوَحشِ حتى رَمَينَنا ... من النَّبلِ لا بالطائشاتِ الخَواطِفِ.
يَقتُلنَ الرّجالَ بِلا دمٍ، ... فَيَا عَجبَا للقاتِلاتِ الضّعائِفِ.
وللعَينِ مَلهىً في التّلادِ وَلمْ يَقُدْ ... هوَى النفسِ شيء كاقتِياد الطّرَائِفِ.

الزوجة الفارك
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي بن محمد الجوهري إجازة قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني عبد الله بن المهاجر قال: حدثني محمد بن يزيد قال: تزوج رجل امرأةً من أهل الكوفة، وكانت ذات جمال وظرف، فكانت تجيء وتذهب وتتمثل بهذا البيت:
سَتَندَمُ حينَ تَفقدِنُي ... وَتَطُلبُني فَلا تَجِدُ.
قال: فكان الزوج يتطير من قولها: ويقول: تعدني بالذهاب، قال: وكان لها محباً، قال: فأصبح ذات يوم يطلبها، فمل يقدر عليها حتى الساعة.

لابسة السواد
حدث أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني أبو صالح الأزدي قال: حدثني محمد بن الحسين قال: أخبرني محمد بن سماعة القرشي قال: آخر من مات من العشق علي بن أديم مولى الجعفي، وكان خرازاً، مر بكتاب بالكوفة في بني عبس، فرأى جاريةً يقال لها منهلة، فعشقها، وكان رآها في سواد، فقال:
إني لِما يَعتَادني ... من حبّ لابسَةِ السوادِ.
في فِتنَةٍ وَبَليّةٍ ... ما إن يُطيقها فُؤادي.
فَبَقِيتُ لا دُنْيا أنا ... لُ وَفاتني طَلَبُ المَعادِ.
قال: وأصابه عليها شبيه الجنون، فجمع أبوه التجار، فتحمل بهم على العبسية مولاة الجارية، وأعطاها مالاً كثيراً، فأبت، فخرج الفتى إلى أم جعفر، فكتب إليها قصةً يخبرها فيها بخبره وحاله، فأمرت أن تشترى له، فبينا هو يتنحز ذلك إذ خرجت جارية من القصر فقالت: أين هذا العاشق؟ فأومأ لها إليه، فقالت: أنت عاشق وبينك وبين من تحب الجسور والمفوز والقناطر، ولا تدري ما يكون؟ قال: صدقت، وقام من مجلسه مبادراً، فاكترى بغلاً، فمات يوم دخوله الكوفة.

ما لليالي وما لي
أنشدني أبو عبد الله الحسين بن عبد الله بن الشويح الأموي الفقيه بمصر لنفسه:
ما لليالي وما لي ... يَطلُبنَ روحي وما لي.
قد جِئنَني بخَلوبٍ ... لم تمضِ يوْماً ببالي.
لمّا عَرَقنَ عِظامي ... سألنَني كيفَ حالي.
فقلتُ قوْلاً وجيزاً: ... الحالُ مني بحالي.

يا جارة الحي
ولي من ابتداء قصيدةٍ نظمتها بالشام في بني أبي عقيل، رحمهم الله:
ألا هل لمَن أضْنَاهُ حبّكِ إفرَاقُ ... وهل للديغِ البَينِ عندكِ دِرْياقُ.
وَهَل لأسيرٍ سامَه قتلَ نفسِه ... هوَاكِ، وقدْ زُمّتْ ركابُكِ، إطلاقُ.
أيا جارة الحي الذين ترحلوا، ... فللعيس وخد بالحمول وإعناق.
ألمّا تخافي الله في قَتلِ عاشِقٍ ... هجَرْتِه حتى في الكرَى وهو مُشتاقُ.
فقالتْ، وَرَوْعاتُ النّوَى تَستَحِثّهَا ... ودَمعُ مآقِيها على النّحرِ مِهْرَاقُ:
هوَ البَينُ فالبس جُنّةَ الصّبرِ، أوْ فمُتْ ... بِداءِ الهوَى، قد ماتَ قَبلَكَ عُشّاقُ.

رابعة العدوية الصوفية ومنامها
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه قال: أخبرنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الرحمن بن عبد الله بن محمد القرشي قال: حدثنا محمد هو ابن الحسين قال: حدثني عصام بن عثمان الحلبي قال: حدثني مسمع بن عاصم قال: قالت لي رابعة العدوي: اعتللت علة قطعتني عن التهجد وقيام الليل، فمكثت أياماً أقرا جزئي، إذا ارتفع النهار، لما يذكر فيه أنه بعدل بقيام الليل. قالت: ثم رزقني الله، عز وجل، العافية فاعتادني فترة في عقب العلة، وكنت قد سكنت إلى قراءة جزئي بالنهار، فانقطع عني قيام الليل. قالت: فبينا أنا ذات ليلة راقدة أريت في منامي كأني رفعت إلى روضة خضراء، ذات قصورٍ ونبت حسن، فبينا أنا أجول فيها أتعجب من حسنها، إذا أنا بطائر أخضر، وجارية تطارده كأنها تريد أخذه، قالت: فشغلني حسنها عن حسنه، فقلت: ما تريدين منه؟ دعيه، فوالله ما رأيت طائراً قط أحسن منه.
قالت: بلى، ثم أخذت بيدي فأدارت بي في تلك الروضة حتى انتهت بي إلى باب قصر فيها، فاستفتحت، ففتح لها، ثم قالت: افتحوا لي بيت لمقة، قالت: ففتح لها باب شاع منه شعاع استنار من ضوء نوره ما بين يدي وما خلفي، وقالت لي: ادخلي، فدخلت إلى بيت يحار فيه البصر تلألؤاً وحسناً، ما أعرف له في الدنيا شبيهاً أشبهه به.
فبينا نحن نجول فيه إذ رفع لنا باب ينفذ منه إلى بستان، فأهوت نحوه أنا معها، فتلقانا فيه وصفاء كأن وجوههم اللؤلؤ، بأيديهم المجامر، فقالت لهم: أين تريدون؟ قالوا: نريد فلاناً قتل في البحر شهيداً.
قالت: أفلا تجمرون هذه المرأة قالوا: قد كان لها في ذلك حظ فتركته.
قالت: فارسلت يدها من يدي، ثم أقبلت علي فقالت:
صَلاتُكِ نورٌ والعِبادُ رُقودُ ... ونوْمك ضِدٌّ للصّلاة عنيدُ.
وعمرُك غُنْم إن عقلتِ ومهلةٌ ... يسيرُ ويفنى دائماً ويبيدُ.
ثم غابت من بين عيني، واستيقظت حين تبدى الفجر، فوالله ما ذكرتها فتوهمتها إلا طاش عقلي، وأنكرت نفسي. قال: ثم سقطت رابعة مغشياً عليها.

معاذة وغايتها من صلاتها


.../...
68
 
معاذة وغايتها من صلاتها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي قال:حدثنا محمد بن عبد الله قال: حدثنا الحسين قال: حدثنا عبد الله قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا يحيى بن بسطام قال: حدثنا عمران بن خالد قال: حدثتني أم الأسود بنت زيد العدوية، وكانت معاذة قد أرضعتها، قالت:
قالت لي معاذة، لما قتل أبو الصهباء وقتل ولدها: والله يا بنية! ما محبتي للبقاء في الدنيا للذيذ عيشٍ، ولا لروح نسيم، ولكني والله أحب البقاء لأتقرب إلى ربي، عز وجل، بالوسائل لعله يجمع بيني وبين أبي الصهباء وولده في الجنة.
معاذة تبكي وتضحك عند احتضارها
وبإسناده قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثني روح بن سلمة الوراق قال: سمعت عفيرة العابدة تقول: بلغني أن معاذة العدوية، لما احتضرت، بكت، ثم ضحكت، فقيل لها: بكيت ثم ضحكت، فمم البكاء ومم الضحك، رحمك الله! قالت: أما البكاء فإني، والله، ذكرت مفارقة الصيام والصلاة والذكر، فكان البكاء لذلك. وأما الذي رأيتم من تبسمي وضحكي، فإني نظرت إلى أبي الصهباء، وقد أقبل في صحن الدار، وعليه حلتان خضراوان، وهو في نفرٍ، والله ما رأيت لهم في الدنيا شبهاً، فضحكت إليه، ولا أراني أدرك بعد ذلك فرضاً. قال: فماتت قبل أن يدخل وقت الصلاة.

ذو الرمة ومي
أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة قال: أنبانا أبو عبيد الله محمد بن عمران المرزباني قال: حدثني محمد بن أحمد الكابت قال: حدثنا أحمد بن أبي خيثمة عن محمد بن زياد الأعرابي.
قال: حدثني أبو صالح الفزاري قال: ذكر ذو الرمة في مجلس فيه عدة من الأعراب، فقال عصمة بن مالك الفزاري شيخ منهم، بلغ مائة وعشرين سنة: إياي فسلوا عنه! كان حلو العينين، حسن المضحك، براق الثنايا، خفيف العارضين، إذا نازعك الكلام لا تسأم حديثه، وإذا أنشد أبر وحسن صوته.
جمعني وإياه مربع مرةً، فأتاني فقال: هيا عصمة! إن ميا منقرية، ومنفر أخبث حي وأقوفه لأثر، وأثبته في نظر، وأعلمه ببصر، وقد عرفوا آثار إبلي، فهل نزداد عليها مياً؟ قال: إي والله، الجؤذر بنت يمانية. قال: فعلينا بها! فجئت بها، فركب وردفته، ثم انطلقنا حتى نهبط على مي، وإذا الحي خلوف، فلما راتنا النسوة عرفن ذا الرمة، فتقوضن من بيوتهن حتى اجتمعن، وأنخنا قريباً، وجئناهن، وجلسنا، فقالت ظريفة منهن: أنشدنا يا ذا الرمة، فقال لي: أنشدهن، فأنشدت قوله:
وَقَفْتُ على رَبْعٍ لمَيّةَ ناقَتي، ... فما زِالتُ أبكي عنده، وَأُخاطبُه.
فلمّا انتَهَيتُ إلى قولِه:
نَظَرْتُ إلى أظْعَانِ مَيّ كَأنّها ... ذُرَى النّخلِ، أوْ أثلٌ تميلُ ذَوَائُبهْ.
فَأسْبَلَتِ العَيْنانِ وَالقَلْبُ كَاتِمُ ... بِمُغرَوْرِقٍ نَمّتْ علي سَوَاكِبُهْ.
بَكَى وَامِقٌ، جَاءَ الفِرَاقُ، وَلم يُجِل ... جَوَائِلَهَا، أسْرَارُهُ أوْ مَعَاتِبُه.
قالت الظريفة: لكن اليوم فليجل، ثم مضيت. فلما انتهيت إلى قوله:
وَقَدْ حَلَفت باللهِ مَيّةُ مَا الّذِي ... أحَادِثُهَا إلاّ الّذِي أنَا كَاذِبُهْ.
إذَنْ، فَرَمَاني اللهُ مِنْ حَيثُ لا أرَى، ... وَلا زَالَ في أرضِي عَدُوٌّ أُحَارِبُهْ.
قالت مي: ويحك يا ذا الرمة خف عواقب الله، عز وجل، ثم مضيت حتى انتهيت غلى قوله:
إذَا سَرَحَتْ من حُبّ مَيّ سَوَارِحٌ ... عَلى القَلْبِ آتَتْهُ جَميعاً عَوَازِبُهْ.
فقالت الظريفة: قتلته قتلك الله! فقالت مية: ما أصحه وهنيئاً له.
قال: فتنفس ذو الرمة تنفسةً كاد حرها يطير بلحيته، ثم مضت حتى انتهيت غلى قوله:
إذا نَازَعَتكَ القَوْلَ ميّةُ أوْ بَدَا ... لك الوَجهُ منها أوْ نضَا الدِّرْعَ سالبُهْ.
فَيَا لكَ مِنْ خَدٍّ أسِيلٍ وَمَنْطِقٍ ... رَخِيمٍ وَمِنْ خُلْقٍ تَعَلّلَ جَاذِبُهْ.
فقالت الظريفة: هذا الوجه قد بدا، وهذا القول قد تنوزع، فمن لنابأن ينضو الدرع سالبه؟ فالتفتت إليها مي فقالت: ما لك، قاتلك الله، ماذا تجنين به؟ فتضاحكت النسوة، فقالت الظريفة: إن لهذين لشأناً، فقم بنا عنهما، فقمن، وقمت فصرت إلى بيت قريب منهما أراهما، ولا أسمع كلامهما إلا الحرف بعد الحرف، فوالله ما رأيته برح مكانه، ولا تحرك. وسمعتها تقول: كذبت والله، فوالله ما أدري ما الذي كذبته فيه، فتحدثا ساعةً، ثم جاءني ومعه قويريرة فيها دهن طيب، فقال: هذه دهنة أتحفتنا بها مي، فشأنك بها. وهذه قلائد زودتنا للجؤذر، فلا واللخ لا قلدتهن بعيراً أبداً. ثم عقدهن في ذؤابة سيفه.
قال: فانصرفنا، فلم نزل نختلف إليها، مربعنا، حتى انقضى. ثم جاءني يوماً فقال: يا عصمة! قد ظعنت مي، فلم يبق إلا الديار، والنظر في الآثار، فانهض بنا ننظر إلى آثارها، فخرجنا حتى وقفنا على ديارها، فجعل ينظر ثم قال:
ألا، فَاْسلَمي يا دَارَ مَيّ عَلى البِلى، ... وَلا زَالَ مُنْهَلاًّ بجرْعائِكِ القَطْرُ.
فإنْ لم تَكُوني غيرَ شَامٍ بقَفْرَةٍ، ... يَجُرّ بهَا الأذْيَالَ صَيفِيّةٌ كُدْرُ.
ثم انتضحت عيناه بعبرةٍ، فقلت: مه! فقال: غني لجلد، وإن كان مني ما ترى، فما رأيت صبابةً قط، ولا تجلداً أحسن من صبابته وتجلده يومئذ، ثم انصرفنا، فكان آخر العهد به.

تآلفا في الحياة وفي الممات
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: حدثنا علي بن أيوب القمي قال: حدثنا أبو عبيد الله محمد بن عمران قال: حدثنا عبد الله بن محمد بن أبي سعيد قال: حدثني إسحاق بن محمد النخعي قال: حدثني معاذ بن يحيى الصنعاني قال: خرجت من مكة إلى صنعاء، فلما كان بيننا وبين صنعاء خمس ساعات رأيت الناس ينزلون عن محاملهم ويركبون دوابهم، فقلت: أين تريدون؟ قالوا: نريد أن ننظر إلى قبر عفراء وعروة، فنزلت عن محملي وركبت حماري، واتصلت بهم، فانتهيت إلى قبرين متلاصقين، قد خرج من كلا القبرين ساق شجرة، حتى إذا صارا على قامة التفا، فكان الناس يقولون: تآلفا في الحياة وفي الممات.

الهوى إله معبود
وبإسناده قال: حدثنا محمد بن يحيى قال: حدثنا عون بن محمد قال: حدثنا إسحاق الموصلي قال: قال يحيى بن أكثم: قال ابن عباس: الهوى إله معبود! فقيل له: أتقول ذلك؟ فقال: قال الله تعالى: أفرأيت من اتخذ إلهه هواه.

عمر بن عون وحبيبته بيا
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق قال: حدثنا محمد بن أحمد بن فارس الحافظ قال: أخبرنا أبو الحسين الزبيبي قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزباني قال: حدثنا أبو الفضل المروروذي.
قال: حدثني أبو عبد الله محمد بن صالح قال: كان فتىً من بني مرة يقال له عمر بن عون، وكان يحب جاريةً من قومه يقال لها بيا بنت الركين، فتزوجها رجل من قومه يقال له دهيم، وأبت بيا إلا حب عمر بن عون، وأبى عمر إلا حبها وقول الشعر فيها، فخرج زوجها بها هارباً منه حتى وقع باليمن في بني الحارث بن كعب، فطلبها عمرن فخفي عليه أمرها، ولم يعلم موضعها، فمكث حياً يبكي ويبكي له من عرفه، ثم خرج حاجاً على ناقة له، ومعه صحابة له، وقال: لعلي أتعلق بأستار الكعبة، أسأل الله، فعسى أن يرحمني، فردها علي، أو يذهب بقلبي عن حبها.
فلما كان بمنىً نظر إليه فتىً من بني الحارث بن كعب، فأعجبه فجلس إليه يتحدث معه، وأنشده عمر بعض شعره في بيا، وشكا إليه بعض ما هو فيه من البلاء. فرق له، فقال الفتى، وسأله عن صفتها وصفة زوجها، فوصفها له، فقال الفتى: عندي خبر هذه المراة، وهذا الرجل، منذ سنوات، فخر عمر لله تعالى ساجداً، ثم سأله عن حالها، فذكر أنها سالمة، وأنها باكية حزينة لا يهنؤها شيء من العيش. فقال له عمر: هل لك في صنيعةٍ عند من يحسن الشكر؟ فقال له الفتى: أفعل ماذا؟ قال عمر: تخلف عن أصحابك، وأتخلف عن أصحابي حتى لا يكون عند أحد منا علم، ثم أمضي معك متنكراً. فقال الفتى: ذلك لك في عنقي.
فلما كان النفر تخلف كل واحد منهما عن صاحبه، وأقاما بمكة أياماً ثلاثةً أو أربعةً حتى ارتحل الحاج، ثم مضينا حتى وصل الفتى إلى أهله، فأدخله مع امرأته وأخته في منزلهما، ومضى إلى بيا، وأخبرها، فكانت كل تجيئه كل يوم فيتحدثان ويشكوان ما كانا فيه من البلاء والوحشة.
واستراب زوجها بغشيانها ذلك البيت، ولم تكن من قبل تغشاه، ولا تقرب أهله، واستراب بطيب نفسها، وأنها ليست كما كانت، فخرج في رفقة إلى نجران على أن يغيب عشر ليال، فأقام ليلتين مختفياً في موضع، ثم أقبل راجعاً في الليلة الثالثة، وقد أمنه عمر، وظن أنه قد ذهب فأتاها، ففرشت له بساطاً قدام البيت، فتحدثا ثم غلبهما النوم، وهي مضطجعة على جانب البساط، وعمر على جانبه الآخر، فأقبل الزوج، فوجدهما على تلك الحال، فنظر في وجه عمر، فعرفه فأثبته، وانتبه عمر، فوثب بالسيف فزعاً. فقال له الزوج: ويلك يا عمر ما ينجيني منك بر ولا بحر.
فقال عمر: يا ابن عمي! ما نا على ريبةٍ، وما يسائلني الله تعالى عن أهلك عن قبيح قط، ولكن نشأت أنا وهي فألفتها وألفتني، ونحن صبيان، فلست أعطى عنها صبراً، وما بيننا شيء أكثر من هذا الحديث الذي ترى.
قال له الزوج: أما أنا فلم أهرب إلى هذه البلاد إلا منك، فأما بعد ان صح عندي من عفتك وصدق قولك فإني لا أهرب منك أبداً.
فأقاموا سنواتٍ، وهم على تلك الحال، فمات عمر وجداً بها، فكانت تبكي عليه الدماء، فضلاً عن الدموع، ثم مات دهيم بعد ذلك وعمرت هي.
التقي عزيز
وبإسناده قال: وأخبرني محمد بن سعد قال: أنشدني رجل من النساك:
ما للتّصَبّرِ، ما أعلاهُ من عَمَدٍ، ... قد يُورِثُ الصّبرُ أهلَ الصّبرِ إحسانا.
كم عاشِق ماتَ شَوْقاً في تَعَذّبه، ... وَعَاشِقٍ حالَ مَن يَهوَاهُ أحيَانَا.
لا شَيءَ أعلى منَ التّقوَى وَصُحبتها، ... إنّ التّقيّ عَزِيزٌ حَيثُ ما كَانَا.
لا تنفع الرقى

ولي من أثناء قصيدة:
يا لَهْفَ قَلبي اليَوْمَ مَا بَالُهُ، ... يُعَاوِدُ النُّكْسَ، إذَا فُرّقَا.
هَلْ سَلْوَةٌ؟ هَيْهَاتَ لا سَلوَةٌ، ... قد بَلَغَ السّيْلُ الزُّبى وَارْتَقَى.
لا تَرْقَيَا في حُبّهِ ذَا هَوى، ... فَالحُبّ لا تَنْفَعُ فِيهِ الرُّقَى.
ماتت على القبر
أخبرني أبو عبد الله محمد بن أبي نصر قال: حدثني الفقيه أبو محمد بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: أخبرنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي إسماعيل بن القاسم قال: حدثنا ابن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: رأيت بالبادية امرأةً على راحلةٍ تطوف حول قبر وهي تقول:
يَا مَنْ بِمُقْلَتِهِ زَهَى الدّهْرُ، ... قَدْ كانَ فِيكَ تَضَاءَلَ الأمْرُ.
زَعَمُوا قُتِلْتَ، وَمَا لهُمْ خبرٌ، ... كَذَبوا، وَقَبرِكَ، ما لهُمْ عُذْرُ!
يَا قَبرَ سَيّدِنَا عَلَيْكَ رِضاً، ... صَلّى الإلَهُ عَلَيْكَ يَا قَبرُ.
مَا ضَرّ قَبراً قَدْ سَكَنْتَ بِهِ ... ألاّ يَمُرَّ بِأرْضِهِ القَطْرُ.
فَلْيَنْبُعَنْ جُودُكَ في تُرْبِهِ، ... وَلْيُورِقَنّ بِقُرْبِكَ الصَّخْرُ.
وَإذَا غَضِبْتَ تَصَدّعَتْ فَرَقاً ... مِنْكَ الجِبَالُ، وَخَافَكَ الذُّعْرُ.
وَإذا رَقَدْتَ، فَأنتَ مُنْتَبِهٌ، ... وَإذَا انتَبَهْتَ، فَوَجْهُكَ البَدْرُ.
وَاللهِ! لَوْ بِكَ لم أدَعْ أحَداً ... إلاّ قَتَلْتُ لَفَاتَني الوِتْرُ.
قال: فدنوت منها لأسألها عن أمرها فإذا هي ميتة.
إسحاق وزهر الأعرابية
وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: حدثني جحظلة قال: حدثني حماد بن إسحاق الموصلي قال: حدثني أبي قال: كتبت إلي زهر الأعرابية، وقد غابت عني، كتاباً فيه:
وَجْدِي يَجلُّ، على أنّي أُجَمْجِمُه، ... وَجْدُ السّقِيمِ بِبُرْءٍ بَعدَ إزْفافِ.
أوْ وَجدُ ثكلى أصَابَ المَوْتُ وَاحدَها، ... أوْ وَجْدُ مُنشَعِبٍ من بينِ أُلاف.
قال حماد: قال لي أبي، فكتبت إليها:
اقْرَأ السَلامَ على زَهْرٍ إذا شَحَطَتْ، ... وَقلْ لها: قد أذقتِ القلبَ ما خَافَا.
أمَا أوَيتِ لمَنْ قَدْ بَاتَ مُكْتَئِباً، ... يُذرِي مَدامِعَهُ سَحّاً وَتَوْكَافَا.
فَمَا وَجَدْتُ عَلى إلْفٍ أُفَارِقُهُ، ... وَجْدِي عَلَيْكِ، وَقَدْ فارَقتُ آلافَا.
الضعيف الضائع
وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: أنشدنا ابن دريد ولم يسم قائلاً ولا عزاه إلى أحد:
آلَ لَيْلى! إنّ ضَيفَكُمُ ... ضَائعٌ في الحَيّ مُذْ نَزَلا.
أمْكِنُوهُ مِنْ ثَنِيّتِهَا، ... لم يُرِدْ خَمْراً وَلا عَسَلا.

التفاح بدل الجمار
أنبأنا أبو الحسين أحمدبن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قال: حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي قال: أخبرني ابن الأصقع قال: قال لي بعضهم: رأيت ببغداد في وقت الحج فتىً، ومعه تفاح مغلف، فانتهى إلى سور فوقف تحته، فاطلع عليه جوارٍ كأنهن المها، فأقبل يرميهن بذلك التفاح، فقلت له: أليس كنت معتزماً على الحج؟ فقال:
وَلمّا رَأيتُ الحَجّ قَدْ آنَ وَقْتُهُ، ... وَأبصرْتُ بُزْلَ العيس بالرَّكبِ تعسِفُ.
رَحَلتُ مَعَ العُشّاقِ في طَلَبِ الهَوى، ... وَعَرّفتُ من حَيْثُ المُحبّونَ عرّفوا.
وَقَدْ زَعَمُوا أنّ الجِمَارَ فَرِيضَةٌ، ... وَتَاركَ مَفْرُوضِ الجِمَارِ يُعَنَّفُ.
فهيّأتُ تُفّاحاً ثَلاثاً وَأرْبَعاً، ... فزُعفِرَ لي بَعضٌ وَبَعضٌ مُغَلَّفُ.
وَقُمتُ حِيَالَ القَصْرِ ثُمّ رَمَيْتُهُ، ... فَظَلّتْ لهَا أيْدِي المِلاحِ تَلَقَّفُ.
وَإني لأرْجُو أنْ تُقَبَّلَ حِجّتي، ... وَمَا ضَمّني للحَجّ سَعْيٌ وَمَوْقِفُ.

قمرية الوادي
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: حدثنا إسماعيل بن سويد قال: حدثنا الكوكبي قال: حدثني أبو الحسن بن الأصقع قال: كان فتىً من بني عذرة يتعشق ابنة عم له، فبلغه أن فتىً أسود يأتيها لريبة، فغمه ذلك، فمر يوماً ببابها، فقال:
شابَتْ أعَالي قُرُوني وَامّحَى شَعَرِي، ... مِمّا أُحَدَّثُ عَنْ قُمْرِيّةِ الوَادي.
نُبّئْتُ أنّ غُرَاباً بَاتَ مُحْتَضِناً ... قُمْرِيّةً بَينَ أغْصَانٍ وَأعْوَادِ.
فلما سمعت شعره خرجت، فاعتذرت إليه، وآلت أن لا تعرف ذكراً غيره، فلم يزل يحتال حتى تزوجها.

الصوفي وغلامه
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر قال: أخبرنا أبو صالح السمرقندي قال: حدثنا عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمر الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: حدثني أبو المختار الضبي.
قال: حدثني أبي قال: قلت: لأبي الكميت الأندلسي، وكان جوالاً في أرض الله، عز وجل: حدثني بأعجب ما رأيته من الصوفية! قال: صحبت رجلاً منهم يقال له مهرجان، وكان مجوسياً، فأسلم وتصوف، فرأيت معه غلاماً جميلاً لا يفارقه، فكان إذا جاء الليل، قام فصلى ثم ينام إلى جانبه يقوم فزعاً، فيصلي ما قدر له، ثم يعود فينام إلى جانبه أيضاً، حتى يفعل ذلك في الليلة مراراً، فإذا أسفر الصبح، أو كاد أن يسفر، أوتر ثم رفع يديه، فقال: اللهم إنك تعلم أن الليل قد مضى علي سليماً لم أقارف فيه فاحشةً، ولا كتبت الحفظة علي فيه معصية، وأن الذي أضمره في قلبي لو حملته الجبال لتصدعت، أو كان بالأرض لتدكدكت.
ثم يقول: يال ليل اشهد بما كان مني فيك، فقد منعني خوف الله، عز وجل، عن طلب الحرام والتعرض للآثام.
ثم يقول: يا سيدي! أنت بيننا على تقى، ولا تفرق بيننا يوم تجمع فيه الأحباب.
فأقمت معه مدةً طويلةً أراه يفعل ذلك في كل ليلة، وأسمع هذا القول، فلما هممت بالانصراف من عنده قلت له: سمعتك تقول، إذا انقضى الليل: كذا وكذا. فقال: أوقد سمعتني؟ قلت: نعم! قال: فوالله يا أخي إني لأدري من قلبي ما لو داراه سلطاننا من رعيته، لكان من الله حقيقاً فقلت: وما الذي يدعوك إلى صحبة من تخاف على نفسك العنت من قبله؟ وذكر كلاماً اختصرته.

الصوفي المتقشف
وبإسناده قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي: حدثني الصلت بن بهرام المجاشعي قال: حدثني محمد بن االخضر التيمي قال:
كان أبو عمرو الضبابي من أحسن من رأيته وجهاً ممن يصحب الصوفية، وكان لا يرافق أحداً ولا يجالسه ولا يلابسه إلا في طريق، فأتاني ذات يومٍ، ونحن ببلاد الروم، فقال: هل لك في مرافقتي، فغني قد مللت الوحدة، وطالت علي الوحشة.
فقلت: علا خلال ثلاثٍ.
قال: وما هي؟ قلت: على أن لا أراك ضاحكاً إلى أحد من خلق الله، ولا مشغلاً بغير طاعة الله، عز وجل، ولا تعمل عملاً حتى أقول لك.
قال: قد فعلت.
وكان معي لا يفارقني في حج ولا غزو، فكنت أرى منه أموراً أعلم أن الله سيرفعه بها في الدنيا والآخرة من حسن صلاته وكثرة صيامه وطول صمته وقلة كلامه، فقلت له، ذات يوم، لأتبين معرفة عقله: ألا أشتري لك جارية؟.
فقال: وما أصنع بها؟ قلت: ما يصنع الرجل بملك يمينه!.
فقال: لو أردت هذا لم أترك أهلي وأشخص عن وطني وأخرج عن دنياي، ولكان لي منهم مقنع وفي المقام معهم متسع.
فقلت: ألق هذا الصوف عنك، فإنه قد أثر ببدنك، ونهك جسمك.
فقال: أتأمري أن ألقي عني ثوباً أتقرب إلى الله، عز وجل، بخشونته وريحه، وأنا أرجو منه حسن الثواب عليه عند منقلبي إليه.
قلت: فهل لك أن تفطر فإن الصيام قد أنحلك والظمأ قد غيرك؟ فقال: سبحان الله، ما أعجب ما تأمرني به! هل الدنيا إلا يومان، يوم قد مضى علي ويوم أنا فيه لا أدري بما يختم لي من رحمةٍ أو عذاب، فإن عذبني وأنا على حالةٍ أتقرب إليه بها، فهو أجدر أن يعذبني إذا فعلت أمراً أنا فيه مقصر.
فقلت: فصم يوماً وأفطر يوماً.
فقال: ذلك صوم الأبرار، ومن أمن النار، الذين علموا أن الله، عز وجل، متجاوز عنهم، وقابل منهم، فأما أنا فأنت تعلم أني غير عالم بما سبق علي في الكتاب من شقاء وسعادة، والله لئن عذبني الله على طاعته أحب إلي من أن يغفر لي وأنا على معصيته، على أنه غير جائر على من خلقه ولا معذب له إلا بذنب.
قلت: أفلا أشتري لك وطاءً تنام عليه؟ فقال: وأي وطاء أوطأ من ظهر الأرض، وقد سماه الله، عز وجل مهاداً، والله لا أفترش فراشاً ولا أتوسد وساداً، حتى ألحق بالله، عز وجل.
فقلت: فهل لك أن تريح نفسك في هذه الغزاة، وترجع؟ فقال: واعجباه من قولك! تأمرني أن أرجع عن الجنةن وقد فتح لي بابها، والله لا أزال أعرض نفسي على الله تعالى لعله يقبلين، فإن رزقني وخصني بالشهادة، فهو الذي كنت أحاول وبه أطالب، فإن حرمني ذلك فبالذنوب التي سلفت، وأنا أسأل الله أن يتفضل علي بما سألته، ويجيبني في ما دعوته.
فغزا معنا، ونحن في خلق كثير مع محمد بن مصعب، فلقينا العدو، فكان أول من جرح، فوقفت عليه، فقلت: أبشر بثواب الله، عز وجل، فقد أعطاك الرضا، وفوق المزيد.
فقال بصوت ضعيف: الحمد لله على كل حالٍ، لقد نظرت إلى كل ما تمنيت، وفوق ما اشتهيت، وبلغت ما أحببت، وأدركت ما طلبت من حور وولدان وسلسبيل وريحان، وإياك والتقصير، لعل الله، عز وجل، أن يبلغك ما بلغني ويرزقك ما رزقني، ثم فاضت نفسه.

أبو إسماعيل وفتح الموصلي
حدث جعفر الخالدي قال: حدثنا أحمد بن مسروق قال: حدثنا محمد بن الحسين قال: حدثنا عبد الله بن الفرج العابد قال: كان بالموصل رجل نصراني يكنى أبا إسماعيل، قال: فمر ذات ليلة برجل، وهو يتهجد على سطحه، ويقرأ: وله أسلم من في السموات والأرض طوعاً وكرهاً، وإليه ترجعون. قال: فصرخ أبو إسماعيل صرخةً وغشي عليه، فلم يزل على حاله تلك، حتى أصبح، فلما أصبح أسلم، ثم أتى فتحاً الموصلي فاستأذنه في صحبته، فكان يصحبه ويخدمه.
قال: وبكى أبو إسماعيل حتى ذهبت إحدى عينيه وغشي على الأخرى.
فقلت له ذات يوم: حدثني ببعض أمر فتحٍ.
قال: فبكى ثم قال: أخبرك عنه، كان والله كهيئة الروحانيين معلق القلب بما هناك، ليست له في الدنيا راحةٌ.
قلت: على ذاك؟
قال: شهدت العيد ذات يوم بالموصل، ورجع بعدما تفرق الناس، ورجعت معه فنظر إلى الدخان يفور من نواحي المدينة، فبكى ثم قال: قد قرب الناس قربانهم، فليت شعري ما فعلت في قرباني عندك أيها المحبوب! ثم سقط مغشياً عليه، فجئت بماء فمسحت به وجهه، فأفاق ثم مضى حتى دخل بعض أزقة المدينة، فرفع رأسه إلى السماء ثم قال: قد علمت طول غمي وحزني وتردادي في أزقة الدنيا، فحتى متى تحبسني أيها المحبوب؟ ثم سقط مغشياً عليه، فجئت بماء، فمسحت على وجهه، فأفاق فما عاش بعد ذلك إلا أياماً، حتى مات، رحمه الله.

النفس حيث يجعلها الفتى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قراءة عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزباني قال: أخبرني أبو عبد الله أحمد بن عبد الرحيم عن العباس بن علي قال: حدثني بعض أهل المدينة قال: دعاني فتىً من أهل المدينة إلى جارية تغني، فلما دخلنا عليها، إذا هي أحسن الناس وجهاً، وإذا بها انخراط وجه وسهو وسكوت، فجعلنا نبسطها بالمزاح والكلام، ويمنعها من ذلك ما تكتمه، فقلت في نفسي: والله إن بها لتهياماً، وطائفاً من الحب، فأقبلت عليها، فقلت: بالله لما صدقتني ما الذي بك؟ فقالت: برح الذكر، ودوام الفكر، وخلو النهار، وتشوق إلى من سار، والذي يرى ما وصفت لك، فإن كنت ذا أدب صرفت العتب عن ذي الكرب، واجتهدت في الطلب لدواء من قد أشرف على العطب، كما قال الشاعر، وأخذت العود، فغنت:
سَيُورِدُني التّذكارُ حَوْضَ المَهالكِ ... فَلَسْتُ لتذكارِ الحَبيبِ بِتَارِكِ.
أبى اللهُ إلاّ أنْ أمُوتَ صَبَابَةً، ... وَلَسْتُ لِمَا يَقضِي الإلَهُ بِمالِكِ.
كأنّ بقَلْبي حينَ شَطّتْ بهِ النّوَى، ... وَخَلّفَني فَرْداً، صُدُورَ النّيَازِكِ.
تَقَطّعَت الأخْبَارُ بَيْني وَبَيْنَهُ، ... لِبُعْدِ النّوَى، وَاستَدّ سُبْلُ المَسالكِ.
قال: فوالله لقد خفت أن أسلب عقلي لما غنت، فقلت: جعلني الله فداءك، وهو الذي صيرك إلى ما أرى يستحق هذا منك! فوالله إن الناس لكثير، فلو تسليت بغيره فلعل ما بك أن يسكن أو يخف، فقد قال الأول:
صَبَرْتُ عَلى اللّذّاتِ، لمّا تَوَلّتِ، ... وَألزَمتُ نَفسِي صَبرَها، فاستَمَرّتِ.
وَما النفسُ إلاّ حيثُ يجعَلُها الفتى،فإنْ أُطمِعَتْ تاقَتْ،وَإلاّ تَسَلّتِ.
فأقبلت علي فقالت: قد والله رمت ذلك، فكنت كما قال قيس بن الملوح:
وَلمّا أبى إلاّ جمَاحاً فُؤادُهُ، ... وَلم يَسْلُ عن لَيلى بمالٍ وَلا أهلِ.
تَسَلّى بأُخْرَى غَيرِها، فإذا التي ... تَسَلّى بها تُغرِي بلَيلى وَلا تُسْلي.
قال: فأسكتتني والله بتواتر حججها عن محاورتها، وما رايت كمنطقها ولا كشكلها وأدبها وكمال خلقها.

العفة الناجعة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي قال: أخبرنا أبو الحسين محمد بن عبد الله قال: أخبرنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثني الحسين بن عبد الرحمن قال: حدثني محرز أبو القاسم الجلاب قال: حدثني سعدان قال: أمر قوم امرأة ذات جمال بارع، أن تتعرض للربيع بن خيثم، فلعلها تفتنه، قال: وجعلوا لها، إن هي فعلت، ألف درهم، فلبست أحسن ما قدرت عليه من الثياب، وتطيبت بأطيب ما قدرت عليه، ثم تعرضت له حين خرج من مسجده، فنظر إليها في تلك الحال، فراعه أمرها وجمالها، ثم أقبلت عليه، وهي سافرة، فقل لها الربيع: كيف بك لو نزلت الحمى بجسمك فغيرت ما أرى من نورك وبهجتك؟ أم كيف بك لو نزل بك ملك الموت فقطع منك حبل الوتين؟ أم كيف بك لو سألك منكر ونكير؟ فصرخت صرخةً، وخرجت مغشياً عليها، قال: فوالله لقد أفاقت وبلغت من عبادتها أنها يوم ماتت كانت كأنها جذع محترق.

الحب الصارع
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، رحمه الله، قال: حدثنا أبو محمد بن مغيرة الجوهري قال: حدثنا أحمد بن محمد أبو عيسى قال: أنشدنا أبو العباس المبرد لأم الضحاك المحاربية:
الحُبّ أوّلُ مَا يَكُونُ وَلَعْ، ... وَإذا تَمَكّنَ في الفُؤادِ صَرَعْ.
وَيْلي مِنَ الحُبّ الّذِي شَفّني، ... مَاذَا عَليّ مِنَ الهُمُومِ جَمَعْ.

أم سبعة أنبياء
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي الحسين المحتسب قال: حدثنا محمد بن عبد الله القطيعي قال: حدثنا الحسين بن صفوان قال: حدثنا عبد الله بن محمد قال: حدثنا سعيد بن يعقوب الطالقاني قال: حدثنا المعتمر بن سليمان عن أبي كعب الحريري عن الحسن.
أن امرأة من بني إسرائيل كانت أعطيت من الجمال عجباً، قال: فبلغ من أمرها أنها كانت لا تمكن من نفسها إلا من أعطاها مائة دينار، فاتخذت سريراً من ذهب فأبصرها رجل من العابدين، فأعجبتهن فانطلق فالتمس وابتغى، وتحملن أو كما وصف، حتى جمع مائة دينار، فأتاها بها، فقال: إني رأيتك فأعجبتني، فانطلقت فتمحلت وابتغيت، حتى جمعت مائة دينار.
قالت: فادفعها إلى الجهبذ ينتقدها، ففعل، فقالت للجهبذ: انتقدها! قال: نعم! قال: فتهيأت، كما كانت تتهيأ، وجلست على سريرها، فلما جلس منها مكان الرجل من امرأته ذكره الله تعالى برحمته، فانقبضت إليه نفسه، فقام عنها فقال: المائة دينار لك، افتحي الباب! فقالت: وما رأيت؟ ألست زعمت انك رأيتني فأعجبتك فتمحلت وابتغيت حتى جمعت مائة دينار، فما رأت؟ قال: ليس في الأرض شيء أبغض إلي منك.
قالت: وما رأيت؟ قال: هذا شيء لم أفعله قط.
قالت: ما قال لي هذا أحد، لئن كنت صادقاً فما أريد زوجاً غيرك، فلي عليك أن تتزوجني.
قال: نعم، فقنع رأسه ورجع، فلحق ببلده، وأقبلت تبيع متاعها، ثم ارتحلت إليه، فانتهت إلى البلد الذي هو فيه، فسالت عنه، فقيل لها: هوذا في المسجد. فقيل له: جاءت ملكة أرض كذا وكذا تسأل عنك، فأتته، فلما نظر إليها نظرةً مال ميتاً، فوجدت عليه وجداً شديداً، فقالت: اما هذا فقد فاتني، ولكن هل له أخ أو قريب؟ قيل: إن له ؟ أخاً ضعيفاً.
قال معتمر: أي ليس في العبادة مثله، فتزوجت أخاه، فولدت له سبعة أنبياء.

المرقش الشاعر وأسماء
كتب إلي أبو غالب بن بشران من واسط حدثنا ابن دينار قال: حدثنا أبو الفرج محمد بن علي الأصفهاني في كتاب الأغاني قال: قال أبو عمرو، ووافقه المفضل الضبي: كان من خبر مرقش الأكبر أنه عشق ابنة عم له يقال لها أسماء بنت عوف بن مالك، علقها وهو غلام، فخطبها إلى أبيها، فقال له: لا أزوجها حتى تعرف بالناس، وهذا قبل أن يخرج ربيعة من أرض اليمن، فكان يعده فيها المواعيد، ثم انطلق مرقش إلى ملك من الملوك، وكان عنده زماناً، ومدحه، فأجازه، وأصاب عوفاً زمان شديد، فأتاه رجل من مراد أحد بني عطيف، فأرغبه في المال، فزوجه أسماء على مائة من الإبل، ثم تنحى عن بني سعد بن مالك.ورجع مرقش، فقال أخوتها: لا تخبروه إلا أنها ماتت، فذبحوا كبشاً، فأكلوا لحمه، ودفنوا عظامه، ولفوها في ملحفة، ودفنوها، فلما قدم مرقش عليهم أخبروه أنها ماتت، وأتوا به موضع القبر، فنظر إليه، وكان بعد ذلك يعتاده، ويزوره.
فبينا هو ذات يوم مضطجع، وقد تغطى بثوبه، وابنا أخيه يلعبان بكعابٍ لهما، إذ اختصما في كعب، فقال أحدهما: هذا أجدهما: هذا كعبي أعطانيه أبي من الكبش الذي دفنوه، وقالوا: إذا جاء مرقش أخبرناه أنه قبر أسماء. فكشف مرقش عن رأسه، ودعا الغلام، وقد ضني ضنىً شديداً، فسأله عن الحديث، فأخبره به، وبتزويج المرادي أسماء، فدعا مرقش وليدةً له، ولها زوج من غفيلة كان عسيفاً لمرقش، فأمرها بأن تدعو له زوجها، فدعته، وكانت له رواحل، فامره بإحضارها ليطلب المرادي، فأحضرها فركبهان ومضى في طلبه، فمرض في الطريق حتى صار لا يحمل إلا معروضاً.
وإنهما نزلا كهفاً بأسفل نجران، وهي أرض مراد، ومع الغفلي امرأته وليدة مرقش زوج الوليدة يقول لها: اتركيه، فقد هلك سقماً، وهلكنا معه جوعاً وضراً، فجعلت الوليدة تبكي من ذلك، فقال لها زوجها: إن أطعتني، وإلا فإني تاركك، وكان مرقش يكتب، وكان لأبوه دفعه وأخاه حرملة، وكانا أحب ولده إليه، إلى نصراني من أهل الحيرة، فعلمها الخط، فلما سمع مرقش قول الغفلي للوليدة كتب على مؤخر الرحل:
يا صَاحِبَيّ تَلَبّثَا لا تَعْجَلا! ... إن الرَّوَاحَ رَهِينٌ أن لا تَفْعَلا.
فَلَعَلّ لُبْثَكُمَا يُقَرِّبُ نائِياً، ... أوْ يَسْبُقُ الإسْرَاعُ شَيْئاً مُقْبِلا.
يَا رَاكِباً إمّا عَرَضْتَ فَبَلِّغَا ... أنسَ بنَ سعدٍ إنْ لقيتَ وَحَرْملا.
للهِ دَرُّكُما وَدَرُّ أبِيكُمَا، ... إنْ أفْلَتَ الغَفَليُّ حَتى يُقْتَلا.
مَنْ مُبْلِغُ الأقْوَامِ أنّ مُرَقّشاً ... أضْحى على الأصْحابِ عِبئاً مُثقِلا.
وَكَأنّمَا يَرِدُ السّباعُ بشلْوِهِ، ... إذ غابَ جَمعُ بني ضُبَيعةَ مَنهَلا.
قال: وانطلق الغفلي وامرأته حتى رجعا إلى أهلهما، فقالا: مات المرقش، ونظر حرملة إلى الرحل، وجعل يقلبه. فقرأ الأبيات، فدعاهما وخوفهما، وأمرهما أن يصدقاه، ففعلا، فقتلهما، وقد كانا وصفا له الموضع، وامرهما في طلب المرقش حتى أتى المكان، فسأل عن خبره، فعرف أن مرقشاً كان في الكهف ولم يزل فيه حتى إذا هو بغنم تنزو على الغار الذي هو فيه، وأقبل راعيها إليه، فلما بصر به قال: من أنت وما شأنك؟ فقال له مرقش: أنا رجل من مراد فمن أنت؟ قال: راعي فلانن وإذا هو راعي زوج أسماء، فقال له مرقش: أتستطيع ان تكلم أسماء امرأة صاحبك؟ قال: لا، ولا أدنو منها، ولكن تأتيني جاريتها كل ليلة فأحلب لها عنزاً، فآتيها بلبنها. فقال له: خذ خاتمي هذان فإذا حلبت فألقه في اللبن فإنها ستعرفه، وإنك مصيب به خيراً لم يصبه راعٍ قط غن أنت فعلت ذلك.
فأخذ الراعي الخاتم، فلما حلبت العنز طرح الخاتم في القدح، فانطلقت به الجارية، وتركته بين يديها، فلما سكنت رغوته، اخذته، فشربته، وكذلك كانت تصنع، فقرع الخاتم ثنيتها، فأخذته، واستضاءت به بالنار، فعرفته، فقالت للجارية: ما هذا؟ فقالت: ما لي به علم، فأرسلتها إلى مولاها، وهو في شربٍ بنجران، فأقبل فزعاً، فقال لها: لم دعوتني؟ فقالت: ادع عبدك راعي غنمك، فدعاه، فقالت: سله أين وجد هذا الخاتم؟ فقال: وجدته مع رجل في كهفي جبارٍ، فقاللي: اطرحه في اللبن الذي تشربه أسماء، فإنك تصيب به خيراً، وما أخبرني من هو، ولقد تركته في آخر رمق.
فقال زوجها: وما هذا الخاتم؟ قالت: هذا خاتم مرقش، فأعجل الساعة في طلبه، فركب فرسه وحملها على فرس وسارا حتى طرقاه من ليلته، فاحتملاه فمات عند أسماء، وقال قبل أن يموت:
سَمَا نَحْوِي خَيَالٌ من سُلَيمَى، ... فأرّقَني، وَأصْحَابي هُجُودُ.
فَبِتّ أدِيرُ أمْرِي كُلَّ حَالٍ، ... وَأذْكُرُ أهْلَهَا، وَهمُ بَعِيدُ.
عَلى أنْ قَدْ سَمَا طَرْفي لِنَارٍ، ... يُشَبّ لهَا بِذِي الأرْطَى وَقُودُ.
حَوَالَيْهَا مَهاً بِيضُ التَّرَاقي، ... وَآرَامٌ وَغِزْلانٌ رُقُودُ.
نَوَاعِمُ لا تُعَالِجُ بُؤسَ عَيشٍ، ... أوَانِسُ لا ترُوحُ، وَلا تَرُودُ.
يَرُحْنَ مَعاً بِطَاءَ المَشْيِ رُوداً، ... عَلَيْهِنّ المَجَاسِدُ وَالبُرُودُ.
سَكَنَ ببَلدَةٍ وَسكَنتُ أخرَى، ... فقُطّعتِ المَوَاثِقُ وَالعُهُودُ.
فَما بَالي أفي وَيُخانُ عَهْدِي، ... وَمَا بَالي أُصَادُ وَلا أَصِيدُ.
وَرُبّ أسِيلَةِ الخَدّينِ بِكْرٍ، ... مُنَعَّمَةِ لهَا فَرْعٌ وَجِيدُ.
وَذُو أشَرٍ شَتِيتُ النّبْتِ عَذْبٌ ... نَقِيُّ اللّوْنِ بَرَّاقٌ بَرُودُ.
لَهَوْتُ بهَا زَمَاناً في شَبَابي، ... وَزَارَتْهَا النّجَائِبُ وَالقَصِيدُ.
أُنَاساً كُلّمَا أخْلَقْتُ وَصْلاً ... عَنَاني مِنْهُمُ وَصْلٌ جَدِيدُ.
فدفن في أرض مراد.

المحب الجاحد
أنبأنا أبو بكر أحمد بن الحافظ قال: أخبرنا أبو القاسم الأزهري قال: حدثنا محمد بن جعفر الأديب قال: حدثنا أبو القاسم السكوني إملاء قال: حدثني الحسين بن مكرم قال: حدثنا يزيد الثمالي قال: مات أبو العتاهية وعباس بن الأحنف وإبراهيم الموصلي في يوم واحد، فرفع خبرهم إلى الرشيد، فأمر المأمون بحضورهم والصلاة عليهم، فوافى المأمون، وقد صفوا له في موضع الجنائز، فقال: من قدمتم؟ قالوا: إبراهيم، قال: أخروه وقدموا عباساً! قال: فلما فرغ من الصلاة اعترضه بعض الظاهرية، فقال له: أيها الأمير بم قدمت عباساً؟ قال: يا فضولي بقوله:
سَمَاكِ لي قَوْمٌ وَقالوا: إنها ... لَهيَ التي تَشقَى بهَا وَتُكَابِدُ.
فجَحدتهم ليكونَ غيرُك ظنّهم، ... إني ليُعجِبُني المُحِبُّ الجاحِدُ.

القبلة القاتلة
حدث أبو عمر بن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني أحمد بن حرب قال: حدثني أبو عبد الله القرشي قال: حدثني أبو غسان قال: كان سبب وفاة مالك بن أبي السمح أنه لما كبر ضم إليه رجلاً من قريش يقوم عليه، ففرش له على سرير وخرق فيه خرقاً لوضوء، فأتته الجارية يوماً بطعام فاكل، ثم أتته ببخور فتبخر، فوقعت الجارية بقلبه، فاهوى إليها ليقبلها، وتنحت عنه، فسقط عن السرير، فاندقت عنقه، فمات.
قال الزبير: أنشدتني ظبية لحسن بن عبد الله بن عبد الله بن عبد الله بن العابس بن عبد المطلب في مالك بن أبي السمح:
ليسَ عَيشٌ إلاّ بمالِكِ بنِ أبي السَّمْ ... ح، فَلا تَلحَني، وَلا تَلُمِ.
نَتَمَلّى لَذِيذَ عَيْشٍ، وَلا نَهْ ... تِكُ حَقَّ الإسْلامِ وَالحُرَمِ.
رُبّ ليْلٍ قَصّرَهُ اللّهوُ، فَانْجَا ... بَ، وَيَوْمٍ كَذَاكَ لَمْ يَدُمِ.
كُنْتُ فِيهِ وَمالِكَ بنَ أبي السَّمْ ... حِ الكَرِيم الأخْلاقِ والشّيَمِ.

ضل عنه فؤاده
أنبأنا أحمد بن علي قال: أخبرنا الأزهري قال: أنشدنا سهل بن أحمد الديباجي قال: أنشدنا ابن دريد لنفسه:
صَارَمتِهِ فَتَوَاصَلَتْ أحْزَانُه ... وَهَجرْتِه فَتَهاجرَتْ أجفَانُه.
قالت تعرِّضُ: مسُّ شيطانٍ بهِ، ... بَل أنتِ حينَ مَلَكتِهِ شَيطانُه.
قد ضَلّ عنه فؤادُه، فاستَخبرِي ... عَينَيكِ أينَ مَحَلّهُ وَمكانُه.

هل من آس لداء القلب
ولي من قصيدة أولها:
بالحُزْنِ هَاجَتْ للفَتى أحْزَانُه ... وَجَفَتْ لَذِيذَ رُقَادِهَا أجفَانُه.
ومنها:
يَا جَارَةَ الحَيّ الّذِينَ تَرَحّلُوا ... سَحَراً فأوْحَشَ رَبعَهُم غزْلانُه.
هَلْ تَعْلَمِينَ لِدَاءِ قَلْبيَ آسِياً، ... فَاليَوْمَ حِينَ تَرَحّلُوا بُحرَانُه.
كَتمَ الهَوَى خوْفَ العَذولِ وَلوْمِه، ... حَتى أضَرّ بجِسْمِهِ كِتْمَانُه.

بنت الوالي والسجين
أخبرنا أبو جعفر محمد بن أحمد بن المسلمة إن لم يكن سماعاً فإجاوة قال: أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل قال: حدثنا الحسين بن القاسم الكوكبي قال: حدثني ابن أبي الدنيا.
قال: حدثني محمد بن زيد العتبي قال: أخبرني جدي الحسين بن زيد قال: ولي بديار مصر والٍ فوجد على بعض عماله، فحبسه، وقيده، فأشرفت عليه ابنة الوالي فهويته، فكتبت غليه، وقد كان نظر إليها:
أيّهَا الرّامي بِعَيْنَيْ ... هِ، وَفي الطّرْفِ الحُتُوفُ.
إنْ تُرِدْ وَصْلاً، فَقَدْ ... أمكَنَكَ الظّبيُ الألُوفُ.
فأجابها الفتى:
إنْ تَريني زَانيَ العَي ... نَيْنِ، فَالفَرْجُ عَفِيفُ.
لَيْسَ إلاّ النّظَرُ الفَا ... تِرُ، والشِّعْرُ الظّرِيفُ.
فكتبت إليه:
قَدْ أرَدْنَاكَ عَلى عِشْ ... قِكَ إنْسَاناً عَفِيفَا.
فَتَأبّيْتَ، فَلا زِلْ ... تَ لِقَيْدَيْكَ حَلِيفَا.
فأجابها الفتى:
غَيْرَ أني خِفْتُ رَبّاً ... كَانَ بي بَرّاً لَطِيفَا.
فذاع الشعر وبلغ الخير الولي، فدعا به فزوجه إياها ودفعها إليه.

دواء الحب غالٍ
أخبرنا التنوخي علي بن المحسن قال: اخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: أخبرنا أبو بكر المحولي قال: وأنشدني حماد بن إسحاق للوليد بن يزيد:
وَلَقَدْ قالَ طَبِيبي، ... وَطَبِيبي غَيْرُ آلِ.
أُشْكُ مَا شِئْتَ سِوَى ال ... حُبِّ، فإنّي لا أُبَالي.
سَقَمُ الحُبّ رَخِيصٌ، ... وَدَوَاءُ الحُبّ غَالِ.مرض الحب
وبإسناده قال: وأنشدني أبو العابس بن أحمد من أهل ضرية لرجل من بني أسد:
أقُولُ، وعُقْبَةُ الأسَدِيُّ يَرْقي ... أخَاهُ برُقْيَةِ المَينِ الكَذُوبِ:
تَثَاءَب لي، فَمَا بي غَيرُ حُبّي ... صَفِيّةَ، ضَلّ سَعْيُكَ من طَبِيبِ.
وبإسناده قال: أنشدني احمد بن منصور المروروذي:
أيَا سَبَبَ الدّمُوعِ إلى الجُفُونِ، ... وَشَجْوَ المُسْتَهَامِ المُسْتَكِينِ.
سَلِ الحَسَرَاتِ: هَلْ أبقَينَ دمعاً ... يَجُودُ بهِ عَلى قَلْبٍ حَزِينِ.
وَهَلْ تَرَكَ السّقَامِ به حَرَاكاً ... يَسِيرُ بِهِ إلَيْكَ سِوَى الحَنِينِ.

القطيعة أذهب للعقل
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن أبي نصر قال: أخبرنا أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي قال: قرأت على أبي بكر بن دريد للحسين بن مطير الأسدي:
فَوَا عَجَبا للنّاسِ يَسْتَشرِفُونَني، ... كانْ لم يَرَوْا بَعدي محِبّاً، وَلا قَبلي.
يقولونَ لي: اصرِمْ يرْجعِ العقلُ كُلُّه ... وَصَرْمُ حبيبِ النفسِ أذهبُ للعقل.
فيَا عَجبا من حبّ مَن هُوَ قاتِلي، ... كأني أُجَازِيهِ المَوَدّةَ عَنْ قَتْلي.
وَمن بَيّناتِ الحُبّ أنْ كانَ أهلُها ... أحَبَّ إلى قَلبي وعَينيَ من أهْلي.
أنا أشعر من قيس
وبإسناده قال: حدثنا القاضي قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا الرياشي عن بعض أصحابه قال: اخبرني رجل قال: جلست في ظل شجرة وقلت ما أشعر قيساً حيث يقول:
يَبِيتُ وَيُضْحي كُلَّ يَوْمٍ وَلَيْلَةٍ ... عَلى مَنْهَجٍ تَبْكي عَلَيْهِ القَبائِلُ.
قَتِيلٌ لِلُبْنى صَدّعَ الحُبُّ قَلْبَهُ، ... وفي الحُبّ شُغْلٌ للمُحِبّينَ شاغِلُ.
فقال: أنا والله أشعر منه حيث أقول:
سَلَبْتِ عِظَامي لحمَها فَترَكتِها ... مُعرَّقةً، تَضْحَى إليكِ وَتَخْصَرُ.
وَأخْلَيْتِهَا مِن مُخّها، فَكَأنّها ... قَوَارِيرُ في أجوَافِها الرّيحُ تَصْفِرُ.
إذا سَمِعَتْ ذِكرَ الفرَاقِ تَقطّعتْ ... عَلائِقُها مِمّا تَخَافُ وَتَحْذَرُ.
خذي بيَدي ثمّ انهَضِي بي تَبَيّني ... بيَ الضّرَّ، إلاّ أنّني أتَسَترُ.
قال: ثم مر فجمز في الصحراء، فلما كان في اليوم الثاني أتيته، فجلست في ذلك الموضع، فلما أحسست به قلت: ما أشعر قيساً حيث يقول:
تُباكِرُ أمْ تَرُوحُ غَداً رَوَاحَا، ... وَلَنْ يَسْتطيعَ مُرْتَهِنٌ بَرَاحَا.
سَقِيمٌ لا يُصَابُ لَهُ دَوَاءٌ، ... أصَابَ الحُبُّ مُقْتَلَهُ فَنَاحَا.
وَعَذّبَهُ الهَوَى حَتى بَرَاهُ، ... كبَرْيِ القَينِ بالسَّفَنِ القِداحَا.
وَكادَ يُذِيقُهُ جُرَعَ المَنَايَا، ... وَلَوْ أسْقَاهُ ذلكَ لاسْتَرَاحَا.
فقال: أنا اشعر منه حيث أقول:
فما وُجدُ مغلوبٍ بصَنعاءَ مُوثَقٍ، ... بسَاقَيهِ من ثِقلِ الحَديدِ كُبولُ.
قَليلِ المُوَالي مُسْتَهَامٍ مُرَوَّعٍ، ... لَهُ بَعدَ نَوْماتِ العِشاءِ عَوِيلُ.
يَقولُ لَهُ الحَدّادُ: أنتَ مُعذَّبٌ، ... غداةَ غَدٍ، أو مُسْلَمٌ فَقَتِيلُ.
بأعْظَمَ مني رَوْعَةً يَوْمَ رَاعَني ... فِرَاقُ حَبِيبٍ مَا إلَيْهِ سَبِيلُ.
سيف الفراق
وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: أنبأنا أبو بكر بن الأنباري قال: أنشدنا أبو العباس أحمد بن يحيى النحوي:
قَدْ قُلْتُ وَالعَبرَاتُ تَسْ ... فَحُهَا عَلى الخَدّ الأمَاقي.
حِينَ انْحَدَرْتُ إلى الجَزِي ... رَةِ وَانْقَطَعْتُ عَنِ العِرَاقِ.
وَتَخَبّطَتْ أيْدِي الرّفَا ... قِ مَهَامِهَ البِيدِ الرّفَاقِ.
يَا بُؤسَ مَنْ سَلَّ الزّمَا ... نُ عَلَيْهِ سَيْفاً للفِرَاقِ.

مصدعة القلوب
وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: قرأت على أبي بكر بن دريد لجميل:
رَحَلَ الخَلِيطُ جِمالَهُمْ بِسَوَادِ، ... وَحَدَا عَلى أثَرِ الأحِبّةِ حَادِ.
ما إنْ شعرْتُ ببِينهِمْ وَرَحيلِهِمْ، ... حَتى سَمِعْتُ بهِ الغُرَابَ يُنادي.
لمّا رَأيْتُ البَيْنَ قُلْتُ لِصَاحِبي: ... صَدَعَتْ مُصَدِّعةُ القُلوبِ فؤادي.
بانُوا، وَغُودِرَ في الدّيَارِ مُتَيَّمٌ، ... كَلِفٌ بذِكْرِكِ يا بُثَينَةُ صَادِ.

ليست له صبوة
أنبأنا أبو بكر أحمد بن علي بن ثابت قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي الكاتب بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو عبيد محمد بن عمران بن موسى المرزباني الكاتب قال: حديث عبد الله بن محمد بن عبد العزيز البغوي إملاء قال: حدثنا كامل بن طلحة قال: حدثنا ابن لهيعة قال: حدثنا ابو عشانة قال: سمعت عقبة بن عامر يقول: قال رسول الله، صلى الله عليه وآله وسلم: عجب ربنا تعالى من شاب ليست له صبوة.

المأمون وجارية أبيه
أخبرنا القاضي أبو الطيب طاهر بن عبد الله الطبري في ما أجاز لنا قال: حدثنا المعافى بن زكريا الحريري قال: حدثنا محمد بن القاسم الأنباري قال: حدثني أبي قال: قال منصور البرمكي وكان أديباً: كانت لهارون الرشيد جارية غلامية، تصب على يده، وتقف على رأسه، وكان المأمون يعجب بها، وهو أمرد، فبينا هي تصب على هارون من إبريق معها، والمأمون مع هارون قد قابل بوجهه وجه الجارية، إذ أشار إليها بقبلة، فزبرته، بحاجبها وأبطأت عن الصب في مهلة ما بين ذلك، فنظر إليها هارون فقال: ما هذا؟ فتلكأت عليه، فقال: ضعي ما معك! علي كذا إن لم تخبريني لأقتلنك. فقالت: أشار إلي عبد الله بقبلة. فالتفت إليه، وإذا هو قد نزل به من الحياء والرعب ما رحمه منه، فاعتنقه، وقال: أتحبها؟ قال: نعم يا أمير المؤمنين، فقال: قم فاخل بها في تلك القبة، فقام فعل، فقال له هارون: قل في هذا شعراً، فأنشأ يقول:
ظَبيٌ كَنَيْتُ بِطَرْفي ... عَنِ الضّمِيرِ إلَيْهِ.
قَبّلْتُهُ مِنْ بَعِيدٍ ... فَاْعْتَلّ مِنْ شَفَتَيْهِ.
وَرَدّ أخْبَثَ رَدٍّ ... بِالكَسرِ مِنْ حَاجِبَيْهِ.
فَمَا بَرِحْتُ مَكَاني ... حَتى قَدِرْتُ عَلَيْهِ.

الأطباء والمحبون
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن بن علي قال: حدثنا أبو عمر بن حيويه قراءة عليه قال: حدثنا أبو بكر بن المرزبان إجازة قال: أنشدني منشد للحسن بن وهب:
حين عرقي: فقال: حب، طبيبي، ... ما له في علاجه من مصيب.
فغمزت الطبيب سراً بعيني، ... ثم حلفته بحق الصليب.
لا تقل: لوعة الهوى أسقمته، ... فينالوا، بدعوةٍ، من حبيبي.
وأنشد:
واعي السقم تخبر عن ضميري، ... ويخبر عن مفارقتي سروري.
ألا يَا سَائِلي عَنْ سُوءِ حَالي، ... وَعَنْ شَأني سَقَطتَ على الخَبيرِ.
شَرِبْتُ مِنَ الصّبَابَةِ كأسَ سُقم ... بعَيْنَيْ شَادِنٍ ظَبْيٍ غَرِيرِ.
وقال عمر بن أبي ربيعة:
طَبِيبيّ دَاوَيْتُمَا ظَاهِراً، ... فمَنْ ذا يُداوِي جَوىً بَاطِنَا.
فَعوجَا عَلى مَنْزِلٍ بِالعَمِي ... مِ، فَإنّي لَقِيتُ بِهِ شَادِنَا.
ولي من أثناء قصيدة:
وذي شجنٍ مثلي شكوت صبابتي ... إليه، ودمعي ما يفتر قطره.
فقال، ولم يملك سوابق عبرةٍ ... تترجم عما قد تضمن صدره:
كِلانَا أسِيرٌ في الهَوَى مُتَهَدَّدٌ ... بقَتلٍ، فَما يَنفَكّ ما عاشَ أسرُهُ.
وَأقْلَقَني حَادِي الرّكَائِبِ بالضّحَى، ... وَسَائِقُهَا لمّا تَتَابَعَ زَجْرُهُ.
وَتَقوِيضُ خَيمِ الحيّ، وَالبينُ ضَاحكٌ ... لِفُرْقَتِنَا حَتى بَدَا مِنْهُ ثَغْرُهُ.
وَفي الجيرَةِ الغادِينَ أحوَى، عِذارُهُ ... يَقُومُ بهِ للعَاشِقِ الصّبّ عُذْرُهُ.
غَدَائِرُهُ لي شَاهِدَاتٌ بِأنّني ... وَفَيْتُ لَهُ مِنْ بَعْدِ مَا بَانَ غَدرُهُ.

السوداء وحبيبها عمر
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسك علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العابس بن يحيوه قال: حدثنا محمد بن خلف بن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله بن أبي مالك بن الهيثم الخزاعي عن إسحاق بن إبراهيم الموصلي قال: حدثني إبراهيم بن ميمون قال: حججت في أيام الرشيد، فبيما أنا بمكة أجول في سككها، إذا أنا بسوء قائمة ساهية، فأنكرت حالها، فوقفت أنظر إليها، فمكثت كذلك ساعةً، قم قالت:
أعَمُرْو عَلامَ تَجَنّبْتَني؟ ... أخَذتَ فؤادي فَعَذّبِتَني.
فلوْ كُنتَ، يا عمرُو، خبّرْتَني ... أخَذتُ حِذارِي، فما نِلْتَني.
قال: فدنوت منها، فقلت: يا هذه! من عمرو؟ فارتاعت من قولي وقالت: زوجي. فقلت: وما شأنه؟ قالت: أخبرني أنه يهواني وما زال يدس إلي ويعلق بي في كل طريق، ويشكو شدة وجده حتى تزوجني، فلبث معي قليلاً، وكان له عندي من الحب مثل الذي كان لي عنده، ثم مضى إلى جدة، وتركني.
قلت: فصفيه لي.
فقالت: أحسن من تراه، وهو أسمر حلو ظريف.
قال، فلت: فخبريني أتحبين أن أجمع بينكما؟ قالت: فكيف لي بذلك؟ وظنتني أهزل بها. قال: فركبت راحلتي وصرت غلى جدة فوقفت في المرقى أتبصر من يعمل في السفن، وأصوت: يا عمرو يا عمرو! فإذا أنا به خارج من سفينة، وعلى عنقه صن، فعرفته بالصفة، فقلت: أعمرو علام تجنبتني؟ فقال: هيه هيه، رأيتها وسمعته منها؟ ثم أطرق هنيهة ثم اندفع يغنيه، فأخذته منه، وقلت له: ألا ترجع؟ فقال: بأبي أنت، ومن لي بذلك؟ ذلك والله أحب الأشياء إلي ولكن منع منه طلب المعاش.
قلت: كم يكفيك كل سنة.
قال: ثلاثمائة درهم، فإعطيته ثلاثة آلاف درهم، وقلت: هذه لعشر سنين، ورددته إليها، وقلت له: إذا فنيت أو قاربت الفناء قدمت علي فسررتك، وإلا وجهت إليك، وكان ذلك أحب إلي من حجي.
قال محمد بن عبد الله قال إسحاق: والناس ينسبون هذا الصوت إلى إبراهيم، وكان إبراهيم، وكان إبراهيم أخذه من هذا الفتى.

مدرك الشيباني وعمرو النصراني
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة بن جعفر القضاعي ولقيته بمدينة النبي، صلى الله عليه وسلم، في أول سنة ست وأربعين وأربع مائة قال: أخبرنا أبو يعقوب يوسف بن يعقوب بن خرزاذ النجيرمي قال: أنشدني جعفر بن شاذان القمي أبو القاسم قال: أنشدني مدرك بن علي الشيباني له ببغداد في الجانب الغربي في عمرو بن يوحنا النصراني:
مِنْ عَاشِقٍ ناءٍ هَوَاهُ دَان، ... نَاطِقِ دَمْعٍ صَامِتِ اللّسَان.

القصيدة جميعها.
وقال أبو القاسم جعفر بن شاذان القمي: وكان عمرو بن يوحنا النصراني يسكن في دار الروم ببغداد من الجانب الشرقي، وكان من أحسن الناس صورة وأجملهم خلقاً، وكان مدرك بن علي الشيباني يهواه، وكان مدرك من أفاضل أهل الأدب والمطبوعين في الشعر، وكان له مجلس يجتمع إليه الأحداث لا غير، فإن حضره شيخ أو كهل قال له مدرك: إنه يقبح بمثلك أن يختلط بالأحداث والصبيان، فقم في حفظ الله، فيقوم.
بمَجَالِسِ العِلْمِ التي ... بكَ تَمّ جَمعُ جُموعِها.
ألاّ رَثَيتَ لمُقْلَةٍ ... غَرِقَتْ بمَاءِ دُموعِها.
بَيْني وَبَيْنَك حُرْمَةٌ، ... واللهَ في تَضْيِيعِهَا.
فقرأ الأبيات، ووقف عليها من كان في المجلس وقرأوها، واستحيا عمرو من ذلك، فانقطع عن الحضور، وغلب الأمر على مدرك، فترك مجلسه ولزم دار الروم، وجعل يتبع عمراً حيث سلك، وقال فيه هذه القصيدة المزدوجة العجيبة.
ولمدرك في عمرو أيضاً أشعار كثير، ثم خرج مدرك إلى الوسواس وسل جسمه، وذهل عقله، وانقطع عن إخوانه ولزم الفراش، فحضره جماعة، فقال لهم: ألست صديقكم القديم العشرة لكم، أفما فيكم أحد يسعدني بالنظر إلى وجه عمرو؟ فمضوا بأجمعهم إليه، وقالوا له: إن كان قتل هذا الفتى ديناً، فإن إحياءه لمروءة! قال: وما فعل؟ قالوا: قد صار إلى حال ما نحسبك ترضى به. فلبس ثيابه ونهض معهم، فلما دخلوا عليه سلم عليه عمرو وأخذ بيده وقال: كيف تجدك يا سيدي؟ فنظر إليه فأغمي عليه ساعةً ثم أفاق وفتح عينيه، وهو يقول:
أنَا في عَافِيَةٍ إ ... لاّ مِنَ الشَّوْقِ إلَيْكَا.
أيّهَا العَائِدُ مَا بي ... مِنكَ لا يَخفَى عَلَيكَا.
لا تَعُدْ جِسْماً، وَعُدْ ... قَلْباً رَهِيناً في يَدَيْكَا.
كَيْفَ لا يَهْلِكُ مَرْشُ ... قٌ بِسَهْمَي مُقْلَتَيْكا.
ثم شهق شهقةً فارق فيها الدنيا، فما برحنا حتى دفنوه.

موسى في وقت الكلام
أخبرنا محمد بن أحمد الأردستاني، رحمه الله، قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت أبا الفضل محمد بن إسحاق السبخري قال: سمعت القناد يقول: سألت الحسين بن منصور عن حال موسى في وقت الكلام، فقال: بدا له بادٍ من الحق فلم يبق لموسى ثم أثر، وأنشد:
وَبَدا لَهُ من بَعدِ ما اندَمَلَ الهَوَى ... بَرْقٌ تَألّقَ مُوهِناً لَمَعَانُهُ.
يَبْدُو كَحَاشِيَةِ الرّدَاءِ، وَدُونَهُ ... صَعْبُ الذُّرَى مُتَمَنِّعٌ أرْكَانُهُ.
فَأتى ليَنظُرَ كَيفَ لاحَ، فلم يُطِقْ ... نَظَراً إلَيْهِ وَرَدَّهُ سُبْحانُهُ.
فَالنّارُ مَا اشتَمَلَتْ عَلَيَهِ ضُلُوعُهُ، ... وَالمَاءُ مَا سَمَحَتْ بِهِ أجْفَانُهُ.

الحب يذهب بالحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر المحولي محمد بن خلف قال: أخبرني أبكر العامري قال: حدثني الحسين بن علي بن قدامة مولى بني أمية عن أبيه قال: خرجت إلى الشام، فلما كنت بالشراة، ودنا الليل، إذا قصر، فهويت إليه، فإذا بين بابي القصر امرأة لم أر مثلها، قط، هيئة وجمالاً، فسلمت، فردت، ثم قالت: من أنت؟ قلت: رجل من بني أمية من أهل الحجاز.
فقالت: مرحباً، وحياك الله، انزل أنت في أهلك، قلت: ومن أنت، عافاك الله؟ قالت: امرأة من قومك، فأمرت إلي بمنزل وقرىً وبت في خير مبيت، فلما أصبحت أرسلت إلي تقول: كيف مبيتك؟ قلت: خير مبيت، والله ما رأيت أكرم منك ولا شرف من فعالك، قالت: فإن لي إليك حاجة، تمضي حتى تأتي ذلك الدير، دير أشارت إليه منتح، فإن فيه ابن عمي، وهو زوجي، قد غلبت عليه نصرانية في ذلك الدير، فهجرني ولزمها، فتنظر إليه وتخبره عن مبيتك، وعما قلت لك، فقلت: أفعل، ونعمى عين.
فخرجت حتى انتهيت إلى الدير، وإذا أنا برجل في فنائه جالس كأجمل ما يكون من الرجال، فسلمت، فرد وسألني، فأخبرته من أنا، وأين بت، وما قالت لي المرأة. فقال: صدقت! أنا رجل من قومك من آل الحارث بن الحكم، ثم صاح: يا قسط! وتلك أروى، وأنا الذي أقول:
تَبَدّلتُ قِسْطاً بَعدَ أرْوَى وَحُبِّهَا، ... كَذَاكَ لعَمرِي الحُبّ يَذهبُ بالحُبّ.

صوفي سيئ الحال
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بمصر بقراءتي عليه في سنة خمس وخمسين وأربعمائة، قال: حدثنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قال: حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي: كان عبد الله بن موسى من رؤساء الصوفية ووجوههم، فنظر إلى غلام في بعض الأسواق فبلي به، وكاد يذهب عقله عليه صبابةً وحباً له، وكان يقف في كل يوم على طريقه حتى يراه إذا أقبل، وإذا انصرف، فطال به البلاء، وأقعده عن الحركة الضنى، فكان لا يقدر أن يمشي خطوةً فما فوقها، فأتيته يوماً لأعوده، فقلت: يا أبا محمد! ما قصتك، وما الأمر الذي بلغ بك ما أرى؟ فقال: أمور امتحنني الله تعالى بها، فلم أصبر على البلاء فيها، ولم يكن لي بها طاقة ولا يدان، ورب ذنبٍ استصغره الإنسان مما يزينه له الشيطان هو عند الله تعالى أعظم من ثبير، وحقيق لمن تعرض للنظر الحرام أن تطول به الأسقام. ثم بكى.
فقلت: ما يبكيك؟ فقال: أخاف أن يكون حسابي إلى النار يطول فيها شقائي. فانصرفت عنه، وأنا راحم له لما رأيت به من سوء الحال.

الطرف الغرار
وبإسناده قال: قال أبو حمزة: وكنت مع ثابت بن السري الصوفي، فنظر إلى غلام، فقال: يا طول حزناه مما أرتنيه عيني، لقد تركني وأنا لا آنس غلى نظر بعد نظرتي هذه! يا شر ما أتاني به المقدور في النظر إلى الغرور، غرني والله طرفي حتى استمكن من حتفي.
ثم قال: كم أستقيل الله، عز وجل، فيقيلني، وكم أستعفيه فيعفيني، لقد خفت أن يكون ذلك استدراجاً منه حتى يأخذني بذلك كله، في وقت حاجتي إليه عند قدومي عليه.
ثم بكى حتى غشي عليه.

الهاتف بالليل
أنبأنا أبو القاسم علي بن أبي علي التنوخي قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي إجازة قال: حدثني سعيد بن عمر بن علي البيروذي قال: حدثني علي بن المختار قال: حدثني القحذمي قال: هوي رجل من أهل البصرة امرأة فضني من حبها، حتى سقط على الفراش، وكان إذا جنه الليل صاح بأعلى صوته: كم ترى بيننا وبين الصباح؟ فإذا أكثر من ذلك هتف به هاتف من جانب البيت:
ألفُ عَامٍ وَألفُ عَامٍ تِباعاً، ... غيرَ شَكّ، فلا تكُنْ مِلحاحَا.
قال: فأقام الرجل على علته سنين ثم أبل من علته.

لي سكرتان
أخبرنا أبو بكر الأردستاني قال: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي قال: سمعت عبد الله بن محمد الدمشقي يقول: حضرت مع الشبلي في مجلس سماع، وحضر المشايخ، فغنى قوال، فصاح رجل، والقوم سكوت، فقال له بعض المشايخ: يا أبا بكر أليس هؤلاء سمعوا معك، كما سمعت؟ فقام من بين الجماعة وتواجد، وأنشأ يقول:
لوْ يَسمَعونَ كما سَمِعتُ كلامَها ... خَرّوا لعزّةَ رُكّعاً وَسُجُودَا.
وأنشد على أثره:
لي سَكْرَتَانِ، وَللنَّدْمَانِ وَاحِدَةٌ، ... شيءٌ خُصِصْتُ به من بينَهم وَحدي.

سكينة وعروة بن أذينة
أنبأنا الشيخ أبو بكر أحمد بن علي الحافظ بالشام قال: أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد قال: حدثنا أبو علي الطوماري قال: حدثنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب قال: حدثني عبد الله بن شبيب قال: حدثني أبو معاوية عبد الجبار بن سعيد المساحقي قال: وقفت سكينة على ابن أذينة في موكبها، ومعها جواريها، فقالت: يا أبا عامر! أأنت تزعم أنك ريئ وأنت هيئ، وأنت الذي تقول:
قالتْ، وَأبْثَثْتُها سِرّي، فَبُحتُ به: ... قَد كُنتَ عندِي تُحبّ السَّترَ فاستترِ.
ألَستَ تُبصرُ مَن حَوْلي؟ فقلتُ لها: ... غَطّى هَوَاكِ، وَما ألقَى على بصرِي.

الهالك من عشق
أنبأنا أحمد علي بن ثابت قال: أخبرني أبو الحسن علي بن أيوب القمي قال: حدثنا محمد بن عمران قال: أخبرني محمد بن يحيى قال: قال العباس بن الأحنف:
وَيْحَ المُحِبّينَ مَا أشقَى جدودَهمُ، ... إنْ كانَ مثلَ الذي بي بالمُحبّينَا.
يَشقَوْنَ في هذِهِ الدّنْيا بعِشقِهمِ، ... لا يُدرِكُونَ بهِ دُنْيا وَلا دِينَا.
يَرِقّ قَلْبي لأهْلِ العِشْقِ أنّهُمُ ... إذَا رَأوْني وَمَا ألْقَى يَرِقّونَا.
قال: وَله أيضاً:
أيّهَا النَادِبُ قَوْماً هَلَكوا، ... صَارَتِ الأرْضُ عَلَيْهمْ طَبَقَا.
أنْدُبِ العُشّاقَ، لا غيرَهُمُ، ... إنّمَا الهَالِكُ مَنْ قَدْ عَشِقَا.
ولي من أثناء قصيدة:
مَرّتْ بِنَا سَاحِبَةً مِرْطَهَا، ... قَد أفتَنَتْ في حُبّهَا رَهطَهَا.
ومنها:
وَشَرَطَتْ إتْلافَ عُشّاقِهَا، ... فَكُلّهُمْ مُلْتَزِمٌ شَرْطَهَا.
وَاستَخبَرَتْ عني عَذَارَى بَنَا ... تِ العمّ ثمّ استخبَرَتْ سِمطَها.
وَكُلّهُمْ أخْبَرَ عَنْ رُتْبَةٍ ... لي في الهَوَى، غيرِيَ لم يُعطَهَا.
لَوْلا الهَوَى العُذْرِيُّ، يا هندُ، لمْ ... أشكُ النّوَى قطّ وَلا شَحطَهَا.

كوى ما كوى
ولي ابتداء قصيدة:
يا نَاظِرِي أنْتَ جَنَيتَ الهَوَى، ... يَوْمَ استَقَلّ الحَيُّ عن ذي طوَى.
تَاللهِ! مَا أدرِي مَتى أرْشَقَتْ ... عَيْنَاكَ قَلْبي يا غَزَالَ اللِّوَى.
أحَيُّكَ الطّائيُّ أغْرَاكَ بي؟ ... لا عَقَدَ العِزُّ عَلَيْهِمْ لِوَا.
حُبَّ إلى قَلْبي الغَزَالُ الّذِي ... كَوَى منَ الأحشاءِ ما قَدْ كَوَى.

قتله خبر زواجها
ذكر ابن حيويه ونقلته من خطه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني إسحاق بن محمد الكوفي قال: حدثني عبيد الله بن محمد بن حفص بن موسى بن عبيد الله بن معمر عن أبيه قال: كان مسافر بن أبي عمرو بن أمية يتعشق جاريةً من أهل مكة، فنذر به أهلاه، فهرب، فلحق بالحيرة بالنعمان بن المنذر، فاعتل هناك بالهلاس، فجمع له النعمان أطباء الحيرة فأجمعوا على كيه، فكوي فبرأ، ثم إنه قدم عليه رجل من أهل مكة، فقال له: ما فعلت فلانة؟ قال: تزوجت، قال فشهق ومات في مكانه، فقال أبو طالب، وكان صديقاً لمسافر خاصاً به، فقال يرثيه:
لَيْتَ شِعرِي، مُسافرُ بن أبي عم ... رو، وَلَيْتَ، يَقُولُهَا المَحزُونُ.
كَيْفَ كانتْ مَرَارَةُ المَوْتِ في في ... كَ، وَماذا بَعدَ المَماتِ يَكُونُ.
خَيرُ مَيتٍ على هبالةٍ، قَد حا ... لَتْ فَيافٍ من دُونِهِ وَحُزُونُ.
بُورِكَ المَيّتُ الغَرِيبُ، كما بُو ... رِكَ نَضْرُ الرَّيْحَانِ والزّيتُونُ.
كم صَديقٍ وصَاحِبٍ وَابنِ عمّ ... وَخَلِيلٍ عَفّتْ عَلَيهِ المَنُونُ.
فَتَعَزّيتُ بِالجَلادَةِ وَالصّب ... رِ، وَإنّي بِصَاحِبي لَضَنِينُ.
رَجعَ النّاسُ آيِبِينَ جَمِيعاً، ... وَخَلِيلي في مَرْمَسٍ مَدْفُونُ.

خشيف شبيه الحبيب
وجدت بخط أحمد بن محمد بن الأبنوسي ونقلته من أصله قال: حدثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة قال: حدثنا جدي قال: حدثنا أبو عمر العمري قال: حدثنا عبد الملك بن قريب عن غياث بن الحارث السهمي قال: حدثني زيد بن عمارة النهدي قال: اصطدت خشفاً فأوثقته، وحملته، ثم اقبلت به، إذ استقبلني غلام كأنه فلقة قمرٍ له ضفيرتان قد قاربتا عجيزته، فلما رأى الخشف، وقف ينظر إليه وتنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول، وهو يبكي:
وَذَكّرَني مَنْ لا أبُوحُ بِذِكْرِهِ، ... مَحَاجِرُ ظَبيٍ في حَبَائِلِ قانِصِ.
فَقُلتُ، وَدَمعُ العَينِ يَجرِي بحُرْقَةٍ، ... وَلحظي إلى عَيْنَيْهِ لحْظَةُ شَاخِصِ:
ألا أيّهَذَا القَانِصُ الظّبيَ خَلِّهِ! ... وَإنْ كُنْتَ تَأبَاهُ، فَمُرْ بقَلائصي.
خَفِ اللهَ لا تَحْبِسهُ! إنّ شَبِيهَهُ ... حَيَاتي، وَقد أرْعَدتَ فيه فَرَاقي.
قال: ثم بكى، قال: فقلت: دونكه يا فتى فهو لك، قال: فعمد إليه فحله، ثم قبل عينيه، ثم ارسله.
قال: فمر الظبي وأتبعه بصره يبكي في أثره، قال: ثم سكن فقلت: يا فتى ألك حاجةٌ؟ قال: نعم! قلت: ما هي؟ قال: تبلغ معي الحي. قال: فوصلت معه المنزل، قال: فلما كان من الغد، إذا به يسوق عشراً من الإبل حتى وقف علي، فقال: دونكها، فامتنعت، فأبى إلا قبولها.
قال: فسألت عنه، فقالوا: هذا فتى يهوى فتاة من الحي.

العجوز المتصابية
أنبأنا أبو جعفر محمد بن أحمد العدل أن أبا عبيد الله محمد بن عمران أخبرهم في ما أجاز لهم قال: حدثنا أبو بكر بن دريد قال: حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: إني لفي سوق ضرية، وقد نزلت على رجلٍ من بني كلاب، وكان متزوجاً بالبصرة، وكان له أهل بضرية، إذ أقبلت عجوز على ناقة لها حسنة البزة، يتخيل فيها باقي جمال، فأناخت، وعقلت ناقتها، وأقبلت تتوكأ على محجن لها، فجلست قريباً منا، فقالت: هل من منشد؟ فقلت للكلابي: أيحضرك شيء؟ فقال: لا! فأنشدتها شعراً لبشر بن عبد الرحمن الأنصاري، وهو:
وَقَصِيرَةِ الأيّامِ وَدَّ جَلِيسُهَا ... لَوْ بَاعَ مَجْلِسَهَا بِفَقْدِ حَمِيمِ.
محذِياتِ أخي الهوَى غُصَصَ الجوَى ... بِدَلالِ غَانِيَةٍ وَمُقْلَةِ رِيمِ.
صَفْرَاءَ مِنْ بَقَرِ الجِوَاءِ، كأنّمَا ... خَفَرُ الحَيَاءِ بهَا رُدَاعُ سَقِيمِ.
فجشت على ركبتهيا، وأقبلت تنكت الأرض بمحجنها وأنشأت تقول:
قِفي يا أُمَامَ القَلْبِ، نَقضِ لُبانةً ... وَنَشكُ الهوَى ثمّ افعلي ما بدَا لكِ.
فَلَوْ قُلتِ طَأْ في النّارِ أعْلَم أنّه ... هوىً منكِ لي أوْ مِنَةٌ من نَوالكِ.
لقَدّمتُ رِجلي نحوَهَا فوَطِئتُها، ... هوىً منكِ لي أوْ هَفوَةٌ من ملالكِ.
سَلي البانةَ العُليا مِنَ الأجرَعِ الذي ... به البانُ، هل حاوَلتُ غيرَ وِصَالكِ.
وَهلْ قمتُ في أطلالِهنّ عَشِيّةً، ... قيامَ سَقيمِ القَلبِ، وَاخترْتُ ذلكِ.
ليَهنَكِ إمساكي بكفّي على الحشا، ... وَرَقْرَاقُ دَمعي رَهبَةً من زِيالكِ.
قال الأصمعي: فأظلمت والله علي الدنيا لحلاوة منطقها، وفصاحة لهجتها، فدنوت منها فقلت: نشدتك بالله لما زدتني من هذا؟ فرأيت الضحك في عينيها، وأنشدت:
وَمُسْتَحْقِبَاتٌ لَيسَ يَحقِبنَ زُرْنَنا، ... وَيَسحَبنَ أذيَالَ الصّيانةِ وَالشِّكلِ.
جَمَعنَ الهَوَى حَتى إذا مَا مَلَكْنَه ... نزَعنَ، وَقد أكثرْنَ فينا من القَتْلِ.
مرِيضَاتُ رَجعِ القوْل خُرْسٌ عن الخنا، ... تَألّفنَ أهْوَاءَ القُلوبِ بلا بَذلِ.
موَارِقُ مِنْ حَبلِ المُحِبّ عَوَاطِفٌ ... بحَبلِ ذوِي الألبابِ بالجِدّ وَالهَزْلِ.
يُعَنّفُني العُذّالُ فِيهِنّ، وَالهَوَى ... يُحَذّرُني من أنْ أُطيعَ ذوِي العَذْلِ.
فقلت: أحسنت، والذي خلقك! فقالت: اكذاك؟ قلت: نعم! قالت: فنشرك في هذا الإحسان غيركم، ثم قامت، فوالله ما مسعتمنشدةً بعدها أحلى ألفاظاً منها.

أماتها ومات أسفاً عليها
وجدت بخط أبي عمر بن حيويه، رحمه الله، ونقلته منه قال: حدثني أبو بكر محمد بن خلف المحولي قال: حدثنا أبو عبد الله التميمي قال: أخبرنا زياد بن صالح الكوفي قال: كان العلاء بن عبد الرحمن التغلبي من أهل الأدب والظرف، فواصلته جارية من جواري القيان، فكان يظهر لها ما ليس في قلبه، وكانت الجارية على غاية العشق له، والميل إليه، فلم يزالا على ذلك حتى ماتت الجارية عشقاً له ووجداً به، فذكرها بعد ذلك وأسف على ما كان كمن جفائه لها وإعراضه عنها، فرآها ليلةً في منامه، وهي تقول له:
أتَبكي بَعدَ قَتلِكَ لي عَلَيّا، ... فَهَلاّ كانَ ذا إذْ كنتُ حَيّا.
سكَبتَ دموعَ عَينكَ في انهلال، ... وَمن قَبلِ المَماتِ تُسِي إلَيّا.
أقِلَّ مِنَ النِّيَاحَةِ وَالمَرَاثي، ... فَإني مَا أرَاكَ صَنَعتَ شَيّا.

عذبة الأنياب
أنبأنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي التوزي قال: أخبرنا أبو الفضل محمد بن الحسن بن المأمون قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: قال جميل بن معمر:
خَلِيليّ عُوجَا اليَوْمَ حتى تُسَلِّمَا ... على عَذْبَةِ الأنيَابِ طَيّبةِ النَّشْرِ.
فإنّكُمَا إنْ عُجْتُمَا ليَ سَاعَةً ... شَكَرْتُكُمَا حتى أُعَيَّتَ في قَبرِي.
وَإنّكُمَا إنْ لَمْ تَعُوجَا فَإنّني ... سأصرِفُ وَجدِي، فأَذَنا اليوْمَ بالهجِر.
ومَا ليَ لا أبكي، وَفي الأيكِ نَائِحٌ؟ ... وَقد فارَقتني شَحنةُ الكَشحِ وَالخصرِ.
أيَبكي حَمامُ الأيكِ من فَقدِ إلفِهش ... وَأحمِلُ ما بي عن بُثَينَةَ من صَبرِ.
يَقُولونَ: مَسحُورٌ يُجَنّ بذِكْرِهَا، ... فأُقسِمُ ما بي من جُنونٍ، وَلا سِحْرِ.
فأُقْسِمُ لا أنسَاكِ مَا ذَرّ شَارِقٌ، ... وَمَا خَبّ آلٌ في مُلَمَعَّةٍ قَفرِ.
وَما لاحَ نَجْمٌ في السّمَاءِ مُعَلَّقٌ، ... وَما تورِقُ الأغصَانُ من وَرَق السِّدرِ.
لقَد شُغِفَتْ نَفسِي، بُثَينَ، بذِكرِكم، ... كمَا شُغِفَ المَخمورُ، يا بَثنَ، بالخمرِ.
ذكَرْتُ مَقامي لَيلَةَ البَانِ قَابِضاً ... على كَفّ حَوْرَاءِ المَدَامعِ كالبَدرِ.
فكِدْتُ، وَلمْ أملِكْ إليها صَبَابَةً، ... أهيمُ، وَفاضَ الدّمعُ مني على النَّحرِ.
فَيا لَيتَ شِعرِي، هَلْ أبِيتنّ لَيْلَةً ... كَليلَتِنا حتى يُرَى سَاطعُ الفَجرِ.
تَجُودُ عَلَيْنَا بالحَدِيثِ وَتَارَةً ... تَجُودُ عَلَيْنا بالرُّضَابِ من الثَّغْرِ.
فَلَيتَ الهَوَى قد قَضَى ذاكَ مَرّةً، ... فيَعلَمَ رَبي، عندَ ذلك، ما شُكْرِي.
فَلَوْ سَألَتْ مِني حَيَاتي بذَلتُها، ... وَجُدْتُ بها إنْ كانَ ذلكَ من أمرِي.

بكيت من الفراق
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري بقراءتي عليه قال: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم الأنباري قال: أنشدني إبراهيم بن عمرو لمحمد بن أبي أمية:
بَكَيتُ من الفرَاقِ غَدَاةَ وَلّتْ ... بنا بُزْلُ الرّكابِ عنِ العِرَاقِ.
فَما رَقَأتْ دُمُوعُ العَينِ حتى ... شَفَى قَلبي العِرَاقُ من الفِرَاقِ.
غَداً أحْدُو مَطَايَا الشّوْقِ مِني ... بِسَوْقٍ لا يُقِيمُ عَلى الرّفَاقِ.
وَأسْتَبْطي إلى بَغدَادَ سَيْرِي، ... وَلَوْ أني حُمِلْتُ عَلى البُرَاقِ.

آه من الحب
حدثنا أبو عبد الله بن أبي نصر الأندلس من لفظه قال: حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي قال: حدثني القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع قال: حدثنا أبو علي القالي قال: أنشدنا ابن عرفة نفطويه لابن أبي مرة المكي:
إنْ وَصَفُوني، فَنَاحِلُ الجَسَدِ، ... أوْ فَتّشُوني فَأبْيَضُ الكَبِدِ.
ضَاعَفَ وَجدي وَزَادَ في سَقَمي ... أنْ لَسْتُ أشكُو الهَوَى إلى أحَدِ.
آهِ مِن الحُبّ! آهِ، وَاكبِدِي! ... إنْ لمْ أمُتْ في غَدٍ فَبَعْدَ غَدِ.
جَعَلتُ كَفّي على فُؤادِيَ من ... حَرّ الهَوَى، وَانطَوَيتُ فَوْقَ يَدي.
كَأنَّ قَلْبي، إذَا ذَكَرْتُكُمُ، ... فَرِيسَةٌ بَينَ سَاعِدَيْ أسَدِ.

قاتل الله الحمى
قال: وأخبرنا الأشرف قال: قرأت على أبي العباس الأعرابي:
أيَا مُنْشِرَ المَوْتى أفِدْني من التي ... بهَا نهَلَتْ نَفسِي سَقَاماً وَعَلّتِ.
لَقَد بخلَتْ حتى لَوَ أنِّي سَألتُهَا ... قذى العينِ من ضَاحي الترَابِ لضَنّتِ.
ألا مَن لَعينٍ لا تَرَى قُلَلَ الحِمى، ... وَلا حَبَبَ الأوْشالِ إلا استهَلّتِ.
ألا قاتَلَ اللهُ الحِمَى من مَقامةٍ، ... وَقاتَلَ دُنيَانَا بهِ كَيفَ وَلّتِ.
فَما أُمّ بَوٍّ هَالِكٍ بِتَنُوفَةٍ، ... إذا ذَكَرَتْهُ آخِرَ اللّيلِ حَنّتِ.
وَمَا وَجْدُ أعرَابيّةٍ قَذَفَتْ بهَا ... صرُوفُ النوَى من حيثُ لم تكُ ظنّتِ.
إذا ذكَرت نجداً وَطِيبَ تُرَابِهِ، ... وَبَردَ الحصَى من أرْض نجد أرَنّتِ.
بأكْثَرَ مِنّي لَوْعَةً، غَيْرَ أنّني ... أُطَامِنُ أحشائي على ما أجنّتِ.

حديث كالقطر
وبإسناده قال: حدثنا القالي قال: قرأت في نوادر ابن الأعرابي عن أبي عمر المطرز الأعرابي قال أبو عمر: أنشدنا أبو عمر:
وَحَديثُها كَالقَطْرِ يَسْمَعُهُ ... رَاعي سِنِينَ تَتَابَعَتْ جَدْبَا.
فَأصَاخَ يَرْجُو أنْ يَكُونَ حَياً، ... وَيَقُولُ مِنْ فَرَحٍ: أيَا رَبّا.

حديثها السحر الحلال
وأحسن ابن الرومي في هذا المعنى قوله:
وَحَدِيثُهَا السّحرُ الحَلالُ لَو أنّهُ ... لمْ يَجْنِ قَتْلَ المُسْلِمِ المُتَحَرِّزِ.
إنْ طالَ لم يُملَلْ، وَإنْ هيَ أوْجَزَتْ ... وَدَّ المُحَدَّثُ أنّهَا لم تُوجِزِ.
شَرَكُ العُيُونِ، وَفِتنَةٌ مَا مِثْلُهَا ... للمُطْمَئِنّ، وَعُقْلَةُ المُسْتَوْفِزِ.

حديث كقطع الرياض
قال: وأنشدني بعض أصحابنا لبسار:
وَكَأنّ حُلْوَ حَدِيثِهَا، ... قِطَعُ الرّياضِ كُسينَ زَهرَا.
وَكَأنّ تَحْتَ لِسَانِهَا ... هَارُوتَ يَنفُثُ فيه سِحرَا.
وَتَخَالُ مَا جُمِعَتْ عَلَيْ ... هِ ثِيَابُهَا ذَهَباً وَعِطْرَا.
وَكَأنّهَا بَرْدُ الشّرَا ... بِ صَفا وَوَافَقَ مِنْك فِطْرَا.

ما لي وللعيد
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قال: أنشدني أبو عبد الله بن حجاج لنفسه:
قالوا: غَدَا العِيدُ فاستَبشِرْ به فرَحاً! ... فقلتُ: ما لي وَما للعيدِ وَالفَرَحِ.
قَد كانَ ذا، وَالنّوَى لم تُضْحِ نازِلةً، ... بعَقوَتي، وَغُرَابُ البَينِ لم يَصِحِ.
أيْامَ لمْ يَخْتَرِمْ قُرْبي العِبَادُ، وُلم ... يَغدُ الشَّتَاتُ عَلى شَملي وَلم يَرُحِ.
وَطَائِرٍ طَارَ في خَضْرَاءَ مُورِقَةٍ ... عَلى شَفَا جَدوَلٍ بالرَّوْضِ مُتَّشحِ.
بَكَى وَنَاحَ، وَلَوْلا أنّهُ سَبَبٌ ... لشَجوِ قَلبي المُعَنّى فِيكِ لم يَنُحِ.
فَما ذَكَرْتُكِ، وَالأقْدَاحُ دَائِرَةٌ، ... إلاّ مَزَجتُ بدَمعي بَاكياً قَدَحي.
وَلا سَمِعتُ بصَوْتٍ فيهِ ذِكْرُ نَوىً ... إلاّ عَصَيتُ عَلَيهِ كلَّ مُقْتَرِحِ.

مختصر يصف نفسه في ساعة الموت
أخبرنا أبو إسحاق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر قال: أخبرنا أبو صالح محمد بن أبي عدي السمرقندي الصوفي قال: أخبرنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع بالقرافة قال: حدثنا أبو بكر أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري قال: حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي الخياط قال: قال أبو حمزة محمد بن إبراهيم الصوفي قال: حدثنا أبو كامل الحراني قال: حدثني أبو محمد بن زرعة قال: كان خضر بن زهرة الشيباني من أعبد الصوفية، وأنسكهم وأشدهم اجتهاداً، وأملكهم لنفسه، وكان مقبول القول مطاعاً في بلده، فارساً شجاعاً، ذا مال وافر، فنشأ له غلام قد رباه كأحسن ما رؤي من الغلمان في حفظ القرآن وحفظ الحديث وحجسن المناظرة والأدب والعبادة، وكان قد أخذ عنه، وسمع حتى كان بعض الناس يوازيه به في الفروسية والشجاعة والمعرفة، وكانا ملازمين لغزو، فخرجا في بعض السرايا، فأصيبت السرية، وأفلت منها جرحى، وفيها خضر وغلامه جريحان، مثخنان، فكمنا في بعض الغياض، فاشتدت علة الغلامن وضعف عن الحركة والنهوض، فأقمنا عليه ثلاثاً، ونزل به الموت، فأقبل يضحك أحياناً، ويبكي أحياناً، فقال له خضر: مم تضحك يا بني؟ قال: أضحك إلى جوار يضحكن إلي، ويقبلن بوجوههن علي.
قال: فما يبكيك؟ قال: أبكاني فراقك وحبسك في الدنيا بعدي.
قال: أما لئن قلت ذلك يا بني ليكونن عمري بعدك قصيراً، وحزني عليك كثيراً، وفرحي بعدك قليلاً، وقلبي بفراقك عليلاً، فسبحان من أبقاني بعدك للأحزان، وعرضني لنوائب الزمان، وجعلني غرضاً لنوازل الحدثان.
وبكى حتى انقطع عن الكلام، فقال له: لا تبك فإن لقاءنا قريب، واجتماعنا سريع.
فقال: أتوصي بشيء يا بين حتى أبلغ فيه محبوبك؟ قال: نعم! قال: قل! قال: عليك بالصبر بعدي، فغنها درجة الأبرار، ومعقل الأخيار، وإياك والجزع، فإنه سبيل لكل ضعيف، ومعول كل حاطئ، وغياك والزيغ، والزم ما أنت عليه، فإنه يوشك أن يقدم بك على غبطة وسرور وسعادة وحبور، فلو رأيت ما أعد الله تعالى لي من الكرامة، وتفضل علي به من الرحمة، لأحببت أن تكون المقدم إليه قبلي.
فقال: لقد سررتني يا بني بما وصفت، وغبطتك بما قد بلغت، فهل بقي سبيل أمر من أمور الدنيا تحب أن تبلغه حتى أبلغه لك إن رزقني الله العافية، وتخلصت سالماً، ووهبت لي الحياة.
قال: نعم! تجعل لي معك سالماً، ووهبت لي الحياة.
قال: نعم! تجعل لي معك سهماً في حجك وغزوك وصدقتك.
قال: قد فعلت، لوالدي الثلث ولك الثلث، مما تفضل الله به علي من الأجر.
فقال: أما إذ بدا لك ما سألت، فإني أقول لم أكن قلته لك، ولا أطلعتك عليه: ما أتيت أمراً من أمور الخير إلا قلت: اللهم ما قسمت لي فيه من أجر فاجعله لمولاي دوني.
قال: بم استحققت ذلك منك يا بني؟
قال: لأنك ملكتني صغيراً، فاحسنت ملكي، وصحبتي كبيراً، فوقفت في صحبتي، وخفت مقام الله في، ونزهت نفسك عن السوء، وصنتني عن أفعال قد كانت عن غيرك مأثورةً عنهم، ومحفوظةً مشهورة، قد تحدث بها النساك عنهم وسمعوها منهم، وشهدت الحفظة وكتبتها الملائكة من هجومهم على السيئات وركوبهم الفاحشات، وجموحهم في الباطل وتركهم سبيل الحق، وإيثارهم لشهواتهم في جميع حالاتهم، وقد صحبتك على مر الأيام وكر السنين فلم أرك تؤثر شيئاً من هواك على أمر آخرتم، ولم أر أحداً الله أهيب في قلبه منك، فنفعك الله بذلك، وجعله سبباً للنظر إلى وجهه، والبلاغ إلى رحمته، والخلوة في داره، والمقام في جواره.
قال أبو محمد بن زرعة: فدنوت منه، وقلت: بابي أنت وأمي! اجعلني في شفاعتك.
قال: أنت الرفيق والصاحب، أنت أول من أشفع له بعد مولاي، ولهؤلاء الذين معك.
فقال له مولاه: يا بين! هل تجد للموت ألماً، وترى من مقدماته علماً؟ فإن كنت ترى شيئاً، فحدثني بكل ما تراه قبل أن تغلب على الحديث، فلا يمكنك أن تخبرني بشيء مما تجد أو ترى.
قال: أما ما أجده قلبي كأنه سعفة في يوم ريح عاصفٍ من خفقانه، أو ريشة في جناح طائر إذا أمعن في طيرانه، وأجد نفسي ساعةً بعد ساعة تذبل كالسراج إذا أراد أن يطفأ، وأجد عيني كأن الأسنة تنخسها، فما أقدر على جمرة تتوقد، واجد عظامي كأنه بين رحيين تطحنانها، وأجد أمعائي وأحشائي كأنها في أفواه سباع تمضغها.
فبكى خضر وقال: كف عني، لا تصف شيئاً، فقد كاد عقلي أن يذهل بصفتك وقلبي يتصدع مما نزل بك.
فقلت له: أليس في ما سمعت وسمعنا أن الشهيد لا يجد من ألم السلاح إلا كما يجد أحدكم ألم الشوكة أو أقل؟ قال: بلى! قال: فقلت: أفلست شهيداً مثلهم؟ قال: بلى! قلتك فما بالك أنت تألم من بينهم؟ قال: إنما ذلك عند خروج النفس ورؤية ملك الموت، ولم أبلغ بعد إلى ذلك.
فقال له خضر: فهل ترى شيئاً.
قال: أرى صوراً مقبلةً لها أجنحة تطير بها، ترفرف بين السماء والأرض.
قال: فهل قرب منك أحد منها؟ قال: نعم جماعة.
قال: صفهم لي.
قال: أرى صوراً لم أر أحسن منها منظراً، بعضهم جناحاه من لؤلؤ وسائر بدنه من ياقوت، وبعشهم جناحاه من ياقوت وسائر بدنه من زمرد.
قال: فهل ترى ملك الموت؟ قال: ما أراه! أليس في ما كتبت من الحديث أن العبد إذا عاين ملك الموت شخص ثم أمسك ساعةً فلم يتكلم؟ فقال له خضر: هل ترى شيئاً؟ قال: أرى شخصاً قد هبط من السماء إلى الأرض حتى سد ما بين الخافقين، قد نشر أجنحته، فأشرقت الشمس من حسنه وأضاءت الدنيا من نوره، وسكن عني ما أجد من الألم حتى كأنه لم يكن، فما أحس منه شيئاً، ثم سكت، فلم يتكلم بكلمة حتى مات، رحمه الله.

نومة عبود
ذكر أبو بكر محمد بن الفضل بن قدير في مجموعة قال: حدثني محمد بن أحمد البزاز قال: حدثني عبد الله بن محمد أبو جمعة الوراق قال: أخبرت أن المهدي دخل الكوفة فقال لأبي الأحوص محمدبن حيان الكوفي: حدثنا حديثاً من طرائف الأخبار بما حضرك، قال: كان في الزامن الأول رجل يقال له عبود وكان عاشقاً لابنة عم له فحضرتها الوفاة، فأزعجه ذلك، وأقلقه، فلما توفيت صار إلى المسيح، فسأله أن يحييها قال: لن يتهيأ ذلك أو تهب لها من عمرك شيئاً. قال: قد وهبت لها نصف عمري، فصار المسيح إلى تربتها، فوقف عليها، وسأل ربه أن يحييها فأحياها، فأخذ بيدها عبود، ومضى يريد بها أله، فأدركه الفتور في بعض الطريف، فحط رحله، ووضع رأسه في حجرها، واستقل نوماً.
فاجتاز بها ملك الناحية فرأى وجهاً جميلاً وخلقاً حسناً، فعرض عليها صحبته، فأجابته، فأمرها، فوضعت رأسه من حجرها، وحملها في قبة كانت معه، فلما انتبه عبود بقي متلدداً، فبينا هو كذلك إذ تلقاه نفر يتواصفون الجارية وبراعة خلقها، فسألهم عن الخبر، فأعلموه أنهم رأوا مع الملك امرأة لحقها فجعل يذكرها العهد، وهي ساكتة، ويسألها النزوع عما هي عليه، وهي مزورة عنه، إلى أن قال: ويحك قد كنت توفيت، فصرت في جملة الموتى، فسألت المسيح، فأحياك لي على أني أعطيتك من عمري نصفه، فإن كنت لا تساعدينني ولا تصيرين معي إلى أهلي وأهلك ، فردي علي ما وهبت لك من عمري.
قالت: فإني قد رددته عليك، ولا حاجة لي فيه، فما أتمت هذه الكلمة حتى وقعت ميتة، وانصرف عبود إلى أهله مغتبطاً، فضربت العرب بنومة عبود مثلاً.
عمر وعفراء وعروة
أخبرنا أبو طاهر بن السواق وذكر حديثاً قال: قال أبو عمر محمد بن العباس الخزاز قال: حدثني أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني أبو محمد البلخي قال: حدثني أحمد بن سراقة قال: حدثني العباس بن الفرج قال: سمعت الأصمعي يقول عن ابن أبي الزناد قال: قال عمر بن الخطاب، رحمه الله: لو أدركت عفراء وعروة لجمعت بنيهما.

شجرتان ملتفتان على قبرين
وبإسناده قال ابن المرزبان: وحدثني إسحاق بن محمد بن أبان قال: حدثني معاذ بن يحيى قال: خرجت إلى صنعاء، فلما كنا ببعض الطريق قيل لنا: إن قبر عفراء وعروة على مقدار ميل من الطريق. قال: فمضت جماعة كنت فيهم، فإذا قبران متلاصقان قد خرج من كل قبر ساق شجرة، حتى إذا صارتا على مقدار قامة التفت كل واحدة منهام بصاحبتها.
قال إسحاق: فقلت لمعاذ أي ضرب هو من الشجر؟ فقال: لا أدري، ولقد سألت أهل القرية عنه، فقالوا: لا نعرف هذا الشجر ببلادنا.

القلب الخافق
قال أبو بكر بن المرزبان: أخبرني سعيد بن الفضل الأزدي قال: أنشدني العتبي لعروة بن حزام:
لَوَ أنّ أشَدّ النّاسِ وَجْداً وَمِثْلَه ... مِنَ الجِنّ بَعدَ الإنسِ يَلتَقِيانِ.
فيَشتَكِيانِ الوَجدَ ثُمّتَ أشتكي ... لأضْعَفَ وَجدي فَوْقَ ما يجِدانِ.
فَقَدْ تَرَكتَني ما أعي لُمحَدِّثٍ ... حَديثاً، وَإنْ نَاجَيْتُهُ وَنَجاني.
لَقَدْ تَرَكَتْ عَفرَاءُ قَلبي كأنّهُ ... جَنَاحُ عُقَابٍ دَائِم الخَفَقَانِ.
هاتف الجبل
وجدت بخط ابن حيويه يقول: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف قال: حدثني عبد الواحد بن محمد النجاري قال: حدثني محمد بن الهيثم بن عيدي عن الهيثم قال: حدثنا محمد بن ملك قال: حدثني عثمان بن عمر التيمي قال: هوي فتى من بنس أسدٍ فتاة من فخذه، وكان أيسر منها وأغنى، فكان أبوه يمنعه من أن يتزوجها، ويريد له أشرف منها وأيسر، ويعرض عليه غيرها، فيأبى إلا هي، فيمتنع أبوه من ذلك. وكان أبوها قد حبسها عليه رجاء أن يتزوجها، فلما طال على أبيها وأيس منه زوجها من غيره، فلقيها الفتى يوماً فقال لها:
لَعَمْرِيَ، يَا سُعدى، لطالَ تَأيّمي، ... وَمَعْصِيَتي شَيخيّ فيكِ كلَيهِمَا.
وَتْركيَ ذَا الحيّينِ لمْ أبغِ مِنهُمَا ... سِوَاكِ، وَلم يَرْبَعْ هَوَايَ عَلَيهمَا.
فقالت الجارية:
حَبِيبيَ لا تَعجَلْ لتَفْهَمَ حُجّتي، ... كَفانيَ ما بي من بَلاءٍ وَمن جُهدِ.
وَمِنْ عَبَرَاتٍ تَعتَرِيني وَزَفرَةٍ ... تَكَادُ لهَا نَفسِي تَسِيلُ من الوَجدِ.
غُلِبتُ عَلى نَفسِي جَهَاراً وَلَمْ أُطِقْ ... خِلافاً عَلى أهْلي بِهَزْلٍ وَلا جِدِّ.
وَلَنْ يَمْنَعُوني أنْ أمُوتَ برُغمِهِمْ، ... غداً، جوْفَ هذا الغار في جَدثٍ وَحدي.
فَلا تَنسَ أنْ تأتي هُناكَ، فَتَلتَمِسْ ... مكاني فتَسلُو ما تَحَمّلتَ من جهدي.
فلما كان في غدٍ أتاها حيث زعمت له، فوجدها ميتةً فحملها، فأدخلها شعباً ثم التزمها فمات معها، قال: فالتمسا حولاً، فلم يقدر عليهما، ولم يعلم لهما خبر، فإذا هاتف يهتف على الجبل الذي هما فيه، وكان الجبل يدعى أعرافاً:
إنّ الكَرِيميَنِ ذَوِي التّصَافي ... الذّاهِبَينِ بِالوَفَاءِ الصّافي.
وَاللهِ مَا لاقَيْتُ في تَطْوَافي ... أبْعَدَ مِنْ غَدْرٍ وَمِنْ إخلافِ.
مِنْ مَيّتَينِ في ذُرَى أعرَافِ.
قال: فصعد القوم الجبل، فوجدوهما ميتين فواروهما.
المجنون الهائج
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إن لم يكن سماعاً فإجازة قال: اخبرنا أبو عمر بن حيويه قال: حدثنا ابن المرزبان قال: حدثني محمد بن عبد الله بن الفضل قال: حدثني أحمد بن معاوية قال: رأيت مجنوناً بصحراء أثير، وقد هاج، وهو يقول:
هَدّ رُكي الهَوَى وكنتُ جَليدا، ... وَرَأيتُ الفِرَاقَ مُرّاً شَدِيدَا.

الناسك العاشق
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف الواعظ بقراءتي عليه قال: حدثنا أبو حفص عمر بن أحمد بن شاهين الواعظ قال: حدثنا جعفر بن محمد قال: حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق قال: حدثنا فضل اليزيدي قال: حدثني إسحاق بن إبراهيم بن المهدي بن عمرو الهلالي قال: سمعت أبا يحيى التيمي يقول: كان يختلف معنا فتى من النساك يقال له أبو الحسين إلى مسعر بن كدام، وكان يختلف معه فتىً حسن الوجه يفتن الناس، إذا رأوه، فأكثر الناس القول فيه، وفي صحبته إياه، فمنعه أهله أن يصحبهن وأن يكلمه، فذهل عقله حتى خشي عليه التلف، فبلغ ذلك مسعراً، فقال: قولوا له لا تقربني، ولا تات مجلسي، فإني له كاره، فلقيته، فأخبرته بذلك، فتنفس الصعداء، ثم أنشأ يقول:
يَا مَنْ بَدائعُ حُسْنِ صُورته، ... تُثْني إلَيْهِ أعِنّةَ الحَدَقِ.
لي مِنْكَ مَا للنّاسِ كُلّهِمِ، ... نَظَرٌ وَتَسْلِيمٌ عَلى الطّرُقِ.
لَكِنّهُمْ سَعِدُوا بأمنِهِمِ، ... وَشَقِيتُ حِينَ أرَاكَ بالفَرَقِ.

لا راحة ولا نوم
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن العلاف صاحب بن سمعون بقراءتي عليه من نحو خمسين سنة قال: أخبرنا عمر بن أحمد بن شاهين، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق، حدثنا أبو حاتم السجستاني، حدثني شيخ ظريف حجازي قال: كنت بمكة، فإذا كان الليل سمعت أنيناً إلى جنبي، فطال الليل علي، فسألت عنه فقيل لي: فتىً مريض، فدخلت عليه فإذا هو من أحسن الناس وجهاً كأنه ذهب وفضة، فكلمته، فإذا هو عاشق يغلب على عقله حتى يخالط، فأصابه ذلك وأنا عنده، فجعل يقول:
مُتَيَّمٌ قَدْ بَرَاهُ السَّقَمْ، ... كَأنّهُ نِضْوٌ يُقَاسِي الألَمُ.
فما له راحة ولا نوم إلى الصباح.

آه من البين
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستادني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، حدثنا الحسن بن محمد بن حبيب، سمعت أبا علي الحسن بن محمد الزنجاني الصوفي بأسفرايين، سمعت عبد السعيد المنجوري، سمعت سهلان القاضي يقول: بينا أنا مار في طرقات جبل شورى، وقد مرت علي قافلة عظيمة، إذ بفتى شاب على طريق ذاهب العقل مدهوش عريان، وبين يديه خلقان متمزقة، فقال لي: أين رأيت القافلة؟ قلت: في موضع كذا وكذا. قال: آه من البين، آه من البين، آه من دواعي الحب! قلت: ما دهاك؟ فقال:
شَيّعتُهمْ من حَيثُ لم يَعلَموا، ... وَرُحتُ وَالقَلْبُ بهِمْ مُغْرَمُ.
سَألْتُهُمْ تَسْلِيمَةً مِنْهُمُ ... عَلّي إذْ بَانُوا فَمَا سَلّمُوا.
سَارُوا وَلَمْ يَرْثُوا لمُسْتَهْتَرٍ، ... وَلمْ يُبَالُوا قَلْبَ مَنْ تَيّمُوا.
وَاستَحسَنوا ظُلمي، فمن أجلهم ... أحَبّ قَلبي كُلَّ مَن يَظلِمُ.

يوم طش بعد رش
وأخبرنا أبو بكر الأردستاني أيضاً بمكة على باب الندوة، أخبرنا الحسين بن حبيب المذكر، سمعت أبا الفرج أحمد بن محمد النهاوندي يقول: مررت بدرب أبي خلفن فإذا جماعة وقوف على مجنون، فوقفت فهش إلي، وقال:
اسقِني قَبلَ تَبارِيحِ العَطَشْ، ... إنّ يَوْمي يوْمُ طشٍّ بَعدَ رَشْ.
حُبُّ مَن أهوَاهُ قد أدهَشَني، ... لا خلوْتُ الدهرَ من ذاك الدَّهَشْ.

ابن أبي البغل والمغنية
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه سنة ثلاث وأربعين وأربعمائة، أخبرنا القاضي أبو الفرج المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن أحمد بن الكابت، حدثني عبدوس بن مهدي بالكرج قال: نزل علي بن أبي البغل، عند تقلده الإشراف، على عمال الجبل، فزارته مغنية كان بها لهجاً على قلة إعجابه بالنساء، فلما كانت ليلة، ونحن قعود في البستان نشرب، وقد طلع القمر، هبت ريح عظيمة فقلبت صوانينا التي كان فيها شرابنا، وأقبلت الغلمان يسقوننا، فسكر ابن أبي البغل على ضعف شربه وقام إلى مرقده، وأخذنا معه والمغنية، فلما حصلنا فيه استدعى قدحاً، ولنا مثله،وأنشأ يقول:
مَغمُوسَةٌ في الحُسنِ مَعشُوقَةٌ، ... تَقْتُلُ ذَا اللُّبّ وَتُحْيِيهِ.
بَاتَ يُرِينِيهَا هِلالُ الدُّجَى، ... حَتى إذَا غَابَ أرَتْنِيهِ.
وطرح الشعر على المغنية فلقنته وغنتنا فيه، وشربنا القدح، وانصرفنا، فلما كان من الغد، وحضرنا المائدة، وهي معنا، فاتحناه بما كان فحلف أنه لم يشعر بما جرى، ولا بالشعر، واستدعى دفتره، فأثبت البيتين فيه.
لا قضاة للعاشقين
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة القضاعي عن أبي الحسن بن نصر بن الصباح لعمرو الوصافي:
لهفي على سَاكِنِ قَصرِ السَّرَاه ... نَغّصَ حُبيِّهِ عليّ الحَيَاهْ.
مَا يَنْقَضي من عَجَبٍ فِكرَتي ... في قِصّةٍ فَرّطَ فِيهَا الوُلاهْ.
تَرْكُ المُحِبّينَ، بِلا حَاكِم ... لمْ يَنْصِبُوا للعَاشِقِينَ القُضَاهْ.
لَقَدْ أتَاني خَبَرٌ سَاءَني ... من قَوْلها في السرّ: وَاخَجلتاهُ.
حديث الجنيد
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي بن أحمد بن الفضل الأزجي سنة أربعين وأربعمائة، أخبرنا أبو الحسن علي بن جعفر السيرواني بمكة حكى عن الجنيد أنه قال: أعرف من قتلته المحبة، ولم يعرف المحبة، ثم قال: كيف؟ فقلنا: يقول الشيخ! فقال: قتله ما خبئ فيها.

أصناف الناس
أخبرنا عبد العزيز بن علي قراءة عليه، أخبرنا أبو الحسن علي بن الحسن بن جهضم بمكة لفظه وكتابه في المسجد سنة ست وتسعين وثلاثمائة، سمعت أحمد بن محمد يقول: كان سهل يقول: الناس ثلاثة أصناف: صنف منهم مضروب بسوط المحبة، مقتول بسيف الشوق، مضطجع على بابه ينتظر الكرامة، وصنف منهم مضروب العفو، وصنف منهم مضروب بسوط الغفلة، مقتول بسيف الشهوة، مضطجع على بابه ينتظر العقوبة.

ذو النون والمريض
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزحجي، حدثنا علي بن الحسن بمكة، حدثنا أحمد بن محمود بن خرزاذ الأهوازي، حدثني أحمد بن جعفر الدستري، حدثنا سعيد بن عثمان قال: دخل ذو النون على مريض يعوده فراى المريض يئن، فقال ذو النون: ليس بصادق في حبه من لم يصبر على ضربه، فقال المريض: لا ولا صدق في حبه من لم يتلذذ بضربه، فقال ذو النون: لا ولا صدق من رأى حبه لربه، عز وجل.
نوح داود
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني بقراءتي عليه بمكة في المسجد الحرام، حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، حدثنا عبد الرحمن بن محبوب، حدثنا زكريا بن يحيى البزاز، حدثنا محمد بن الحسين، حدثنا سلمة بن شبيب، حدثنا محمد بن يحيى البصري، حدثنا عمرو بن جميع العجلي عن عامر بن يسار عن يحيى بن أبي كثير قال: بلغنا أنه إذا كان يوم نوح داود، عليه السلام، كان يمكث قبل ذلك لا يأكل الطعام، ولا يشرب، ولا يقرب النساء، فإذا كان قبل ذلك بيوم أخرج له منبراً إلى البرية، وأمر منادياً قبل ذلك بيوم ليستنفر في البلاد ومن حولها: ألا من أحب أن يسمع نوح داود فليأت، فتأتي الوحوش والسباع والهوام والطير والرهبان والعذارى من خدورهن، وبنو إسرائيل، كل صنف على حدته، فيصغون إليه. قال: وسليمان قائم على رأسه فيأخذ في الثناء على الله، عز وجل، فيضجون بالصراخ والبكاء، ثم يأخذ في ذكر الجنة، فتموت طائفة من الناس والوحوش والسباع والرهبان، وطائفة من العذارى، ثم يأخذ في ذكر النار، فتموت طائفة منهم، ثم يأخذ في أهوال القيامة والنوح على نفسه، فتموت طائفة من هؤلاء ومن كل صنف.
قال: فإذا رأى سليمان ما قد كثر من الموتى في كل فرقة، نادى يا أبتاه! قد مزقت المستمعين كل ممزق من بني إسرائيل والوحوش والهوام والسباع.
قال: فيقطع النوح، ويأخذ في الدعاء.
قال: فبينما هم كذلك إذ نادى بعض عباد بني إسرائيل: يا داود! عجلت على ربك تطلب الجزاء، فيخر داود مغشياً عليه، فإذا نظر إليه سليمان وما أصابه أتى بسرير، فحمله عليه، ثم أمر منادياً، فنادى: من كلن له مع داود حميم أو قريب، فليأت بسريرٍ، فإن الذين كانوا معه قد ذكر الجنة والنار.
قال: فكانت المرأة تأتي بالسرير، فتقف على ابنها وأبيها وأخيها، وهم أموات، فينادى: وا بأبي! من قتله ذكر النار، وا بأبي! من قتله ذكر الجنة، وا بأبي! من قتله ذكر الخوف من الله تعالى، حتى إن الوحوش ليجتمعن على من مات منهن فيحملنه، وكذلك السباع والهوام.
قال: ثم يتفرقون، فإذا أفاق داود من غشيته قال لسليمان: ما فعلت عباد بني إسرائيل؟ فيقول سليمان: يا أبتاه ماتوا عن آخرهم. قال: فيقوم داود فيضع يده على رأسه، ثم يدخل بيت عبادته، ويغلق عليه بابه ثم ينادي: يا إله داود! أغضبان أنت على داود أم كيف ذا، إذ قصرت من الموت خوفاً منك.
أيوب في بلائه
أخبرنا عبد العزيز بن علي الطحان، رحمه الله، حدثنا علي بن عبد الله بمكة، حدثني منصور بن أحمد قال: سئل أبو العباس بن عطاء عن قوله، عز وجل: مسني الضر، وأنت أرحم الراحمين، فقال: إن الله، عز وجل، سلط الدود على جسم أيوب، عليه السلام، كله إلا على قلبه ولسانه، فكان القلب غنياً بالله، عز وجل، قوياً، واللسان بذكر الله تعالى رطباً دائماً، فأكل الدود الجسم كله حتى بقيت أضلاعه مشتبكة، والعروق ممدودة، وحتى ما بقي للدود شيء يأكله، فسلط الله، عز وجل، الدود بعضه على بعض، فأكل بعضه بعضاً، حتى بقيت دودتان، فجاعتا، فشدت إحداهما على الأخرى، فأكلتها، وبقيت واحدة، فجاعت فدبت إلى القلب لتنفذه، فقال أيوب، عليه السلام، عند ذلك: مسني الضر أن فقدت حلاوة ذكرك من قلبي، لأنك لو جمعت البلاء كله علي بعد أن لا أفقدك من قلبي ما وجدت للبلاء ألماً، فأوحى الله، عز وجل، إليه: يا أيوب! إنك لتنظر إلي غداً. قال: يا رب بهاتين العينين؟ قال: يا أيوب أجعل لك عينين يقال لهما البقاء، فتنظر إلى البقاء بالبقاء.

الجارية الصوفية
أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي، حدثنا علي بن عبد الله بن الحسن الهمذاني بمكة، حدثنا محمد بن عبد الله الشكلي، حدثني محمد بن القنطري قال: قال ذو النون: بينا أنا أسير على ساحل البحر، إذ بصرت بجارية عليها أطمار شعرٍ، وإذا هي ناحلة ذابلة، فدنوت منها لأسمع ما تقول، فرأيتها متصلة الأحزان بالأشجان، وعصفت الرياح واضطربت الأمواج، وظهرت الحيتان، فصرخت، ثم سقطت إلى الأرض، فلما أفاقت نحبت، ثم قالت: سيدي! بك تقرب المتقربون في الخلوات، ولعظمتك سبحت النينان في البحار الزاخرات، ولجلال قدسك تضافقت الامواج المتلاطمات. أنت الذي سجد لك سواد الليل وبياض النهار والفلك الدوار والبحر الزخار والقمر النوار والنجم الزهار وكل شيء عندك بمقدار، لأنك الله العلي القهار:
يَا مُؤنِسَ الأبْرَارِ في خَلَوَاتِهِمْ، ... يَا خَيرَ مَنْ حَطّتْ بهِ النُّزّالُ.
مَنْ ذاقَ حُبَّكَ لا يَزَالُ مُتَيَّماً، ... قَرِحَ الفُؤادِ يَعُودُهُ بَلْبَالُ.
مَن ذاقَ حبّكَ لا يُرَى مُتَبسّماً، ... في طُولِ حُزْنٍ للحَشَا يَغتَالُ.
فقلت لها: من تريدين؟ فقالت: إليك عني، ثم رفعت طرفها نحو السماء فقالت:
أُحِبُّكَ حُبَّينِ، حُبَّ الوِدَادِ، ... وَحُبّاً لأنّكَ أهْلٌ لِذَاكَا.
فَأمّا الّذي هًوَ حُبّ الوِدَادِ، ... فَحُبٌّ شُغِلتُ به عَن سوَاكَا.
وَأمّا الّذي أنتَ أهلٌ لَهُ، ... فكَشفُك للحُجْبِ حتى أرَاكَا.
فما الحمدُ في ذا وَلا ذَاكَ لي، ... وَلكِن لك الحمدُ في ذا وَذاكَا.
ثم شهقت شهقةً، فإذا هي قد فارقت الدنيا، فبقيت أتعجب مما رأيت منها، فإذا أنا بنسوة قد أقبلن وعليهن مدارع العشر، فاحتملنها، فغيبنها عني فغسلنها، ثم أقبلن بها في أكفانها فقلن لي: تقدم فصل عليها، فتقدمت فصليت عليها، وهن خلفي. ثم احتملنها ومضين.
؟ما بي جنون أخبرنا أبو القاسم عبد العزيز بن علي الأزجي، حدثنا أبو الحسن بن جهضم.
أنشدنا محمد بن عبد الله ليحيى بن معاذ:
أمُوتُ بدائي لا أصِيبُ مُدَاوِيا، ... وَلا فَرَجاً مِمّا أرَى مِنْ بَلائِيَا.
؟إذا كانَ دَاءَ العَبْدِ حُبُّ مَليكه، ... فمَن دُونَه يُرْجَى طبيباً مُداوِيَا.
مَعَ اللهِ يُمْضِي دَهْرَهُ مُتَلَذّذاً، ... مُطيعاً، تَرَاهُ كان، أوْ كان عاصِيَا.
يقولون يَحيى جُنّ من بعدِ صحّة، ... وما بي جُنُونٌ، يا خَليلي، ما بِيَا.


رابعة العدوية ورياح القيسي

91
 
رابعة العدوية ورياح القيسي
يوماً راحة، وطاب قلبي لحسن صنع الله بي واختياره لي، فقلت: اللهم إن كنت أعطيت أحداً من المحبين لك ما أسكنت به قلوبهم قبل لقائك، فأعطني ذلك، فلقد أضر بي القلق. قال: فرأيت الله ، تبارك وتعالى، في النوم، فوقفني بين يديه، وقال: يا إبراهيم! ما استحييت مني، تسألين أن أعطيك ما يسكن به قلبك قبل لقائي، وهل يسكن قلب المشتاق إلى غير حبيبه أم هل يستريح المحب إلى غير من اشتاق إليه؟ فقلت: يا رب! تهب في حبك، فلم أدر ما أقول.

عمر والزاني القتيل
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو الفضل أحمد بن ملاعب، أخبرني محمد بن سعيد الأصبهاني، أخبرنا علي بن مسهر عن أبي عاصم الثقفي عن الشعبي قال: كان أخوان من الأنصار، فخرج أحدهما في بعث، وتخلف الآخر عند امرأة أخيه. فقالت امرأة المقيم له: أشعرت أن امرأة أخيك يختلف إليها رجل. قال لها: فإذا جاء فأعلميني، فلما جاء أخبرته، وبينها وبينه حائط، فوضعت له سلماً، فصعد، فأشرف، فإذا هو بامرأة أخيه توقد له ناراً، وتشوي له دجاجة، وهو يقول:
وَأشعَثَ غَرّةٌ الإسلامُ مني، ... خَلَوْتُ بعِرْسِهِ لَيلَ التَّمامِ.
أبِيتُ على تَرَائِبها، وَيُمسي ... على جَرْداءَ لاحِقَةِ الحزَامِ.
كأنّ مجَامعَ الرَّبلاتِ مِنها، ... نِيَامٌ يَنهَضُونَ إلى قِيَامِ.
فنزل فضربه بالسيف حتى قتله، فبلغ ذلك عمر بن الخطاب، فلما أصبح قام خطيباً فقال: أنشد الله والإسلام رجلاً عند علم من هذا المقتول إلا أنبأ به. فقام إليه رجل فقص عليه القصة وأخبره بقوله. فقال عمر: أبعده الله وأسحقه.

نصر بن حجاج وامرأة السلمي
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، حدثنا أبو محمد علي بن عبد الله بن المغيرة، حدثنا أبو بكر بن أبي شيبة، حدثنا علي بن أحمد الواسطي، حدثني إبراهيم بن الربيع، حدثني سماك بن عطية قال: لما قدم نصر بن حجاج البصرة نزل على مجاشع بن مسعود السلمي، فبينما هو ليلةً يتحدث هو وامرأته كتب على رمل هم عليه قعود: أنا أحبك. قال: فكتبت هي: وأنا كذلك، فدعا بإجانة، ووضعها على الكتابة، فلما أصبح دعا غلامه، فقال: أي شيء هذا؟ قال: أنا أحبك، وأنا كذلك، فدعاها ودعاه، وقال لها: ضميه إلى صدرك يذهب عنكما ما أنتما فيه.

ضحيتا الهوى
وجدت بخط أبي عمر بن حيويه ونقلته منه قال: حدثنا أبو بكر محمد بن خلف بن المرزبان، أخبرني صالح بن يوسف المحاربي قال: أخبرني أبو عثمان المازني، أخبرنا العتبي عن شبابة بن الوليد العذري أن فتىً من بني عذرة، يقال له أبو مالك بن النضر، كان عاشقاً لابنة عم له عشقاً شديداً، فلم يزل على ذلك مدة، ثم إنه فقد بضع عشرة سنة، ولم يحس له خبر.
قال شبابة بن الوليد: فضلت إبل لي، فخرجت في طلبها، فبينا أنا سير في الرمال إذا بهاتف يهتف بصوت ضعيف، وهو يقول:
يا ابنَ الوَليدِ ألا تحمونَ جارَكمُ، ... وَتَحفَظُونَ لَهُ حَقّ القَرَابَاتِ.
عَهدي إذا جارُ قَوْمٍ نابَهُ حَدَثٌ ... وَقَوْهُ مِنْ كلّ أضرَارِ المُلِمّاتِ.
هذا أبو مَالك المُمْسَى بِبَلْقَعَةٍ، ... مَعَ الضّبَاعِ وَآسَادٍ بِغَابَاتِ.
طَلِيحُ شَوْقٍ بِنَارِ الحُبّ محترِقٌ ... تَعْتَادُهُ زَفَرَاتٌ إثْرَ لَوْعَاتِ.
أمّا النّهَارُ فَيُضْنِيهِ تَذَكّرُهُ، ... وَاللّيلُ مرْتَقِبٌ للصّبحِ هل يأتي؟
يهذي بجارِيةٍ من عُذْرَةَ اختَلَسَتْ ... فُؤادَهُ، فَهْوَ مِنْهَا في بَلِيّاتِ.
فقلت: دلني عليه، رحمك الله، فقال: نعم، اقصد الصوت، فلما قصدت غير بعيد سمعت أنيناً من خباء فأصغيت إليه، فإذا قائل يقول:
يَا رَسِيسَ الهَوَى أذَبتَ فُؤادِي، ... وَحَشَوْتَ الحَشَا عَذاباً ألِيمَا.
فدنوت منه، فقلت: أبو مالك؟ قال: نعم! قلت: ما بلغ بك ما أرى؟ قال: حبي سعاد ابنة أبي الهيذم العذري، فشكوت يوماً إلى ابن عم لنا من الحي ما أجد من بها، فاحتملني إلى هذا الوادي، منذ بضع عشرة سنة، ويأتيني كل يومٍ بخبرها، ويقوتني، حفظه الله، من عنده. فقلت له: إني أصير إلى أهلاه، فأخبرهم بما رأيت، قال: أنت وذاك.
فانصرفت، وصرت إلى أهل الجارية، فخبرتهم بحال الفتى، وما رأيت منه، وحدثتهم حديثه، فرقوا له فزوجوه بحضرتي، ورجعت إليه عامداً لأفرج عنه لما رأيت منه، فلما أخبرته الخبر، حدد النظر إلي، ثم تأوه تأوهاً شديداً بلغ من قلبي، ثم انشأ يقول:
الآنَ إذ حَشْرَجتْ نَفسِي وَحاصرَها ... فِرَاقُ دُنْيا، وَنَادَاهَا مُنَاديها.
ثم زفر زفرةً، فمات، فدفنته في موضعه ثم انصرفت فأعلمتهم الخبر، فأقامت الجارية ثلاثاً لا تطعم طعاماً ثم ماتت.

غصص الموت
أخبرنا أبو محمد الحسن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري: أنشدني أبي عن بعض أصحابه لأبي نواس:
إنّ في وَصْلِ مَنْ أُحبّ دَوَائي، ... وَبِكَفَّيْهِ، إنْ أحَبَّ، شِفَائي.
إنْ أمُتْ ضَيْعَةً، فَلَم أجنِ ذَنباً، ... من حَبِيب أمَاتَ حُسنَ عَزَائي.
كُلَّ يَوْمٍ يُذِيقُني غُصَصَ المَوْ ... ت بِصَدٍّ يُرِيشُهُ بِالجَفَاءِ .

الدماء المطلولة
يهما، وليس عند الحجاج غير عنبسة، فقعدت فجيء الحجاج بطبق فيه رطب، فأخذ الخادم منه شيئاً فجاءني به، ثم جيء بطبق، حتى كثرت الأطباقن وجعل لا يؤتون بشيء إلا جاءني منه بشيء، جتى ظننت أن ما بين يدي أكثر مما عندهم، ثم جاء حاجب فقال: امرأة بالباب، فقال له الحجاج: أدخلها! فدخلت، فلما رآها الحجاج، طأطأ رأسه حتى ظننت أن ذقنه قد اصاب الأرض، فجاءت حتى بين يديه، فنظرت إليها فإذا هي امرأة قد أسنت، حسنة الخلق، ومعها جاريتان لها، وإذا هي ليلى الأخيلية، فسألها الحجاج عن نسبها، فانتسبت له، فقال لها: يا ليلى ما أتىبك؟ فقالت: إخلاف النجوم، وقلة الغيوم، وكلب البرد، وشدة الجهد، وكنت لنا بعد الله الرفد.
فقال لها: صفي لنا الفجاج.
فقالت: الفجاج مغبرة، والأرض مقشعرة، والمنزل معتل، وذو العيال مختل، والهالك المقل، والناس مسنتون، رحمة الله يرجون. وأصابتنا سنون مجحفة مبطلة لم تدع لنا هيعاً ولا ريعاً، ولا عافطة ولا ناقلة، أذهبت الأموال، وفرقت الرجال، وأهلكت العيال. ثم قالت: إني قد قلت في الأمير قولاً! قال: هاتي، فأنشأت تقول:
أحَجّاجُ لا يُفْلَلْ سِلاحُكَ إنّمَا ال ... مَنَايَا بِكَفّ اللهِ حَيْثُ تَرَاهَا.
أحَجّاجُ لا تُعْطِ العُصَاةَ مُنَاهُمُ، ... ولا اللهُ يُعْطي للعُصَاةِ مُنَاهَا.
إذَا هَبَطَ الحَجّاجُ أرْضاً مَرِيضَةً ... تَتَبّعَ أقْصَى دَائِهَا فَثَفَاهَا.
شَفَاهَا مِنَ الدّاءِ العُضَالِ الذِي بها ... غُلامٌ إذَا هَزّ القَنَاةَ سَقَاهَا.
سَقَاهَا، فَرَوّاهَا بِشُرْبٍ سِجَالُهُ ... دِمَاءُ رِجَالٍ حَيْثُ قَالَ حَمَاهَا.
إذَا سَمِعَ الحَجّاجُ رِزّ كَتِيبَةٍ، ... أعَدّ لهَا قَبْلَ النّزُولِ قِرَاهَا.
أعَدّ لَهَا مَسْمُومَةً فَارِسِيّةً ... بِأيْدِي رِجَالٍ يَحلُبُونَ صَرَاهَا.
فَمَا وَلَدَ الأبْكَارُ وَالعُونُ مِثْلَهُ، ... بِنَجْدٍ وَلا أرْضٍ يَجِفّ ثَرَاهَا.
قال: فلما قالت هذا، قال الحجاج: قاتلها الله! ما أصاب صفتي شاعر مذ دخلت العراق غيرها، ثم التفت إلى عنبسة بن سعيد فقال: والله إني لأعد للأمر عسى أن لا يكون أبداً، ثم التفت إليها فقال: حسبك.
قالت: إني قد قلت أكثر من هذا، قال: حسبك، ويحك حسبك، ثم قال: يا غلام اذهب إلى فلان فقل له اقطع لسانها. قال: فأمر بإحضار الحجام، فالتفتت إليه فقالت: ثكلتك أمك! أما سمعت ما قال؟ إنما أمرك أن تقطع لساني بالصلة. فبعث إليه يستثبته، فاستشاط الحجاج غضباً، وهم بقطع لسانه وقال: ارددها، فلما دخلت عليه قالت: كاد، وأمانة الله، يقطع مقولي. ثم أنشأت تقول:
حَجّاجُ! أنتَ الذي مَا فَوْقَهُ أحَدٌ ... إلاّ الخَلِيفَةُ وَالمُسْتَغْفَرُ الصَّمَدُ.
حَجّاجُ! أنتَ شهابُ الحرْبِ إذ لقِحت، ... وَأنتَ للنّاسِ في جِنحِ الدُّجَى تَقِدُ.
ثم أقبل الحجاج على جلسائه فقال: أتدرون من هذه؟ قالوا: لا والله أيها الأمير إلا أنا بم نر امرأة قط أفصح لساناً ولا أحسن محاورة ولا أملح وجهاً ولا أرصن شعراً منها. فقال: هذه ليلى الأخيلية التي مات توبة الخفاجي من حبها، ثم التفت إليها فقال: أنشدينا يا ليلى بعض ما قال فيك توبة. فقالت: نعم أيها الأمير، هو الذي يقول:
وَهَلْ تَبْكِيَنْ لَيْلى إذا مَا بكَيتُها ... وَقَامَ عَلى قَبْرِي النّسَاءُ النّوائحُ.
كمَا لَوْ أصَابَ المَوْتُ لَيْلى بكَيتُهَا، ... وَجَادَ لهَا دَمْعٌ مِنَ العَينِ سَافحُ.
وَأُغْبَطُ مِنْ لَيلى لا أنَالُهُ، ... بلى! كُلُّ مَا قَرّتْ بِهِ العَينُ صَالحُ.
وَلَوْ أنّ لَيلى الأخيَلِيّةَ سَلّمَتْ ... عليّ، وَدُوني تُرْبَةٌ وَصَفَائحُ.
لسَلَّمْتُ تَسْلِيمَ البَشَاشَةِ أوْ زَقَا ... إليها صَدىً من جانِبِ القَبرِ صَائحُ.
فقال لها: زيدينا يا ليلى من شعره، فقالت: هو الذي يقول:
حَمَامَةَ بَطنِ الوَادِيَينِ تَرَنّمِي، ... سَقَاكِ مِنَ الغُرّ الغَوَادِي مطيرُهَا.
أبيني لنا، لا زَالَ رِيشُكِ نَاعِماً، ... وَلا زِلتِ في خَضرَاءَ غَضٍّ نضِيرُهَا.
وَأُشْرِفُ بِالقَوْزِ اليَفَاعِ لَعَلّني ... أرَى نَارَ لَيلى أوْ يَرَاني بَصِيرُهَا.
وَكُنتُ إذا مَا جِئتُ ليلى تَبَرْقَعَتْ ... فَقَدْ رَابَني مِنها الغدَاةَ سُفُورُهَا.
يَقُولُ رِجَالٌ: لا يَضِيرُكَ نَأيُهَا! ... بَلى! كلُّ ما شَفّ النّفوسَ يَضِيرُهَا.
بَلى يَضِيرُ العَينَ أن تُكثرَ البُكَى، ... وَيُمْنَعَ مِنْهَا نَوْمُهَا وَسُرُورُهَا.
وَقَدْ زَعَمَتْ لَيلى بِأنّيَ فَاجِرٌ، ... لنَفسِي تُقَاهَا، أوْ عَلَيها فُجورُهَا.
فقال لها الحجاج: يا ليلى ما الذي رابه من سفورك؟ فقالت: أبها الأمير، كان يلم بي كثيراً، فأرسل إلي يوماً أني آتيك، وفطن الحي، فأرصدوا له، فلما أتاني سفرت، فعلم أن ذلك لشرٍ، فلم يزد على التسليم والرجوع. فقال: لله درك، فهل رأيت منه شيئاً تكرهينه؟ فقالت: لا والذي أسأله أن يصلحك غير أنه قال لي مرةً قولاً ظننت أنه قد خضع لبعض الأمر، فقتل له:
وذِي حَاجَةٍ قُلْنَا لَهُ: لا تَبُحْ بهَا ... فَلَيْسَ إلَيهَا مَا حَيِيتُ سَبِيلُ.
لَنَا صَاحِبٌ لا يَنْبَغي أنْ نَخُونَهُ، ... وَأنتَ لأخرَى فَارِغٌ وَحَلِيلُ.
فلا والذي أسأله أن يصلحك ما رأيت منه شيئاً. حتى فرق الموت بيني وبينه. قال: ثم ماذا؟ قالت: لم يلبث أن خرج في غزاة له فأوصى ابن عمه: إذا أتيت الحاضرة من بني عبادة، فناد بأعلى صوتك:
عَفَا اللهُ عَنهَا! هَلْ أبِيَنّ لَيلةً ... مِنَ الدّهرِ لا يَسْرِي إليّ خَيَالُها.
فخرجت وأنا أقول:
وَعَنهُ عَفَا رِبي، وَأحسَنَ حَالَهُ، ... فَعَزّ عَلَيْنَا حَاجَةً لا يَنَالُهَا.
قال: ثم ماذا؟ قالت: لم يلبث أن مات، فأتاني نعيه. قال: فأنشدينا بعض مراثيك، فأنشدت:
لتَبْكِ عَلَيهِ مِنْ خَفَاجَةَ نُسْوَةٌ، ... بِمَاءِ شُؤونِ العَبْرَةِ المُتَحَدِّرِ.
قال: فأنشدينا:
كَأنّ فَتى الفِتيَانِ تَوْبةَ لم يُنِخْ ... قَلائصَ يَفحَصْنَ الحَصَا بالكَرَاكر.
فلما فرغت من القصيدة قال محصن الفقعسي، وكان من جلساء الحجا: من هذا الذي تقول هذه هذا فيه؟ فوالله إني لأظنها كاذبة. فنظرت إليه، ثم قالت: أيها الأمير! إن هذا القائل لو رأى توبة لسره أن لا يكون في داره عذراء إلا وهي حامل منه. فقال الحجاج: هذا وأبيك الجواب، وقد كنت عنه غنياً.
ثم قال لها: سلي ليلى تعطي. قالت: أعط فمثلك أعطى فأجزل.
قال: لك عشرون. قالت: زد فمثلك زاد فأجمل. قال: لك أربعون. قالت: زد فمثلك زاد فأفضل. قال: لك ستون. قالت: زد فمثلك زاد فأكمل. قال: لك ثمانون. قالت: زد فمثلك زاد فأتم. قال: لك مائة، واعلمي يا ليلى أنها غنم، قال: معاذ الله أيها الأمير، أنت أجود جواداً وأمجد مجداً وأورى زنداً من أن تجعلها غنماً. قال: فما هي ويحك يا ليلى؟ قالت: مائة ناقة يدعى بها. فأمر بها ثم قال: ألك حاجةٌ بعدها؟ قالت: تدفع إلي النابغة الجعدي في قرن. قال: قد فعلت.
وقد كانت تهجوه ويهجوها، فبلغ النابغة ذلك، فخرج هارباً عائذاً بعبد الملك، فاتبعه إلى الشام، فهرب إلى قتيبة، فمات بقومس، ويقال بحلوان.

علي بن صالح والقينة
ذكر أبو عمر بن حيويه في ما نقلته من خطه قال: حدثنا محمد بن خلف قال: حدثنا الحسين بن جعفر قال: حدثنا عبد الله بن أحمد العبدي قال:حدثني سليمان بن علي الهاشمي أن علي بن صالح بن داود ذكر عن جارية من القيان أنها تميل إليه محبةً وكلفاً، وكانت موصوفةً بالأدب شاعرةً، فكره مراسلتها، فحضر يوماً عند بعض أهل البصرة، وكانت عنده، فلما رأت علي بن صالح قالت: طاب عيشنا في يومنا هذا، فلم يلتفت إليها وأطرقت هي أيضاً فلم تنظر إليه، ثم دعت بداوة فكتبت على منديل، كان معها، ثم غافلت أهل المجلس، فألقت إليه المنديل، فأخذه فإذا فيه:
لَعَلّ الذي يَبْلُو بحُبّكَ يَا فَتىً، ... يَرُدّكَ لي يَوْماً إلى أحسَنِ العَهدِ.
قال: فما هو إلا أن قرأت الشعر حتى وجدت في قلبي من أمرها مثل النار، وقمت فانصرفت خوفاً من الفضيحة، ثم لم أزل أعمل الحيلة في ابتياعها من حيث لا تعلم، فعسر ذلك علي، فعرفتها الخبر، وما عزمت عليه من ابتياعها، فأعانتني على ذلك حتى ملكتها، فلم أوثر عليها أحداً من حرمي، ولا أهلي، ولا كان عندي شيء يعدلها، فتوفيت، فأنا لا عيش لي بعدها، ولا سرور. فوالله ما لبث بعد هذا الكلام إلا أياماً يسيرة حتى مات أسفاً وكمداً، فدفن إلى جنبها.

ريقته مدام
ولي من قصيدة أولها:
قِفي أُخْبِرْكِ مَا صَنَعَ الغَرَامُ، ... عَشِيّةَ قُوِّضَتْ تِلكَ الخِيَامُ.
لَقَدْ فَتَكَ الهَوَى بي يَوْمَ سَارُوا، ... وَلَوْ لم يُؤثِرُوا قَتْلي أَقَامُوا.
سَرَوْا وَالّليلُ في ثَوْبَيْ حِدَادٍ، ... وَقَدْ ألقَى مَرَاسِيَهُ الظّلامُ.
وَقَدْ هَتَكُوا الأكِلّةَ عَن بُدورٍ ... كَوَامِنَ لَيْسَ يَبرَحُهَا التَّمَامُ.
وَفي الأحدَاجِ ذُو لَعَسٍ، لمَاهُ، ... لنا كَأسٌ، وَرِيقَتُهُ مُدَامُ.
رَمى، وَقُلُوبُنا الأغَراضُ، فَانظُرْ ... بعَينِكَ هَلْ تَطِيشُ لَهُ سِهَامُ.

عشق ليس فيه فحش
أنبأنا أبو محمد الجوهري، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف المحولي، حدثنا أبو سعيد عبد الله بن شبيب قال: حدثنا العتبي قال: كان عند خالد بن عبد الله فقهاء من أهل الكوفة، فيهم أبو حمزة الثمالي، فقال خالد: حدثونا بحديث عشق ليس فيه فحش! فقال أبو حمزة الثمالي: أصلح الله الأمير! زعموا أنه ذكر عند هشام بن عبد الله غدر النساء وسرعة تزويجهن. فقال هشام: إنه ليبلغني من ذلك العجب.
فقال بعض جلسائه: أنا أحدثك عما بلغني من ذلك.
بلغني ان رجلاً من بني يشكر يقال له غسان بن مهضم من العذافر، كانت تحته ابنة عم له يقال لها أم عقبة بنت عمرو بن الأجبر، وكان لها محباً، وكانت هي له كذلك، فلما حضره الموت، وظن أنه مفارق الدنيا، قال ثلاثة أبيات. ثم قال لها: يا أم عقبة! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، قال ثلاثة أبياتٍ. ثم قال لها: يا أم عقبة! اسمعي ما أقول، وأجيبيني بحق، فقد تاقت نفسي إلى مسألتك عن نفسك، بعدما يواريني التراب.
فقالت: قل، فوالله لا أجيبك بكذبٍ ولأجعلنه آخرخطاب مني.
فقال، وهو يبكي بكاءً منعه الكلام:
أخبريني بِمَا تُرِيدِينَ بَعْدِي، ... وَالذي تُضْمِرينَ يَا أُمَّ عُقْبَهْ.
تحفَظِيني مِنْ بَعدِ مَوْتي لِما قَدْ ... كان مني من حسنِ خُلقٍ وَصُحِبهْ.
أمْ تُرِيدينَ ذَا جَمَالٍ وَمَالٍ، ... وَأنا في الترَابِ في سُحقِ غُرْبَهْ.
فأجابته ببكاء وانتحاب:
قَد سَمِعنا الّذِي تقُولُ وَمَا قد ... خِفتَهُ يا خَليلُ من أُمّ عُقبَهْ.
أنا مِنْ أحْفَظِ الأنَامِ وَأرْعَا ... هم لِما قد أوليتُ مِن حُسنِ صُحبهْ.
سَوْفَ أبكيكَ ما حَيِيتُ بِشَجوٍ ... وَمَرَاثٍ أقُولُهَا وَبِنَدْبَهْ.
قال: فلما قالت ذلك طابت نفسه، وفي النفس ما فيها، فقال:
أنَا وَالله وَاثِقٌ مِنْكِ لَكِنْ ... رُبّمَا خِفْتُ مِنكِ غَدْرَ النّساءِ.
بَعْد مَوْتِ الأزْوَاجِ يا خيرَ مَنْ عُو ... شِرَ فَارْعَيْ حَقّي بحُسنِ الوَفاءِ.
إنّي قَد رَجَوْتُ أنْ تَحفَظي العَه ... دَ، فكُوني إنْ متُّ عندَ الرّجَاءِ.
قال: ثم اعتقل لسانه، فلم ينطق حتى مات. فلم تلبث بعده حتى خطيت من كل جانب، ورغبت فيها الأزواج لاجتماع الخصال الفاضلة فيها من العقل والجمال والعفاف، فقالت مجيبة لهم:
سَأحفَظُ غَسّاناً عَلى بُعدِ دَارِهِ ... وَأرْعاهُ حتى نلتقي يوْمَ نُحشَرُ.
وَإني لفي شُغلٍ عنِ النّاسِ كلّهم ... فكفّوا! فما مثلي بمَن ماتَ يَغدُرُ.
سأبكي عَلَيهِ مَا حَيِيتُ بِعَبرَةٍ ... تَجُولُ على الخدّينِ مني وَتَحدُرُ.
فأيس الناس منها حيناً، فلما مرت بها لأيام نسيت عهده وقال: من مات فقد فات، فأجابت بعض خطابها، فتزوجها، فلما كانت الليلة التي أراد الدخول بها جاءها غسان في النوم، وقد أغفت، فقال:
غدَرْتِ، وَلم تَرْعَيْ لبَعلِكِ حُرْمَةً، ... وَلمْ تَعرِفي حَقّاً، وَلم تَحفَظي عَهدَا.
وَلمْ تَصْبِري حَوْلاً حِفَاظاً لصَاحِبٍ، ... حَلَفتِ لَهُ يَوْماً وَلمْ تُنجِزِي وَعدَا.
غَدَرْتِ بهِ لمّا ثَوَى في ضَرِيحِهِ، ... كذلكَ يُنسَى كلُّ مَن سكَنَ اللَّحدَا.
قال: فلما سمعت هذه الأبيات انتبهت مرتاعة مستحيةً منه كأنه بات معها في جانب البيت، وأنكر ذلك منها من حضرها من نسائها، فقلن: ما لك، وما حالك، وما دهاك؟ فقالت: ما ترك غسان لي في الحياة أرباً، ولا بعده في سرور رغبةً. أتاني في منامي الساعة، فأنشدني هذه الأبيات، ثم أنشدتها وهي تبكي بدمعٍ غزير وانتحاب شديد، فلما سمعن ذلك منها أخذن بها في حديث آخر لتنسى ما هي فيه، فغافلتهن وقامت، فلم يدركنها حتى ذبحت نفسها حياءً مما كادت أن تركب بعده من الغدر به والنسيان لعهده. فقالت امرأة منهن: قد بلغنا أن امرأة أتاها زوجها في المنام فلامها في مثل هذا، فقتلت نفسها. فما سمعنا به.
قال: وكانت المرأة القائلة هذا الكلام صاحبة شعر ورجز فقالت:
مَاذَا صَنَعْتِ وَمَاذَا ... لَقِيتِ مِنْ غَسّانِ.
قَتَلْتِ نَفسَكِ حُزْناً ... يَا خِيرَةَ النِّسْوَانِ.
وَفَيتِ مِنْ بَعدِ مَا قَد ... هَمَمْتِ بِالعِصْيَانِ.
إنّ الوَفَاءَ مِنَ الل ... هِ، لَمْ يَزَلْ بِمَكَانِ.
قال: فلما بلغ زوجها، وكان يقال له المقدام بن حبيش، وكان قد أعجب بها، أنها قالت: ما كان لي مستمتع بعد غسان، قال: هكذا فلتكن النساء في الوفاء، وقل من تحفظ ميتاً، إنما هي أيام قلائل حتى ينسى وعنه يسلى.
فقال هشام: صدق وبر، لجاد ما أدركه عقله وحسن عزائه حين فاتته طلبته. أحسنت المرأة ووقفت،وأحسن الرجل فصبر.

نظرة بتبسم
أنشدنا أبو محمد الحسن بن محمد بن علي الخلال، رحمه الله، قال: أنشدنا أبو بكر أحمد بن محمد الخوارزمي لبعضهم:
وَقالوا لها: هذا حَبيبُكِ مُعرِضاً، ... فقالتْ: ألا إعرَاضُهُ أيسَرُ الخَطبِ.
فَمَا هيَ إلاّ نَظْرَةٌ بِتَبَسُّمٍ، ... فتَصْطكُّ رِجلاهُ وَيَسقطُ للجنبِ.

قميص الكتمان
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي العلاف الواعظ بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان الواعظ، حدثنا جعفر بن محمد الصوفي، حدثنا أحمد بن محمد الطوسي، حدثني القاسم بن يزيد، حدثني محمد بن سلام، حدثني خلاد بن يزيد الأرقط قال: كان عويمر العقيلي مشغوفاً بابنة عم له، وكان يقال لها ريا، فزوجت برجلٍ، فحملها إلى بلاده، فاشتد وجده، واعتل علة أخذه الهلاس بها، فدعوا له طبيباً لينظر إليه، فقال له: أخبرني بالذي تجد، فرفع عقيرته فقال:
كذَبتُ على نَفسِي فحَدّثتُ أنّني ... سَلَوْتُ لكيما يَنظرُوا حينَ أصْدُقُ.
وَما عن قِلىً مني وَلا عَنْ مَلالَةٍ، ... وَلَكِنّني أُبْقي عَلَيْكِ وَأُشْفِقُ.
وَمَا الهَجْرُ إلاّ جُنّةٌ لي لَبِسْتُهَا، ... لتَدفَعَ عني ما يُخافُ وَيُفرَقُ.
عُطَفتُ على أسرَارِكُمْ، فكَسَوْتُها ... قَمِيصاً مِنَ الكِتمَانِ لا يَتَخرّقُ.
وَلي عَبْرَتَانِ ما تُفِيقَانِ: عَبرَةٌ ... تَفِيضُ، وَأُخرَى للصّبَابَةِ تخنقُ.
وَيَوْمَانِ: يَوْمٌ فيهِ جِسْمٌ مُعَذَّبٌ ... عَلِيلٌ، وَيَوْمٌ للتّفَرّقِ مُطْرِقُ.
وَأكثرُ حَظّي مِنْكِ أني إذا سَرَتْ ... ليَ الرّيحُ مِنْ تِلْقَائِكُم أتَنَشّقُ.
ثم ذهب عقله، فقال المتطبب لأهله ومن حضره: ارفقوا به، ثم انصرف. فما مكث إلا ليالي يسيرةً حتى قضى.

طرف قتول
أخبرنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري، أخبرنا ابن روح، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا الكوكبي، حدثني إسحاق بن محمد، أخبرني أبو عثمان المازني قال: قال أبو حيان الدارمي في أبي تمام الروبج من بني هاشم، وكان يهواه:
سَبَاكَ مِنْ هَاشِمٍ سَلِيلُ ... لَيْسَ إلى عَطفِهِ سَبِيلُ.
ما اختال في صَحن قصرِ أوْسٍ ... إلاّ تَسَجّى لَهُ قَتِيلُ.
وَلا حَظَتْهُ العُيُونُ حَتى ... رَنَتْ لَهُ الكَاعِبُ البَتُولُ.
فإن يَقِفْ، فَالعُيونُ نُصْبٌ، ... وَإنْ تَصَدّى، فهنّ حُولُ.
يَمْسَحُهُ عَنْ أدِيمِ خَدٍ ... مُوَرَّدٍ، صَحنُهُ أسِيلُ.
للحَتفِ في عَيْنِهِ قِسِيٌّ ... أيْدِي المَنَايَا بهَا تَصُولُ.
ينزِعُ فيهَا بِغَير نَبْلٍ، ... طَرْفٌ لعُشّاقِهِ قَتُولُ.
قال أبو عثمان: فحدثني من أتى بخبره أن المأمون أنشد هذا الشعر، فقال: ما سمعت أرق من هذا المعنى:
فإنْ يَقِفْ، فالعُيُونُ نُصْبٌ، ... وَإنْ تَصَدّى، فهُنّ حُولُ.

شعر ليحيى بن طالب
أخبرنا محمد بن أبي نصر الحفظ، حدثني الفقه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي حدثنا القاضي أبو محمد عبد الله بن الربيع، حدثنا أبو علي القالي قال: قال أبو بكر الأنباري: غني هارون الرشيد بشعر يحيى بن طالب:
أيا أثلاثِ القَاعِ من بَطْنِ تُوضَحٍ، ... حَنِيني إلى أطْلالِكُنّ طَوِيلُ.
وَيَا أثلاثِ القَاعِ قَدْ مَلّ صُحْبَتِي ... مَسِيرِي، فَهَلْ في ظِلّكُنّ مَقِيلُ.
وَيَا أثلاثِ القَاعِ قَلْبي مُوَكَّلٌ ... بكنّ، وَجَدْوَى خَيْرِكُنّ قَلِيلُ.
ألا هَلْ إلى شَمّ الخُزَامَى وَنَظْرَةٍ ... إلى قَرْقَرَى قَبْلَ المَمَاتِ سَبِيلُ.
فأشرَبَ مِنْ مَاءِ الحُجَيلاءِ شَرْبَةً ... يُدَاوَى بهَا قَبْلَ المَمَاتِ عَلِيلُ.
أحدِّثُ عنكِ النفسَ أن لَستُ رَاجِعاً ... إليكِ، فَحُزْني في الفُؤادِ دَخِيلُ.
أُرِيدُ هُبُوطاً نَحْوَكُمْ فَيَرُدّني، ... إذا رُمْتُهُ، دَيْنٌ عَليّ ثَقِيلُ.
فقال هارون الرشيد: يقضى دينه، فطلب فإذا هو قد مات قبل ذلك بشهرٍ.

غصة الحديث
وبإسناده حدثنا القالي، أخبرنا أبو بكر بن دريد أنشدنا عبد الرحمن عن عمه لرجل من بني كلاب:
وَلمّا قَضَيْنَا غُصّةً مِنْ حَدِيثِنَا، ... وَقد فَاضَ من بعد الحديثِ المَدامعُ.
جَرَى بَينَنا منّا رَسِيسٌ يَزِيدُنَا ... سَقَاماً، إذا مَا استَوْعَبَتهُ المَسامعُ.
كأنْ لم تُجاوِرْنا أُمَامُ، وَلمْ يُقَمْ، ... بِعيصِ الحِمَى إذْ أنتَ بالعَيش قانعُ.
فَهَلْ مِثْلُ أيّامٍ تَقَضّينَ بِالحِمَى ... عَوَائِدُ، أوْ غَيْثُ السّتَارَينِ وَاقعُ.
وَإنّ نَسِيمَ الرّيحِ من مَدْرَجِ الصَّبَا، ... لأوْرَابِ قَلْبٍ شَفّهُ الحُبُّ نافعُ.
قال أبو علي القالي: الرس الشيء من الحبر والرسيس مثله.
أفق من الحب
وبإسناده قال: وأنبأنا القالي، أخبرنا ابن دريد حدثنا أبو حاتم للعوام بن عقبة بن كعب:
أإنْ سَجَعتْ في بَطنِ وَادٍ حَمَامَةٌ ... تُجاوِبُ أُخرَى مَاءُ عَيْنَيكَ دافقُ.
كأنّكَ لمْ تَسْمَعْ بُكَاءَ حَمَامَةٍ ... بليلٍ، وَلمْ يُحزِنكَ إلفٌ مُفَارِقُ.
وَلمْ تَرَ مَفْجُوعاً بِشَيءٍ يُحِبّه ... سِوَاكَ، وَلمْ يَعشَقْ كَعِشقِك عاشقُ.
بَلى فأفِقْ عَنْ ذِكْرِ لَيْلى، فإنّمَا ... أخو الصّبرِ مَنْ كفّ الهَوَى وَهوَ تائقُ.

نصيب وأم بكر
أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر بن أحمد البرمكي، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا الحرمي بن أبي العلاء قال: حدثنا الزبير بن بكار، وحدثني إبراهيم بن عبد الله السعدي عن جدته جمال بنت عون بن مسلم عن جدها السعدي قال: رأيت رجلاً أسود معه امرأة بيضاء، فوقفت أتعجب من شدة سواده مع شدة بياضها، فقلت له: من أنت؟ فقال: أن الذي أقول:
ألا لَيْتَ شِعرِي ما الذي تُحدِثنّ لي ... غداً غُرْبَةُ النأيِ المُفَرِّقِ وَالبُعدِ.
لَدَى أُمّ بَكْرٍ حِينَ تَنتَشِبُ النّوَى ... بنا، ثمّ يَخلُو الكاشِحُونَ بها بَعدي.
أتَصْرِمُني عِنْدَ الأُلى فِيهِمِ العِدى، ... فَتشمتَهمْ بي أمْ تُقِيمُ عَلى العَهدِ.

ابن أبي عتيق ونصيب وسعدى
أنبأنا أبو إسحاق إبراهيم بن عمر الحنبلي، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا الجرمي بن أبي العلاء، واسمه أحمد، حدثنا الزبير بن بكار، وحدثني أبو عثمان أحمد بن محمد الأسدي عن محمد بن عبد الله عن مؤرخ قال: أراد ابن أبي عتيقٍ الحج، فلقي نصيباً، فقال: هل توصي إلى سعدى بشيء؟ قال: نعم ببيتين. قال: ما هما؟ قال:
أتَصْبِرُ عَنْ سُعدَى، وَأنتَ صَبُورُ، ... وَأنتَ بحُسنِ الصّبرِ مِنكَ جَدِيرُ.
وَكِدتُ وَلم أُخلَقْ من الطيرِ إنْ بَدا ... سَنَا بَارِقٍ نَحْوَ الحِجَازِ أطِيرُ.
قال: فخرج ابن أبي عتيق، فوجد سعدى في مجلس لها، فقال لها: يا سعدى! معي إليك رسالة. قالت: وما هي؟ هاتها يا ابن الصديق، فأنشدها البيتين، فتنفست تنفساً شديداً، فقال ابن أبي عتيق: أوه أجبته، والله، بأحسن من بيتيه، وعتق ما ملك أن لو سمعها لنعق وطار.

عاشق يقتله الصد
حدثني محمد بع عبد الله الأندلسي، وكتبه لي بخطه، حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد الحافظ الأندلسي، حدثني أبو عبد الله محمد بن الحسن المذحجي الطبيب الأديب قال: كنت أختلف في النحو إلى محمد بن خطاب النحوي في جماعة، وكان معنا عنده أبو الحسن أسلم بن أحمد بن سعيد ابن قاضي قضاة الأندلس أسلم ابن عبد العزيز صاحب المزني والربيع، قال محمد بن الحسن: وكان أجمل من رأته العيون، وكان معنا عند محمد بن خطاب أحمد بن كليب، وكان من أهل الأدب والشعر، فاشتد كلفه بأسلم، وفارق صبره وصرف فيه القول متستراً بذلك، إلى أن فشت أشعاره فيه، وجرت على الألسنة وتنوشدت في المحافل.
فلعهدي بعرس في بعض الشوارع بقرطبة، والكوري الزامر قاعد في وسط المحفل، وفي رأسه قلنسوة وشرٍ، وعليه ثوب خز عبيدي، وفرسه بالحلية المحلاة يمسكه غلامه، وكان يزمر لأمير المؤمنين الناصر، وهو يزمر في البوق بقول أحمد بن كليب في أسلم، وهو:
أسْلَمَني في الهَوَى ... أسْلَمُ هَذَا الرَّشَا.
غَزَالٌ لَهُ مُقْلَةٌ ... يُصيبُ بهَا مَنْ يَشَا.
وَشَى بَيْنَنَا حَاسِدٌ، ... سَيُسْألُ عَمّا وَشَى.
وَلَوْ شَاءَ أن يَرْتَشِي ... على الوصْل رُوحي ارتشى.
ومغن محسن يسايره فيها، فلما بلغ هذا المبلغ انقطع أسلم عن جميع مجالس الطلب، ولزم بيته، والجلوس على بابه.
وكان أحمد بن كليب لا شغل له إلا المرور على باب أسلم سائراً ومقبلاً نهاره كله، فامتنع أسلم عن الجلوس على باب داره نهاراً، فإذا صلى المغرب، واختلط الظلام خرج مستروحاً، وجلس على باب داره، فعيل صبر أحمد بن كليب فتحيل في بعض الليالي ولبس جبة صوف من جباب أهل البادية، واعتم بمثل عمائمهم، وأخذ بإحدى يديه دجاجاً، وبالأخرى قفصاً فيه بيض، وتحين جلوس أسلم عند اختلاط الظلام على بابه، فتقدم إليه، وقبل يديه وقال: يا مولا! تأمر من يقبض هذا؟ فقال له أسلم: ومن أمن؟ فقال: أجيرك في الضيعة الفلانية، وقد كان يعرف أسماء ضياعه والعاملين فيها، فأمر أسلك غلمانه ذلك منه على عادتهم في قبول هدايا العاملين في الضياع عند ورودهم ثم جعل يسأله عن الضيعة، فلما جاوبه أنكر الكلام، فتأمله فعرفه، فقال له: يا أخي! وإلى هنا بلغت بنفسك، وإلى ها هنا تتبعني؟ أما كفاك انقطاعي عن مجالس الطلب، وعن الخروج جملةً وعن القعود على بابي نهاراً، حتى قطعت عني جميع ما لي فيه راحة، فقد صرت من سجنك في حيرة، والله، لا فارقت هذه الليلة قعر منزلي، ولا جلست بعدها على بابي لا ليلاً ولا نهاراً. ثم قال، فانصرف أحمد بن كليب حزيناً كئيباً.
قال محمد بن الحسن: واتصل ذلك بنان فقلنا لأحمد بن كليب: قد خسرت دجاجك وبيضك، فقال: هات كل ليلة قبلة يده، وأخسر أضعاف ذلك.
قال: فلما يئس من رؤيته البتة نهكته العلة، وأضجعه المرض.
قال محمد بن الحسن: فأخبرني شيخنا أبو عبد الله محمد بن خطاب قال: فعدته فوجدته بأسوأ حال، فقلت له: ولم لا تتداوى؟ فقال: دوائي معروف، وأما الأطباء فلا حيلة لهم في البتة. فقلت له: وما دواؤك؟ قال نظرة من أسلم، ولو سعيت في أن يزورني لأعظم الله أجرك بذلك، وكان هو والله أيضاً يؤجر.
قال: فرحمته وتقطعت نفسي له، فنهضت إلى أسلم، فاستأذنت عليه، فأذن لي وتلقاني بما أحب، فقلت له: لي حاجة. قال: وما هلي؟ قلت: قد علمت ما جمعك مع أحمد بن كليب من ذمام الطلب عندي، فقال: نعم! ولكن تعلم أنه برح بي وشهر اسمي وآذاني. فقلت: كل ذلك يغتفر في مثل الحال التي هو فيها، فتفضل بعيادته. فقال لي: والله ما أقدر على ذلك فلا تكلفني هذا. فقلت له: لا بد، فليس عليك في ذلك شيء، وإنما هي عيادة مريض.
قال: ولم أزل به حتى أجاب، فقلت: فقم الآن! فقال لي: لست والله أفعل، ولكن غداً، فقلت له: ولا خلف؟ قال: نعم.
قال: فانصرف إلى أحمد بن كليب وأخبرته بوعده بعد تأبيه، بذلك وارتاحت نفسه.
قال: فلما كان من الغد بكرت إلى أسلم وقلت له: الوعد. فوجم، وقال: والله لقد تحملني على خطةٍ صعبةٍ علي، وما أدري كيف أطيق ذلك. قال: فقلت له: لا بد أن تفي بوعدك لي.
قال: فأخذ رداءه ونهض معي راجلاً، فلما أتينا منزل أحمد بن كليب، وكان يسكن في آخر درب طويل، وتوسط الزقاق وقف واحمر وخجل، وقال لي: يا سيدي، الساعة والله أموت وما أقدر أن أنقل قدمي، ولا أستطيع أن أعرض هذا على نفسي. فقلت له: لا تفعل بعد أن بلغت المنزل وتنصرف؟ فقال: لا سبيل، والله، إلى ذلك البتة.
ورجع هارباً، فاتبعه فأخذت بردائه، فتمادى وخرق الرداء، وبقيت قطعة منه في يدي لشدة إمساكي له، ومضى ولم أدركه، فرجعت ودخلت على أحمد بن كليب.
وقد كان غلامه دخل عليه، إذ رآنا من أول الزقاق، مبشراً، فلما رآني دونه تغير وجهه وقال: وأين أبو الحسن؟ فأخبرته بالقصة، فاستحال من وقته، واختلط، وجعل يقول ويتكلم بكلامٍ لا يعقل منه أكثر من الترجع، فاستبشعت الحال، وجعلت أترجع وقمت، فثاب إليه وجهه، وقال: أبا عبد الله! قلت: نعم! قال: اسمع مني، واحفظ عني. ثم أنشأ يقول:
أسْلمُ يَا رَاحَةَ العَلِيلِ، ... رِفقاً على الهَائمِ النّحِيلِ.
قال: فقلت: اتق الله، ما هذه الكبيرة؟ فقال لي: قد كان. فخرجت عنه، فوالله ما توسطت الزقاق حتى سمعت الصراخ عليه وقد فارق الدنيا.
قال لنا أبو محمد علي بن أحمد: وهذه قصة مشهورة عندنا. ومحمد بن الحسن ثقة، ومحمد بن خطاب ثقة، وأسلم هذا من بني خلف وكانت فيهم وزارة وحجابة، وهو حاجب الديوان المشهور في غناء زرياب، وكان شاعراً، وابنه الآن في الحياة يكنى أبا الجعد.
قال أبو محمد: ولقد ذكرت هذه الحكاية لأبي عبد الله محمد بن سعيد الخولاني الكاتب، فعرفها، وقال: لقد أخبرني الثقة أنه رأى أسلم هذا في يوم شديد الكطر لا يكاد أحد يمشي في طريق، وهو قاعد على قبر أحمد بن كليب المذكرو زائراً له قد تحين غفلة الناس في مثل ذلك النهار.

شعر ملحون
قال شيخنا: قال لنا أبو محمد، وحدثني أبو محمد قاسم بن محمد القرشي قال: كتب ابن كليب إلى محمد بن خطاب شعراً يتغزل فيه بأسلم، فعرفه ابن خطاب على أسلم فقال: هذا ملحون، وكان ابن كليب قد أسقط التنوين من لفظه في بيت من الشعر، فكتب ابن خطاب إلى ابن كليب بذلك، فكتب إليه ابن كليب مسرعاً:
ألحِقْ ليَ التّنوِينَ في مَطمعٍَ، ... فإنّني أُنْسِيتُ إلْحَاقَه.
لا سِيّما إذ كان في وَصْلِ مَنْ ... كَدَّرَ لي في الحُبّ أخْلاقَه.

قبر عاشق
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري قال: أنشدنا أبو عمر محمد بن العباس عمن أنشده في أثر حكاية ذهبت علي وحفظت الشعر:
مرَرْتُ بقبرٍ مُشرِقٍ وَسْطَ رَوْضَةٍ ... عَلَيهِ منَ النُّوَارِ ثَوْبُ شَقَائِقِ.
فَقُلتُ: لَمنْ هذا؟ فجَاوَبَني الثّرَى: ... تَرَحّمْ عَلَيْهِ إنّهُ قَبْرُ عَاشِقِ.

وفاة عزيز لا حياة ذليل
أخبرني أبو الخطاب أحمد بن المغيرة الأندلسي بدمشق لأبي العلاء أحمد بن سليمان وذكر لي أنه قرأ عليه ديوان الصبابة وقرأته جميعه بدمشق.
ولي من أثناء قصيدة له أولها:
أسالتْ أتيَّ الدّمعِ فَوْقَ أسِيلِ، ... وَمالَتْ لظِلٍّ بِالعِرَاقِ ظَلِيلِ.
ومنها:
أسَرْتِ أخَانَا بِالخِدَاعِ، وَإنّهُ ... يُعَدّ، إذا اشتَدّ الوَغَى، بقَبيلِ.
فإنْ تُطلِقيهِ تَرْتجي شُكرَ قَوْمِه، ... وَإنْ تَقْتُلِيهِ تُؤخَذي بقَتِيلِ.
وَإنْ عاشَ لاقَى ذِلّةً، وَاخِتيَارُهُ ... وَفَاةُ عَزِيزٍ، لا حَيَاةُ ذَليل.ِ

أجمل الناس وأقبحهم
أخبرنا القاضي أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين الوكيل، حدثنا أبو الحسين محمد بن عبد الله القطيعي، حدثنا الحسين بن صفوان، حدثنا عبد الله بن محمد، حدثنا الحسين بن عبد الرحمن قال: خرج رجل من بين أسد في نشدان إبل له أضلاه، حتى إذا كان ببعض بلاد قضاعة، أمسى في عشية باردة، وقد رفعت له بيوت، فتفرس أيها أرجى أن يكون أمثل قرىً، قال: فرأيت مظلة روحاء فأممتها، فإذا بامرأة من أكمل النساء حسناً، وآصلهن عقلاً، فسلمت فردت ورحبت ثم قالت: ادخل من القر، وادن من الصلاة! فدخلت فلم ألبث أن أتيت بعشاء كثير، فأكلت وهي تحدثني، حتى إذا راحت الإبل إذا هنيء قد أقبل إليها كأنه بعرة دمامةً وضؤولة شخص، وذد كان في حجرها ابن لها كأطيب الولدان وأحسنهم، فلما رأى ذلك الإنسان مقبلاً هش إليه، وعدا في لقائه، فأخذ الصبي، فاحتمله ثم أقبل به يلثم فاه مرةً وعينه أخرى، ويفديه. فقلت في نفسي: أظنه عبداً لهم، حتى جاء فجلس إلى جانبها، وقال: من ضيفكم هذا؟ فأخبرته، فعرفت أنه زوجها وأن الصبي ولده منها، فطفقت أنظر إليه تارةً وإليها أخرى وأتعجب لاختلافهما، كأنها الشمس حسناً، وكأنه قرد قبحاً، ففطن لنظري إليها وإليه، فقال: يا أخا بين أسد! ترى عجباً؟ قلت: أجل، وأبيك، إني لأرى عجباً معجباً.
قال: صدقت! تقول: أحسن الناس وآدم الناس. قلت: نعم، فليت شعري كيف أودم بينكما! قال: أخبرك كيف كان ذلك.
كنت سابع سبعة بينكما! قال: أخبرك كيف كان ذلك.
كنت سابع سبعة أخوة كلهم لو رأيتني معهم ظننتني عبداً لهم، وكان أبي وأخوتي يطرحونني، وكنت لكل عمل دنيء: للرواية مرة، ولرعاية الغنم أخرى، وكانت أخوتي هم أصحاب الإبل والخيل. فبينا أنا أرعى الإبل في عام جدب أشهب إذ ضل بعير منها، فقالوا لأبي: ابعث فلاناً يبغيه! فدعاني فقال: اذهب فاطلب هذا البعير! فقلت: ما تنصفني أنت ولا بنوك. أما إذا الإبل درت ألبانها وطاب ركوبها، فهم أصحابها، وأما إذا ندت ضلالها، فأنا باغيها. فقال: يا لكع اذهب! أما والله إني لأظنه آخر أيامك من ضرب وجيع.
قال: وظننت أني مضروب، فعدت مضطهداً مجقوراً خلق الثياب جائعاً مقروراً، فطفت ليلة في بسابس ليس بها غريب، فبت، ثم أصبحت فغدوت حافياً، حتى دفعت مساء الليلة إلى مظلة، فإذا عجوز وسيمة خليقة للخير والسؤدد، في عشية بادرة ذات صر، ومعها هذه عدسة نفسها، وهي ابنتها، فأدخلتني العجوز، وأتتني بتمر وعلقتني هذه سخرياً، وهزؤوا بي، وقالت: ما رأينا كالعشية قد فتىً أجمل منك، ولا أجكم خلقاً. فقلت: يا هذه جنبيني نفسك، فإني عن الباطل وأهله في شغل.
قالت: ويحك! هل لك أن تدخل هذا الستر علي، إذا نام الحي، فنتحدث وتمثلنا من أماثيلك هذه؟ فإنا نراها ملاحاً. فغرني إبليس، لما شبعت من القرى، ودفئت من الصلى، وجاء أبوها وأخوتها مثل السباع، واضطجعوا أمام الخيمة، وأنا فيها، فلم يزل بي القدر المحتوم حتى نهضت لألج عليها الستر، فإذا هي نائمة، فهمزتها برجلي، فانتهت وقالت: من هذا؟ قلت: الضيف. قالت: إياك، فلا حيام الله.
قال الأسدي: وهي والله تصدف حياءً من حديث زوجها صدوف المهرة العربية سمعت صلاصل لجامها. ثم قالت: لا حسن خبرك، اخرج لعنك الله!.
قال: فسقط في يدي، وعرفت أني لست في شيء، فخرجت لأهرب فزعاً مذعوراً فهاجني كليب لهم، مثل الفارس لا يطاف مرتبضه، وأرادأكلي، فأرهبته عني، ثم قالت: اذهب لا صحبك الله. فلما رجعت عاد الكلب إلي فرهقني، فجعلت أمشي القهقرى، وأرهبه لعصية معي، وهو يركبني بأجرامه، حتى شد علي شدة، فتعلقت أظفاره وأنيابه في مقدم مدرعة صوف علي، وأهويت من قبل عقبي في بئر، وهوى معي، فإذا وهو في قرارها، وقد الله تعالى، وقدر الله تعالى أنه لم يكن فيها ماء، فسمعت المرأة الوجبة، فأقبلت ومعها حبل حتى أشرفت علي، ثم أدلت الحبل فقالت: ارتق، لعنك الله! فلولا أن يقص أثري معك، غدوةً، لوددت أنها قبرك.
قال: فتعلقت بالحبل وارتقيت حتى إذا كدت أن أتناول يدها تهور بها ما تحت قدميها من البئر، وبئر، إنما هي بئر حفر لا طي لها، فإذا أنا وهي والكلب في قرارها، ينبح في ناحية، وهي تبكي في ناحية، وتدعو بالبثور والفضيحة، وأنا منقبض في ناحية فقر برد جلدي على القتل، حتى إذا أصبحت أمها تفقدتها عند الصلاة فأتت أباها، فقالت: أتعلم أن ابنتك ليست ههنا؟ فقام، وكان قائفاً عالماً بالآثار، فتحدى أثري وأثرها، حتى تطلع في البئر، فإذا نحن فيها، فرجع سريعاً، فقال لبنيه: أختكم وكلبكم وضيفكم في البئر.
قال: فتواثبوا فمن آخذ حجراً، ومن آخذ سيفاً، ومن آخذ عصا، وهم يريدون أن يجعلوا البئر قبري وقبرها. فقال أبوها: مه! فإن ابنتي ليست بحيث تظنون. قال: فنزل أحدهم، فأخرجها وأخرج الكلب ثم أخرجوني، فقال أبوهم: إنكم إن قتلتم هذا الرجل طلبتم، وإن خليتموه افتضحتم، وقد رأيت أن أزوجه إياها، فلعمري! إنه ما يطعن في نسبه، وإنه لكفؤ، ثم علي، فقال: هل فيك خير؟ فلما وجدت ريح الحياة، كأنما كان على قلبي غطاء فانكشف، قلت: وأين الخير إلا عندي؟ حكمك! قال: خمسين بكرةً وعبداً وأمةً قلت: لك ما سألت، وإن شئت فازدد. قال: قد ملكتها، فانصرفت حتى آتي أبي، فلما رآني قال: لا مرحباً، ولا أهلاً، فأين البعير؟ قلت: أربع عليك أيها الرجل تسمع الخبر، فإنما أنت محدث: كان من الأمر كيت وكيت، قال: ورويت بك زناد أبيك، إذاً والله لا تسلم ولا تخذل، علي بالإبل.
فلما جاءت قال: اعتد حاجتك، فاعتددت منهن خمسين بكرةً كأنهن العذارى، ودفع إلي عبداً وأمة مولدين، ثم ساق معي الإبل حتى أتيناهم، فدفعنا إليهم حقهم، واحتملنا صاحبتنا، وها هي هذه، جهدها أن تقول كذبت، فاعجب لذلك فعل ذهرٍ، أي أكثر العجب.

لا يقبل الرشة
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في ما أذن لنا في روايته: حدثنا أبو عبد الرحمن السلمي، سمعت منصور بن عبد الله يقول: دخل قوم على الشبلي في مرضه الذي مات فيه فقالوا: كيف تجدك يا أبا بكر؟ فأنشأ يقول:
إنّ سُلْطَانَ حُبّهِ ... قال: لا أقبَلُ الرُّشَا.
فَسَلُوهُ، فَدَيتُهُ ... لِمْ بِقَتْلي تَحَرّشَا.

كيف يقتل الفاسق
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي بن السواق، رحمه الله، حدثنا محمد بن أحمد بن فارس، حدثنا أبو الحسين عبد الله بن إبراهيم، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا عبد الله بن عمر، حدثنا أبو عباد شيخ قديم قال: أدركت الخادم الذي كان يقوم على راس الحجاج، فقلت له: أخبرني بأعجب شيء رأيت من الحجاج؟ قال: كان أميراً على واسط، وكانت بواسط امرأة يقال: إنه لم يك بها في ذلك الوقت امرأة أجمل منها، فأرسل ابن أخيه إليها يريدها على نفسها مع خادم له، فأبت، وقالت: إن أردتني فاخطبني إلى أخوتي، وكان لها أخوة أربعة، فأبى وقال: لا! إلا كذا، وعاودها، فأبت إلا أن يخطبها إلى أخوتها، فأما حرام فلا، فأبى هو إلا الحرام، فأرسل إليها بهدية، فأخذتها فعزلتها، ثم أرسل إليها عشية جمعة أني آتيك الليلة، فقالت لأمها: إن الأمير قد بعث إلي بكذا وكذا، فأنكرت أمها ذلك، وقالت لأخوتها: إن أختكم قد زعمت كذا وكذا، فأنكروا ذلك وكذبوها، فقالت: إنه قد وعدني أن يأتيني الليلة، فسترونه.
فقعد أخوتها فيبيت حيال البيت الذي هو فيه، وفيه سراح، وهم يرون من يدخل إليها، وجويرية لها على باب الدار، قاعدة. حتى جاء الأمير فنزل عن دابته،وقال لغلامه: إذا أذن المؤذن في الغلس، فأتني بدابتي، ودخل، فمشت الجارية بين يديه، فقالت له: ادخل، فدخل وسيدتها على سرير مستلقية، فاستلقى إلى جانبها ثم وضع يده عليها، وقال: إلى كم هذا المطل؟ فقالت له: كف يدك يا فاسق، فدخل أخوتها عليها، ومعهم سيوف، فقطعوه، ثم لفوه في نطع، وجاؤوا به إلى سكة من سكك واسط، فألقوه فيها.
وجاء الغلام بالدابة فجعل يدق الباب دقاً رفيقاً وليس يكلمه أحد، فلما خشي الصبح، وأن تعرف الدابة، انصرف وأصبحوا، فإذا هم به، فأتوا له الحجاج، فأخذ أهل تلك السكة، فقال: أخبروني ما هذا. وما قصته؟ قالوا: لا نعلم ما حاله وما قصته. غير أنا وجدناه ملقىً. ففطن الحجاج، فقال: علي بمن كان يخدمه. فأتي بذلك الخصي الذي كان الرسول. فقالوا: هذا كان صاحب سره. فقال له الحجاج: اصدقني! ما كان حاله وما فصته؟ فأبى، فقال له: إن صدقتني لم أضرب عنقك، وإن لم تصدقني فعلت بك، وفعلت. فأخبره الأمر على جهته، فأمر بالمرأة وأمها وأخوتها فجيء بهم، فعزلت المرأة عنهم، فسألها فأخبرته بمثل ما اخبر به الخصي، ثم سأل الأخوة على انفراد، فأخبروه بمثل ذلك، وقالوا: حن صنعنا به الذي ترى. فصرفهم وأمر برفيقه ودوابه وماله وكل قليل وكثير له أن يعطى للمرأة.
فقالت المرأة: عندي هديته التي وجه بها إلي. فقال: بارك الله لك فيها، وأكثر النساء مثلك، هي لك، وكل ما ترك من شيء فهو لك، فأعطاهما جميع ما ترك وخلى عنها وعن أخوتها، وقال: إن مثل هذا لا يدفن فألقوه للكلاب. ودعل بالخصي فقال: أما أنت فقد قلت لك إني لا أضرب عنقك، وأمر بضرب وسطه.

ميتا الحب
أخبرنا الأمير أبو محمد الحسن بن عيسى بن المقتدر بالله قراءة عليه في داره بالحريم الطاهري سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، حدثنا أبو العباس أحمد بن منصور اليشكري، حدثنا أبو القاسم بإسناد له عن ابن الأشدق قال: كنت أطوف بالبيت، فرأيت شاباً تحت الميزاب قد أدخل رأسه في كسائه، وهو يئن كالمحموم، فسلمت، فرد السلام، ثم قال: من أين؟ قلت: من البصرة. قال: ؟ أترجع إليها؟ قلت: نعم! قال: فإذا دخلت النباج، فاخرج إلي الحي، ثم ناد: يا هلال يا هلال، تخرج إليك جارية فتنشدها هذا البيت:
لقد كنتُ أهوَى أنْ تَكُونَ مَنيّتي ... بعَينَيكِ حتى تَنُظرِي مَيّتَ الحُبّ.
ومات مكانه، فلما دخلت النباج أتيت الحي، فناديت: يا هلال يا هلال، فخرجت إلي جارية لم أر أحسن منها، وقالت: ما وراءك؟ قلت: شاب بمكة أنشدني هذا البيت. قالت: وما صنع؟ قلت: مات، فخرت مكانها ميتة.

إساءة الدنيا وإحسانها
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن النوخي بقراءتي عليه، أخبرنا أبو الحسن علي بن عيسى الرماني النحوي، حدثنا أبو بكر بن دريد: أنشدنا عبد الرحمن عن عمه:
رُوَيدَكَ يا قُمرِيُّ! لستَ بمُضْمرٍ ... من الشَوْقِ إلا دونَ ما أنا مُضْمِرُ.
ليكفِك أن القلبَ مُذْ أن تَنَكّرَتْ ... أُسَيماءُ عن مَعُروفهِ مُتَنَكِّرُ.
سَقَى اللهُ أيّاماً خَلَتْ وَلَيَالِياً، ... فَلَمْ يَبقَ إلاّ عَهدُهَا المُتذكَّرُ.
لَئِن كانتِ الدّنيا أجدّتْ إساءَةً، ... لمَا أحسَنَتْ في سالِفِ الدّهرِ أكثرُ.

عيون وخدود
أخبرنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن أيضاً، أخبرنا علي بن عيسى الرماني قال: أخبرنا ابن دريد أنشدنا عبد الرحمن عن عمه لأبي المطرب العنبري:
أيا بارِقَي مَغنى بُثَينَةَ أسعِدَا ... فتىً مُقصَداً بالشَّوْقِ فهوَ عَميدُ.
لَيَاليَ مِنّا زَائِرٌ مُتَهَالِكٌ، ... وَآخَرُ مَشهُورٌ كَوَاهُ صُدُودُ.
عَلى أنّهُ مُهدِي السّلامِ وَزَائِرٌ ... إذا لمْ يَكُنْ ممّنْ يخافُ شُهودُ.
وَقد كانَ في مَغنى بُثَينةَ لوْ رَنَتْ ... عُيونُ مَها تَبدو لَنا وَخُدُودُ.

جسم ناحل وعظام
أخبرنا أبو الحسين احمد بن التوزي، أخبرنا إسماعيل بن سعيد بن سويد، حدثنا أبو بكر بن الأنباري، أخبرن ابي: أنشدنا احمد بن عبيد:
ألا مُسْعِفٌ من بُعدِ ناء وَشُقّةٍ ... بِرَامٍ، وَأعلامٍ بسفَحِ بَرَامِ.
أقَامَ بهِ قلبي وَرَاحَتْ مطيتي ... بأشلاءِ جِسْمٍ نَاحِلٍ وَعِظَامِ.
قال أبو بكر: الأشلاء جمع شلو، وهو العضو.

موت جميل بثينة
أخبرنا أبو طاهر أحمد بن علي السواق، أخبرنا محمد بن أحمد بن فارس قال، حدثنا أبو الحسين عبيد الله بن إبراهيم، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني أبو الحسن بن محمد بن أبي سيف، أخبرني أبو عبد الرحمن العجلاني عن سهل بن سعد الساعدي قال: بينا أنا بالشام إذ لقيني رجل من أصحابي فقال: هل لك في جميل تعوده، فإنه ثقيل بالمرض؟ قلت: نعم! فدخلنا عليه، وهو يجود بنفسه، وما يخيل إلي أن الموت علق به، فنظر إلي وقال: يا ابن سعد! ما تقول في رجل لم يزن قط، ولم يشرب خمراًقط، ولم يسفك دماً حراماً قط، يشهد أن لا إلا الله وأن محمداً عبده ورسوله، منذ خمسين سنة.
قال: قلت: من هذا الرجل؟ فإني أظنه، والله، قد نجا، لن الله تعالى يقول: إن تجتنبوا كبائر ما تنهون عنه نكفر عنكم سيئاتكم وندخلكم مدخلاً كريماً.
قال: أنا. قال: فقلت: والله ما رأيت كاليوم أعجب من هذا، وأنت تشبب ببثينة منذ عشرين سنة.
قال: أنا في آخر يوم من أيام الدنيا وأول يوم من الآخرة، فلا نالتني شفاعة محمد إن كنت وضعت يدي عليها لريبة قط، وإن كان أكثر ما كان مني إليها أني كنت آخذ يدها أضعها على قلبي، فأستريح إليها.
قال: ثم أغمي عليه، ثم أفاق، فقال:
صَدَعَ النعيُّ وَما كَنى بجَمِيلِ، ... وَثَوَى بمِصرَ ثَوَاءَ غَيرِ قَفُولِ.
وَلقد أجرُّ الذّيلَ في وَادِي القُرَى، ... نَشوَانَ بَينَ مَزَارِعٍ وَنَخِيلِ.
قُومي بُثَيْنَةُ، فَاندُبي بعَوِيلِ، ... وَابكي خَليلَكِ دونَ كلّ خليلِ.
ثم أغمي عليه فمات.

غشية تجيء وأخرى تذهب
أخبرنا أبو طاهر محمد بن علي بن يوسف العلاف بقراءتي عليه، أخبرنا أبو حفص عمر بن أحمد بن عثمان بن شاهين، حدثنا جعفر بن محمد، حدثنا أحمد بن محمد بن مسروق الطوسي، حدثنا علي القمي، حدثني أبو المصعب المديني قال: دخلت على الربيع بن عبيد، وكان قد أخذته زمعة الحب، وتيم عقله، فكان يصيبه كالغفلة حتى يذهب عقله، فسمعته وهو يخاطب نفسه، ويقول:
الحبُّ لَوْ قَطّعَني ... ما قُلْتُ للحُبّ ظَلَمْ.
قَدْ كُنْتُ خِلْواً، زَمَناً، ... فاليَوْمَ يَبدُو مَا كُتِمْ.
قال: قلت كيف أنت برحمك الله؟ فقال: من أنت؟ فقلت: أنا أخوك أبو المصعب. قال: غشية تجيء، وأخرى تذهب، وأنا أتوقع الموت ما بين ذلك. قلت: الله بينك وبين من ظلمك. قال: مه، والله ما أحب أن يناله مكروه في الدنيا ولا في الآخرة! ثم تنفس حتى رحمته، وهمت دموعه، وذهب عقله، فقمت عنه.

الهم الملازم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري في ما أذن لنا أن نرويه عنه، أخبرنا أبو القاسم طلحة بن محمد الشاهد، أخبرنا أبو عبد الله الحرمي بن أبي العلاء وهو أحمد بن محمد بن إسحاق بن إبراهيم بن أبي الخمصة الغطفاني المكي، حدثنا الزبير بن بكار، حدثني محمد بن حسن: أنشدني محرز بن جعفر لعبيد بن عبد الله بن عتبة بن مسعود الهذلي:
غُرَابٌ وَظَبيٌ أعصَبُ القَرْنِ بَادِياً، ... بصَرْمٍ، وَصِرْدانُ العَشيّ تَصِيحُ.
لَعَمرِي لَئن شَطّتْ بعَتمَةَ دارُها، ... لقَد كنتُ من وَشكِ الفرَاقِ أُلِيحُ.
أرُوحُ بِهَمٍّ، ثمّ أغدُو بِمِثْلِهِ، ... وَيُحسَبُ أني في الثّيَابِ صَحِيحُ.

الفتى المشدود بالحبل
ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز ونقلته منخطه أن أبا بكر محمد بن خلف المحولي حدثهم قال: حدثنا يحيى بن جعفر الواسطي، حدثنا يزيد بن هارون، أخبرنا محمد بن إسحاق، حدثنا يعقوب بن عتبة بن المغيرة الأخنس عن الزهري عن عبد الله بن أبي حدرد عن أبيه قال: كنت في خيل خالد بن الوليد فقال لي فتىً منهم، وهو في سني، قد جمعت يداه إلى عنقه برمةٍ، ونسوة مجتمعات غير بعيدات عنه: يا فتى! قلت: ما تشاء؟ قال: هل أنت آخذ بهذه الرمة ومدنيني من هؤلاء النسوة، فأقضي إليهن حاجةً، ثم تردني، فتفعل ما بدا لك؟ قال: قلت والله ليسير ما طلبت. فأخذت برمته حتى وقفته، فقال: إسلم حبيش على بعد العيش، وذكر الحديث.

حكاية سلم حبيش على بعد العيش
ذكر أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، ونقلته من خطه، أن أبا بكر محمد خلف بن المرزبان حدثهم قال: حدثنا أبو عبد الله محمد بن يوسف الكوفي، حدثنا الهيثم بن عدي، حدثني سعيد بن شيبان عن أبي مسعود الأسلمي عن أبيه قال: نشأ فينا غلام يقال له عبد الله بن علقمة، وكان جميلاً، فهوي جاريةً من غير فخذه، يقال لها حبيشة، فكان يأتيها، ويتحدث إليها. قال: فخرج ذات يوم من عندها، ومعه أمه، فراى في طريقه ظبيةً على رابية، فأنشأ يقول:
يا أُمَّنا خَبّرِينا، غَيرَ كاذِبَةٍ، ... وَلا تَشوبي سؤولَ الخيرِ بالكذِبِ.
حُبَيشُ أحسَنُ أمْ ظَبيٌ بَرابيَةٍ، ... لا بل حُبيشةُ من دُرٍّ وَمن ذهَبِ.
انصرف من عندها مرةً أخرى، فأصابته السماء، فأنشأ يقول:
وَما أدْرِي، إذا أبْصَرْتُ يَوْماً، ... أصَوْبُ القَطْرِ أحْسَنُ أمْ حُبَيشُ.
حُبَيشٌ، وَالّذِي خَلَقَ البَرَايَا ... عَلى أنْ لَيسَ عِندَ حُبَيشَ عَيشُ.
فلما كثر ذلك منه وشهر بها، قال قومه لأمه: إن هذا الغلام يتيم، وإن أهل هذه المرأة يرغبون بأنفسهم عنكم، فانظري جاريةً ن قومك ممن لا تمتنع عليك، فزيّنيها واعرضيها عليه لعله يتعلقها ويسلى، ففعلت، وحضرها نساؤها، فجعلوا يعرون عليه نساء الحي، ثم يقولون له: يا عبد الله! كيف ترى؟ فيقول: إيهاً، والله حسناء، إلى ان قال قائل: أهي أحسن أم حبيشة؟ فقال: مرعى ولا كالسعدان.
فلما يئسوا من أن ينصرف عنها، قال بعضهم لبعض: عليكم بحبيشة، وطمعوا أن ياتوا الأمر من قبلها، فقالوا: والله لئن أتاك، لا تزرين به، وتتجهمينه، وتقولين له: أنت أبغض الناس إلي، فلا تقربني، ونحن بمرأى منك ومسمع، ليفعلن بك ما يسوءك، فأتاها، فلم تكلمه بشيء مما قالوا، ولم تزد على أن نظرت إليه، ونظر إليها، ثم أرسلت عينيها بالبكى، فانصرف عنها، وهو يقول:
وَما كانَ حُبّي عن نَوَالٍ بَذَلْتِه ... وَلَيسَ بمُسْليَّ التّجَهّمُ وَالهَجْرُ.
سِوَى أنّ دائي مِنكِ داءُ مَودّةٍ، ... قَدِيماً، وَلمْ يُمزَجْ كما تُمزَجُ الخمرُ.
وَما أنسَ مِلْ أشياء لا أنسَ دمعَها ... وَنَظْرَتَها حَتّى يُغَيّبني القَبْرُ.
فبينما هما على أشد ما كانا عليه من الهوى والصبوة،إذ هجم عليهم جيش خالد بن الوليد يوم الغميصاء، فأخذ الغلام رجل من أصحاب خالد، فأراد قتله، فقال له: ألمم بي أهل تلك البيوت أقضي إليهن حاجةً، افعل ما بدا لك.
قال: فأقبلت به حتى انتهى إلى خيمة منها، فقال: إسلم حبيش بعد انقطاع العيش، فأجابته فقالت: سلمت وحياك الله عشراً، وتسعاً وتراً، وثلاثاً تترى، فلم أر مثلك يقتل صبراً. وخرجت تشتد، وعليها خمار أسود، وقد لاثته على رأسها، وكان وجهها مثل القمر ليلة البدر، فقال حين نظر إليها:
أرَيتُكِ إنْ طالَبتُكم فَوجَدتكمْ ... ببرْزَةَ، أوْ إنْ لم تَفُتْني الحَرَانقُ.
أمَا كانَ حَقّاً أن يُنَوَّلَ عاشِقٌ ... تكلّفَ إدلاجَ السُّرَى وَهوَ رَاهقُ.
فَإنيَ لا سِرّاً لَدَيّ أضَعْتُهُ، ... وَلا رَاقَ عَيني بعد وَجهكِ رَائقُ.
على أن ما بات العشية شاغل، ... فلا ذكر إلا أن تكون توامق.
فها أنا ماسور لديك مكبلن ... وما أنا بعد اليوم بالعتب ناطق.
فأجابته:
أرَى لكَ أسْبَاباً أظُنّكَ مُخْرِجاً ... بهَا النّفسَ من جَنبيّ والرّوحُ زَاهقُ.
فأجابها فقال:
فإنْ يَقتُلوني، يا حُبَيش، فلم يَدَعْ ... هَوَاكِ لهُمْ مِني سِوَى غُلّةِ الصّدرِ.
وَأنتِ التي قَفّلتِ جِلْدِي عَلى دَمي ... وَعَظمي وَأسبَلتِ الدموعَ على النّهرِ.
فأجابته فقالت:
وَنَحنُ بَكَينا من فِرَاقِكَ مَرّةً، ... وَأُخرَى، وَقايَسنا لكَ العُسرَ باليُسرِ.
فأنتَ فلا تَبْعَدْ، فَنِعمَ أخُو النَّدَى، ... جَميلُ المُحَيّا في المُرُوءةِ وَالبِشْرِ.
قال الذي أخبر به: فلم سمعت ذلك منهما أدركتني الغيرة، فضربته ضربةً، فقطعت منها يده وعنقه، فلما رأته قد سقط قالت لي: ائذن لي أن أجمع بعضه إلى بعض، فأذنت لها، فجمعته وجعلت تمسح التراب عن وجهه بخمارها وتبكي، ثم شهقت شهقةً خرجت منها نفسها.

موت عروة بن حزام
قال أبو بكر بن المرزبان وأخبرنا أحمد بن زهير، أخبرنا الزبير بن بكار، أخبرنا أبي قال: قال عروة بن الزبير: مررت بوادي القرى فقيل لي: هل لك في عروة بن حزام؟ فقلت: الذي يلقى من الحب ما يلقى؟ قالوا: نعم! فخرجت حتى جئته، فإذا هو في بيت منفرد عن البيوت، وإذا، والله، حوله أخوات له أمثال التماثيل، وأمه وخالته. قال: فقلت له: أنت عروة؟ قال: نعم! قلت: صاحب عفراء؟ قال: صاحب عفراء، ثم استوى قاعداً فقال:وأنا الذي أقول:
وعينان ما أوفيت نشزاً فتنظرا ... بما فيهما إلا هما تكفان.
ألا فاحملاني، بارك الله فيكما، ... إلى حاضر البلقاء ثم ذراني.
ثم التفت إلى أخواته فقال:
مَنْ كانَ من أُمّهَاتِي بَاكِياً أبَداً، ... فَالَيْوَم إني أُرَاكَ اليَوْمَ مَقْبُوضا.
مَنْ كانَ يَلحُو فإني غَيرُ سَامِعِهِ، ... إذَا عَلَوْتُ رِقَابَ القَوْمِ مَعرُوضَا.
قال عروة بن الزبير: فلما سمعن قوله برزن والله يضربن حر الوجوه، ويشقنقن جيوبهن. قال عروة: فقمت، فما وصلت إلى منزلي حتى لحقني رجل فقال: قد مات.

قصة عروة وعفراء
نقلت من خط ابن حيويه: حدثنا أبو بكر بن المرزبان، حدثني أبو العباس فضل بن محمد اليزيدي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الموصلي، أخبرني لقيط بن بكر المحاربي.
أن عروة بن حزام وعفراء ابنة مالك العذريين، وهما بطن من عذرة، يقال لهم بنو هند بن حزام بن ضبة بن عبد بكير بن عذرة، نشأا جميعاً فعلقها علاقة الصبي، وكان عروة يتيماً في حجر عمه، حتى بلغ، فكان يسأل عمه أن يزوجه عفراء فيسوفه، إلى أن خرجت عير لأهله إلى الشام وخرج عروة إليها، ووفد على عمه ابن عم له من البلقاء يريد الحج، فخطبها، فزوجها إياه.
وأقبل عروة في عيره حتى إذا كان بتبوك نظر إلى رفقة مقبلةٍ من نحو المدينة فيها امرأة على جمل أحمر، فقال لأصحابه: والله، إنها شمائل عفراء، فقالوا: ويحك! ما تترك ذكر عفراء لشيء؟ قال: وجاء القوم، فلما دنوا منه وتبين الأمر يبس وبقي قائماً لا يتحرك، ولا يحير كلاماً،ولا يرجع جواباً، حتى بعد القوم، فذلك حيث يقول:
وَإني لَتَعرُوني لِذِكرَاكِ رِعْدَةٌ، ... لها بَينَ جِلْدِي وَالعِظامِ دَبِيبُ.
فَما هُوَ إلاّ أنْ أرَاهَا فُجاءةً ... فَأُبْهَتَ حَتى مَا أكَادُ أُجِيبُ.
فَقُلْتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ: داوِني، ... فَإنّكَ إنْ أبْرَأتَني لَطَبِيبُ.
فَما بيَ من حمّى وَلا مسّ جِنةٍ، ... وَلكنّ عَمي الحِميرِيَّ كَذُوبُ.
قال أبو بكر: وعراف اليمامة هذا الذي ذكره عروة وغيره من الشعراء، هو رياح بن راشد ويكنى أبا كحيلة، وهو عبد لبني يشكر، تزوج مولاه امرأةً من بني الأعرج، فساقه في مهرها ثم ادعى بعد نسباً في بني الأعرج.
ثم إن عروة انصرف إلى أهله واخذه البكاء والهلاس حتى نحل، فلم يبق منه شيء، فقال بعض الناس: هو مسحور، وقال قوم: بل به جنةٌ! وقال آخرون: بل هو موسوس، وإن بالحاضر من اليمامة لطبيبا يداوي من الجن، وهو أطب الناس، فلو أتيتموه، فلعل الله يشفيه، فساروا إليه من أرض بني عذرة حتى داواه، فجعل يسقيه السلوان، وهو يزداد سقماً، فقال له عروة: يا هناه! هل عندك للحب دواء أو رقية؟ فقال: لا والله. فانصرفوا حتى مروا بطبيب بحجر، فعالجه وصنع به مثل ذلك، فقال له عروة: والله ما دائي ودوائي إلا شخص بالبلقاء مقيم، فهو دائي، وعنده دوائي.
وفي غير هذه الرواية: شخص بالبلقاء مقيم هو وراني، أي أمرضني وهزلني، والورى داء يكون في الجوف مثل القرحة والسل.
قال سحيم عبد بني الحسحاس:
وَرَاهُنَّ رَبي مثلَ ما قَد وَرَينَني، ... وَأحمَى على أكبادِهنّ المَكاوِيَا.
رجع الحديث قال: فانصرفوا به، فأنشأ يقول عند انصرافهم به:
جَعلتُ لعَرّافِ اليَمَامَةِ حُكمَهُ ... وَعَرّافِ حِجرٍ إن هُما شَفَياني.
فقالا: نعم! نَشفي من الداء كلّه، ... وَقَامَا مَعَ العُوّادِ يَبْتَدِرَانِ.
فَمَا تَرَكَا مِنْ رُقيَةٍ يعلمانِها، ... وَلا سَلَوةٍ إلاّ وقَدْ سَقَيَاني.
فَقالا: شَفاكَ الله، وَاللهِ مَا لَنَا ... بما ضَمِنَتْ مِنكَ الضّلُوعُ يَدانِ.
قال: فلما قدم على أهله، وكان له أخوات أربع ووالدة وخالة، فمرض دهراً، فقال لهن يوماً، اعلمن أني لو نظرت إلى عفراء نظرة ذهب وجعي، فذهبن به حتى نزلوا البلقاء مستخفين، فكان لا يزال يلم بعفراء، وينظر إليها، وكانت عند رجل كريم سيد كثير المال والغاشية.
فبينا عروة يوماً بسوق البلقاء، إذ لقيه رجل من بني عذرة فسأله عن حاله ومقدمه، فأخبره. قال: والله لقد سمعت انك مريض، وأراك قد صححت. فلما أمسى الرجل دخل على زوج عفراء فقال: متى قدم عليكم هذا الكلب الذي قد فضحكم؟ فقال زوج عفراء: أي كلب هو؟ قال: عروة! قال: أوقد قدم؟ قال: نعم! قال: أنت والله أولى بها منه أن تكون كلباً، ما علمت بقدومه، ولو علمت لضممته إلي.
فلما أصبح غدا يستدل عليه حتى جاءه، فقال: قدمت هذا البلد، ولم تنزل بنا، ولم تر أن تعلمنا بمكانك فيكون منزلكم عندنا وعلي، إن كان لكم منزل إلا عندي. قال: نعم! نتحول إليك الليلة، أو في غد. فلما ولى قال عروة لأهله: قد كان ما ترون، وإن أنتم لم تخرجوا معي لأركبن رأسي ولألحقن بقومكم، فليس علي بأس. فارتحلوا وركبوا طريقهم، ونكس عروة ولم يزل مدنفاً، حتى نزل وادي القرى.
وروى العمري عن هشام بن محمد بن السائب الكلبي عن أبي مسكين أن عفراء لما بلغها وفاة عروة قالت لزوجها: يا هناه! قد كان من أمر هذا الرجل ما بلغك، والله ما كان ذلك إلا على الحسن الجميل، وإنه قد بلغني أنه مات في أرض غربةٍ، فغن رأيت أن تأذن لي فأخرج في نسوة من قومي فيندبه ويبكين عليه. فقال: إذا شئت، فأذن لها، فخرجت، وقالت ترثيه:
ألا أيّها الركبُ المُخِبّونَ وَيحَكُم! ... بحَقٍّ نَعَيتُم

عُرْوَةَ بنَ حِزَامِ.
فَلا هَنئ الفِتيَانَ بَعدَكَ غَارَةٌ، ... وَلا رَجَعُوا مِنْ غَيبَةٍ بِسَلامِ.
فَقُلْ للحبَالى لا تُرَجّينَ غَائِباً، ... وَلا فَرَحَاتٍ بَعْدَهُ بِغُلامِ.
قال: ولم تزل تردد هذه الأبيات وتبكي حتى ماتت، فدفنت إلى جابنه، فبلغ الخبر معاوية، فقال: لو علمت بهذين الشريفين لجمعت بينهما.
وقد روي مثل هذا الكلام عن عمر بن الخطاب، رضي الله عنه: حدثنا أبو عبد الله محمد بن زكريا، حدثنا العيشي عن أبيه قال: لما زُوجت عفراء جعل عروة يضع صدره في أعطان إبلها، وحيث كانت تجلس، فقيل له: اتق الله، فإن هذا غير نافعك، فأنشأ يقول:
بيَ اليأسُ، أوْ داءُ الهُيَامِ سُقِيتُه، ... فإيّاكَ عَني لا يَكُنْ بكَ مَا بيَا.

الهجران إثم
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الحوهري، حدثنا أبو القاسم طلحة، حدثنا الجرمي بن أبي العلاء، حدثني الزبير، حدثني عبد الملك بن عبد العزيز بن عبدي بن أبي سلمة: أنشدني جدي يوسف بن الماجشون لعبيد الله بن عبد الله بن عتبة:
كَتَمتَ الهوَى حَتى أضَرّ بِكَ الكتمُ، ... وَلامَكَ أقوَامُ، وَلَوْمُهُمُ ظُلْمُ.
وَنَمّ عَلَيْكَ الكَاشِحُونَ، وَقبلَهم ... عَلَيكَ الهَوَى قد نمّ لَوْ نَفعَ النمُّ.
وَزَادَكَ إغرَاءٌ بِهَا طُولُ هَجْرِهَا، ... قَدِيماً، وَأبلى لحمَ أعظُمِكَ الهَمّ.
فأصْبَحتَ كالهِندِيّ، إذْ ماتَ حسرَةً ... على إثرِ هِندٍ، أوْ كمَنْ سُقيَ السُّمّ.
ألا مَنْ لنَفسٍ لا تَمُوتُ فَيَنقَضي ... عَنَاهَا، وَلا تَحيَا حَياةً لها طَعمُ.
تَجَنّبتَ إتْيَانَ الحَبِيبِ تَأثّماُ، ... ألا إنّ هِجْرَانَ الحَبِيبِ هوَ الإثمُ.
فذُقْ هَجرَها، قَد كنتَ تَزْعُمُ أنّهُ ... رَشَادٌ، ألا يا رُبّما كَذَبَ الزّعمُ.

مصطبران على البلوى
أنبأنا أبو عبد الله محمد بن علي الصوري الحافظ، أخبرنا أبو الحسين بن روح النهرواني حدثنا المعافى بن زكريا: أخبرنا محمد بن يحيى الصولي عن أحمد بن يحيى أنه أنشد:
هوَى نَاقَتي خَلفي، وَقُدّاميَ الهوَى، ... وَإني وَإيّاهَا لمُخْتَلِفَانِ.
هَوَايَ عرَاقيٌّ وَتَثْني زِمَامَهَا، ... كَبَرْقٍ سرَى بَعدَ الهُدُوءِ يمَاني.
تَحِنّ وَأبْكي، إنّها لَبَلِيّةٌ، ... وَإنّا عَلى البَلْوَى لمُصْطَبِرَان.

فضل الشاعرة
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي إجازة، أخبرنا القاضي أبو عمر أحمد بن محمد بن العلاف، اخبرنا الحسين بن القاسم الكوكبي، حدثني محرز الكاتب، أخبرني يحيى بن الخصيب قال: كنت عند فضل الشاعرة إذ استأذن عليها إنسان فأذنت له، وقالت: ما حاجتك؟ قال: تجيزين مصراع بيت من شعر. قالت: ما هو؟ قال:
مَن لمُحبٍّ أحَبّ في صِغَرِهْ ... فصَارَ أحدُوثَةً على كِبَرِهْ.
فقالت:
مِنْ نَظَرٍ شَفّهُ وَأرّقَهُ، ... فكانَ مَبدَا هَوَاهُ مِن نَظَرِهْ.
لَوْلا الأمَاني لمَاتَ مِنْ كمَدٍ، ... مَرُّ اللَّيَالي يَزِيدُ في ذِكَرِهْ.
مَا إنْ لَهُ مُسْعِدٌ فَيُسعِدَهُ ... بِاللّيْلِ في طُولِهِ وَفي قِصَرِهْ.

شهقة الموت
قال محمد بن المرزبان، ونقلته من خط ابن حيويه عنه، قال: أخبرني بعض أصحاب المدايني اخبرنا المدايني، أخبرنا هشام بن محمد بن السائب الكلبي قال: كان بالمدينة رجل من ولد عبد الرحمن بن عوف، وكان شاعراً، وكانت عنده ابنة عم له، وكان لها عاشقاً، وبها مستهتراً، فضاق ضيقةً شديدة، وأراد المسير إلى هشام إلى الرصافة، فمنعه من ذلك ما كان يجد بها وكره فراقها، فقالت له يوماً، وقد بلغ منها الضيق: يا ابن عمي! ألا تأتي الخليفة لعل الله تعالى أن يقسم لك منه رزقاً، فنكشف به بعض ما نحن فيه. فلما سمع ذلك منها نشط للخروج، فتجهز، ومضى، حتى إذا كان من الرصافة على أميال خطر ذكرها بقلبه، وتمثلت له، فلبث ساعة شبيهاً بالمغمى عليه، ثم أفاق، فقال للجمال: احبس، فحبس إبله، فأنشأ يقول:
بَينَما نحنُ في بلاكثَ فالقَا ... عِ سرَاعاً، وَالعِيسُ تَهْوِي هُوِيّا.
خَطَرَتْ خطرَةٌ على القَلْبِ مِنْ ذِكْ ... رَاكِ، وَهناً، فَما أطقتُ مُضِيّا.
قُلْتُ: لَبَيّكِ، إذْ دَعَاني لكِ الشّوْ ... قُ، وَللحَادِيَينِ رُدّا المَطِيّا.
فكَرَرْنَا صُدُورَ عِيسٍ عِتَاقٍ، ... مُضْمَرَات، طُوِينَ بالسّيرِ طَيّا.
ذَاكَ مِمّا لَقِينَ من دَلَجِ السّي ... رِ، وَقَوْلِ الحُدَاةِ، باللّيلِ، هَيّا.
ثم قال للجمال: ارجع بنا! فقال له: سبحان الله، قد بلغت طيتك! هذه أبيات الرصافة. فقال: والله لا تخطو غلا راجعة، فرجع، حتى إذا كان من المدينة على قدر ميل لقيه بعض بني عمه، فأخبره أن امرأته قد توفيت، فشهق شهقةً، وسقط عن ظهر البعير ميتاً.

جنون وعشق
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الأردستاني في المسجد الحرام بقراءتي عليه بباب الندوة، أخبرنا أبو القاسم الحسن بن محمد بن حبيب المذكر، أخبرنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي القزويني، حدثنا شادل، حدثنا يحيى بن سليمان المادراي، حدثنا إسحاق بن إبراهيم الأبلي قال: رأيت غورك يوماً خارجاً من الحمام، والصبيان يؤذونه، فقلت: ما خبرك أبا محمد؟ قال: قد آذاني هؤلاء الصبيان، أما يكفيني ما أنا فيه من العشق والجنون؟ قلت: ما أظنك مجنوناً. قال: بلى، والله، وبي عشق شديد. قلت: هل قلت في عشقك وجنونك شيئاً؟ قال: نعم، وأنشد:
جُنُونٌ وعِشقٌ ذَا يَرُوحُ وَذا يَغدُو، ... فَهَذا لَهُ حَدٌّ، وَهَذا لَهُ حَدُّ.
هُمَا استَوْطَنا جسمي وَقلبي كِلاهُما، ... فَلمْ يَبْقَ لي قَلبٌ صَحيحٌ وَلا جِلدُ.
وَقَدْ سَكَنَا تحتَ الحَشَا، وَتَحَالَفَا ... عَلى مُهْجَتي ألاّ يُفَارِقَهَا الجَهدُ.
فَأيُّ طَبِيبٍ يَسْتَطِيعُ بحيلَةٍ، ... يُعَالِجُ مِنْ دَاءَين مَا مِنْهُمَا بُدُّ.

الفتى والشيخ العاشق
أخبرنا أبو بكر أحمد بن علي إن لم يكن سماعاً فإجازة، أخبرنا عبد الغفار بن عبد الواحد بن نصر الأرموي، حدثني أبو عبد الله الحسين بن محمد القاضي، حدثني أبو بكر أحمد بن محمد الميموني، حدثني محمد بن عمر، حدثني أبو عبد الله الروذباري قال: دخلت درب الزعفراني، فرأيت فتىً قد صرع شيخاً، وهو يكلمه ويعض حلقه، فقلت له: يا فتى أتفعل هذا بأبيك؟ أباه، فقال: دعني حتى أفرغ منه ثم أحدثك بقصتي، فلما فرغ قلت: يا فتى ما ذنبه؟ قال: إن هذا يزعم أنه يهواني، وله ثلاث ما رآني.

زينة الله
أنبأنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو القاسم إسماعيل بن سويد المعدل، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم الكوكبي، اخبرنا عسل، أخبرنا التوزي قال: نظر رجل من قريش إلى رجل ينظر إلا غلام وضيء الوجه، فزجره، فرآه محيريز الزاهد فقال له: هل رأيت غير النظر؟ قال: لا! قال: أتريد أان تبطل زينة الله في بلاده، وحليته في عباده؟

ينشد في ظل خيمة
أخبرنا أبو عبد الله الأندلسي الحافظ من لفظه، حدثني الفقيه أبو محمد علي بن أحمد بن سعيد الأندلسي، حدثنا القاضي أبو بكر عبد الله بن الربيع، حدثنا القالي أبو علي، حدثنا أبو بكر بن دريد، حدثنا عبد الرحمن عن عمه قال: بينا أنا سائر بناحية بلاد بني عامر، إذا برجل ينشد في ظل خيمة له، وهو يقول:
أحَقّاً، عِبادَ اللهِ، أن لَستُ ناظِراً ... إلى قَرْقَرَى يَوْماً وَأعلامِهَا الغُبرِ؟
كأنّ فُؤادِي، كُلّمَا مَرّ رَاكِبٌ، ... جَنَاحُ غُرَابٍ رَامَ نَهْضاً إلى وكرِ.
إذا ارْتَحَلَتْ نحوَ اليَمَامَةِ رِفْقَةٌ، ... دَعَاكَ الهَوَى، وَاهتَاجَ قَلبُك للذكرِ.
فَيَا رَاكِبَ الوَجنَاءِ! أبتَ مُسَلَّماً، ... وَلا زِلتَ من رَيبِ الحَوَادثِ في سترِ.
إذا ما أتَيتَ العُرْضَ، فاهتِفْ بجَوّه: ... سُقيتَ على شحطِ النوَى سَبَلَ القطرِ.
فإنّكَ مِنْ وَادٍ إليّ مُرَحَّبٍ، ... وَإن كنتَ لا تُزْدارُ إلاّ على عَفْرِ.
قال: فأذنت، وكان ندي الصوت، فلما رآني أومأ إلى فأتيته، فقال: أأعجبك ما سمعت؟ فقلت: إي والله! فقال: أمن أهل الحضارة أنت؟ قلت: نعم! قال: فمن تكوت؟ قلت: لا حاجة لك في السؤوال عن ذلك. قال: أو ما حل الإسلام الضغائن، وأطفأ الأحقاد؟ قلت: بلى! قال: فما يمنعك إذا قلت: أنا امرؤ من قيس؟ قلت: الحبيب القريب. قال: فمن أيهم؟ قلت: أحد بني سعد بن قيس، ثم أحد أعصر بن سعد. قال: زادك الله قرباً.
ثم وثب فأنزلني عن حماري، وألقى عنه إكافه، وقيده بقراب خيمته، وقام إلى زند فاقتدح وأوقد ناراً، وجاء بصيدانو، فألقى فيها تمراً، وأفرغ عليه سمناً، ثم لته حتى التبك، ثم ذر عليه دقيقاً، وقربه إلي، فقلت: إني إلى غير هذا أحوج. قال: وما هو؟ قلت: تنشدني. قال: أصبت فإني فاعل، فلقمت لقيمات وقلت: الوعد! قال: نعمى عين وأنشدني:
لَقَدْ طَرَقَتْ أُمُّ الخُشَيفِ، وَإنّها ... إذا صَرَعَ القَوْمَ الكَرَى لَطَرُوقُ.
فَيَا كَبِداً يُحمَى عليها، وَإنّها، ... مخافَةَ هَيضَاتِ النَّوَى، لخفُوقُ.
أقَامَ فَرِيقٌ مِنْ أُنَاسٍ يَوَدّهُمْ، ... بذاتِ الغَضَا، قَلبي، وَبَانَ فَرِيقُ.
بحَاجَةِ مَحْزُونٍ يَظَلّ وَقَلْبُهُ ... رَهِينٌ بِبَيضَاتِ الحِجَالِ صَدِيقُ.
تَحَمّلْنَ أنْ هَبّتْ لَهُنّ عَشِيّةً ... جَنوبٌ، وَأنْ لاحَتْ لَهُنّ بُرُوقُ.
كَأنّ فُضُولَ الرَّقْمِ حِينَ جَعَلنَها ... ضُحَيّاً على أُدْمِ الجِمَالِ عُذُوقُ.
وَفِيهِنّ مِن تَحتِ السّتَارِ تَحِلَّةٌ، ... تَكَادُ على غُرّ السّحَابِ تَرُوقُ.
هَجين، فأما الدعص عن أخرياتها ... فوعث، وأما خصرها فدقيق.

التفريق بين مؤتلفين
أنبانا القاضي أبو عبد الله محمد بن علي الله بن سلامة القضاعي عن أبي الحسن بن نصر بن الصياح، حدثنا أبو عمر عبيد بن أحمد السمسار.
أن أبا بكر بن داود الأصبهاني كان يدخل الجامع من باب الوراقين.
فلما كان بعد مدة عدل عنه وجعل دخوله من غيره، وكنت مجترئاً عليه، فسألته عن ذلك، فقال: يا بين! السبب فيه أني في الجمعة الماضية أردت الدخول منه فصادفت عند الباب حدثين يتحدثان، وكل واحد منهما مسرور بصاحبه، فلما رأياني قالا: أبو بكر قد جاء، فتفرقا، فجعلت علي نفسي أن لا أدخل من باب فرقت فيه بين مؤتلفين.

لا كلمته أبداً
أنبأنا القاضي أبو عبد الله محمد بن سلامة المصري، حدثنا ابن نصر، حدثنا أبو عمر عبيد الله بن أحمد بن السمسار أن حدثاً كان يعرف بابن سمنون الصوفي، نشأ مع أبي بكر في كتاب واحد، وكانا لا يفترقان، فإذا عمل أبو بكر كتاباً في الأدب ناقضه، وعمل في معناه، وإن أبا بكر نقش على فص خاتمه سطرين، الأول منهما: وما وجدنا لأكثرهم من عهد؛ والآخر: فلا تذهب نفسك عليهم حسرات، وكان إذا رأى إنساناً ينظر إلى حدث رمى إليه بخاتمه، وقال: اقرأ ما عليه فينتهي عن ذلك، فقال لابن سمنون: أتقدر أن تناقضني في هذا؟ قال: نعم! فلما كان الغد جاءه بخاتم على فصه سطران، الأول منهما: وجعلنا بعضكم لبعض فتنةً أتصبرون؛ والثاني: ولنصبرن على ما آذيتمونا. فاستحسن ذلك. وعلى هذا الطريق قال أبو نواس:
كَتَبَتْ عَلى فَصٍّ لخاتَمِهَا: ... مَنْ نَامَ لم يَشعُرْ بمَن سَهِدا
وَكَتَبْتُ في فَصّي أُنَاقِضُهَا: ... لا كانَ مَنْ يَهْوَى إذا رَقَدَا
قَالَتْ: يُنَاقِضُني بخَاتَمِهِ، ... وَاللّهِ، لا كَلّمْتُهُ أبَداَ

سلبت عظامي لحمها
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي التوزي في ما أذن لنا في روايته، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن محمد بن جعفر الخالع، أخبرنا أبو الحسن علي بن محمد بن السري، حدثنا أحمد بن الحسين بن محمد بن فهم، حدثني الخريمي قال: دخلت حماماً في درب الثلج، فإذا بسوار بن عبد الله القاضي في الحمام، في البيت الداخل، مستلقياً، وعليه المئزر، فجلست بقربه، فسكت ساعة ثم قال لي: قد أحشمتني يا رجل! إما أن تخرج أو أخرج. فقلت: جئت أسألك عن مسألة. فقال: ليس هذا موضع المسائل. قلت: إنها من مسائل الحمام، فضحك وقال: هاتها، فقلت: من الذي يقول:
سَلبتِ عِظامي لحمهَا، فتركتِها ... عَوَارِيَ ممّا نَالَها تَتَكَسّرُ
وَأخْلَيْتِها مِنْ مُخّها، فتركتِها ... أنَابيبَ في أجْوافِها الرّيحُ تَصْفِرُ
إذا سمعتْ ذِكرَ الفرَاقِ ترَعدّت ... مَفَاصِلُهَا خَوْفاَ لِمَا تَتَنَظّرُ
خذي بيدي ثم ارْفعي الثْوبَ تنظرِي ... بِلى جَسَدِي، لكنّني أتَسَتّرُ
فقال سوار: أنا والله قلتها. قلت: فإنه يغنى بها، ويجود. فقال: لو شهد عندي الذي يغني بها لأجزت شهادته.

الزنجي الشاعر
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين التوزي بقراءتي عليه وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قراءة عليه قالا: أخبرنا أبو عمر بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، أخبرنا عبد الله بن شبيب، أخبرني الزبير بن بكار، حدثني محمد بن الحسن، حدثني هبيرة بن مرة القشيري قال: كان لي غلام يسوق ناضحاً ويرطن بالزنجية بشيء يشبه الشعر، فمر بنا رجل يعرف لسانه، فاستمع له ثم قال: هو يقول:
فقلتُ لهَا: إني اهتَديتُ لِفِتْيَةٍ، ... أنَاخُوا بجَعجَاعٍ قَلائصَ سُهّمَا
فقالت: كذاكَ العاشِقونَ ومن يخَفْ ... عُيونَ الأعادي بجعلِ اللّيلِ سُلّمَا

نصيب وزينب
أخبرني القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثني محمد بن معاذ عن إسحق بن إبراهيم قال: حدثني رجل من قريش عمن حدثه قال: كنت حاجاً ومعي رجل من القافلة لا أعرفه، ولم أره قبل ذلك، ومعه هودج وأثقال وضينة، وعبيد ومتاع، فنزلنا منزلاً، فإذا فرش ممهدة، وبسط قد بسطت، فخرج من أعظمها هودجاً امرأة زنجية، فجلست على تلك الفرش الممهدة، ثم جاء زنجي، فجلس إلى جنبها، على الفرش، فبقيت متعجباً منهما، فبينا أنا أنظر إذ مر بنا مار وهو يقود إبلاً معه، فجعل يغني ويقول:
بزَينبَ ألمِمْ قَبلَ أن يرْحَلَ الرَّكبُ، ... وَقُلْ إنْ تَمَلّيْنَا فَمَا مَلّكِ القلبُ
قال: فوثبت الزنجية إلى الزنجي، فخبطته وضربته، وهي تقول: شهرتني في الناس، شهرك الله. فقلت: من هذا؟ قالوا لي: نصيب الشاعر، وهذه زينب. وذكر الزبير ضد هذا الخبر.

بريرة وزوجها الحبشي
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه الخزاز، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا الحسن بن مكرم بن حسان، حدثنا علي بن عاصم عن خالد الحذاء عن عكرمة عن ابن عباس قال: لما أعتقت بريرة، وكان زوجها حبشياً، خيرت، فاختارت فراقه، فكان يطوف حولها، ودموعه تسيل على خديه حباً لها، فقال رسول الله صلى الله عليه وسلم، لعمه العباس: أما ترى شدة حبه لها، وشدة بغضها له؟ فقال له النبي صلى الله عليه وسلم: لو تزوجته؟ قالت: إن أمرتني. قال: لا آمرك، ولكني شفيع، فلم تفعل.
وبإسناده حدثنا محمد بن خلف، حدثنا محمد بن الهيثم، حدثنا يوسف بن عدي عن سعيد وأيوب عن قتادة عن عكرمة عن ابن عباس: أن زوج بريرة كان عبداً أسود مولىً لبني المغيرة، يوم أعتقت، والله لكأني به في أطراف المدينة ونواحيها، وإن دموعه لتجري على لحيته، يتبعها ويترضاها لتختاره فلم تفعل.

ابن الدمينة العليل
ذكر شيخنا أبو علي الحسن بن أحمد بن شاذان، حدثنا أبو علي عيسى بن محمد بن أحمد بن عمر بن عبد الملك بن جريج الطوماري، أخبرنا أبو العباس أحمد بن يحيى ثعلب، أنبأنا عبد الله بن شبيب أنشدني الزبير لابن الدمينة:
يَقولُون: قَد طالَ اعتلالُكَ بالقَذَى، ... ألَمْ يْأنِ أن تَلْقَى لعَينَيكَ رَاقِيَا؟
وَأقبَلنَ من أعلى البُيُوتِ يَعُدْنَني، ... ألا إنّ بَعضَ العائِداتِ دَوَائِيَا
يَعُدْنَ مَرِيضاً هُنّ أصْلٌ لِدَائِه؛ ... بَقِيّة مَا أبْقَينَ نَصْلاً يَمَانِيَا
لم يدر لوعتي إلا الله
وذكر أبو علي أيضاً، حدثنا الطوماري، أخبرنا ثعلب أنشدنا عبد الله لعقبة الكلابي:
إذا اقتَسَمَ النّاسُ الأحاديثَ وَانتَحَوا ... خَلا بِفُؤادِي حُبُّها وَانتَحَانِيَا
فَكَفكَفتُ دمعي ثمّ حوّلتُ مَضْجعي ... فَلَمْ يَدْرِ إلا اللهُ لَوْعَةَ مَا بِيَا
وَقالوا: نَرى هذا عَنِ اللّهوِ مُعرِضاً؛ ... فَقُلتُ لَهُم: لا يَعنِكُمْ مَا عَنَانِيَا

أغزل بيت وأشجع بيت
حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي بن الحسن بن محمد الملحمي، حدثنا القاضي أبو الفرج المعافى ابن زكريا، حدثنا علي بن الجهم أبو طالب الكاتب، حدثني أبو العباس سوار بن أبي شراعة البصري، حدثني الرياشي، حدثني الأصمعي قال: قال أبو عمرو بن العلاء: إني أقول لكم أغزل الناس في بيت وأشجعهم في بيت، أما أغزل بيت فقوله:
غَرّاءُ فَرْعَاءُ مَصْقُولٌ عَوَارِضُهَا ... تمشي الهُوَينا كَمَا يمشِي الوَجَى الوَجِلُ

وأما أشجع بيت فقوله:
قالوا: الطِّعان، فقُلنا: تلكَ عادَتُنَا؛ ... أوْ تَنْزِلُونَ، فإنّا مَعشَرٌ نُزُلُ

أرق بيت في العيون
حدثنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي الملحمي، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا أحمد بن إبراهيم بن الحارث أبو النضر العقيلي، أخبرني محمد بن راهويه الكاتب، أخبرني الحسن بن إبراهيم قال: قال المأمون لبعض من عنده: أنشدني

أرق بيت قيل في العيون، فأنشده:
إنّ العُيونَ التي في طَرْفها مَرَضٌ ... قَتَلْتَنَا ثمّ لَمْ يُحْيْينَ قَتْلانَا
يَصرعنَ ذا اللُّبّ حتى لا حَرَاكَ به ... وَهُنّ أضْعَفُ خَلْقِ اللّهِ أرْكانَا
قال: ما عمل شيئاً، أشعر منه أبو نواس حيث يقول:
رَبعُ البِلى بَينَ الجُفُونِ مُحِيلُ، ... عَفّى عليه بكىً عَليكَ طَويلُ
يا ناظِراً مَا أقلَعَتْ لَحَظَاتُهُ، ... حَتى تَشَحّطَ بَيْنَهُنّ قَتيل
قال القاضي أبو الفرج: القول قول المأمون في رقة شعر أبي نواس.

الشعر ما دخل القلب بلا إذن
أخبرنا أبو تغلب عبد الوهاب بن علي قراءة عليه، حدثنا أبو الفرج المعافى بن زكريا الحريري إملاء، حدثنا إبراهيم بن عرفة الأزدي قال: استنشدني أبو سليمان داود بن علي الأصبهاني بعقب قصيدة أنشدته إياها، ومدحته فيها وسألته الجلوس. فأجابني وقال لي في شيء منها: لو بدلت مكانه. فقلت له: هذا كلام العرب. فقال: أحسن الشعر ما دخل القلب بلا إذن؛ هذا بعد أن بدلت الكلمة. فقال لي إنسان بحضرته: ما أشد ولوعك بذكر الفراق في شعرك! فقال سليمان: وأي شيء أمض من الفراق؟ ثم حكى عن محمد بن حبيب عن عمارة بن عقيل بن بلال بن جرير أنه قيل له: ما كان أبوك صانعاً حيث يقول:
لَوْ كُنتُ أعلَمُ أنّ آخِرَ عَهدكِم ... يَوْمَ الفِراقِ فَعَلتُ مَا لم أفعَلِ
قال: كان يقلع عينه وَلا يَرى مَظْعنَ أحبابه.

موت الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا العباس بن العباس الجوهري، حدثنا محمد بن موسى الطوسي أنشدني هلال بن العلاء الرقي:
وَقد ماتَ قَبلي أوّلُ الحُبّ فَانقَضَى، ... فإنْ متُّ أمسَى الحُبُّ قد ماتَ آخرُه

معشوقان يختصمان
أخبرنا الجوهري، أخبرنا أبو عمر بن حيويه، أنبأنا أبو الحسن العباس بن العباس الجوهري، حدثنا الطوسي: أنشدني هلال بن العلاء:
أرَى كلَّ مَعشوقينِ غيرِي وَغيرهَا، ... يَلَذّانِ في الدُّنيا وَيَغْتَبِطانِ
وَأُمسِي وتُمسي في البِلادِ كأنّنا ... أسِيرانِ للأعْداءِ مُرْتَهَنانِ
أُصلّي فأبكي في صلاتي لذكرِها، ... ليَ الويلُ مِمّا يكتُبُ المَلَكانِ
ضمِنتُ لهَا أن لا أهيمَ بغَيرِها، ... وقَدْ وثِقَتْ مني بغَيرِ ضَمانِ
ألا يا عبادَ اللّهِ قُومُوا تَسَمّعُوا ... خُصُومَةَ مَعْشُوقَينِ يَختَصِمانِ
وفي كلِّ عامٍ يَسْتَجِدّانِ مَرّةً ... عِتاباً وهَجراً، ثمّ يَصْطَلِحانَ
يَعيشانِ في الدّنيا غَريبَيْنِ أينَمَا ... أقامَا وفي الأعْوامِ يَلْتَقِيانِ

من يموت في الحب
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي الجوهري، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، حدثنا محمد بن المرزبان، حدثنا هارون بن محمد، أخبرني أبو عبد الله القرشي، حدثني الحكم قال: قيل لرجل من بني عامر: هل تعرفون فيكم المجنون الذي قتله الحب. قال: إنما تموت من الحب هذه اليمانية الضعاف القلوب.

يا حبها زدني جوى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي، حدثنا محمد بن العباس، حدثنا محمد بن خلف، حدثنا عبد الله بن مسلم المروزي قال: كان الأصمعي يقول: لم يكن مجنوناً، ولكن كانت به لوثة كلوثة أبي حية النميري، وهو أشعر الناس، على أنهم قد نحلوه شعراً كثيراً مثل قول أبي صخر الهذلي:
أمَا والذي أبْكَى وأضْحكَ، والذي ... أمَات وأحيا، والذي أمرُهُ الأمرُ
لقد تَركَتْني أحسُدُ الوحشَ أن أرى ... أليفينِ مِنْهَا لا يَرُوعُهُما الذُّعرُ
فَيَا حبَّها زِدني جَوىً كلَّ لَيلَةٍ، ... ويا سَلوةَ الأيّامِ مَوْعِدُك الحَشرُ
ويا هجرَ لَيلى قَد بَلَغت بيَ المَدى، ... وزِدت على ما لم يكُن صَنَع الهَجرُ

معاوية والفتى العذري
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي قراءة عليه، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه قال: قرئ على محمد بن المرزبان، وهو يسمع وأنا أسمع، حدثني محمد بن عبد الرحمن القرشي، حدثنا محمد بن عبيد، حدثنا أبو محنف عن هشام بن عروة قال: أذن معاوية بن أبي سفيان للناس يوماً، فكان في من دخل عليه فتىً من بني عذرة، فلما أخذ الناس مجالسهم قام الفتى العذري بين السماطين، ثم أنشأ يقول:
مُعاوِيَ! يا ذا الحِلمِ والفضْلِ والعقلِ، ... وذا البرِّ والإحسانِ وَالجُودِ وَالبَذلِ
أتَيتُكَ لمَّا ضاقَ في الأرْضِ مَسكني، ... وَأُنكِرْتُ مِمّا قد أصيبَ به عَقلي
فَفَرِّجْ، كلاكَ اللهُ عَني، فإنّني ... لَقيتُ الذي لم يَلْقَهُ أحَدٌ قَبلي
وَخُذْلي، هَداكَ اللهُ، حَقّي من الذي ... رَمَاني بِسَهمٍ كانَ أهوَنَهُ قَتلي
وكنتُ أُرجّي عَدْلَهُ إذْ أتَيْتُهُ، ... فأكثر ترْدَادي مَع الحبَسِ والكَبلِ
فَطَلّقْتُها من جُهدِ ما قد أصابَني، ... فهذا أميرَ المؤمِنِينَ مِن الَعدلِ؟
فقال له معاوية: ادن. بارك الله عليك، ما خطبك؟ فقال: أطال الله بقاء أمير المؤمنين! إنني رجل من بني عذرة تزوجت ابنة عم لي. وكانت لي صرمة من إبل وشويهات، فأنفقت ذلك عليها، فلما أصابتني نائبة الزمان وحادثات الدهر رغب عني أبوها، فكرهت مخالفة أبيها، فأتيت عاملك ابن أم الحكم، فذكرت ذلك له، وبلغه جمالها، فأعطى أباها عشرة آلاف درهم وتزوجها، وأخذني فحبسني وضيق علي، فلما أصابني مس الحديد وألم العذاب طلقتها، وقد أتيتك، يا أمير المؤمنين وأنت غياث المحروب، وسند المسلوب، فهل من فرج؟ ثم بكى. وقال في بكائه:
في القَلْبِ مِنّي نَارُ، ... والنّارُ فِيهَا شَنَارُ
وفي فُؤادِيَ جَمْرٌ، ... وَالجَمْرُ فِيهِ شَرَارُ
وَالجِسْمُ مِنّي نَحيلٌ، ... وَاللّونُ فيهِ اصْفِرارُ
وَالعَينْ تَبْكي بِشَجْوٍ ... فَدَمْعُهَا مِدرَارُ
وَالحبُّ دَاءٌ عَسِيرٌ ... فِيهِ الطّبيبُ يَحَارُ
حَمَلْتُ مِنْهُ عَظيماً ... فَمَا عَلَيْهِ اصْطِبارُ
فَلَيسَ لَيْليَ لَيْلاً، ... وَلا نَهَاري نَهَارُ
فرق له معاوية، وكتب له إلى ابن أم الحكم كتاباً غليظاً، وكتب في آخره:
رَكِبْتَ أمراً عظيماً لَسْتُ أعْرِفُهُ ... أَسْتَغْفِرُ اللهَ مِنْ جَوْرِ امرِئٍ زَانِ
قَد كُنتَ تُشبِهُ صُوفياً لَهُ كُتُبٌ ... مِنَ الفَرَائِضِ أوْ آيَاتُ فُرقانِ
حَتى أتَاني الفَتى العُذرِيُّ مُنْتَحِباً، ... يَشكُو إليّ بحَقٍّ غَيرِ بُهْتَانِ
أُعْطِي الإلَهَ عُهُوداً لا أخيسُ بهَا ... أوْ لا فأبْرَأُ من دينٍ وَإيمانِ
إنْ أنْتَ رَاجَعْتَنِي في مَا كَتَبْتُ بهِ ... لأجْعلنّكَ لحماً بَينَ عُقْبَانِ
طَلّقْ سُعَادَ، وَفَارِقْها بمُجتَمَعٍ، ... وَأشهِد على ذاك نَصراً وَابنَ طِيبانِ
فَمَا سَمْعتُ كمَا بُلّغتُ من عَجَبِ، ... وَلا فعَالُكَ حقّاً فِعْلَ إنْسَانِ
فلما ورد كتاب معاوية على ابن أم الحكم تنفس الصعداء وقال: وددت أن أمير المؤمنين خلى بيني وبينها سنةً، ثم عرضني على السيف؛ وجعل يؤامر نفسه في طلاقها ولا يقدر، فلما أزعجه الوفد طلقها، ثم قال: اخرجي يا سعاد، فخرجت شكلةً غنجة، ذات هيبة وجمال، فلما رآها الوفد قالوا: ما تصلح هذه إلا لأمير المؤمنين لا لأعرابي؛ وكتب جواب كتابه:
لا تَحْنَثَنّ، أمِيرَ المؤمِنِينَ، وَفي ... بِعَهْدِكَ اليَوْمَ في رِفْقٍ وَإحسَانِ
وَمَا رَكِبتُ حَرَاماً حِينَ أعْجبَنِي، ... فَكيْفَ سُمّيتُ باسمِ الخائنِ الزّاني!
وَسَوْفَ تأتيكَ شَمْسٌ لا خَفَاءَ بهَا ... أبْهَى البَرِيّةِ من إنْسٍ وَمن جَانِ
حَوْرَاءُ يَقصُرُ عنها الوَصْفُ إن وصِفتْ، ... أقُولُ ذَلكَ في سِرٍّ وَإعلانِ
فلما ورد على معاوية الكتاب قال: إن كانت أعطيت حسن النغمة مع هذه الصفة، فهي أكمل البرية، فاستنطقها، فإذا هي أحسن الناس كلاماً، وأكملهم شكلاً ودلاً، فقال: يا أعرابي! هل من سلو عنها بأفضل الرغبة؟ قال: نعم، إذا فرقت بين رأسي وجسدي، ثم أنشأ يقول:
لا تَجعَلَنِّي، والأمثالُ تُضرَبُ بي، ... كَالمُسْتَغيثِ مِنَ الرَّمْضَاءِ بِالنّارِ
أُرْدُدْ سُعَادَ على حَرّانَ مُكْتَئِبٍ ... يُمسي ويُصْبِحُ في هَمٍّ وّتّذكارِ
قَدْ شَفّهُ قَلَقٌ مَا مِثْلَهُ قَلَقٌ، ... وَأُشْعِرَ القَلْبُ مِنْهُ أيَّ إشْعَارِ
وَاللّهِ وَاللهِ لا أنسَى مَحَبَّتَها ... حَتى أُغيَّبَ في رَمْسٍ وَأحْجارِ
كَيْفَ السُّلُوُّ وَقَدْ هَامَ الفُؤادُ بهَا ... وَأصْبَحَ القَلْبُ عَنْها غَيرَ صَبّارِ
قال: فغضب معاوية غضباً شديداً، ثم قال لها: اختاري، إن شئت، أنا، وإن شئت ابن أم الحكم؛ وإن شئت الأعرابي، فأنشأت سعاد تقول:
هَذا، وَإنْ أصْبَحَ في أطمارِ، ... وكان في نَقصٍ مِنَ اليَسارِ
أعَزُّ عِنْدِي مِنْ أبي وَجَارِي، ... وَصَاحِبِ الدِّرْهَمِ وَالدّينَارِ

أخشَى، إذا غَدَرْتُ، حَرَّ النّارِ
فقال معاوية: خذها لا بارك الله لك فيها، فأنشأ الأعرابي يقول:
خَلُّوا عَنِ الطَّرِيقِ للأعرابي، ... إنْ لمْ تَرقّوا وَيحَكُمْ لِمَا بي
قال: فضحك معاوية وأمر له بعشرة آلاف درهم، وناقة ووطاء، وأمر بها، فأدخلت بعض قصوره حتى انقضت عدتها من ابن أم الحكم ثم أمر بدفعها إلى الأعرابي.

المحب يسيء الظنون
أخبرنا أبو محمد الحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا ابن المرزبان أنشدني أبو العباس محمد بن يعقوب:
ألا ليتَ شِعرِي، على نأيِكُم، ... أنَاسُونَ للعَهدِ أمْ حَافِظُونَا
وَلا لَوْمَ إنْ سَاءَ ظَنّي بكُم، ... كذاكَ المُحبُّ يُسِيءُ الظنّونا

اللهم فرج ما ترى
أخبرنا القاضيان أبو الحسين أحمد بن علي التوزي وأبو القاسم علي بن المحسن التنوخي قالا: حدثنا أبو عمر بن حيويه، حدثنا محمد بن خلف، حدثني إسحق بن محمد بن إبان، أخبرني بعض البصريين قال: مر أبو السائب المخزومي بسوداء تستقي وتسقي بستاناً. قال: ويلك! ما لك؟ قالت: صديقي عبد بني فلان كان يحبني وأحبه، ففطن بنا، فقيده مواليه وصيرني مولاي في هذا العمل. فقال أبو السائب: والله لا يجمع عليك ثقل الحب وثقل ما أرى. وقام مقامها في الزرنوق، فكل الشيخ وعرق، فجعل يمسح العرق ويقول: اللهم فرج ما ترى.

يا رب باك شجوه
أخبرنا أبو علي محمد بن الحسين الجازري بقراءتي عليه، حدثنا المعافى بن زكريا، حدثنا محمد بن القاسم الأنباري، حدثنا أبو العباس محمد بن يحيى قال: قال أبو سعيد عبد الله بن شبيب:
أنشدني علي بن طاهر بن زيد بن حسن بن علي بن أبي طالب لبعض المدنيين:
ألا رُبّ مَشغُوفٍ بِمَا لا يَنَالُهُ، ... غداةَ تُسَاقُ المُشعَرَاتُ إلى النّحرِ
غداةَ تُوَافي أهْلَ جَمْعٍ، ضُحيّةً، ... لدى الجمرَة القُصْوَى أولو الجمم الغُبرِ
وَللرّمي إذْ تُبْدِي الحِسانُ أكُفَّها، ... وَتَفْتَرّ بالتّكْبيرِ عَنْ شَنَبِ غُرّ
فَيَا رُبّ بَاكِ شَجوَهُ، وَمُعَوِّلٍ، ... إذا مَا رأى الأطنَابَ تُنْزَعُ للنَّفرِ
قال أبو بكر بن الأنباري: الشنب الثغر البارد، والشنب: برد الأسنان، والغر: البيض.

ليلى الملاحين
أخبرنا أبو الحسين أحمد بن علي بن الحسين الوكيل بقراءتي عليه سنة أربعين وأربعمائة، أخبرنا إسماعيل بن سعيد المعدل، حدثنا أبو بكر محمد بن القاسم، حدثني أبي، حدثنا أحمد بن عبيد قال: قعد رجل في سفينة فسمع الملاحين يذكرون ليلى، وكان يهواها، فأنشأ يقول:
فَويحكَ يا مَلاّحُ! أرّقَ لَيْلَنا ... دعاؤكَ لَيلى، وَالسّفِينُ تَعُومُ
لَعلّك إن طالَتْ حَياتُكَ أن تَرى ... حَبَائِبَكَ اللاّتي بِهِنّ تَهيمُ
أجدَّكَ مَا تُنْسِيكَهُنّ مُلِمّةٌ، ... ألمّت، وَلا عهْدٌ بهِنّ قَديمُ

النسيم المنيم الموقظ
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي إجازة، وحدثنا أحمد بن علي الحافظ عنه، أخبرنا أحمد بن محمد بن العباس الأخباري أنشدني أبو نضلة لنفسه:
وَلمّا التَقَيْنَا للوَداعِ، وَلَمْ يَزَلْ ... يُنيلُ لِثَاماً دَائِماً وَعِنَاقَا
شَمَمتُ نَسيماً منهُ يَستجلبُ الكَرَى، ... وَلَوْ رَقَدَ المَخْمُورُ فِيهِ أفَاقَا

حديث كجنى النحل
أخبرنا أبو محمد الحسن بن محمد الخلال بقراءتي عليه، سنة ثمان وثلاثين وأربعمائة، حدثنا أبو بكر أحمد بن إبراهيم بن شاذان، حدثنا محمد بن الحسين بن حميد الخزاز، أخبرني علي بن محمد المرهبي أنشدني بعض أصحابنا لذي الرمة:
وَلمّا تَلاقَيْنَا جَرَتْ مِنْ عُيونِنَا ... دُمُوعٌ كَفَفْنَا مَاءَهَا بالأصابعِ
وَنِلْنا سِقَاطاً مِن حَديثٍ كأنّهُ ... جنى النحلِ ممزُوجاً بماءِ الوَقائعِ

الصوفي والوجه الجميل
أخبرنا أبو إسحق إبراهيم بن سعيد بفسطاط مصر بقراءتي عليه، أخبرنا أبو صالح السمرقندي، حدثنا أبو عبد الله الحسين بن القاسم بن أليسع، حدثنا أحمد بن محمد بن عمرو الدينوري، حدثنا أبو محمد جعفر بن عبد الله الصوفي قال: قال أبو حمزة الصوفي: حدثني عبد الله بن الزبير الحنفي قال: كنت جالساً مع أبي النظر الغنوي، وكان من المبرزين الخائفين العابدين، فنظر إلى غلام جميل فلم تزل عيناه واقفتين عليه. حتى دنا منه. فقال له: سألتك بالله السميع وعزه الرفيع وسلطانه المنيع ألا وقفت علي أروى من النظر إليك! فوقف قليلاً ثم ذهب. فقال له: سألتك بالحكيم المجيد الكريم المبدي المعيد ألا وقفت! فوقف ساعةً، فأقبل يصعد النظر فيه ويصوبه ثم ذهب، فقال: سألتك بالواحد الجبار الصمد الذي لم يلد ولم يولد إلا وقفت! فوقف ساعةً ثم نظر إليه طويلاً، ثم ذهب، فقال: سألتك باللطيف الخبير السميع البصير، وبمن ليس له نظير ألا وقفت! فوقف فأقبل ينظر إليه ثم أطرق إلى الأرض. ومضى الغلام، فرفع رأسه بعد طويل، وهو يبكي، وقال: لقد ذكرني هذا بنظري إليه وجهاً جل عن التشبيه، وتقدس عن التمثيل، وتعاظم عن التحديد، والله لأجهدن نفسي في بلوغ رضاه بمجاهدتي جميع أعدائه، وموالاتي لأوليائه حتى أصير إلى ما أردته من نظري إلى وجهه الكريم وبهائه العظيم، ولوددت أنه قد أراني وجهه وحبسني في النار ما دامت السموات والأرض؛ ثم غشي عليه.

قيس ولبنى
أخبرنا أبو محمد الحسن بن علي إجازة، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس الخزاز، حدثنا أبو بكر محمد بن خلف، حدثنا أبو بكر العامري، حدثنا سليمان بن أبي شيخ، حدثنا أيوب ابن عباية قال:
خرج قيس بن ذريح إلى المدينة يبيع ناقة له، فاشتراها زوج لبنى وهو لا يعرفه، فقال له: انطلق معي أعطك الثمن، فمضى معه. فلما فتح الباب، فإذا لبنى، وقد استقبلت قيساً، فلما رآها ولى هارباً، وخرج الرجل في أثره بالثمن ليدفعه إليه، فقال له قيس: لا تركب لي والله مطيتين أبداً. قال: أنت قيس بن ذريح؟ قال: نعم! قال: هذه لبنى قد رأيتها فقف حتى أخيرها، فإن اختارتك طلقتها، وظن القرشي أن له في قلبها موضعاً، وأنها لا تفعل. قال له قيس: افعل. فدخل القرشي عليها، فخيرها، فاختارت قيساً. فطلقها، وأقام قيس ينتظر انقضاء عدتها ليتزوجها، فماتت في العدة.

بهرام جور وابنه الخامل
أنبأنا القاضي أبو القاسم علي بن المحسن التنوخي، حدثنا أبو بكر محمد بن عبد الرحيم بن أحمد المازني الكاتب، حدثنا أبو علي الحسين بن القاسم بن جعفر الكوكبي، حدثنا عيسى بن محمد أبو ناظرة السدوسي، حدثني قبيصة بن محمد المهلبي، أخبرني اليمان بن عمرو مولى ذي الرئاستين قال: كان ذو الرئاستين يبعثني ويبعث أحداثاً من أحداث أهله إلى شيخ بخراسان، له أدب وحسن معرفة بالأمور، ويقول لنا: تعلموا منه الحكمة، فإنه حكيم، فكنا نأتيه، فإذا انصرفنا من عنده، سألنا ذو الرئاستين واعترض ما حفظناه، فنخبره به. فقصدنا ذات يوم إلى الشيخ فقال: أنتم أدباء، وقد سمعتم ولكم جدات، ونعم، فهل فيكم عاشق؟ فقلنا: لا! فقال: اعشقوا، فإن العشق يطلق اللسان العيي ويفتح حيلة البليد والمخبل، ويبعث على التنظف وتحسن اللباس، وتطييب المطعم، ويدعو إلى الحركة والذكاء، وتشرف الهمة، وإياكم والحرام! فانصرفنا من عنده إلى ذي الرئاستين، فسألنا عما أخذنا في يومنا ذلك، فهبنا أن نخبره، فعزم علينا، فقلنا: إنه أمرنا بكذا وكذا. قال: صدق والله، تعلمون من أين أخذ هذا؟ قلنا: لا! قال: إن بهرام جور كان له ابن، وكان قد رشحه للأمر من بعده، فنشأ الفتى ناقص الهمة ساقط المروءة خامل النفس، سيء الأدب، فغمه ذلك، ووكل به المؤدبين والمنجمين والحكماء ومن يلازمه ويعلمه، وكان يسألهم عنه، فيحكمون له ما يغمه من سوء فهمه وقلة أدبه، إلى أن سأل بعض مؤدبيه يوماً، فقال له المؤدب: قد كنا نخاف سوء أدبه، فحدث من أمره ما صيرنا إلى اليأس من فلاحه. قال: وما ذاك الذي حدث؟ قال: رأى ابنة فلان المرزبان، فعشقها حتى غلبت عليه، فهو لا يهذي إلا بها، ولا يتشاغل إلا بذكرها. فقال بهرام: الآن رجوت فلاحه.
ثم دعا بأبي الجارية. فقال له: إني مسر إليك سراً، فلا يعدونك، فضمن له ستره، وأعلمه أن ابنه قد عشق ابنته، وأنه يريد أن ينكحها إياه، وأمره أن يأمرها بإطماعه في نفسها، ومراسلته من غير أن يراها وتقع عينه عليها، فإذا استحكم طمعه فيها، تجنت عليه وهجرته، فإن استعتبها أعلمته أنها لا تصلح إلا لملك ومن همته همة ملك، وأنها تمنع من مواصلتها من لا يصلح للملك. ثم ليعلمه خبرها وخبره. ولا يطلعها على ما أسر إليه، فقبل أبوها ذلك منه، ثم قال للمؤدب الموكل بولده: شجعه على مراسلة المرأة، ففعل ذلك، وفعلت المرأة ما أمرها به أبوها.
فلما انتهت إلى التجني عليه، وعلم الفتى السبب الذي كرهته له أخذ في الأدب وطلب الحكمة والعلم والفروسية والرماية وضرب الصوالجة، حتى مهر في ذلك. ثم رفع إلى أبيه أنه محتاج إلى الدواب والآلات والمطاعم والملابس والندماء إلى فوق ما تقدم له، فسر الملك بذلك، وأمر له به. ثم دعا مؤدبه فقال: إن الموضع الذي وضع به ابني نفسه من حيث هذه المرأة لا يزري به، فتقدم إليه أن يرفع إلي أمرها ويسألني أن أزوجه إياها. ففعل، فرفع الفتى ذلك إلى أبيه، فدعا بأبيها فزوجها إياه، وأمر بتعجيلها إليه، وقال: إذا اجتمعا فلا تحدث شيئاً حتى أصير إليك.
فلما اجتمعا صار إليه فقال: يا بني لا يضعن منها عندك مراسلتها إياك وليست في حبالك، فإني أنا أمرتها بذلك. وهي أعظم الناس منةً عليك، بما دعتك إليه من طلب الحكمة والتخلق بأخلاق الملوك حتى بلغت الحد الذي تصلح معه للملك من بعدي. وزدها من التشريف والإكرام بقدر ما تستحق منك.
ففعل الفتى ذلك وعاش مسروراً بالجارية، وعاش أبوه مسروراً به، وأحسن ثواب أبيها، ورفع مرتبته وشرفه بصيانته سره وطاعته. وأحسن جائزة المؤدب بامتثاله ما أمره وعقد لابنه على الملك بعده.
قال اليماني مولى ذي الرئاستين، ثم قال لنا ذو الرئاستين: سلوا الشيخ الآن لم حملكم على العشق؟ فسألناه، فحدثنا بحديث بهرام جور وابنه.

فؤادي! فؤادي
أخبرنا أبو القاسم المحسن بن حمزة الشرطي، رحمه الله تعالى، بقراءتي عليه بتنيس في كتاب التسلي، حدثنا أبو علي الحسن بن علي الديبلي الكوفي، حدثني جماعة من أهل طبرية منهم أبو يعقوب وأبو علي ابنا يعقوب الحذاء وأبو الحسين بن أبي الحارث وأبو الفرج الصوفي وغيرهم.
أنه كان عندهم رجل صوفي يعرف بالقاسم الشراك وكانت له عنيزات يرعاهن. وقال لي بعضهم: إنه لم يكن يحضر معهم مجالس السماع، ويجتذبونه إلى ذلك فلم يكن له رغبة فيه. قالوا: فبينا هو يرعى عنيزاته إذ سمع صبياً من صبيان الصحراء يغني في حقل:
إنّ هَوَاكَ الذي بِقلْبي ... صَيّرَني سَامعاً مُطِيعا
أخذتَ قَلبي وَغُمْضَ طَرْفي، ... سَلَبَتني العَقلَ وَالهُجوعا
فذَرْ فُؤداي، وّخذْ رُقادي ... فقال: لا بَلْ هُما جَمِيعَا
فَرَاحَ مِنّي بحَاجَتَيْهِ، ... وَبِتُّ تحتَ الهوَى صَريعَا
قال: فاعتراه طرب شديد، فقال للصبي، وأقبل نحوه: كيف قلت؟ ففزع الصبي وعدا، وهو يقول: لا بأس عليك! كيف قلت يا صبي؟ فلم يقف له ورجع إلى قصائدي كان لهم بطبرية يقال له حميد الفاخوري، حاذق بهذا المعنى، فتردد إليه ثلاثة أيام يردد عليه هذه الأبيات، ثم تخلف في منزله عليلاً، يصيح: فؤداي فؤادي، إلى أن قضى، رحمه الله تعالى.

الحب يعلن الجنون
أخبرنا أبو بكر محمد بن أحمد الاردستاني بقراءتي عليه في المسجد الحرام، حدثنا أبو القاسم الحسن بن حبيب المذكر، حدثنا أبو علي الحسن بن أحمد الصوفي، حدثني يحيى بن سليمان، سمعت محمد بن الزيات يقول: قلت لغورك يوماً: متى حدث بك هذا العشق؟ قال: مذ زمان، إلا أني كنت أكتمه، فلما غلب علي بحت به. قلت: أنشدني من أحسن ما قلت في ذلك! فقال:
كَتَمتُ جُنُوني، وَهوَ في القَلبِ كامنٌ، ... فَلَمّا استَوَى وَالحُبُّ أعلَنَهُ الحبُّ
وخَلاّهُ وَالجِسْمُ الصّحيحَ يُذِيبُهُ، ... فلمّا أذَابَ الجِسْمَ ذلّ له القَلبُ
فجِسمي نَحيلٌ للجُنُونِ وَللهَوَى، ... فَهذا لَهُ نَهبٌ، وَهذا له نَهبُ

نار الهوى أحر من الجمر
أخبرنا أبو بكر الاردستاني بمكة أيضاً، حدثنا الحسن بن حبيب أنشدني عبد العزيز بن محمد بن النضر الفهري لماني:
زَعَموا أن من تَشاغلَ باللّذا ... تِ عَمّنْ يُحِبّهُ يَتَسَلّى
كذّبوا وَالذي تُساقُ لَهُ البُدْ ... نُ وَمَن عاذَ بالطَّوافِ وَصَلّى
إنّ نَارَ الهَوَى أحَرُّ من الجَمْ ... رِ على قَلبِ عاشِقٍ يَتَقَلّى

ماتا معتنقين
وجدت بخط أحمد بن محمد بن علي الأبنوسي، ونقلته من أصله، حدثنا أبو علي محمد بن عبد الله بن المغيرة الجوهري، حدثنا أحمد بن محمد بن أسد الأزدي، حدثنا الساجي عن الأصمعي قال: رأيت بالبادية رجلاً قد دق عظمه، وضؤل جسمه، ورق جلده، فتعجبت فدنوت منه أسأله عن حاله، فلم يرد جواباً، فسألت جماعةً حوله عن حاله، فقالوا: اذكر له شيئاً من الشعر يكلمك، فقلت:
سَبَقَ القَضَاءُ بأننّي لكّ عَاشِقٌ، ... حتى المّماتِ، فأينَ منكَ مَذاهبي؟
فشهق شهقة ظننت أن روحه قد فارقته، ثم أنشأ يقول:
أخلُو بذِكْرِكّ لا أُرِيدُ محَدّثاً، ... وكَفَى بذلِكَ نِعمةً وَسُرورا
أبكي فيُطرِبُني البُكاءُ، وَتارةً ... يأبى، فيأتي مَنْ أُحِبُّ أسِيرا
فَإذا أنَا سَمْحٌ بِفُرْقَةِ بينِنا، ... أُعقِبتُ مِنهُ حَسرَةً وزَفِيرَا
قال، فقلت: أخبرني عن حالك؟ قال: إن كنت تريد علم ذلك، فاحملني وألقني على باب تلك الخيمة! ففعلت، فأنشأ يقول بصوت ضعيف يرفعه جهده:
ألا مَا للمَليحةِ لا تَعُودُ، ... أبُخلٌ ذاكَ منها أمْ صُدُودُ؟
فلَوْ كنتِ المَرِيضةَ جئتُ أسعى ... إلَيكِ، وَلم يُنَهنِهْني الوَعيدُ
فإذا جارية مثل القمر قد خرجت، فألقت نفسها عليه، فاعتنقا، وطال ذلك فسترتهما بثوبي خشية أن يراهما الناس. فلما خفت عليهما الفضيحة. فرقت بينهما، فإذا هما ميتان، فما برحت حتى صليت عليهما، ودفنا، فسألت عنهما فقيل لي: عامر بن غالب وجميلة بنت أميل المزنيان، فانصرفت.

عبد الله بن عجلان صاحب هند
أنبأنا أبو القاسم علي بن المحسن، أخبرنا أبو عمر محمد بن العباس بن حيويه، أخبرنا محمد بن المرزبان، حدثنا أبو بكر العامري، أخبرني سليمان بن الربيع الكاذي، حدثني عبد العزيز بن الماجشون عن أيوب عن ابن سيرين قال: عبد الله بن عجلان هو صاحب هند بنت كعب بن عمرو، وإنه عشقها، فمرض مرضاً شديداً، حتى ضني، فلم يدر أهله ما به، فدخلت عليه عجوز، فقالت: إن صاحبكم عاشق، فاذبحوا له شاة، وأتوه بكبدها، وغيبوا فؤادها.
قال: ففعلوا وأتوه بها، فجعل يرفع بضعةً ويضع أخرى ثم قال: أما لشاتكم قلب؟ فقال أخوه: ألا أراك عاشقاً ولم تخبرنا. فبلغني أنه قال لهم بعد ذلك: آه! ومات.

عاشق جارية أخته
أخبرنا أبو القاسم علي بن المحسن، حدثنا أبو عمر محمد بن العباس، حدثنا أبو بكر بن المرزبان إجازة، حدثني محمد بن علي عن أبيه علي بن ابن دأب قال: عشق جاريةً لأخته، وكان سبب عشقه إياها أنه رآها في منامه فأصبح مستطاراً عقله ساهياً قلبه، فلم يزل كذلك حيناً لا يزداد إلا حباً ووجداً، حتى أنكر ذلك أهله وأعلموا عمه عما كان له، فسأله عن حاله، فلم يقر له بشيء، وقال: علة أجدها في جسمي، فدعا له أطباء الروم، فعالجوه بضروب من العلاج، فلم يزده علاجهم له إلا شراً، وامتنع من الطعام والكلام، فلما رأوا ذلك منه اجتمعوا على أن يوكلوا به امرأةً، فتسقيه الخمر حتى يبلغ منه دون السكر، فإن ذلك يدعوه إلى الكلام والبوح بما في نفسه، فعزم رأيهم على ذلك وأعلموا عمه ما اتفقوا عليه، فبعث إليه بقينة يقال لها حمامة، ووكل به حاضنةً كانت له، فلما أن شرب الفتى غنت الجارية قدامه، فأنشأ يقول:
دَعوني لما بي وَانهَضوا في كَلاءةٍ ... من اللهِ، قد أيقَنتُ أن لَستُ باقِيَا
وَأن قد دَنا مَوتي وحانَت منيّتي، ... وَقد جَلَبت عَيني عليّ الدوَاهِيا
أمُوتُ بشَوْقٍ في فُؤادي مُبرِّحٍ ... فَيَا وَيْحَ نَفسِي مَن به مثلُ ما بيَا
قال: فصارت الحاضنة والقينة إلى عمه، فأخبرتاه الخبر، فاشتدت له رحمته، فتلطف في دس جارية من جواريه إليه، وكانت ذات أدب وعقل، فلم تزل تستخرج ما في قلبه حتى باح لها بالذي في نفسه، فصارت السفيرة فيما بينه وبين الجارية، وكثرت بينهما الكتب، وعلمت أخته بذلك فانتشر الخبر، فوهبتها له فبرأ من علته، وأقام على أحسن حال.

من غزل ابن السراج
قال ابن السراج: لي من جملة قصيدة كتبت بها إلى القاضي أبي مسلم ابن أخي

أبي العلاء المعري أولها:
إنّ غَرَامي، يَا أبَا مُسْلِمِ، ... إلى غَرِيمي، في الهَوَى مُسلِمي
فَلا تَسَلْ يَوْمَ النَّوَى عن دَمٍ ... سَالَ مِنَ الأجفانِ كالعَندَمِ
ومنها:
حَتى بَدَتْ لي من مِنىً ظَبيَةٌ ... ما بَينَ شعبِ الخَيفِ وَالمأزَمِ
أعَرْتُهَا طَرْفَ خَليٍّ مِنَ ال ... وَجدِ، فغارَتْ وَاستَحَلّت دمي
فقُلتُ، وَالأجفانُ مُنْهَلّةٌ، ... من سَقَمٍ في جفنِها مُسقمِي
أللهَ يا ظبيَةَ خَيْفَي مِنى ... في مُحْرِمٍ لِوْلاكِ لمْ يُحرِمِ
وإنّما حجَّ ليلقاكِ في ... جُملةِ من يلقاكِ في الموسِمِ
أبَحتِ ما حَرّمَهُ اللهُ مِنْ ... قَتلِ حَنيفٍ نَاسِكٍ مُحْرِمِ
رُدّي عَلَيهِ قَلبَهُ تُؤجَرِي ... وَلا تُبيحي دَمَهُ تأثَمي
لا تَقتُلِيه، فَلَهُ مَعشَرٌ، ... مَا الدّهرُ من بأسهِمْ مُحتَمي
قال: ولي من أبيات كتبت بها إلى بعض أهل الأدب بديار مصر:
فَلَوْ كُنتَ شَاهِدَنا، وَالرّقِي ... بُ ينظرُ شَزْراً إلينا قِيامَا
نَفُضّ عَنِ العَتبِ خَاتَامَهُ، ... وَقَد هَتَكتْ وَهَتكْتُ اللِّثاما
وَعِفّتُنا حَاجِزٌ بَيْننَا ... وَلَوْ تَلْفَت مُهجَتَانَا غَرَاما
فإنْ لم أمُتْ حَسرَةً، يا سُعا ... دُ، فقد ذقتُ قبلَ الحِمام الحِماما


.../...
119
 
أعلى