راينهارد شولتزه - الذكورة في »الليالي العربية«

انصب التلقي الأوروبي لليالي العربية بصفة أساسية علي الصور والشخصيات والنماذج الأولية التي تتردد في الحكايات. لقد أكدت الشخصيات الذكورية والأنثوية علي حدٍ سواء فتتها وسحرها، ولكن في الوقت الذي كان يُنظر فيه للشخصيات الأنثوية بوصفها "موضوعات" سلبية علي وجه العموم، كان يُنظر إلي الشخصيات الذكورية باعتبارهم "ذوات" فاعلة. لقد أصبحت النساء في كلٍ من الحكايات الحقيقية والدراسات الغربية، بشكل أو بآخر صوراً كاريكاتورية لدورهم الفعلي في المجتمع، وتمثلت وظائفهن في تقديم تضاد متناغم مع التجليات الذكورية المتعددة. إن الرجال، طبقاً للطريقة التي تنعكس بها صورهم في خيال القراء الغربيين، لا يتم وصفهم وتعليلهم، أو تأويلهم، وإنما كان يتم قبولهم بمعني أصح علي الطريقة التي يبدون عليها : الإنسان ضحية سلبية لفاعل أنثوي حاكم عادل لا يصدر عنه إلا الأفعال الطيبة، بحار جريء يتحمل المحن، أو تاجر ماهر، أو حرفي يحصل علي ثروة طائلة. إن الذات الظاهرية للحكاية الملك، التاجر، الصياد، أو البحار ليست هي التي تصبح مركزاً للتحليل وإنما بالأحري، الأحداث التي يواجهونها، أو بمعني أدق، الأحداث التي تحل بهم.
ووسط الرتابة الواضحة لكلا الذكورة وعالم الذكر، يؤسس برولوج الليالي العربية موضوعاً يتكرر في مجموعات كثيرة من الأحداث. إن البرولوج وحده، يكرر السلسلة التالية من الأحداث مرتين : (1) رحلة عمل أو حدث مشابه يجبر أحد الرجال علي ترك زوجته وحيدة لبعض الوقت (2) وتضطره مصادفة ما إلي العودة إلي منزله بشكل مفاجئ (3) يفاجئ هذا الرجل زوجته وهي تضاجع عشيقها (4) يقتلهما معاً. إن الاستجابة الذكورية بلغة الفعل ورد الفعل يحسمها النشاط الجنسي للمرأة.
إن صورة الذكر تؤكد وجود المرأة في معسكر الأعداء إذا عقدت العزم علي إشباع رغبتها الجنسية، وتخضع المرأة لمسخٍ مباشر عندما تصر علي لعب دور الذات. وعلي العكس من ذلك، تعري، من خلال قيامها بهذا الفعل الجوهر الأساس الذي يناهضه الرجل الذي يضطر لمناهضته في واقع الأمر. ومثلما يضطر الرجل، الذي يعجز عن الهروب من الحب، إلي الوقوع في الحب، فانه يضطرأيضاً إلي اتخاذ موقف من خيانة المرأة. ،ويكون رد فعله برغم ذلك مقيداً لأنه يجد نفسه مجبراً علي التخلص من المذنبين، وإذا لم يكتب له النجاح في مهمته، يغدو ضحية لعقاب وحشي.
وتشمل عقوبات شهريار وقوع البلاء والنفي الذاتي من العالم. إن شهريار يضطر للتخلي عن ملكه ومغادرة مملكته بعد أن شاهد خيانة زوجته مع العبد الأسود. ويُمنح شهريار وأخوه شاه زمان فرصة ثانية للعودة إلي مملكتيهما للقيام بواجبهما الرجولي قتل الزوجة الزانية وعبيدها. ويصادفان عفريتاً عاني من الخيانة المتكررة لإحدي الصبايا علي الرغم من احتفاظه بها أسيرة في أحد الصناديق. ويُكره الأخوان الملكيان علي ارتكاب فعل شائن لتحقيق رغبة الصبية الخليعة، ولكنهما بعد ذلك يشعران بالعزاء لعلمهما أنهما في وضعية أفضل من وضعية الجني.
إن لقاء شهريار بالجني يمكنه من العودة إلي مملكته ومعاقبة زوجته. ويُمنح الأمير الذي تحول إلي حجر، فرصة مماثلة (حكاية الأمير المسحور). ففي ذات اللحظة التي يكتشف فيها خيانة زوجته مع عبد

خسيس، يتصرف بالطريقة التي يمليها عليه واجبه كرجل، حيث يوجه للعبد ضربة بسيفه، تخطئه ولا تقتله. وتوضح القصة أن الأمير يواجه العقاب بسبب فشله في القيام بواجبه. إن قيام زوجته بتحويله إلي حجر يرمز إلي مسخ الأميرجراء فشله في إنجاز مهمته. لقد تجسدت سلبيته في الحجر. إن التمثال يُعد الآن أليجوريا رجل يتخذ موقفاً سلبياً في مواجهة إحدي التجارب الفاصلة.
إن الذكر في الليالي العربية يقدم بلغة الوظائف (ملك، صياد، بدوي، تاجر، إلخ) وهي لغة ذات مجالات للسلوك لا يشوبها الالتباس تقرر إلي أي مدي تم إنجاز الوظيفة بنجاح. إن تصنيف الذكر يكون تجسيداً لوظائف اجتماعية ولا يُسمح بالتعرف عليه كشخص. إن التوتر الذي ينشأ في الكثير من الحكايات أو القصص يكمن في تطور الرجل إلي ذات أو، علي نحو أكثر تحفظاً، في تحوله إلي فرد يتوافق مع مجال محدد للسلوك. إن التفرد يكون برغم ذلك محصلة تعرضه لأحد الأحداث وليس ناتجاً لأي مشاركة فعالة. إن الرجال نادراً ما يقدمون علي الفعل؛ إنهم يوجدون بالأحري من خلال أفعال الآخرين. و ما يمثل حسماً في عملية تفردهم هو ردود أفعالهم تجاه الأحداث. وبهذه الطريقة، ترتقي أعمالهم النمطية إلي مستوي المعايير القياسية : خيانة المرأة أمر يستوجب العقاب، الكشف عن غباء القاضي في آخر المطاف، الحب لا يمكن أن يظل بلا مكافأة، لا مناص من أن يقع المرء في حب المرأة الجميلة التي ينظر إلي وجهها.
ويمكن تلخيص النمط الأساسي لصورة الذكر فيما يلي : كان ياما كان في سالف العصر والأوان، رجل وظيفته (س)، تتسق أفعاله مع وظيفته. وفي يوم من الأيام، يعترضه حدث يحول بينه وبين تحقيق وظيفته، و إما أن يفشل في التمسك بمعايير وظيفته، أو يتقيد إلي حدٍ ما بفعله. وهكذا يقرر ذات الحدث الآن نتيجته، ويتحول الرجل، كاشفاً عن شخصيته من خلال عملية المسخ : يتحول إلي كلب، إلي حجر، إلي حمار، أو امرأة، أو يموت. إن سلبيته وتقاعسه هما جوهر شخصيته. إن ما يبدو موضوعاً للرجل هو في حقيقة الأمر ذات الحدث. إن

هذه الذات، سواء كانت امرأة جميلة، امرأة مخادعة، مكاناً محرماً، ثروة شخص آخر، أو عجائب عالم ناء، تحول الرجل إلي موضوع وتدفع إلي بروز الهوية الشخصية.
إن التمييز الشكلي الذي تقيمه الحكاية بين الإنسان كذات في الظاهر، والأحداث بوصفها الذات الحقيقية يُعَدُّ في بعض الحالات مجرد مظهر سطحي. وكما يمكن مشاهدته بوضوح في حكاية عزيز وعزيزة، يشكل تمثيل الموضوع الظاهري الأحداث في حقيقة الأمر الوهم المُجَسَّد للرجل. إن عزيز يتعرض من خلال مجري الأحداث لخمسة أنماط من الشخصيات النسائية. إنه يلتقي عزيزة أولاً، العاشقة النقية العفيفة الطاهرة التي تضحي بحياتها من أجله؛ ثم يستسلم لامرأة غريبة بلا إسم، يمارس معها الجنس؛ وبعد ذلك، يقع في شرك إحدي القوادات التي تدفعه في طريق العاهرة. لقد كان عليه أن يتعامل مع النساء الأربع، منتقلاً من إحداهن إلي الأخري إلي أن تم إخصاؤه ووصمه بالخزي، وأخيراً يقرر العودة إلي أمه.
وتظهر حكاية الأمير المسحور نطاق الأعمال التي يمكن للموضوع الظاهري القيام بها. إن الأمير يريد في حكايته أن يقتل العبد الأسود الذي لا تملك زوجته الجميلة من الارتباط به فكاكاً علي الرغم مما يتسم به من قذارة. و يري الأمير في العبد شبحه الخاص الذي يطارده بلا هواده، والذي يعجز عن الفكاك من قبضته. إن محاولته الفاشلة لقتل العبد لا تفعل سوي أن تجعل العلاقة بين الاثنين أكثر وثاقة. ونتيجة لذلك، ينتصب تمثالاً بالقرب من النعش الذي يرقد فيه العبد الشبيه بالأموات.
ويقدم البرولوج نفسه أفضل نماذج هذا الصراع بين نصفي الإنسان. إن شهريار هو الملك وقاتل الفتيات اللائي يدعوهن كل ليلة لإمتاعه. إنه يتحسس هويته بشكل متكرر من خلال الحكايات التي ترويها عليه شهرزاد، تلك الهوية التي يتسني له اكتشافها فقط نتيجة لخيانة زوجته. إن شهرزاد تقوم بتنويع موضوع الحكايات التي تلقيها علي سمعه وتقدم إمكانات مختلفة فيما يتعلق بتطورها. ويفشل شهريار، الملك غليظ القلب، في أن يتعرف علي وحشيته، ومع ذلك يكتشف بالفعل تنويعات يكون هو ذاته قد خبرها. إن التوتر الناشئ بين تفرده، الذي جعل منه الملك الوحشي الذي يكونه، والتنويعات التي تتكشف من خلال حكي شهرزاد، تؤدي إلي تحول أكثر شمولاً : إن شهريار ينجب حيوات ويتوقف عن ممارسة القتل. لقد تحول إلي أب عادل أمكن له التغلب علي شبحه الخاص.
إن تفرد البطل هو بالتقريب النتيجة الحصرية لمواجهته لحدث يضطر معه للتصرف وفقاً لوظيفته. ومن هنا، يكتشف في نفسه هوية تميزه إن سلباً أو إيجاباً عن الآخرين. وبالتالي، يركز الفعل علي لقاء البطل بالذات الحقيقية للحكاية. إن هذا اللقاء هو ما يدفع البطل للتصرف علي نحو يتسق أو يختلف مع وظيفته. إن الاختلال الوظيفي في السلوك يؤدي إلي تدمير مؤقت أو دائم للنموذج البدئي الذي يقدمه البطل. إن غانم ابن أيوب التاجر، في حكاية غانم ابن أيوب، يفقد ثروته عندما يقع في حب قوت القلوب ويضطر إلي الانتظار لمدة شهر كامل قبل أن تبدي قوت القلوب استعدادها لاستكمال علاقتهما. وأثناء ذلك، ينحي غانم وظيفته كتاجر جانباً، ومن ثم، يخضع لعملية تفرد : إنه الآن عبد لعشقه. وفي غضون ذلك، يتعرض وجوده كتاجر إلي الخطر حيث صادر الخليفة أملاكه أثناء غيابه. لقد أصبح غانم معدماً علي شفا الموت. بل ولم تعد محبوبته تعترف به. لقد فقد هويته كعاشق، وهي الهوية التي كان قد تحصل عليها من خلال علاقته بقوت القلوب. ولولا "علامات الثراء" المرسومة علي وجهه، كان يمكن أن يصبح بلا كينونة، ينتظر الموت. ومع ذلك، يستنتج الناظر لدكانه، من هذه الملامح ، أنه تاجر ويقرر مساعدته. إن وظيفة التاجر التي تغدو الآن موضوعاً مركزياً للحكاية تنطوي علي خَلاصِه. ومن خلال قوت القلوب العفيفة

الطاهرة، التي حافظت بقوة علي شرفها، يصبح غانم مرة أخري تاجراً، ثم يصبح وزيراً للخليفة، ومن ثم، ينجز استيفاءً تاماً لوظيفته الأصلية.
ولا يقتصر الشكل الذي يتخذه تحول البطل فقط علي طبيعة الحدث الذي يحل به. إن الأمر الأكثر أهمية هو ذات الحدث، الذي يقرر طابُعه قيمته الأخلاقية. وفي قصص الحب في الليالي العربية ، يكون من الطبيعي تماماً أن تؤسس صورة المرأة طابع الأحداث. إن قوت القلوب صاحبة العفة والطهارة، والتي تمتلئ مع ذلك بالرغبة، تثبت أنها اختبار للرجل : إذا تمكن من السيطرة علي شهوته، فسوف يكافأ في نهاية الحكاية وإلا فسيلقي عقابه. إن المرأة المغوية الماكرة كثيراً ما تقود الإنسان إلي طريق الهلاك. إن عزيز يخضع لتحول نهائي لا رجعة فيه : لقد قام آسره بإخصائه بسبب خيانته. إن المرأة الممسوسة بالحب تفتقر إلي الأخلاقية التقليدية التي

ترتقي بالشهوة الذكورية وترفعها إلي مستوي يمكن قبوله اجتماعياً، وبناء علي ذلك، يفقد الرجل الحماية التي يوفرها له الحب بطريقة طبيعية. ومن ثم، يُعاقب، ومن خلال العقاب يفقد، ليس فقط وظيفته، وإنما أيضاً هويته الجسدية.
إن صورة الشخصيات الذكورية في الليالي العربية ليست علي ذلك النحو من الاستاتيكية التي تبدو عليها في التلقي الأوروبي. إن الإنسان ليس مجرد دمية زجاجية شفافة وإنما هو، بمعني أصح، وظيفة مجسدة تتشكل خلال الحكاية ذاتها. إن شخصية أولية يتم خلقها بصرياً تنتج عن الأحداث التي تمر بها في مجري الحكاية، تتحصل علي هويةٍ تتطور في نهاية الحكاية إلي شخص مزود بأنا كاملة. وتحمل هذه الأنا مع ذلك تشابهاً ضئيلاً مع "الأنا" الفردية، لأن الشخص يتألف بمعني أصح من الحكاية التي تستره أثناء حياته. إن المرء بوصفه "إنسان

حكاء" كما يقول تودوروف، يمكن تحديد هويته من ثيابه التي يرتديها والتي يُرمز إليها في الغالب بعبارة "رداء الشرف" الذي يحصل عليه. ومن ثم، تتعامل الليالي العربية بالفعل مع صورة ذكر يواجه فيها الرجال أشباحهم في صورة حكايات يطورون من خلالها القدرة علي البزوغ من نماذجهم البدئية الوظيفية الخالصة.



* جريدة أخبار الأدب
 
أعلى