دراسة محمد عبدالحليم غنيم - عبد الله مهدي وأنموذج القصة القصيرة جداً

  • بادئ الموضوع د.محمد عبدالحليم غنيم
  • تاريخ البدء
د

د.محمد عبدالحليم غنيم

يلفت النظر إلى أعمال الكاتب عبد الله مهدي* ، ميله، بل تمسكه بنمط من القصة هو القصة القصيرة جداً ، فبين يدي للكاتب إحدى وعشرون قصة نشرها خلال الفترة من عام 1996إلى عام 2001 ، لا تتعدى القصة الواحدة منها فقرة في كتاب أو قل فقرة في قصة قصيرة عدا قصة يتيمة بعنوان " لو " وإن كان يمكن عدها من القصص القصيرة جداً أيضاً .

وهنا يعن لي سؤال : هل القصة مجموعة محدودة من الكلمات أو الجمل ؟ وهل عدة جمل محدودة تنتظم في خط سردي أو سرد خطي تكون ما يمكن أن نطلق عليه مصطلح قصة ، بقطع النظر عن كونها قصة قصيرة أم قصة قصيرة جداً ؟ وهل هناك ما يمكن أن نطلق عليه قصة قصيرة جداً ، لأنه جاء في عدد محدود من الجمل ؟ ومن ثم يمكن أن يكون ذلك معياراً للحكم به على هذا النوع من القصص لدي عبد الله مهدي .

ضمن كتاب " إشكاليات الشكل والرؤية في القصة المعاصرة " للناقد الجاد أحمد عبد الرازق أبو العلا ، هناك فصل بعنوان " القصة القصيرة جداً وإشكاليات الشكل القصصي المعاصر " استطاع فيه أن يبلور تعريفا دقيقاً لهذا النوع من القصص ، أي القصة القصيرة جداً ، مدعماً هذا التعريف بنماذج إيجابية وسلبية له ، بحيث يمكن للمبدع أو المتلقي أن يميز هذا النوع ، يقول الأستاذ أحمد عبد الرازق أبو العلا " القصة القصيرة جداً بمفهومها التقليدي ، مثلها كمثل القصة القصيرة التي تخالف في البناء والشكل الرواية الطويلة أو القصيرة فهي لا تعنى بالدخول في التفصيلات وتتخلص من الحشو ويمكن تحديد بعض مواصفاتها على النحو التالي :

أولاً : فيما يتعلق بطبيعتها تقوم على اختزال اللغة وتهتم بلحظة الكشف والاكتشاف .

ثانياً : فيما يتعلق بالبناء تعنى بوحدة الأثر مثلها كمثل القصة التقليدية ، ولكن من خلال لحظة ، وإذا كانت الحبكة بشكلها التقليدي تركز على الفعل ، فإنها في هذا الشكل تتطلب الفعل ورد الفعل والفعل فيها ليس هو الفعل الخارجي ، كما هو معتاد ، ولكنه الفعل الداخلي المعتمد على الفكرة "(1)

وهذا التعرف على وضوحه ولا نزعم دقته ، يتضمن معياراً لشكل وطبيعة القصة القصيرة جداً ، حيث تتكئ على دعامتين أساسيتين هما الاختزال أو الاقتصار ووجود فكرة محددة .

ويستدعي هذا التعريف لأبي العلا ما كتبه الباحث السوري أحمد جاسم الحسين في دراسة موسعة عن القصة القصيرة جداً ، إذ يري أن القصة القصيرة جداً تقوم على أربعة أركان أساسية هي :

1 - القصصية .
2 - الجرأة .
3 - وحدة الفكر والموضوع .
4 - التكثيف .(2)

أما خصائصها فيجملها في :

1 – الطرافة .
2 – الإدهاش .
3 – عمق الأثر .
4 – خصب الدلالة .
5 - الإيقاع القصصي .(3)

والواقع أن هذه الأركان والخصائص المميزة للقصة القصيرة جداً سواء عند أحمد جاسم الحسين أم عند أحمد عبد الرازق أبو العلا لا تخرج بنا عن مفهوم القصة القصيرة جدا – فهي نظرنا – هي قصة قصيرة بكل ما يعنيه هذا المصطلح من سمات يميزها في المقام الأول صغر الحجم ، وفي قراءة عبر شبكة الإنترنت قرأت عدة قصص لكاتب إنجليزي متخصص في هذا النوع من القصص القصيرة جدا يحددها بعدد الكلمات ، فهناك قصص تتكون من 8كلمات وأخري تتكون من 16 كلمة وثالثة تتكون من 32كلمة وهكذا حتى تصل بعض القصص إلي ما يزيد على الألف كلمة . أما الكاتب فيدعي إم .ستانلي .بوبين ، وسأقدم لكم نموذجاً لإحدى القصص التي تتكون من 32كلمة وهي قصة " إجابة ربانية

The answer of theodicy

تساءل الفيلسوف في تحد :

ـ إذا كان الله موجودا ، حقا ، فلماذا إذن تحدث الأشياء السيئة للناس الطيبين ؟

عند ذلك غشيت الدموع عين الرجل الصالح ، فانحنى وكتب فوق الأرض :

ـ و لماذا يفعل الناس الطيبون الأشياء السيئة ؟

" (4)

ولا نزعم أن هذا أنموذج مثالي للقصة القصيرة جداً ، ولكن الذي يمكن أن نستخلصه منه هو تحقق خصائص محددة فيه نعتقد أنها يمكن أن تميز القصة القصيرة جدا بشكل عام ، وهى هنا :

1 - التركيز .
2 - وجود فكرة جادة .
3 - وجود بناء قصصي ، وهو قائم هنا على التقابل ، وقد يكون هذا البناء غير قائم على التقابل ، ولا يتسع المجال هنا لذكر أمثلة للبناء ، المهم هو وجود بناء قصصي.

ولعل هذه المقدمة حول القصة القصيرة قد طالت قليلا غير أن عذرنا قبل أن نتناول نصوص عبد الله مهدي بالتحليل نريد أن تكون المفاهيم واضحة , ولنقل أيضا مع براندر ماثيوز Brander Mathews " لا ينجح أبدا كاتب للقصة القصيرة ما لم يمتلك الأصالة والبراعة والتركيز والأهم أن يمتلك أيضا لمسة من الخيال " (5)

ومثل هذه الصفات لا يخلو منها كاتبنا عبد الله مهدي ، فثمة براعة وخيال مجنح ، وتكثيف لغوي وإيجاز في قصصه ، وكلها صفات تؤكد رسوخ هذا اللون من القص – أي القصة القصيرة جدا – عنده ، كما نراها في قصص " العفن " و " استنزاف " و " عسكر وحرامية " وبعض المشاهد من قصة " لو " التي يصلح كل مشهد منها – كما أشرت من قبل – أن يكون قصة وحده ، غير أن ثمة قصص لكاتبنا يصعب أن نضعها في خانة القصة القصيرة جدا ، أو القصة القصيرة عامة , وذلك إما لغموض فكرتها أو لمباشرتها . فقصة " صورة " على سبيل المثال ، قرأتها عدة مرات ولم أستطع أن أفهم منها شيئا ، وعندما حاولت معرفة السبب ، وجدت أن الكاتب تنقصه الدقة في بناء الجملة السردية ، فتبدأ قصته بجملة :" ظل يتأمل" ثم يتبع ذلك مباشرة بعد نقطتين متواليتين جملة جديدة : "مغروسة أمه بين ضلوع شاب" وقد حاولت أن أجد ترابطا أو علاقة بين الجملتين فلم أستطع ، ولأضع الأمر بين أيديكم، فألقى عليكم الفقرة الأولي من القصة كاملة :

" ظل يتأمل .. مغروسة أمه بين ضلوع شاب ، أخذ يعبث بصحيفة ، قصف قلم، انتبه لصورة تسيطر على مفرق الصحيفة " فليس هناك ترابط بين الجمل ، ناهيك عن الأخطاء اللغوية ، اعتقد أن الغموض ناتج عن اللغة نفسها ، وعلى العكس من ذلك يجنح عبد الله مهدي أحيانا إلى المباشرة وكأنه يريد أن يشرح لنا مغزى القصة والقصة القصيرة جدا لا تحتمل مثل هذا الشرح ، بل أن الفن عامة لا يحتمل ذلك ، ولعل أبرز مثال على هذه المباشرة قصة " الطبل والزمر " ولن أكون مغاليا إذا قلت إنها تفتقد أيضا إلي وضوح الرؤية " أقطن روضة يانعة أنعم بكل ما فيها إلا هذه الشجرة ، وسوس لي الهاتف قائلا : عليك إجادة الطبل والزمر لتنعم بهذه الشجرة .

الطبل والزمر ؟!
لتطرب الحياة المسيطرة عليها .
الطبل والزمر مقابل تخلي عن روضتي
الشجرة فريدة .

سعي رفاقي جاهدين إلى إجادة الطبل والزمر ، حثوني على إجادته (إجادتهما) وقعت في شركهم ، بدأت أطبل وأزمر والحيات تطرب وتطرب ، دنوت من الشجرة ، قطفت ثمرة منها ، تذوقتها .

عندئذ أدركت أنني وقعت في شرك الشيطان "

آثرت أن أنقل القصة كاملة ودون أن أحذف منها حرفاً ، فالقصة تشير بوضوح إلى قصة آدم عليه السلام وخطيئته الممثلة في الأكل من الشجرة المحرمة . وإذا كان الأمر كذلك ، لماذا إذن الجملة الأخيرة في القصة .

عندئذ أدركت أنني وقعت في شرك الشيطان "
ولماذا يسعى رفاقك إلى إجادة الطبل والزمر ؟

ثمة عيب ثالث يخرج بعض نصوص عبد الله مهدي عن القصة القصيرة جدا هو الثرثرة ، ومثلنا في ذلك قصة " انهيار " .

بدأنا بذكر سلبيات القصة القصيرة جدا عند كاتبنا ، وسيكون من المستحسن أن نشير بحق إلى أن عبد الله مهدي استطاع أن يتميز في عدد كبير من قصصه فاستحقت أن تأخذ أبرز سمات القصة القصيرة جدا ، وهي القصص التي أشرنا إليها في بداية المقال ، مثل قصص : " استنزاف ، العفن ، عسكر وحرامية ، لو " واضعا بين أيديكم أنموذجا اعتقد أنه يمثل القصة القصيرة جدا خير تمثيل ، واللافت للنظر أن عدد كلماته اثنتان وثلاثون كلمة تماما مثل النموذج الذي استشهدنا به للكاتب إم ستا نلي بوبين ، أما النموذج لعبد الله مهدي فهو المشهد الأول من قصة " لو " .

" جموع مختلفة الألوان من الناس ، قد انهالت تقطيعا في الطفل " محمد الدرة " ونزار قباني تضخمت أحباله الصوتية من صراخه فيهم ، الطفل تفتت ، انهالوا على نزار ضربا وهو يصرخ : خلاصة القضية توجز في عبارة لقد لبسنا قشرة الحضارة والروح جاهلية " .

فثمة تكثيف وإيجاز وطرافة وإدهاش ودلالة وإيقاع سردي في هذا المشهد أو القصة القصيرة جدا على الأرجح .

-----------------

الهوامش :

*عبدالله مهدى كاتب مصرى معاصر ، يكتب القصة القصيرة جدا والمسرحية

(1) - أحمد عبدالرازق أبو العلا،" القصة القصيرة جداً وإشكاليات الشكل القصصي المعاصر، الهيئة العامة لقصور الثقافة ، القاهرة ، 1997، ص26،27.
(2) – قاسم مقداد ، قراءة فى كتاب القصة القصيرة جدا لأحمد جاسم الحسين ، مجلة الموقف الأدبى ،ع325، دمشق،ص140.
(3) - قاسم مقداد، المرجع نفسه، ص144.
(4) الترجمة لكاتب المقال
(5) سوزان لوهافر، الاعتراف بالقصة القصيرة ، ترجمة محمد نجيب لفتة، دار الشئون الثقافية العامة ، بغداد، 1990، ص19، 20





محمد عبدالحليم غنيم.jpg
 
أعلى