شاكر لعيبي - الفنّ، الشعر، الجسد

لن أتفق مع طالبات يدرسن الفنون الجميلة يسألنَ، بشكل متواتر، عن إمكانية كتابة أطاريحهنَّ عن الجسد، أجسادهنّ احياناً. لسبب بديهيّ: أن من الصعوبة معالجة موضوع علاقتكَ به مرتبكة،
أو حتى غير سويّة، في الشروط السوسيولوجية القمعية وصعود السلفيات والتدخل في الشخصيّ والحميميّ. كيف تتمّ الكتابة من دون وجود تجربة وجودية، أيروتيكية عميقة وأصيلة (ليس المغامرات العابرة مع ابن الجيران أو القبلات المسروقة على الساحل والشط، أو أثناء فترة الخطوبة)؟. نعرف ذلك في السياق العربيّ الراهن. إننا مضطرّون للتفكير بالمشكلات أعلاه، ونحن نقرأ شعراً ونظريات وتأويلات على ألسنة صديقات كريمات شاعرات يرتدين كل حجاب (شرعيّ) قديم وخِمار مُلوّن جديد في منطقتنا، خاصة في مشرق العالم العربيّ المُحجَّب المُنقَّب اليوم. من أين يا ترى تنطلق جذوة هذا الشعر وشعلته الداخلية؟ الكبت لا يكفي وحده ولا الرغبة البكر الصادقة، دون العلاقة الإنسانية الحرّة بالجسد في شرط ثقافي وأخلاقيّ وسياسيّ مُتفتّح جذرياً. هل ثمة من قسوة في التقليل من شأن العناصر الكونية الغريزية التي تُشكّل الكائن، وهذه تتجاوز السياق وتلعب عليه وتظلّ فاعلة عند معالجة هذا الجسد جمالياً؟ هذا الاعتراض يضع الدفين (الغريزيّ) في مصاف (الثقافيّ) بالضبط. لكن الاعتراض لا يرى أن التفكير بالجسد يتجاوز المكبوت، بعيداً، وينهمك بتصورات أخرى عن الجسد، ذات بنية مختلفة عن الحسيّ واللذويّ المحض، مع أهميتهما القصوى.
فــي الشعر، أمْكَن إخفاء تصوُّر (آخر) عن علاقتنا بالجسد، تحت مزاعم انفلات أيروتيكيّ وتحرّر لغويّ، صار يوماً بعد آخر قياسياً و"مُجْمَعاً" عليه تقريباً. لم يُخْفِ رغم ذلك التصوُّر الحقيقيّ عن جسد مُعاش يومياً. فالمعاش هو الذي يقول نفسه في النصوص الأيروتيكية المتكاثرة، شاء كُتّابها من الرجال والنساء، أم أبوا، بألف طريقة وطريق. في بعض النصوص، يتعلق الأمر ببساطة بالكبت والتنفيس المراوغ عن المكبوت. في بعضها الآخر، كان الحديث بلغة التصوُّف ذريعةً للحديث عن الجسد الشبِق. وهو ما أسميناه في حينها بـ (الأيروتيكية الصوفية)، ولاحظنا أنه شائع في الشعر النسوي المُحايث.
كلّ ذريعة لاتخاذ الجسد موضوعاً أساسياً، كشفتْ، في غالب الحالات وليس كلها، أن العلاقة معه لم تكن من نمطِ تَصوُّرٍ مفهوميٍّ مُغايرٍ، وأحياناً لم تكن "أكثر حضاريةً وسعادةً" من التصورات السائدة والشعبية والمطمورة. صار الجسد (موضة) للكتابة، ومثل كل موضة فإن مُتابعيها لا يفكّرون عمودياً بها ولا يسيرون دوماً وفق قناعة راسخة، إنما عبر التقليد.
في الفن التشكيليّ، تتعقد المسألة عربياً، لأنّ البراعة في لغة الرسم، مهما تعالتْ، لا يمكنها التغطية على العلاقة الفعلية والداخلية بالجسد، مثلما تغطي البراعة في استخدام (الكلام) العربيّ الموضوع نفسه.
الفن البصريّ، يقول الباطن عبر الظاهر، ويقول اللامرئيّ عبر المرئيّ، وأن المَظْهَر فيه أقلّ أهمية من المَخْفيّ عظيم الوَقْع الذي يهتمّ به المُتلقون والدارسون ونقّاد الفن ومؤرخوه. لذلك فإننا نتلمّس في الرسم ذلك الباطن، اللامرئيّ، المَخْفيّ المتعلق بالجسد، إذا تكلمنا عنه وحده.
من زاوية براغماتيكية، كيف يمكن رَسْم المرئيّ والظاهر والمَخْفي في الجسد، في أجواء مُلبّدة بالغيوم، ليس السلفية اليوم فحسب، إنما السياقية العامة، والعائلية بل السياسية (نتذكر فجأة القاضي محمود الحسن)، حيث لم تُعْلِن الثقافة العربية إلا مفهوماً متردّداً خجولاً عن مسألة عويصة مثل مسألة الجسد؟


* جريدة تاتوو
 
أعلى