دراسة فاطمة جاديبا - قراءة في رواية المسخ لكافكا

“الرواية التي عندما قرأها غابريل غارسيا ماركيز قرر أن يصبح روائيا”

عن الرواية :

من التفاهة أن أضع هذا العنوان كمقدمة عن رواية لكاتب من وزن كافكا، لكن بمنتهى الميكافيللية ،أستخدمُ اسم ماركيز لأعرفكم بمسخ كافكا !

تخيل أن تستيقظ من النوم، لتجد نفسك و قد تحولت إلى حشرة!

بهذه الطريقة يفتتح كافكا روايته المسخ ،غريغور سامسا ، بطل الرواية ، يستيقظ في أحد اﻷيام ليكتشف تحوله إلى حشرة. هذه الحشرة غير محددة النوع ، تحمل صفات الصرصار و الخنفساء. يعمل غريغور كبائع متجول، مما يجعله مصدر دخل ﻷسرته و العائل الوحيد بعد مرض والدته ، و توقف والده عن العمل، و محاولة غريغور تسديد ديون والده.

تتألف عائلة غريغور من أربعة أشخاص، غريغور الابن، و اﻷب المتقاعد ، و اﻷم المريضة بالربو، إضافة إلى أخته اللماحة المقربة. يستيقظ غريغور داخل حجرته المقفلة اﻷبواب-حسب عادته في إغلاق غرفته ليلا- و يلاحظ من طريقة تمدده و مظهر أعضائه أنه قد تحول إلى حشرة !

تتوالى اﻷحداث في الرواية، لتصف وضع غريغور داخل غرفته و غربته داخل عائلته ، و شفقة هذه العائلة عليه ، ثم تقززها و رغبتها في الخلاص منه بهيئته المقززة، لتأتي النهاية متوقعة و صادمة في الوقت نفسه.

خالق المسخ : كافكا

فرانتس كافكا كاتب تشيكي يهودي، كتب باﻷلمانية، و درس الكيمياء و الحقوق و الآداب، و عمل موظفا في شركة تأمين، القليل من كتاباته نشرت خلال حياته و من بينها المسخ، أما معظم روياته نشرت بعد مماته.

والده هرمان كافكا، تاجر ثري و أب استبدادي، أما والدته فهي ذات مستوى ثقافي رفيع، هادئة و خجولة. لدى كافكا ثلاث أخوات “أوتلا، إيلي، فالي” ، و أوتلا هي المقربة له.

عرف كافكا الحب أكثر من مرة، لكن في حياته ثلاث نساء مفصليات:

فيليبس باور: التي استمر معها لمدة خمس سنوات، تراوحت فيها العلاقة بين التقدم لخطبتها و الانفصال عنها، لتنتهي العلاقة عند مرضه بالسل، و اتخاذه المرض تبريراً للانسحاب.

ميلينا يزينيسكا : امرأة مثقفة متزوجة كانت مترجِمة لبعض أعماله.

دورا ديامنت : يهودية بولونية، عانت من مشاكل عائلية مشابهة للمشاكل التي عانى منها كافكا في محيطه اﻷسري، ساعدته دورا بالانفصال عن عائلته، و بقي معها حتى وفاته، بسبب مرض السل عن عمر41 سنة.

كافكا و سامسا :

تظهر شخصية كافكا في العديد من جوانب الرواية، كافكا كان كارهاً لعمله و يظهر كره سامسا أيضا لعمله، فهو مجبر على العمل في سبيل عائلته “لو لم يكن علي أن أحتفظ بذلك العمل من أجل والدي لكنت قد أعلنت رأيي منذ وقت طويل “.

الغربة: غربة المختلف عن الآخر و حاجته له رغم اختلافه عنه، فبعد أن كان غريغور يغلق أبوابه مستمتعاً بوحدته، بات يفتح أبوابه منتظراً زيارة أحد أفراد العائلة “كانوا يريدون جميعا أن يدخلوا إليه، عندما كانت اﻷبواب مغلقة، و الآن بعد أن فتح لهم أحد الأبواب بنفسه، لم يدخل أي منهم”. اعتراف أحد أفراد اﻷسرة بقسوتهم عليه، و هذا ظهر عند نقل أثاث حجرته و قول والدته “ألا يبدو كما لو كنا نوحي إليه عندما ننقل أثاثه بعيدا، بأننا قد فقدنا اﻷمل نهائيا في شفائه، و أننا إنما نتركه وحيدا في قسوة…إنني أعتقد أنه من اﻷفضل أن نترك حجرته بنفس حالتها التي كانت عليها دائما، فإذا ما عاد إلينا ثانية، سيجد أن شيئا لم يتغير”، تعاطفٌ ، و لكنه تعاطف مشروط بعودته إلى ما كان عليه، و أن استمراره بالاختلاف لن يعيده إليهم.

رغم خنوعه الدائم في حالته الإنسانية و الحشرية،إلا أن صيغة التمرد ظهرت في حادثة نقل أثاث غرفته، هذا التمرد كان موجها لشقيقته التي أثناء رعايتها له في مصيبته، تحولت إلى متحكمة في أموره. و خاصة حادثة إصرارها على تفريغ غرفته من اﻷثاث، و تعلقه بأحدى الصور” حسنا، دعها تفعل ذلك.لقد تعلق بصورته، و لن يتركها، و لسوف يطير مندفعا في وجه جريتا”.

المسخ في نادي شام للقرّاء :

تمت قراءة الرواية بشكل جماعي من 17 آذار و حتى 23 منه . و فيما يلي مقتطفات من آراء بعض الأصدقاء :

هل هذا انسلاخ عن قشرة الواقع ؟:
يرى د.إياد برغوتي أنه :

( لا توجد ترجمة حقيقية لكلمة Metamorphosis ليس فقط في العربية بل في كل اللغات ! . هي ترميز لعملية كاملة حقيقية ، تنسلخ فيها اليرقة من قشرتها المزيفة لتعيش حقيقتها كحشرة كاملة، و بنفس الطريقة سقطت “قشرة الواقع” عن غريغور سامسا الذي تحول إلى مسخٍ بين الصرصار و الجعل! ” .

أهم نجاح لمسخ كافكا هو إبداعه في قول ما أراد في ما لم يكتبه! الصفحات الثمانون ليست سوى لخطف أنفاس القارئ في رعبٍ و فضول منذ السطر الأول عندما استيقظ و وجد نفسه قد تحول إلى حشرة هائلة. هكذا ببساطة، و دون أي تبرير لهذا الحدث الاستثنائي على مدى الرواية بكاملها، و هذا التجاهل بحد ذاته له معنى عميق: هذا التحول أكثر من طبيعي، لدرجة لا تستلزم تبرير حصوله أصلاً! .

الكاتب الذي يستطيع أن يستفز عقل قارئه و يستدرجه إلى “الحديقة السرية” التي تقوم عليها كل الرواية دون ذكرها، هو مبدع حقيقي و بجدارة! هل حصل تحول ما لغريغوري أم ببساطة ظهرت حقيقة حياته ذات صباح؟ لماذا لم يدرك هو هذا التحول!؟ لقد تعامل معه بنفس ما تعامل مع تغيرات حياته في أحلامه و عمله، أي حاول أن يتكيف مع المعطيات الجديدة التي يقبلها دون تفكير في تغييرها وفق رغبته و إرادته. حياة عاملته كما لو كان حشرة .. إلى أن صار و استحال فعلاً إلى حشرة! كم منا ينتظر تحوله و نهاية غريغور الذي رفضه أقرب أحبته و عائلته و الذين تحديداً تحول إلى حشرة لأجلهم؟ كم منا ينتظر أن يستيقظ ذات صباح و يحدق في المرآة .. و يجد نفسه دون أن يسحقها الآخرون؟ كم منا يسحقه الواقع كحشرة .. تنتظر انسلاخها عن يرقتها؟”

رواية أم نبوءة ؟:
تطرح جمانة أحمد هذا السؤال ، و تتابع :

” ترى هل كانت قصته هذه نبوءة لحياته القادمة … كتب كافكا رائعته الذاتية ( المسخ ) ونشرت في عام ١٩١٥، في عام ١٩١٥ تحول غريغور إلى حشره قميئة منبوذة ولم تهتم به سوى شقيقته ، في عام ١٩١٧ أصيب فرانز كافكا بالسل وأصبح مريضاً منبوذا يشهد كل يوم عنف وابتعاد والده وحزناً لا مبال من والدته ، فسافر مبتعداً ليعيش مع شقيقته التي كانت تهتم به … ( ترى هل نبذته بعد تفاقم مرضه؟؟؟ ) .

مات غريغور سامسا نتيجه إصابته بجرح عميق إثر تفاحة رماها والده عليه محاولاً قتله ، وقد تعفن جرحه فيما بعد لكن السبب الأول كان موته جوعاً و عدم قدرته على اﻷكل بسبب اﻷلم ، كان الجوع هو السبب في وفاة فرانز كافكا، حيث أن المرض أدى لتعفن رئتيه وأصاب حنجرته مما جعل الأكل مؤلماً جداً …. فهل كان كافكا يعلم ؟!

وأخيراً كم منا لايرى في نفسه صورة الإنسان التي تضم روحه … كم منا يحاول تخيل نفسه في كل ليلة بألف شكل وشكل ليهرب من حياة لا ترضيه أو لتمتثل أناه لكلمات سمعها من آخرين لم يرتضوه بينهم .

مسخ كافكا .. كابوس لاينسى”…
مؤلمة حد اﻹبداع:
الصديقة فاطمة بدرا التي تناست تقززها إزاء الحشرات و رافقها التعاطف مع غريغور قالت :

” كم كانت مؤلمة وفظيعة طريقة معاملتهم له رغم وده وطيب نواياه وما أسلفهم من حب وجهد، وكم كانت مؤلمة النهاية ، لا أقصد نهاية غريغور، بل القصة بمشهدها الأخير الذي يظهر عائلة سعيدة تستعد لاستقبال الربيع دون أدنى ألم او ذكرى لحشرة مرت من هنا..

كافكا أبكيتني كثيراً، وأثرت بداخلي حيرة وشلالات من الأسئلة عن معنى الوجود وتحقيق الذات، والغريب أنه طوال الرواية لم يرافقني خوفي وتقززي من الحشرات بل على العكس نسيت كل ذلك ولم أعِ سوى غريغور الضحية الذي تعاطفت معه حتى آخر لحظة، كافكا كنت مبدعاً ومؤلماً حد الإبداع أيضاً”

المسخ ..رواية عبثية :

صادمة في مقدمتها، اذ يستهل كافكا روايته ب”استيقظ غريغور سامسا ذات صباح بعد أحلام مزعجة،فوجد نفسه قد تحول في فراشه إلى حشرة”.هذه المقدمة التي عندما قرأها غابرييل غارسيا ماركيز قرر أن يصبح روائياً ..

يستخدم كافكا الرمزية في إيصاله الفكرة، فالحشرة هنا ترمز إلى الاغتراب أو الاختلاف. لم يحوّل كافكا بطل قصته إلى حصان أو عجل،إنما مسخه بهيئة حشرية منفرة. و رسم لنا ردود الأفعال السلبية لمحيطه،جاعلاً من شخصيات المحيط مقربة جداً (أم ، أب ، شقيقة)، ليظهر لنا أن أعظم العلاقات الإنسانية تتأزّم عند الاختلاف و المصائب.

يمكن إسقاط رواية كافكا على كثير من الجوانب الحياتية: العقائدي، الاجتماعي، السياسي، اﻷسري، العاطفي. فمجرد أن تختلف عن الآخر ستتحول إلى حشرة في نظره. الحشرة هنا ترمز إلى الاختلاف عن الآخر،أو المصيبة التي تحيط بإنسان مسلتزمة حاجته للآخرين”مرض،عجز،كآبة”. الحشرة هنا أن تكون أنت بوجه آخر عندما ينكرك الآخر…أن تتحول شفقته عليك إلى عذاب وتنهي حياتك تفاحة.
 
أعلى