دراسة محمد عبدالحليم غنيم - عرافة القصر والعزف على وتر المهمشين للقاص المصرى محمد الحديدى

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

بعد مجموعتي "الموت ضحكا" و "أنشودة الترحال" الصادرتين فى عامي 1997 ، 2005 على الترتيب ، تأتي مجموعة "عرافة القصر" للأستاذ محمد الحديدي القاص المصري ، لتؤكد اهتمام الكاتب بعالم المهمشين الذي كان موضوعه الرئيسي في المجموعتين السابقتين . والسؤال الآن هل أضاف المؤلف شيئا إلى هذا العالم فى هذه المجموعة ؟ والإجابة على هذا السؤال هي ما تبحث عنه هذه الورقة بالإضافة إلى جهد الكاتب على المستوى التقني فى أسلوب القصة .

المهمشون التيمة الأعظم فى عالم محمد الحديدي :

تضم المجموعة التى بين يدي 25 نصا ، يغلب عليها ما يمكن تسميته بالقصة القصيرة جدا ، حيث يتراوح النص القصير بين الصفحة والثلاث صفحات على الأكثر . هناك 16 نصا قصيرا والباقي طويل إلى حد ما ، وهو ما يمكن تسميته فى الواقع بقصة قصيرة .


أ ـ القصص القصير :

تحت هذا القسم تندرج القصص التالية حسب الترتيب : نظرية الترقب اللحظي ـ مشاهد من حياة الزيني ـ الشيخ متولى ـ بلغة سيدنا ـ قايش على الجدار ـ العم الشحات ـ المسافر ـ الكلب ـ الموعد .

بقطع النظر عن تفاوت المستوى الفني لهذه القصص فإن الغالب عليها ، أو أهم ما يميزها أنها تندرج إلى ما يسمى فى أدبيات القصة القصيرة بقصة الشخصية " تلك القصة التى لا تحتفل بالحدث احتفالا كبيرا أو التى تكاد تخلو منه . فليست فى هذه القصص أحداث تبدأ ثم تتطور ، ثم تحل ولكن هناك تركيز علي رسم الشخصية وبيان همومها وأحزانها أو مشاكلها ولكن يجب أن ننتبه إلي أن القصة أي قصة ـ أن تخلو خلواً تاماً من الحدث والمسألة ليست أكثر من تغلب الشخصية علي الحدث (1)

وما يمكن قوله بدقة في قصص الحديدي أنها تغلب الشخصية علي الحدث ، فثمة اهتمام بالشخصية ووصفها وإن شارك الراوي أحياناً في الاحداث . ففى القصة الأولي "نظرية الترقب اللحظي" وهي أطول قصص المجموعة . نتابع مع الراوي السيرة الشخصية للأستاذ منصور مدرس المواد الفلسفية ، أستاذ الراوي الذي يأخذه فى رحلة من الحاضر إلى الماضى والعكس فى حياة الأستاذ منصور صاحب نظرية الترقب اللحظى . ولعل ما يميز هذه القصة ومعظم قصص الحديدي من هذا النوع وغيره هو السرد بضمير المتكلم والمشاركة فى الأحداث فى معظم الأحيان . فالراوي هنا يحكى لنا بضمير المتكلم قصة أستاذه فى مدرسة فاقوس الثانوية . وهو يحكى عن ماضي الشخصية وفى ذات الوقت يشارك الحدث القصصي الآنى فهو الذي يكتشف وجود الأستاذ منصور ملطخا بالدماء وملقيا على الأرض على رصيف محطة سكة حديد رمسيس ، ومن هنا يبدأ الحدث عبر الحوار المباشر بين الراوي والبطل ، ليتلاقى حواران . حوار خارجي يتمثل فى صوت الشخصية المباشر مع الراوي والأسئلة الموجهة من الأخير إلى الأول . وحوار داخلي يتمثل فى ذكريات الراوي عن الشخصية ، وهو موجه فى الواقع إلى المتلقي ، لتكتمل الرؤية فى النهاية التى تتمثل فى المأساة الساخرة للأستاذ منصور . ولعل المؤلف قد نجح فى أن يوصل تلك السخرية من خلال شخصية البطل نفسه الأستاذ منصور

" ـ لماذا تضحك هكذا يا أستاذي الكبير ؟

قال ساخرا والدموع تنفرط من عينيه الذابلتين .

ـ يبدو أن حافظة نقودى علقت بأصابع أحدهم اثناء تفتيشى " ص 16 .

وتستطيع أن تجد هذا الاهتمام بالشخصية فى تسمية البطل وتحديد هويته ، كما نرى فى العناوين ، مشاهد من حياة الزينى ، الشيخ متولى والعم شحات وهكذا .

فالمقاطع السبعة لقصة مشاهد من حياة الزينى تحكي قصة طفل ضال يعيش فى المقابر والشيخ متولى رجل يعيش حياة ليلية وسط المخدرات ، ومع ذلك يخطب الناس ويصلى بهم مؤثرا فيهم بصوته الحاد ، وفى بلغة سيدنا شيخ مسجد أوكتاب فقير يسرق الراوى بلغته القديمة التى لا تساوى شيئا ولكنه يعتز بها لأنها من رائحة الحبايب فالراوي يتاثر ببكاء الشيخ ويسأله :

" لماذا هذه البلغة بالذات يا سيدنا ؟

تنهد سيدنا ورفع وجهه للسماء مرتعشا وقال :

ـ إنها هدية زوجتى نفيسة اشترتها لي من سوق الثلاثاء منذ خمس سنوات مضت قبل موتها غلى رحمة الله .. " ص 37 .

وفى "قايش على الجدار" يحكى لنا الراوي سيرة عبد الحميد البري " هذا الولد الشقي المتمرد الذي حباه الله بوجه ممصوص وجسد نحيل " ص 40 . وفى العم شحات نتعرف على سيرة حياة خادم مقام ومسجد البلاسي وهكذا فى المسافر حيث شخصية سعداوى الفلاح الفقير الذي ينتظر مجيء ابنه المسافر إلى فرنسا حتى يفقد عقله .

وإذا ما أمعنا النظر فى هذه الشخصيات وجدنا أنها جميعا شخصيات مهمشة تنتمى إلى قاع المجتمع أو المدينة على حد قول بلديات المؤلف العظيم يوسف إدريس لكن هناك قصتين ضمن هذا القسم لا تهتم بالشخصية قدر اهتمامها بالحدث ، وهما قصتا " الكلب" و "الموعد" ولكن قبل ذلك كله ألفت النظر إلى أن قصة الكلب سبق نشرها فى مجموعة المؤلف الأولى تحت عنوان" حدث مع هذا الكلب " . على أية حال لا نجد فى القصتين تسمية لشخصية محددة ، فالبطل فيها هو الراوى نفسه، ففى الأولى الراوي يطارد كلبا ثم يخنقه فى النهايوة ، والمفارقة أن هذا الكل بهو زوجة المؤلف حيث يحلم أنه يخنق الكلب . وفى "الموعد" يأتب رجل ذو شعر أبيض إلى الراوي ليؤكد له أن عليه ألا يتاخر عن الموعد . ويصل الراوي بعد الموعد بقليل ولكنه يقابل المرأة الموجودة ، إنها قصة رومانسية تؤكد حاجتنا إلى الحنان والجمال ، لعل المؤلف أراد أن يكتب قصة رمزية فالمرأة الموعودة هنا ترمز إلى مصر كما يشير فى نهاية القصة :

" ولما رأتني دامع العينين ضمتني إلى صدرها الحنون وراحت تقرا فى كتاب النيل " ص 7 .

ولعل هذه القصة الرمزية تسلمنا إلى قصة العنوان عرافة القصر فهي قصة رمزية أيضا والمفارقة هنا أن تكون العرافة من عالم المهمسين ومع ذلك تبدو مثل الشيطان للسيدة المريضة حيث تشير عليها او تنصحها بأن علاجها فى الماء العذب ومشتقات النفط . إن الرمز هنا واضح جدا ، فالسيدة صاحبة القر وهي أمريكا أما العرافة فلعلها الخائن الأعظم للعرب سواء كان عربيا أم عجميا ، ولما كانت عرافة ومن أصل غجري فالأقرب أن ترمز إلى شخص أو شيء غير عربي إذن هل تشير العرافة إلى إسرائيل ؟ ربما .


ب ـ القصص القصير جدا :

كما اشرت سابقا تميل معظم قصص المجموعة إلى القصر الشديد ، فلدينا هنا نصا قصيرا لا يزيد أطولها عن ثلاثة صفحات ويصل أقصرها إلى نصف صفحة .

بداية كتابة النصوص مغامرة محفوفة بالمخاطر فجملة واحدة قد تفسد القصة ، بل ربما لفظة واحدة . إن التكثيف هنا لابد أن يكون فى محله . على أية حال نجح محمد الحديدي فى كتابة نصوص قصيرة جيدة مستخدما تقنيات متنوعة تشي بموهبته ومقدرته الفنية العالية وفى ذات الوقت بدت بعض القصص مترهلة أو مفتعلة ولكنها قليلة ، فليس فى هذا الجانب سوى قصص : العبيد ـ مارا ـ الرسالة ـ الذي رأيته تحديدا .

فمثلا قصة "العبيد" ينظمها المؤلف فى سبعة مقاطع على حين تنتهي القصة عند المقطع الأول . فصاحبة البيت تلقي بالحب للطيور المكونة من ديك ضخم وعدد من الدجاجات أو الطيور وعند ذلك ينقض الديك على الحب وتتراجع الطيور إلى الخلف رغم جوعها فالقصة تصور لنا العبيد ، هؤلاء الذين لا يدافعون عن حقوقهم رغم الجوع .

أعود إلى القصص المتميزة فى هذا القسم وأقول أن المؤلف نجح فى المقدرة على استخدام أكثر من بناء فى هذه القصص حيث استخدم المفارقة والحلم والتوازي بين الأحداث ، مع التكثيف وبساطة التراكيب ، على أنه ـ أي المؤلف ـ لا يتخلى هنا أيضا عن الغوص فى عالم المهمشين ، كما فى قصص : ألام صغيرة ـ سكر ـ عندما أعود ليلا . وغيرها .

فى قصة "آلام صغيرة" طفل صغير ينام تحت شجرة فى عز الصيف يقوم على لهيب الشمس وصوت القطار ، يبول على الشريط الحديدي ويتجه نحو شرطي المرور ليعد معه السيارات المارقة . ينهره الأخير :

" امشى بعيدا "

يأخذ الحديدي هذه الجملة ويبني عليها القصة فيما بعد يذهب الطفل خائفا ويقف بجوار بائع الطعمية فينهره هو الآخر قائلا له الجملة نفسها " امشى بعيدا " وهكذا كلما خطا الطفل إلى مكان ما سمع نفس الجملة " امشى بعيدا " .فى النهاية يأخذ الطفل المشرد مكانا مهجورا ولعله يحسن أن أترك لكم نهاية القصة لتستنتجوا المغزى :

" فى ذلك المكان المهجور المليء بمخلفات ورش السيارات دخل كعادته كل يوم وأفرغ بعضا من زيت الشحم فى علبة صغيرة ، ثم أخرج من جيبه عصا صغيرة يلتف طرفها بشريط من القماش وراح يصنع خطين متقاطعين كبيرين على حوائط البيوت وواجهات المحلات وعلى ظهور المارة من حوله " ص 73 .

ومحمد الحديدي بارع فى استخدام جملة أو عبارة داخل النص لينسج من خلالها المغزى ففى قصة "أشجان" نجد أبا وابنته الصغيرة الوحيدة ، الأب وحيد ليس له ولد ويشعر بدنو أجله ومن ثم فهو خائف على هذه الإبنة . تطلب الابنة منه أن يفتح لها جهاز الكمبيوتر فتكتب على الجهاز " عصفورة وحيدة وصغيرة " فما كتبته البنت يفسر هواجس الراوي / الأب .

وهكذا يمكننا أن نجد فى كل قصة عدا ما أشرنا إليه لمحة فنية ما ، تؤكد لنا ذكاء المؤلف وسمو موهبته وتمكنه من هذا الفن .

د. محمد عبد الحليم غنيم


ــــــــــــــــــــــــــــــــ

* محمد الحديدي ، عرافة القصر ، دار الإسلام للطباعة والنشر ، المنصورة 2007 .

1ـ عبد الحميد القط ، الفن القصصي عند يوسف إدريس ، دار المعارف، القاهرة 1980، ص 283.
 
التعديل الأخير بواسطة المشرف:
أعلى