دراسة محمد عبدالحليم غنيم - أحمد إبراهيم الفقيه يعكس صورة الآخر في مرايا فينيسيا.. قراءة نقدية

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

" مرايا فينيسيا " للكاتب الليبي أحمد إبراهيم الفقيه ، مجموعة قصصية تضم ثمان قصص قصيرة : مرايا فينيسيا – تشارلز وديانا – موعد تحت برج الساعة – من يخاف أجاثا كريستي – ليلة الأقنعة – الانتقام – العقاب – الدعابة .

نشر أحمد إبراهيم الفقيه أول مجموعة قصصية له تحت عنوان " البحر لا ماء فيه " عام 1965 ، ثم توالت أعماله بعد ذلك في مجال القصة والمسرحية والرواية والمقالة ، إلا أن أبرز أعماله والتي جلبت له شهرة واسعة ، وجعلته يقف جنبا إلى جنب بجوار كبار كتاب الرواية في أدبنا العربي , ثلاثيته المهمة ( سأهبك مدينة أخرى , هذه تخوم مملكتي , نفق تضيئه امرأة واحدة ) وقد عرف في بداية حياته الأدبية بلقب يوسف إدريس القصة الليبية ولعل هذا يذكرنا بالإهداء الذي كتبه له يوسف إدريس على غلاف أحد كتبه , كتب يقول " إلى عبقرية قصصية وإنسانية لا أعترف بغيرها في عالمنا العربي " (1) إنه رأي يوسف إدريس !

ونكتفي بهذا لنبدأ في قراءة قصص المجموعة ونبدأ بقصة العنوان ، التي تستدعي على الفور للذاكرة قصة توماس مان " الموت في فينيسيا " كذلك تستدعي قصة يوسف إدريس " السيدة فيينا " التي نشرها عام 1959 , ثم أعاد نشرها مع رواية " السيدة نيويورك 1980 ، والواقع أن قصة مرايا فينيسيا للفقيه أقرب إلى قصة يوسف إدريس , بل هي تتناص معها على مستوى الرؤية والمضمون ، وهذا يحتاج دراسة منفردة ، ليس هذا مكانها , تبدأ قصة مرايا فينيسيا بالعبارة التالية : " وأخيرا فينيسيا , أسطورة الماء والحجارة , قدح النبيذ المعصور من كروم الآلهة ، عرس الفن والجمال الذي يتجدد بتجدد الفصول , ها أنذا أحقق حلم الوصول إلى عتباتها المباركة " (2) ، ثم تنتهي برغبة الراوي في الفرار على أول طائرة " سأكون سعيدا وأنا أغادر فينيسيا التي اعتبرتني شخصا مشبوها يهدد أمنها " (3) , وما بين البداية والنهاية يتشكل بناء القصة المحكم , والذي يأخذ شكل الرحلة بكل دلالات هذا اللفظ من وصول ومغادرة , وتوقف وسير , ومشاهدة وتأمل , وتجربة واكتساب خبرة , وخوف وأمن وحزن وفرح , ودهشة واكتشاف , إنها في الأخير معادلا لمفهوم الرحلة إلى الآخر ، مما يستدعي تجارب سابقة في هذا السياق بدءا من رفاعة الطهطاوي ومرورا بطه حسين وتوفيق الحكيم وسهيل إدريس والطيب صالح , ويحيي حقي إلى أن نصل إلى يوسف إدريس في السيدة فيينا ، التي أشرنا إليها من قبل .

الراوي بطل القصة مثقف ثقافة واسعة ، وهذا ما يوظفه الكاتب كتحفيز واقعي للإيهام بالواقع ، لذلك تصبح مطاردة الراوي من قبل شخص لا يعرفه مقبولة ومبررة ومؤثرة كعنصر تشويق , بل إن بناء القصة القائم على المطاردة يشي بمغزى القصة التي تتطلب طرفين الأنا ( الراوي ) والآخر ( ذلك الرجل الأجنبي الذي يراقب الراوي ) وتكشف هذه المطاردة الوهمية عن الجهل بالآخر ، يجعلنا الراوي نلهث وراءه في الشارع والفندق ، بل في أحلامه عند اليقظة وعند النوم حيث يطارده هذا الوجه القبيح الذي عكس محل بيع المرايا صورته عبر تلك المرايا التي تغلف الجدران " غائر الخدين ذو سحنة ترابية تبرز عظام وجهه وجبينه بروزا منفرا , وقد صنعت له أواني الزجاج ندوبا تغطي وجهه الذي تشظى وتكسر فوق هذه المربعات والمكعبات , فبدا كأنه عشرات الرجال الذين يحاصرونني بملامح شائهة ممسوخة " (4) ولعل هذه الصورة المشوهة للرجل تشي بموقف الراوي من الآخر الذي لم يعد مبهرا كما كان يراه الأسلاف .

على أية حال لابد من نهاية لهذه المطاردة والتي لن تأتي إلا عن طريق اكتشاف حقيقة الآخر ، وهى حقيقة من أسف مرة ، فهذا الرجل ما هو إلا رقيب أقامته الشرطة لحماية ضيف كبير من الشرق الأوسط أتى لزيارة المدينة أمس ، ويخشى عليه من أمثال شخصية الراوي ، على أن هذا الاكتشاف يأتي صدفة " أحسست بالتعب فاخترت مقعدا في منطقة مشمسة ، ورميت عظامي فوقه ، كنت قد اشتريت نشرة محلية باللغة الإنجليزية ، بعد أن أثارت فضولي صورة تملأ الصفحة الأولى لزعيم سياسي من بلاد الشرق الأوسط ، قرأت الخبر الذي يتعلق بالصورة فإذا به عن زيارة قام بها هذا الرجل إلى فينيسيا نهار الأمس ووضعت كل الشخصيات المشبوهة القادمة من البلاد العربية تحت المراقبة الصارمة " (5)

ومع ذلك لم تفارق الراوي حالة التبرم والانقباض ، ولولا اللياقة لما ذهب إلى الموعد الذي ضربه لموظفة مكتب الطيران في مقهى فلوريان ، ويذهب في الموعد وهناك يلتقي بالمرأة ( الآخر ) ويشعر بالفتور وينتهي اللقاء , لقاؤه بالآخر على مستوى المكان والشخص ولعل خير ما يلخص رؤيته للآخر , هذه العبارة التي قالها عقب اكتشافه حقيقة هذا الرجل الذي يطارده / يراقبه : " ما أقسى هذه الطريقة التي تعاملين بها عشاقك أيتها الجميلة فينيسيا , ولكن من كان قارئا للأدب مثلي , سوف لا يستغرب هذا منك , وقد رأى المصير الذي لاقاه عطيل على يديك " (6) والزج بعطيل هنا لا يأتي عبثا , فدلالة عطيل دلالة كاشفة لرؤية الكاتب بل أزعم أن لفظ "عطيل " هو مفتاح الولوج لهذه الرؤية . فالراوي هنا يتجنب الخطأ الذي وقع فيه عطيل من قبل , حيث الذوبان في الآخر والفناء فيه أو الفناء بسببه ، أما الذات هنا فلا ترفض الآخر ، ولكنها تواجهه بوصفه ندا لها ، وتكشفه وتعرفه بعد أن تعرف ذاتها .

أطلنا الوقوف عند قصة العنوان , إلا أنه في الواقع طول له ما يبرره , حيث أن موضوع هذه القصة هو التيمة السائدة على أغلب القصص الأخرى في المجموعة , فالقصة الثانية " تشارلز وديانا " والتي تأتي من حيث الترتيب في أعقاب مرايا فينيسيا تؤكد رؤية الكاتب في علاقة الذات بالآخر , فالراوي يتقمص من بعد شخصية الأمير تشارلز ، فيقع في حب ديانا مثله ، وبحيلة فنية يبتعد قليلا عن شخصية تشارلز وكلما ابتعد عنه زاد النفور بينه وبين ديانا , حتى يصل إلى الطلاق , وبقطع النظر عن التقنية الفنية العالية في هذه القصة وسلطة الخيال فيها , فإنها في الأخير تلعب على وتر علاقة الذات بالآخر , لعبا واعيا فالإعجاب بالآخر والتعاطف معه لا يعني الذوبان فيه أو الارتباط به إلى آخر العمر .

في القصة الثالثة " موعد تحت برج الساعة " نجد الراوي طالبا عربيا "من بيئة صحراوية جعلت رسالتها في الحياة هي الفصل بين النساء والرجال " (7) يعيش في مدينة أوروبية ، وبعد عدة محاولات فاشلة ينجح في تسول موعد مع امرأة يلقاها لأول مرة تحت برج الساعة ، فيأتي في الموعد ، بينما تتأخر المرأة ثلاث ساعات كاملة , ومع ذلك لم ييأس وأخيرا تأتي , فيكتشف سوء التفاهم الذي حدث حيث أبلغها أن الموعد الخامسة , بينما فهمت هي أن الموعد هو الثامنة , وليست الإشكالية في سوء التفاهم , رغم أنه مقصود من الكاتب ، لأن اللقاء فى الأخير يتم ، وإنما في هذه الذات التي ترفض الذوبان في الآخر , فالراوي يقول : " اكتشفت بعد أن عرفتها , وعشت لحظات أدفئ جسدي بجمر أنوثتها , وأريح رأسي فوق وسادة حبها , أنني لم أستطع أن أتخلى عن عادتي في تسول المواعيد من كل امرأة أصادفها " (8) ولا يفهم من هذا أن الذات تلهث وراء الآخر ، بل هو في رأيي لإشارة إلى أن الذات لم تكتشف نفسها بعد لكي تأخذ موقفا من الآخر .

وتسير القصة الرابعة " من يخاف أجاثا كريستي " في الاتجاه نفسه , فالراوي الذي يمثل الذات أذكى من الآخر وأكثر وعيا منه , لذلك تنجو من خداعه , الممثل في هذه الخلاسية الفاتنة التي تبيع المتعة وقوادها اللذين يظنان الراوي عربيا من أغنياء النفط , يقدم الراوي الخلاسية الفاتنة إليه باعتبارها زوجته ومتخفيا هو في زي قديس طيب ينتمي إلى جمعية من أهدافها تقديم السعادة إلى الآخرين , لكن سرعان ما تتكشف الحقيقة , عندما يتم اللقاء بين الراوي والمرأة فيعرف أن الهدف هو الحصول على المال مقابل المتعة , والذات هنا لا ترفض الآخر بقدر ما ترفض الخداع أو الابتزاز منه .

وتلعب قصتا " ليلة الأقنعة " و " الانتقام " على التيمة نفسها من خلال المواجهة بين الذات والآخر , وإن اختلفت طريقة المواجهة في القصة الأولى عن الثانية , ففي " ليلة الأقنعة " يرتدي الراوي وهو يمثل شخصية عربية في بلد أجنبي , قناع حمار , الذي اختاره بعد أن جرب كثيرا من الأقنعة ولم يجدها ملائمة , في حين جاء قناع الحمار مناسبا تماما ومريحا له , وفى الحفلة يجيد الراوي دوره تماما , فيندمج في الدور متفوقا على جميع الأقنعة , وبالكاد يرفعونه من فوق المرأة التي ترتدي قناع القطة والتي كانت تصرخ بقوة طالبة النجدة , فيفزع ويجد نفسه في موقف صعب حيث الاتهام بجريمة الاغتصاب , إلا أنه يفاجأ بهم ( الآخرون ) " يعلنون اسمه باعتباره الفائز الأول في المسابقة حيث انسجم سلوكه مع القناع الذي يرتديه " (9) .

وفى " الانتقام " يعجز الراوي عن الانتقام من ذلك الجرسون الذي أهانه وكاد يطرده من المقهى , فيتذكر جرسونا آخر في بلد أجنبي أيضا , وجه له إهانات بالغة ومع ذلك عجز عن ردها , لكن هذا الراوي العاجز الآن أمام الآخر , جاء من وطنه في الأساس محملا بهذا العجز في الانتقام , فقد سبق أن ضربه المعلم دون ذنب على أطراف أصابعه , ومع ذلك استسلم لظلمه وعاد إلى مقعده صامتا , ومن خلال ترتيب الأحداث في خطاب القصة يمكن القول أن هذا العجز في الانتقام لا يتكشف إلا عند مواجهة الآخر في هذا البلد الأجنبي , ولعل هذا ما يجعلنا نجزم بأن هاتين القصتين تمثلان وجهين متقابلين لعملة واحدة , فهما تشتركان في جلد الذات ونقدها عن طريق السخرية منها في القصة الأولى , وتعريتها في القصة الثانية .

أما القصتان الأخيرتان " العقاب " و" الدعابة " فتبتعدان عن هذا الخيط الذي تتبعنا أثره طوال سيرنا مع القصص السابقة , ومع ذلك لا يمكن الادعاء بأنهما خارج إطار المجموعة تماما , لأنهما في النهاية ترتكزان على ذلك القهر الذي تعانيه الذات , لذلك أعتقد أنهما امتداد لقصة الانتقام .

وإذ نكتفي بهذا الحد تبقى بعض الملاحظات المتعلقة بتقنيات الفن القصصي عند الكاتب , وأول هذه الملاحظات غلبة صوت الراوي المشارك الذي يمثله عند الكاتب ضمير الأنا على صوت الراوي العليم , فقصتان فقط هما " ليلة الأقنعة " و " الدعابة " تأتيان بصوت ضمير الأنا المتكلم في حين تأتي بقية القصص على لسان الراوي العليم , وليست الميزة في استخدام صوت الراوي المشارك أكثر من صوت الراوي العليم أو العكس , بل في ملائمة صوت الراوي لبناء القصة وقدرته على كشف وجهة النظر , وهذا ما نجح فيه الكاتب إلى حد بعيد .

والملاحظة الثانية تتجلى في قلة استخدام الكاتب للحوار بوصفه وسيلة سرد في قصصه , ولعل هذا راجع إلى هيمنة صوت الراوي المشارك وغلبة الرؤية الذاتية , مما يترتب عليه ضيق رقعة الأحداث و تمحورها حول شخصية واحدة في الغالب , يؤكد ذلك زيادة مساحة الحوار في قصة " الدعابة " رغم قصرها , وذلك لأنها تروى بصوت الراوي العليم , وتهيمن عليها الرؤية الموضوعية على العكس من باقي قصص المجموعة , وليس معنى ذلك أن صوت الراوي العليم مرتبطا دائما بالرؤية الموضوعية , فيجوز أن تكون الرؤية ذاتية , وهذا ما نجده بشكل واضح في قصة " ليلة الأقنعة " فبالرغم أن القصة تروى على لسان الراوي العليم , إلا أن الرؤية فيها ذاتية , وهذا ما جعلها تخلو من الحوار تماما .

وثالث الملاحظات تتعلق بلغة الكاتب , حيث يلعب الشعر الذي يغلف هذه اللغة دورا أساسيا في إثراء الدلالات وتعدد مستويات المعنى , كذلك تأتي اللفظة الشعرية أو الجملة الشعرية في أسلوب الكاتب , فتكون بمثابة محفز جمالي يكسر الإيهام بالواقع أو التوحد مع الشخصيات , مما يسهم في الحفاظ على تلك المسافة بين المرسل والمتلقي , ومن ثم يصبح الأخير قادرا على استقبال الرسالة وفهم دلالتها .

وتبقى في الختام ملاحظة أخيرة , وهي أن الكاتب حريص على بناء قصصه بناء محكما وأعتقد أن هذا الإحكام لم يأت عفوا , بل نتيجة وعى وتمرس كبيرين بفن القصة القصيرة , حيث يوفق الكاتب دائما في اختيار الصوت السردي ووجهة النظر الملائمتين لأحداث القصة وموضوعها .


[SIZE=5]دكتور / محمد عبد الحليم غنيم [/SIZE]




الهوامش :

1- في عام 1988 , أهدى يوسف إدريس كتابه " العتب على النظر " إلى أحمد إبراهيم الفقيه وكتب عليه هذا الإهداء .
2- أحمد إبراهيم الفقيه : مرايا فينيسيا , دار الشروق , القاهرة , 1997 , ص23 .
3- المصدر نفسه , ص 44 .
4- المصدر نفسه , ص27 .
5- المصدر نفسه , ص41 .
6- المصدر نفسه , ص42 .
7- المصدر نفسه , ص56 , ص57 .
8- المصدر نفسه , ص62 .
9- المصدر نفسه , ص83 .



ـــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
[SIZE=6]أحمد إبراهيم الفقيه يعكس صورة الآخر في مرايا فينيسيا[/SIZE]
قراءة نقدية
د. محمد عبدالحليم غنيم


مرايا فينيسيا.jpg



 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى