موليم العروسي - آراء الجسد والجنس والسياسة

أصبح موضوع الجنس، كموضوع الجسد، يأخذ حيزاً مهماً في الدراسات الفلسفية الأدبية والنفسية منذ زمن ليس بالقصير. وتحول الاهتمام بالجسد من مجرد آلة لتحويل العالم (العمل) وآلة للإنجاب إلى الجسد كطاقة ليبيدية تلعب دوراً مهماً في حياة الفرد. لم يكن المجتمع يعير اعتباراً للجسد، وخصوصا جسد المرأة، إلا لكونه آلة من الآلات التي تجلب المتعة للرجل الذي يستعملها لنفسه أولاً كما يمكنه أن يبتاعها ويبيعها أو يكتريها أو يستلفها. ويصدق هذا على الأنثى كما على الذكر، وإن كان القانون لم يشرع لاستعمال جسد الذكر إلا في ما تعلق بالعمل. فالمثلية الجنسية وإن كانت منتشرة في الثقافة العربية الإسلامية بشكل أثار انتباه الباحثين فإنها لم تكن تمارس إلا كتمرد على القوانين والشرائع. هذا في الوقت الذي حدد فيه الفقه ضوابط استعمال جسد الأنثى وفق وضعها الاعتباري والاجتماع
منذ أن اكتشف فرويد أن للاشعور الدور الحاسم في حياة وقرارات الفرد الإنسان، وأن اللاشعور بنية مستقلة تؤثر في الحياة الواعية للإنسان تحول الاهتمام بالجسد من الشكل الذي رأيناه عليه أعلاه إلى موضوع للمتعة والمتخيل والإبداع. هذه الطاقة الليبيدية توجد لدى الرجل والمرأة على السواء.
تحول الجسد إذن من مجرد موضوع للطب والقانون إلى موضوع للبحث النفسي والاجتماعي والأدبي والفني والإيروتيكي…والسياسي.
لكن المجتمعات التقليدية السابقة على الثورة الصناعية الكبرى التي نشأت في أوروبا تعاملت مع الجسد والجنس بشكل مرتبط مع مستوى تطورها الثقافي والحضاري والاجتماعي.
يستمد موضوع الجنس إذن أهميته المباشرة في المجتمعات التقليدية من الرأسمال المنوي وكيفية تدبيره. فالمني رأسمال القبيلة ولذا فهي تحاصره وتوجهه وتحميه. وبما أن المرأة هي حاضنة هذا الرأسمال فإن القبيلة اعتبرت أنه من اللازم ضبطها حتى لا تعبث بهذا الكنز الثمين. فالمني يتحول بفعل الرحم إلى سلالة تحافظ على النسل واستمرار الاسم. كما أنه يضبط انتقال الجاه والمال والسلطة حتى لا تنفلت من إمرة وسلطة القبيلة وشيوخها.
وبما أن الأمر يتعلق بالمني وبالآلة التي تنتجه، أي العضو الذكري، فإن الرجل تماهى مع هذه الآلة حتى لم يعد يفرق بينها وبين نفسه. فهو هي، وهي هو. أي أن الرجل أصبح ذكراً(قضيباً) متجولاً وكل ما يمس هذا الذكر يمسّه. فإن عجز القضيب عن الإيلاج أو عجز عن القذف فإن مخيال الرجل، ولاشعوره، يترجمان هذه الحادث كعجز كلي. وكان لا بد للرجل/الذكر أن يجد كل الوسائل التي تحميه من العجز وبالخصوص تحميه من أن يعرف الآخرون هذا العجز. العجز في القذف أو الانتصاب أو الإيلاج هو عجز في القيام بمهمة استمرار النسل.
ثم إن هناك ميلاً عاماً يعبّر عن نفسه شعورياً، أو لاشعورياً، ومفاده أن للمرأة ميلاً غريزياً لخيانة العلاقة الزوجية. إن عقل المرأة في فرجها، يقول هذا الرأي، لذا فهي تبحث بالأساس عمن يشبعها جنسياً. هذا الخوف يجعل الرجل يخاف من المقارنة مع هذا المنافس، أي الذي يوجد في استيهامه. وما روايات ألف ليلة وليلة إلا دليل على ذلك. فمنطلق الحكاية أن نساء السلطان شهريار كن يتصيدن فرصة خروجه للصيد أو لزيارة الولايات البعيدة لكي يضعن أنفسهن بين أذرع العبيد. العبد هو العدو اللدود للسيد، إذ إنه أقوى منه جسدياً وأكثر منه قدرة على الباه. لذا تصبح المرأة والعبد في وضعية واحدة، عدوان للسلطة.
من هنا تناسلت الروايات الذكورية حول المرأة ففرجها، عندما تكون شبقية، غار بدون قاع يمكن أن يبتلع الرجل. ويؤكد هذا الاستيهام كون الغار نفسه هو الذي خرج منه الذكر وهو جنين.
لكن كل هذه الاستيهامات النفسية التي قد تصل في بعض الأحيان إلى حد المرض والهوس ليست في الواقع إلا هذياناً يجد أساسه في الواقع السياسي والاجتماعي والثقافي.

***

لذا كان الجسد دائماً أحد الرهانات السياسية والاجتماعية المهمة. فهو آلة للعمل والإنتاج ولذا وجب تطويعه وسلب حريته باستعباده وقهره، وهو كما قلت آلة لإنتاج النسل وإدامته وإكثار أفراد القبيلة والعشيرة والأمة… ولذ وجب ضبط تعاطيه مع هذا المعطى الأساسي، وذلك بضبط الحاضن الأساسي للمني ولتوزيعه واستثماره ألا وهي المرأة؛ والجسد وسيلة للمتعة وللزينة كما تقول الأديان لذا يتحول في كثير من الحالات إلى بضاعة للتبادل والتهريب والاختطاف… وبما أن الجسد يخضع لكل هذه الضغوطات فمن الطبيعي أن يتمرد وأن يحاول التحرر والانعتاق واستعادة حريته الطبيعية التي بها نشأ أولاً كجسد حيواني غريزي وبعد ذلك كجسد ثقافي فكري حضاري وسياسي.
ومن هنا تعددت طرق احتجاجه، فقد يحتج ضد سياسة الدولة والمجتمع والعائلة والمؤسسات بصفة عامة. قد يحتج بإظهار نفسه واستفزاز الآخرين وقد يحتج بإعدام نفسه وجعل الآخرين يحسون بالذنب، وقد يحتج بأشكال جمالية مرتبطة بتميزه وخروجه عن المألوف والمتعارف عليه باللباس أو المظهر بصفة عامة، وقد يحتج أيضا بالانخراط في المحظور والمحرم والممنوع.
في عالمنا العربي اليوم، بل وحتى الأوروبي، نعيش اليوم فترات انتقال كبرى على المستوى الثقافي والحضاري والسياسي والقيمي، ولذا من الطبيعي أن تتضارب وجهات النظر بين أنماط فكرية مختلفة وتؤدي بالنهاية إلى احتجاجات قد تصل إلى العنف أو الانتحار (يسميه البعض استشهاداً) أو التعري أو إشهار ممارسات كانت إلى عهد غير بعيد في طي الكتمان (المثلية الجنسية). التعبير بالجسد قد يعتبر في كثير من الحالات عرضاً من أعراض المرض النفسي (الهستيريا)، أي أن الجسد يعبر عن الرفض بتعطيل إحدى وظائفه كغياب الصوت أو البصر أو إحدى الحواس الأساسية لدى الإنسان. وقد يصبح الجسد الوسيلة الوحيدة التي يمتلك الإنسان الفرد في مواجهة ضغط الجماعة أو السلط المتعددة.
لقد بدأت في العالم العربي بوادر التعبير بالجسد ووضعه موضع خطر عندما تسد الأبواب بمبادرة من الصحافي العراقي منتظر الزيدي عندما غامر بجسده ورمى الرئيس الأميركي بحذائه، ويجب ألا ننسى أن جمعيات الشباب العاطل في المغرب كانت قد جربت إحراق الأجساد أمام البرلمان المغربي على عهد حكومة عبد الرحمان اليوسفي الاشتراكي. لكن الحدث الذي استأثر بالاهتمام العالمي هو إقدام محمد البوعزيزي بتونس على حرق جسده احتجاجاً على إذلاله من طرف شرطية. كما يجب ألا ننسى أن حركة "فيمن" الأوروبية نشأت داخل الجامعات الأوكرانية احتجاجاً على الصورة النمطية التي أصبحت ملتصقة بفتيات هذا البلد. وفي نفس الإطار يمكن أن ندخل مواقف أمينة التونسية والشابة المصرية اللتين أشهرتا جسديهما العاريين أمام السلطة الذكورية العربية التي اكتسحت الساحات العربية إبان ما سمي بالربيع العربي. كل هذه الحركات شجعت المثليين العرب على أن يعلنوا صراحة أن نوازع أجسادهم الجنسية لا علاقة لها بالنمطية التي يحاول النظام الذكوري أن يخضعهم لها… كل هذا يُظهر بشكل يكاد يكون جلياً أن التحول كبير في المجتمع، وأن الحرية تصطدم بجدار القانون الذي ما زال يمتح من العقلية القبلية البدوية.
رهان الجسد لا يقف عند التعري بل يتعداه إلى التحجب. فالأجساد التي تختفي وراء النقاب أو البرقع تعبر أيضا عن الاحتجاج أمام التقدم الحضاري الذي لا تستسيغه هذه الفئات من المجتمعات العربية والتي تعتبره خروجاً عن النهج الذي سطر قبل آلاف السنين.
 
أعلى