دراسة نقوس المهدي - قراءة في قصتي "بالروح بالدم" و" بوّابات الكهف " للمبدعة الفلسطينية كاملة بدرانة

على سبيل التقديم

تحاول مثل هذه النصوص الملتزمة التعرض لقضايا نضال الشعوب والمقاومة من حالاتها المختلفة، وبقدر تأصل تلك العذابات وتنوعها وتكرار فصولها وسيناريوهاتها تتعدد اوجه الإضافات أيضا، والتفنن في التعامل مع القضية بشتى شجونها وتشعباتها الإنسانية. وبمختلف التقنيات الفنية التي يتداخل فيها السردي بالسياسي بالاجتماعي وما شاكل ذلك.. ذلك أنه وكما يقول الشهيد مهدي عامل : " ان الكتابة بدون قضية هي تمرين في الإنشاء "..

إن هذا النوع من السرود حمال معاني ورسائل فكرية وسياسية واجتماعية وغيرها.. اذ يرتبط في مضمونه الفني بنضال الشعوب وانعتاقها، وبقيمته التاريخية أيضا.. لهذا فان مضمون القصة وفكرتها لا يخرجان عن كونهما حدثا بسيطا في ظاهره. لكن بحبكة متقنة من القاصة للتعبير عن سخرية الواقع، وبتواطؤ مع جمالية السرد ومتانة اللغة، والجمل القصيرة وعير تقنية الفلاش باك، وبطريقة تتشابك فيها مجموعة من الذكريات الأليمة والممضة واستحضار ماض بأكمله.. وعبر الانتقام الضمني بالصمت واللادموع والشرود تحاول قتل الغول الذي هيمن على ذاتها وتفكيرها وناء عليها بكلكله لسنين عديدة محدثا شرخا وتشظيا في الروح. وتوظيف العديد من المتقاطعات التي تشكل جوهر حبكة النص الذي يختلف في توصيفه للوطن وللقضية

***

1- قصة بالروح بالدم

تبتدئ اقصوصة " بالروح بالدم " بخروج البطلة سلوى في موكب وداع احد الشهداء وبشعار بالروح "بالدم نفديك ياشهيد ".. " يا ام الشهيد لا تزعلي كل الشباب ؟أولادك " هذه الكلمات الجنائزية التي تلهب الحماس وتمجد الوطن.. ذلك ان تيمتي الدم والروح اللازمتنان الأساسيتان في متن النص أضحتا من مؤثتات المشهد البطولي والنضالي لشعب مضطهد ينافح من اجل التحرر والانعتاق من ربقة الاستعمار، وعنوانا لفصول درامية من مسلسلات تحرر الشعوب من الاضطهاد والقهر لا بفلسطين وحدها فحسب، بل شعارا كوسموبوليتي على سائر دروب الحرية بالعالم اجمع

وفي هذا الزمان الوجيز الفاصل بين لحظات خروج الجنازة ووصولها للمقبرة تحدث أشياء وتطرأ أفكار وهواجس وتحتضر حياة مليئة بالانكسارات. عبر خطين متوازيين. يشكلان الفاصل المشترك في حبكة النص السردي، نداءات تقارع أجواء السماء بمقابل شهيد يوارى الثرى، وهتافات تمجد الشهيد بمقابل قلق وجودي ومونولوغ داخلي مكرور تجتره سلوى بطلة النص وعماده.. وبين عمليتي الصعود والهبوط، والشهادة والخطيئة يتواتر الحكي وئيدا حزينا شجيا يتوغل عميقا في ذات مكلومة مرتين. بفقدان الوطن وفقدان الشرف.. وخلال الطريق التي تبدو طويلة وملتوية واللحظات الثقيلة على النفس تتواتر الذكريات الأليمة محدثة شرخا في الذاكرة المكلومة، مما يفسر أنها تعرضت في وقت ما لحادث اغتصاب على يد نفس الشهيد. الذي سبب لها ندوبا لا تلتئم.. وكان صدى الهتافات التي تبين في البداية انها رعود ومطارق تحيق بالبطلة يخف تدريجيا ليحل محله ارتياح نفسي عميق وتواشج عاطفي، وبدأت الكوابيس التي انهكتها تخف وتضمحل، وأخذت تحس بذبيب الانعتاق يسري في أوصالها وكأن عبئا انزاح عن قلبها كلما احذ الموكب في الاقتراب من المقبرة.. ليزول نهائيا حينما يوارى الجثمان الثرى لتتقدم سلوى أمام الملأ بعد أن تخلصت من هواجسها وعقدها وتكسر عاليا جدران وسدون الصمت الرهيب لتصيح بالروح بالدم.. لا تمجيدا وإجلالا للحظة بل تشفيا وانتقاما لذاتها ولتدفن ماضيها المؤلم والجريح.. ولا غرابة أن يأتي اسم سلوى المجبول معناه من كل ما ينسي جبال الهموم والذكريات الأليمة والانكسارات.. واجتماعية غيره.. ذلك ان موت الغريم هو الخلاص لهذا الوطن برمته


***

2- قصة بوّابات الكهف

بحكي جذاب مفعم بعجائبية السرد ينفتح نص " بوّابات الكهف " للأديبة كاملة بدرانة على هوامش الحياة الأكثر هشاشة، وبحمولة من التفاصيل الإنسانية الصغيرة في حدها الواهي بين الفقر والألم والعزلة والضياع والموت والاغتراب، وعبر رحلة محفوفة بالأسئلة والقلق الوجودي الأكثر إمعانا في غرائبيته بالرغم من أنها تبدو ظاهريا كالحلم في أعماق المجهول والاحتمال.. هذا ما يدفع البطل لاختراق آفاق الغيب والولوج للقبو بحثا عن السكينة المنشودة بعد ان ضجر من تفاهات وهدر الآدميين ولغطهم وضجيجهم، للهروب إلى عالم مغاير مليء بالهيولى وبالأشباح والمخلوقات الهلامية الأكثر غموضا وضجيجا ورعبا وتوثرا لكنه مفعم بالحكمة وبالأسئلة الفلسفية العميقة حول كنه الحياة وأسرارها، وبتوفر أكثر الحلول نجاعة لمستقبل العالم ومشاكله الممضة والغامضة

لابد من الاشارة الى حكاية شعبية تكون الفكرة الأساسية لهذا النص السردي الممتع والتي تتحدث عن أميرة أبيح لها ان تدخل كل غرف احد القصور ما خلا غرفة واحدة لكن الفضول يدفع بالأميرة إلى خرق المحظور. وكانت هذه المجازفة بداية لقلق وجودي لم يبرد الا بفتح تلك الغرفة ..

يتوفر هذان النصان إضافة الى عمق التجربة وبراعة التصوير وسعة الخيال، على لغة أدبية شفيفة ومتينة، استطاعت أن تنقل الينا جانبا من جوانب الحياة بكل اضطراباتها في تتابع منطقي هائل.. وبعيدة عن التقريرية. ذلك ان الكتابة في جوهرها هي استعادة للواقع وإعادة إنتاجه في حضرة تعدد القراءات من شخص لاخر، والنص السردي الذي لا يهتم مبدعه باللغة والبيان هو لامحالة نص نصف ميت. والأديب الجيد والصانع الماهر هو ذلك المرء الذي لايكون راضيا على انجازاته، ويسعى دوما لاجتراح الأفضل منها.. وخلق لغته المتميزة وتقنيته الخاصة وأسلوبه المائز الذي يشكل فائض القيمة والرأسمال الأدبي والإبداعي على حد سواء.. لهذا نجحت القاصة في التوفيق بين سمو الشكل وبراعة المضامين وباللغة الأدبية الخالية من اية تقريرية ورتابة، أو توظيف عشوائي للأحداث



نقوس المهدي
 
أعلى