تسليمة نسرين - الأوراق الميتة.. ت: عز الدين ميرغ

«الفقير لا يسأل عن نسبه»
«مثل هندي»
امسح الرصيف في «رامانا» والضوء يسقط من فانوس الشارع، على بشرتي حولها وبدل لونها، صرت اكثر نقاءً وصفرةً. وانا ابنة القاع لوني كالنحاس، لون الارض، صرت كالكركم، مشدوها في هذا اللون، كان زبائني من الرجال يتقززون من لوني الاسمر الداكن وبقايا جروح الجدري، المتفرقة اكتشاف بؤسي، يثير عدة مشاعر، البعض يتقيأ، والبعض يصر الا يدفع. والمخمور يضحك على لوني، ويدفع بعضهم زيادة كأنني متسولة، بعض السكارى لا يدفع وعندما احتج، نصيبي هو الصفع والركل، وابكي، بعد كل ظهيرة، اذهب متجولة في ارصفة «رامانا» ليس بحثا عن الزبائن، فالشرطة تزعجني، وسائقو العربات يضايقونني، فانا مغرمة بالتنزه، لكي أنسى واقعي، اتأمل اغصان الاشجار الظليلة، يوما وجدت فراشة ملونة، صعدت الجدار لكي امسكها، عدت طفلة بريئة، اتذكر عندما كنت اطارد الجراد، اربطها في خيط، تطير وانا امسكها، أحس نحوها بالعطف واطلق سراحها، فالحر يعطي الحرية لغيره. أتجول صغيرة في غابة التمر هندي، اطارد الفراشات، والمارة مشفقون على طفلة تتجول في الغابة وحيدة، واقطب وجهي واعبس به. كنت لا احتاج لاحد، الآن اتمنى تلك التقطيبة، ان يهرب الآخرون مني ولا احتاج لهم، هؤلاء الدين ينتهكون جسدي، ولكن اين المفر؟ وإلى اين اهرب وأفر؟» هربت يوما أجلس تحت اقدام عمي «سيتارا». قال لي تخافي انهم بشر، لم اكن اخاف منهم، ولكنني كنت اكرههم، لم اكن جبانة منذ صغري، وانا اجوب الغابة حرة، فتاة في الثالثة عشرة والبعض يقول ستكون قاطعة طريق.. وانا انتظر غروب الشمس في داخلها، كي التقط الاغضان والاوراق الصغيرة الجافة، أعطيها برجوعي لامي.. وهي تطبخ جالسة قرب النار في فناء المنزل. اتقرفص لكي اتدفأ بالنار والارز يغلي، يغمرني بخاره، وهي تقول لي صدق الآخرون فأنت شجاعة لا تعودي الا بحلول الظلام، في مرة، هبط الليل على الغابة، عمت رائحة طيبة.. اي زهرة تفتحت الآن، من اين؟ لا ادري. اشجار التيك والمهوقني، اشجاري المفضلة، اعرف ميعادها اما هذه الرائحة لا اعرفها، رائحة منعشة، كنت احب ان اتمرغ في تراب الغابة، اقطف فطرياتها، كنت احب الاستحمام بالتراب اكثر من الماء، على ضوء القمر المكتمل بدرا، والغابة مضيئة وامي تقول لي الاشباح تخرج من الغابة ليلا، تفضل الاغصان. وما كنت أخاف. البي نداء يراعاتي وفراشاتي الملونة، وبدري المكتمل، يحمل غابتي المفضلة.
اسمع عند الغروب صرير الجنادب، اسمع اصطدام الاوراق الجافة، تتكسر من وقع اقدامي الصغيرة، وامي تتوسل ان اعود وهي تناديني «أنجوري، انجوري، اليوم لا احد يناديني به، وزبائني يسألونني دائما، ما اسمك ايتها الصغيرة، وأرد انا لا اسم لي. كيف يكون ذلك؟ وما اسم والدك الملعون؟ لا اعرف، هل انت ابنة زنا؟ نعم، واجاوب، ولا يضطرب صوتي ابدا، ولماذا يضطرب؟ فلا أعرف منذ صغري، ما هو شكله وأين يسكن، وما اسمه؟ وانا امطر والدتي بهذه الاسئلة، ولا تجاوب واكتفي بالصمت، احيانا كانت تقول لي الفقراء لا والد لهم، والدهم الفقر، وهو والد اغلب الناس في الكون. ولماذا مهتمة بذلك، ستظلين فقيرة وعندما تغضب انظر لاحمرار وجهها، ويعجبني، وهي تقول والدك من يطعمك، واقول لها أنت، وتقول نعم انا والدك ووالدتك. وانفجر ضاحكة، بعضهم يقول بأن اسم والدي «صدر الدين» وبعضهم يقول بانه «ناشو باجلا» بجانب اسماء اخرى «أمان الله» «باربك ميان» واقول لها من هو في هذه الاسماء، وترد بابتسامة، لا احد. وعند الح تقول لي دعيهم يختارون لك بمزاجهم فانت محظوظة فلك أربعة آباء. لا تهتمي بمن لا يطعمك في هذه الدنيا، فانا والدتك كنت مثلك، كنت اموت جوعا، واحدا منهم لم يطعمني، ما كنت اعرف غير والدتي، في كوخنا المصنوع من الطين المحروق، كانت تترك فانوس الزيت حتى الصباح رغم الغلاء، فقد كانت تخاف علي، وحيدة بائسة، كانت تعمل خادمة، ببعض الروبيات، مع التسول، من مهربي الاخشاب، متنكرة بنقاب يغطي وجهها، تبيت بوجبة واحدة، حفنة من الارز، كنت تفاحة قلبها وما تملك في الدنيا، ننام على الحصيرة، من البرد نتغطى بخرق بالية، واتدفأ بحضنها، نستيقظ، تصارع لكي تكسب حفنة من المال، وترعاني، تخاف علي من الغابة، ومن لا يحترم القانون، وتقول لي الفقراء يخرقون القانون لأنه لا يطبق الا عليهم. وكبرت وصرت اكثر ضخامة من امي، وعرفت ان الفقير عدو القانون، لانه لم يشارك في وضعه. عشت اكره الرجال، فامي لا تنام الليل حتى لا يداهمنا احدهم، تنتظر عودتي من الغابة، وهي خائفة وغاضبة، يا لتعاستها، تعيش في كوخ متهدم، بضربة واحدة يستطيع القوي تحطيمه. سلاحها الوحيد خنجر قديم صدئ، ومصباح زيتي، كنت في الثالثة عشرة فتاة مرغوبة، يغازلني البعض في الطريق، وفي اكتمال القمر اطفئ المصباح وافتح النوافذ، حتى يتسلل ضوؤه يغمر كل الغرفة.. ذلك المصباح الضخم يتوسط السماء، وما تزال الليالي المقمرة تأسرني، في «رامانا» اتمدد على الحشائش في البراري الشاسعة، هي ملكي انا، ابقى مستلقية وحيدة، فأنا نبتة، حشيشة في حقل كبير، لا اب لي، ولا جار، لا املك الا السماء والارض والحشائش والنجوم اناديها لتأخذني معها، ويوما سألت امي نفس السؤال، من هم والديك، لم تجاوبني، اعتبرتها دودة مضيئة تنير الكوخ، ولا نعرف وليس بالضرورة ان نعرف من اين جاءت؟ ويوما حكت لي ببراءة وهي تقول «كان عندنا منزلا، وموقدا للطعام، ووالدين، اتعرفين، وقطعة أرض نزرعها، لا نعرف الجوع والعوز، امي تخزن الارز، نأكل ثلاث وجبات، نصطاد السمك من البحيرة التي قربنا، نمتلك ابقارا، نشرب حليبا طازجا، وفجأة حلت المجاعة، صارت وجبتنا واحدة، والذئب في امعائنا لا يرحم، باع ابي ماشيته، ثم الارض، واخذ يشتري الارز الذي صار سلعة نادرة، باع ابي سرير الخشب، والاثاث، والخزانة، وكل ما نملكه.. في يوم صباحي استدعاني ابي «يا جارينا» سنذهب للسوق، سنشتري لك فستانا، دهشت رغم المجاعة بفعل ذلك، ذهبت معه، كان ذهابا بدون عودة، باعني ابي لاحد التجار بثلاثة روبيات. عاد بدوني، غرقت في دموعي، لم أصرخ فقد كنت جائعة. حزنت لوالدتي، وتاريخها، لو كان عندي والد لباعني ايضا، منذ حكاية امي اصابتني فوبيا الآباء، حمدت الله في سري. وامي تبكي محاولة تبرير فعل والدها وهي تقول «انه الجوع» واحيانا تنكره وتقول الاب لا يبيع ابنته، كان زوج أمي فقط. فالابوة وظيفة لا يجيدها الكثيرون. ويزداد ايماني بأن امي دودة مضيئة، تنير دروب الآخرين ولا تعرف ذلك. سوداء مثل ابنوسة، حادة الانف، عيناها لامعتان، مثلي، انظر لعيني اتذكرها، شعري المسدل مثل شعرها، كأنها استنسختني من نفسها فهي ابي وامي، سألتها ماذا حدث بعد ان باعك والدك؟ وتركك دامعة في السوق؟ امسكني من اشتراني بقوة، قادني خلفه كسلعة رخيصة نحو الجنوب. عكس اتجاهنا، غريبة. اعطاني خبزا بائتا، في تلك اللحظة وانا آكل نسيت حزني وفقدان ابي وامي وقريتي. وصلنا «شيامو جوني» نمشي، ونعبر القنوات، حتى مغيب الشمس، والمكان بعيد ممتد، وصلنا في الليل، عطشت، لم يقدم لي احد نقطة ماء. حلقي جف. حالة لازمتني حتى الآن.
ربت على صدرها، لم أفهم هذا العطش الملازم لها حتى الآن. وانا ايضا.. طلبت من احد الرجال ان يعطيني ماءً، ضحك من نحسي وشؤمي.
صديقي «سوبول» كان ولدا طيبا، يداعب اصابعي، نقضي ساعات في الغابة، اطلب منه ان يحضر لي سنجابا. ويستجيب، سوبول يسيل من انفه المخاط، كان كسيحا، واقول له يا سوبول، انت لا اب لك مثلي، ويقول لي تعالي لنذهب الى مكان بعيد من الناس، الى اين؟ الى «دلهي» نخترق النهر سباحة، وظلت احلامنا ارضية كالاوراق الجافة، ونعود لمنزلنا كل يوم، انا وحدي كانت لي ام وكوخ آوي اليه، وسوبول، لا اب ولا ام ولا مأوى، ينام في كوخ مهجور لحارس الغابات، سوبول في نصف عمري، يتيما، يأكل باحسان من الآخرين. واقول لامي سوبول لم يأكل منذ يومين، تبكي، ونناديه يشاركنا ونسعده.. رأيته يوما يتسول بصوت هده الجوع، ويقذف به الحراس بعيدا. امي لم تطرده ابدا، فهو اخانا في البؤس. كانت الكريمة، المضيئة، اورثتني هذا الكرم. اتأمله اراه وانفه السائل ورجله العرجاء، جميلا، اسأله ماذا ستصير عندما تكبر، ويقول لي اتمنى ان اكون لصا كبيرا، وسأقتل الناس، تقتل من؟ سأقول لك فيما بعد، يقول ذلك وهو مستلقى على الحشائش، يخلف رجليه، شبه عاري، ولا انام الليل، اشكو لوالدتي مستقبل سوبول المظلم سيصير قاتلا، وتبكي امي كأنه سيحدث فعلا، واقول له انا سأقتل «جامير ميوني» لانه قال لي يوما سأذهب الى امك. امي التي اخاف عليها، وهمها همي، احس عندما تداعبني، بأنني سنجابها المفضل، تطعمني ارزا مطبوخا، وتنام جائعة، بكيت عندما رأيت امي يوما تتناول عشاءها كوبا من الماء، يوما ذهبت ابحث عن «سوبول» شممت رائحة جميلة، جريت خلفها، وجدت زهورا رائعة وجميلة، استلقيت عليها نسيت جوعي وبؤسي والعالم من حولي آه لو لم تكن امي في انتظاري لنمت الليل هنا، حرة مثل «سوبول». افتقدته كثيرا فقد احترف مهنة التسول في سوق الاناناس. يعود سعيدا ببعض الروبيات. رأيته يوما بسروال قصير، اعطته له زوجة الحارس، لم يعد يطارد لي السناجب، واحزن لهذا التغيير، ويقف خلفي يقول لي «الا ترين انني صرت غنيا، عندي مشروعا لاشتري حذاء، واحلم بزراعة الاناناس، سأبني منزلا كبيرا، هنا؟ لا في «دبي». هل نذهب سويا، سأرى ذلك. واشعر بالحزن، ثم يتوجه الى السوق، ولا يسمح لي بالذهاب معه، ويقول لي بالانجليزية ليس لدي «Time» لاثرثر معك، لقد صار بعيدا عني بعد ان لبس هذا القميص الجديد وذهب الى السوق، معلونة الرأسمالية. غرت منه، من هذا التغير الجديد. انا ايضا سأذهب الى «دبي» واشكو لامي، قائلة لها بأنني لا اقل عن «سوبول» الذي أصبح يبيع الاناناس، وذهبت الى الغابة حيث الزهور والانطلاق والحرية، صرت حرة اكثر من «سوبول» كبرت قليلا، اتسعت دائرة اصدقائي، نصحوني بالزينة والاستحمام بالصابون، رفضت فأنا الطبيعة وزينتها، واطلب فستانا جديدا من امي التي تعمل خادمة في احد المنازل بعشرين روبية، وترفض. رأيت بعض عمال الغابات يكسرون الطوب، عملت بدلا من واحد منهم كان مريضا اعمل بدلا منه حتى لا يموت اطفاله من الجوع، تمنيت لو كنت صبيا اعمل لاطعم امي. جاء يوما «جامبير بيونس» ليقول لامي يجب ان تزوجي البنت فقد كبرت، ولو فعلت ذلك، لاكلت وشربت. واسأل امي عن الزواج، واحس بأنها لا تريد مفارقتي. وتقول لي بأن الزواج نوع من الرق. قلت لها اريد ان اتعلم، وتقول لي بأن التعليم للاغنياء، واسألها لماذا نحن فقراء ولسنا باغنياء، وتقول لي بأن الله يريد ذلك.
«جامبير ميونس» فعلها لاول مرة، كمم فمي، كنت راقدة اشتكي، امي لم تكن في المنزل، ذهبت تقترض بعض حبيبات الارز لتطعمني، جاء هذا الرجل ليقابلها، رآني في السرير مسح جبهتي، قال انني مريضة، ثم غادر، جاءت امي، كنت احكي لها حكايتي ببراءة حتى الفجر وأمي تبكي، لقد انشطر قلبها نصفين، شفيت من مرضي بالاعشاب والحمية، بقيت امي في المنزل، ونحن نموت من الجوع. وامي حزينة لما حدث لي، ترفض طبخ الارز، كأنها تريدنا ان نموت، وفجأة تلتفت والدموع في عينيها لتقول لي ان «جامبير ميونس» هو اباك الحقيقي ايتها التعيسة وانظر للسحب، تتنقل حرة في السماء، ليتني كنت سحابة، بعيدة من الحزن، فحزن الدنيا كله البسوني اياه. وغادرت مع بقجة ملابس سيرا على الاقدام، الى «داكا» بين فترة واخرى كنت افكر في امي و«سوبول» ولا اعرف ما حدث لها، هل صار لصا، ام تاجرا ناجحا؟ ما تزال ذكرى الطفولة بداخلي، ما زالت رائحة الغابة والزهور والحشائش في انفي، وانا اضرع واجوب شوارع «رامانا» اتمنى لو اختبئ في حقولها وحدائقها، كما كنت افعل في الغابة بعيدا عن الرجال، لا ادري ما الذي جاء بي الى هنا.
أحيانا تأتيني رغبة الانتحار، ما فائدة الحياة وجسدي ينهكه الرجال، ومع ذلك لا آكل الا وجبتين في اليوم، كانت تراودني الرغبة أن أعود إلى مدينتي مسقط رأسي «راسلبور» أجلس تحت ظل شجرة من اشجارها الضخمة، وتحتي بيت من بيوت النمل، اتمدد، استلذ بوخزاته، وكلما يمر يوم احس بالجدار يفصل بين الماضي والحاضر. سألني العم «سيتارا» هل تريدين وظيفة؟ نعم، موظفة بدوام من العاشرة وحتى الخامسة بمرتب شهري، واقول له استطيع ان اكسب اكثر ويضحك، ويقول لي ان كان هذا يروقك فمري علي غدا.
وأنا اتسكع في شوارع «رامانا» قررت أن أذهب لأعمل موظفة، بعد أن اغتسل بالماء، حماما طويلا، انظف نفسي من تراب الشوارع، اتطهر من دنس الآخرين، واتذكر حمام امي، وغسلها شعري، وهي تغني تهدهدني، وأحس بأني امتلك الدنيا، ونحن افقر الناس، ومازلت احلم بالغابة والبراءة والطبيعة البكرة، ظل الاشجار الوارف، ورائحة الزهور البرية، بعيدا عن الرجال وقبحهم، أحلم بأن أكون غصن شجرة، او سحابة بعيدة من المدن الكريهة، حتى ولو كانت «دبي» او «دلهي» او «كلكتا». ارتمي في حضن امي وابكي، ابكي وتغسلني الدموع تطهرني، واعود طاهرة بريئة نقية كما ولدت وعشت طفولتي هانئة وسعيدة.

ا
 
أعلى