دراسة محمد عبدالحليم غنيم - محمود الرحبى و قصة المشهد اليومي قراءة في مجموعة اللون البنى

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

صدرت المجموعة القصصية الأولى "اللون البنى" للقاص العمانى محمود الرحبى في الربع الأول من هذا العام 1998 دون أن تلقى اهتماماً نقديا يتناسب وما تقدمه من إضافة حقيقية إلى القصة العمانية على الرغم من الاحتفاء العماني بها فى الصحف ، فهذه أول مقاربة نقدية – في زعمنا – تحاول إلقاء الضوء على هذه المجموعة
تضم مجموعة " اللون البنى " ثمان وعشرين قصة قصيرة أو نصاً ، كما يحلو لكثير من كتاب جيل التسعينات – ومحمود الرحبى واحد منهم – أن يسمى كتاباته ، شعرية كانت أم نثرية ، وهى – أى القصص أو النصوص - موزعة على ثلاثة أقسام ، يضم القسم الأول منها تسعة نصوص ، والثاني نصين ، أما الثالث فيضم سبعة عشر نصاً القسم
وأول ما يلفت النظر في هذه النصوص أنها نصوص قصيرة لا تزيد أطوالها عن خمس صفحات ، مثل ( المجنون ، و فعل الفولاذ ، و ركلات متوالية ) في حين يقل أقصرها عن نصف صفحة أو فقرة ، مثل ( دموع الحلاق، و حضيض) ، أما أغلب النصوص فتتراوح بين الصفحة و الصفحتين ويثير قصر النصوص إشكالية النوع الأدبى ؛ فإلى أى فن من فنون النثر تنتمي هذه النصوص ؟ أإلى الإقصوصة أم إلى القصة القصيرة ، أم إلى القصة القصيرة جداً ؟
والواقع أنه من الضروري أن يعي الكاتب النوع الأدبي الذي يصب فيه رؤيته الإبداعية لأن الكتابة خارج الأنواع الأدبية المتعارف عليها ، تعد مجازفة ومغامرة غير محسوبة العواقب خاصة إذا كان الكاتب في بداية الطريق ، وإذا كان كتاب التسعينات سواء في عمان أو خارجها يضربون عرض الحائط بمسألة الأنواع هذه وبتقاليد القصة القصيرة عامة في كثير من إنتاجهم ، فإنه على الرغم من هذا ، تبدو لنا أن مغامرة محمود الرحبى محسوبة العواقب ، فنصوصه ينتظم أغلبها في إطار القصة القصيرة جدا وقد تفلت منه وتقترب من النادرة أو الخبر أو الحكاية ، وهى أشكال تراثية لها نماذجها المشهورة في الأدب العربي التى تطورت فيما بعد إلى القصة القصيرة، ومثل هذا الإطار – أى القصة القصيرة جداً – " يحتاج إلى ملكات فنية وقدرات إبداعية خاصة لأن القصة القصيرة جداً ظلال لغة مكثفة ، تتماوج وتتحرك بين ظهران السطور القليلة من لمحات ما تكاد تظهر وتبين حتى تختفى وراء غلالة رموز اللغة الشفيفة التى تغرى المتلقي باقتحام خدرها بعد أن تكون قد دغدغت عواطفه وحركت أشجانه وهيئته نفسياً لدخول عوالمها الفنية المتميزة بالحركة الفاعلة التى تقف ورائها ، وتبدعها اللغة المكثفة المركزة " . (الموقف الأدبي – كانون الثاني 1998 ، ص 115 ) .

أى أننا مع فن القصة القصيرة جداً نكون أقرب إلى الشعر ، حيث تتوفر وحدة الانطباع وكثافة اللغة الشعرية وشفافيتها، وهذا ما لا نجده عند محمود الرحبى إلا في القليل جداً من قصصه مثل " مشهد الغيمة – دموع الحلاقة – ودون عين .. دون لسان " وبدرجة أقل في نص " ظل الريش" أول قصة في المجموعة وذلك لأنه في الأخير كواحد من كتاب التسعينات يكتب بلغة محايدة تعتني بالتفاصيل، تفاصيل المشهد اليومي الآني ، وشعريتها الحقيقية تتبدى في انتقاء هذه التفاصيل، فيمكن القول أن قصة محمود الرحبى في اللون البنى هي قصة المشهد اليومي، فثمة إغفال للقضايا الكبرى في الوجود أو المجتمع ، وثمة إجادة في استخدام التقنيات البصرية على نحو غير مسبوق في الكتابات السابقة ، فعين الراوي أشبه بكاميرا دقيقة تلتقط في دقة التفاصيل الصغيرة وتبرزها بوضوح في كثير من الأحيان . ويرى إدوار الخراط أن هذه الكتابة في حيادها تعد موقفا أيديولوجيا يتمثل في الابتعاد عن القضايا الكبرى أو الاستهانة بها أو حتى السخرية منها ، مما يجعل أصحابها يتورطون في قضية كبرى مناقضة ، ويقصد قضية الفن للفن ولا نظن أن محمود الرحبى وصل إلى هذه النقيض لأنه – وهذا ما يميز نصوصه – مهموماً بتلك التفاصيل التى ترمز للواقع وكذلك مهموماً بالذاتي الإنساني في الحياة.

ونأتي إلى قصص المجموعة فنجد أن الكاتب في القسم الأول معنى بتفاصيل الطبيعة ، فيمتزج الحيوان بالإنسان ، فثمة تآلف بين عناصر الكون ، الإنسان بالحيوان و الجماد والنبات في قصة " ظل الريش" تبدو حاجة الطيور للحب مثل حاجة الإنسان له ، فالديك يغافل العجوز ويتواصل مع الدجاجة وتشكو العجوز لصاحب الديك جارها من تطاول الديك على دجاجتها ، ولكنها عندما تشعر بالوحده تراقبه من ثقب الحائط ثم تحاوره ويمتد الوصل وعندما يربط الرجل الديك يأتى قط وينهشه فتدافع عنه الدجاجة وتموت متأثرة بجراحها المادية والمعنوية " وفى قصة " الحب الأول" تحب العجوز طفلاً في التاسعة و عندما تموت ، يسمحون للطفل بالسير في جنازتها وزيارة قبرها ولكنه في الواقع حب غير مبرر؛ ولذلك تبدو لنا هذه القصة فجة ، والذى يكد فجاجتها هذه النهاية للنص : " وعندما ماتت العجوز ، سمح له والده بالخروج وراء جنازتها ، والتسلل إلى قبرها الذي تحرسه دجاجات غبراء وفروج أعرج وحيد ". (اللون البنى ، صـ 12 )
وفى قصص" قمر السكران ومشهد الغيمة وعين الذبابة ودموع الحلاقة " يهتم الكاتب برصد التفاصيل الدقيقة ، فنقرأ في القصة الأخيرة مثلاً: " كنت فوق كرسى الرمل ، الذي يستلقى بزهو أمام مرآة البحر الساطعة ، عندما مسحت وجهي بأصابعي ووجدت طفيليات صغيرة من الشعر بدأت ترتفع قاماتها بتحد في وجهي ، فقررت الذهاب إلى الحلاق لإزالتها " صـ27
وقبل أن ننتقل إلى باقى القصص في القسمين التاليين ، نشير إلى أن الكاتب يقترب من لغة الشعر الشفيفة في قصتى: " مشهد الغيمة ودموع الحلاقة " وإن جاءت شعرية الأخيرة في المضمون على العكس الأولى من القصة ؛
وفى القسم الثاني الذي يقصره الكاتب على قصتين فقط ، هما " حمى الغريب، والمجنون " تأخذ القصة الأولى شكل رسالة يرسلها الراوي من السجن إلى شركة كانت قد قبلته موظفاً عندها ولم يكن قد استلم العمل بعد ، ومضمون رسالته أنه دخل السجن ، وعندما تصل الرسالة إلى الشركة ترسل له من يخبره بالتالى : " لا حاجة لنا إلى موظفين ، عدلنا عن الأمر وليكن الله في عونك "صـ 34 ، وعند ذلك يتم اخراجه من السجن بدون سابق إنذار. هل السجن هنا هو حمى الغريب كما يشير عنوان القصة ؟ . إذا كان الكاتب قد أراد ذلك فقد أفسد القصة ، لأن مضمون القصة واضح ألا وهو القهر فالراوي يتم إبعاده عن وظيفته ، ربما لكي هذه تذهب الوظيفة إلى شخص آخر غير مقهور ، ولذلك نرى أن العنوان "حمى الغريب " قد وضعه الكاتب على سبيل السخرية .

أما في" المجنون" أطول قصص المجموعة فيبحث الراوي عن أمه التى هربت منذ ثلاثة أيام من المصحة العقلية ، فيسأل الباعة وصانعي الأحذية والأصدقاء فلا يكادون يهتمون ، غير أنه عندما يلوح لهم بالنقود يبدون الاهتمام الكبير ، بل يخترعون القصص الملفقة حول أمه ، فهذا الإسكافي على سبيل المثال يرفض في البداية الإجابة على سؤاله غير إنه عندما يلوح له الراوي بالنقود يبدى اهتماماً مبالغا :

" - هل تستطيع أن تساعدني يا آخي ؟ إني أبحث عن امرأة عجوز يتبعها رجل عجوز لحيته وسخة ويمسك بعصا
- كيف لي أن أحصى جميع الذين يعبرون من هذا الباب ؟
. ركز معي أرجوك سأعطيك نقوداً -
- لعلى أتذكر ، قبل أقل من ساعتين مرت امرأة عجوز وجهها نصف مغطى يتبعها رجل عجوز لحيته غبراء ، كما كان يتبعهما طفل حافي القدمين ، حاول أن يقترب منى يعبث بالأحذية فضربته في طرف يده فهرب نحوهما الآن تذكرت.

سأعود إليك ..... سأعطيك نقوداً إذا استطعت أن تجدهم ثانية -
. لن أتحرك من هذا المكان حتى أجدهم تأكد من ذلك " ص17 -
وهكذا يمكن للإنسان أن يشترى الحقيقة. ولكن من يفعل ذلك يكون مجنوناً لأنها حقيقة مراوغة ومخترعة، هذا ما تريد أن تقوله القصة بتفاصيلها لولا هذه النهاية حيث يدور الحوار مرة أخرى بين الراوي والبائعة التى كان قد التقى بها في البداية ، فنفهم منه أن الراوى صار مجنوناً وهو ما لا يضيف شيئاً إلى المضمون ، فالقصة تمت بدون هذا المقطع الأخير. قد
وفى القسم الثالث الذي يحتوى على سبعة عشر نصاً ، يهتم محمود الرحبى بسرد تفاصيل المشهد اليومي ، في لغة محايدة و بسيطة، فعلى الرغم من قصر نصوص هذا القسم نجد العناية بالتفاصيل الصغيرة ، والإسراف في الحديث عن التفاصيل والأشياء غير المألوفة في حياتنا والاستخدام الشائع للقبح في حياتنا ، والاستخدام الشائع للقبح أهم ما يميز خصائص الكتابة الجديدة كما أشرنا سابقاً .

والسؤال الآن هل جاء ذلك على حساب الفن ؟ والواقع أن الإجابة تكون بنعم، ففي أغلب قصص هذا القسم تبدو القصة أقرب إلى مجموعة من الأحداث التسجيلية أو المذكرات الشخصية أواليوميات ، ويرجع هذا إلى انتفاء عنصر الانتقاء عند الكاتب وهى ظاهرة منتشرة عند كتاب هذا الجيل في عالمنا العربي لذلك ينصحهم جابر عصفور أن يتعلموا عملية الشطب والحذف ، فكثيراً مما يكتبوه يحتاج لهذه المعالجة حتى يتبقى لهم الإبداع الصادق فقط . وينجح محمود الرحبى في بعض قصص هذا القسم (في القليل من نصوص هذا القسم) في الوصول بها إلى تقنية القصة القصيرة جداً مثل نصوص : " سقف العرين ، الحذاء ، الرائحة دون عين ... دون لسان " في النص الأخير يلتقى الراوي مع صديق أعمى ويذهبان لمشاهدة فيلم فرنسي في سينما المدينة على أن يصف الأول الصورة ويترجم الثاني الحوار ، وفى داخل السينما يكتشفان أنهما قد تم خداعها: "

- هل تفهم ما يقوله هذا البالون . طوال الوقت ؟
- لا إنه لا يتكلم الفرنسية وأنت ماذا ترى ؟
. وقعنا في الفخ " صـ92 -

ففي هذه الأحداث البسيطة يؤطر مضمون القصة العميق ليتوافق مع العنوان . والمتابع لأدب الكاتب محمود الرحبى يعرف أن قصص القسم الثالث قد كتبت قبل قصص القسمين الأول والثاني، ففيهما بداية التجربة الفنية بما تحمله البداية من هنات وبما تحمله أيضاً من طزاجة ؛ لذلك كان على الكاتب أن يشير إلى تاريخ كتابة القصص في هوامش الصفحات.
ولعل هذا يقودونا إلى الحديث عن عنوان المجموعة ، إذ وضع لها الكاتب" اللون البنى" عنواناً وهو ليس اسم قصة من قصص المجموعة، وليس معنى ذلك أنه يجب أن يكون عنوان الكتاب إحدى قصص المجموعة ، لكن ما نراه أن هذا العنوان جاء غير معبر عن مضمون القصص بل نراه عنواناً استفزازيا،ً فهل أراده الكاتب هكذا؟ ربما ! فما وجه الارتباط بين هذا اللون البنى ونصوص الكتاب شكلاً وموضوعاً ؟ من ناحية أخرى لماذا لم يضع الكاتب عنواناً لكل قسم من أقسام الكتاب الثلاثة ؟ إن تحديد العنوان مسالة ضرورية في هذا النوع من الكتابة المتهمة من قبل بعض النقاد بالغموض والابتعاد عن فن القصة ذاته .


مسقط في 10/12/1998
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى