سعدي يوسف - الطواف بالمقاهي الثلاثة

( 1 )
يا أنت , العابر كل دوائر هذي العتمة , دائرة دائرة ,
لتطوق عنقي كالأنشوطة , من مسد وحرير حينا
من فخار وتهاويل جداريات حينا , من أهداب خيطت أحيانا ,
يا أرضا كانت ماء , ياماء كان الأرض. هنا ترتفع الصلوات
نشيدا باسمك , أو تنفرع الفلوات… أحييك, وأحييك ,
وأسألك الغفران اليوم , وأسألك النسيان غدا. ستمر
الدبابات على ساقيك مجلج لة في كتمان من سرفات طين ,
وسيمتد رقيم (تشويه شموس ثابتة ) من رمل الفاو وأوراق
الحناء إلى الصخر المقدود ربايا وطرائد من آشور. أنا أسألك
المغفرة , الهدأة , شكلت جبيني بالوسم , وعلقت ذراعي
اليسرى بالكلاب , وقلت : أحملك الآن دمي.
ما كنت صغيرا لتكون كبيرا. أنت الإسم الأول والموئل .
أنت عدوي مذ كنت , صديقي مذ كنت… ستأتي أسراب
الطيران الحربي مجلجلة تحت سماء من صهد
***
سيكون هواؤك محتقنا بالبارود ومختنقا , لكنك تبحث عني,

أنا, اسمك , كي تقتلني. الدبابات تبدد جلدك , والطيران
الحربي يمزق أهدابك , لكنك ملدوغا تتبع ني كي تسلخ أجفاني;
وتمزق أضلاعي كي تأكل قلبي. لست الآن الطير المرموق
عصائب…لست النسر القادم من حمير , لست
الهدهد , لست حمامة نوح , لست الرخ… فمن أين أتاك
اللون الميت هذا? من أين أتتك القصباء لتبريها صعدة
رمح ? أنت هنا اللحظة. تغفل عما ترسمه سرفات
الدبابات ,وتغفل عما يمحوه الطيران الحربي , ولا تغفل
عني…فلت هدأ , أرجوك! اهدأ , واتركني أتمرغ في غصص
الأحلام ,اتركني أتمرق قصص الأعوام… أنا ابنك , صنوك ,
حامل أختامك في جيب الصدر , وعنوانك حين تغيب طويلا.
لا!لا تبتلع الدبابات كما تبتلع الملح , ولا تمسح بالسعف
الطيران الحربي… وأنصت لي في ضجة هذا الوادي الهامد :
هل تسمع شيئا? هل تهجس ما يفعله النمل هنا تحت جذور
النخل? هل الماء يسيل من الصخرة ? يقطر… يقطر…
يقطر…, قلت لك: اسمعني! ذاك دمي يتقطر
في الهدأة. نبضي هو ما يفعله النمل حثيثا تحت جذور
النخل…
اسمعني!


(2 )

مقهى على "باب الزبير"…
تقابل المقهى من الجهة اليمين , الشرفة الخشب التي جاءت
من الهند البعيدة. واليسار يضم مكتبة ودكانا لبيع الخردوات.
وأنت حين تكون في المقهى ستشرب شايك المألوف , ثم تقوم
مبتهجا , لتدخل غرفة البليارد :
طاولة
وعشب أخضر
وكرات ألوان…
ستلقي نظرة عجلى, وتمضي نحو زاوية
تراقب…
أنت لا تستعجل الأشياء
والناس الذين رأيتهم في غرفة البليارد لا يستعجلون;
وسوف يدخل آخرون الغرفة…
الساعات تمضي
والهواء الرطب يدخل في القميص ويستقر حرارة منقوعة في الصدر.
أنت تراقب :
المتفرجون تكاثروا في غرفة البليارد
لكن الذين ت قاسموا كل العصي تبادلوا الأدوار
ظلوا , وحد هم, في لعبة البليارد , يقتاتونها
كرة هنا حمراء
أخرى بعدها سوداء
واحدة تلاحقها العصي , وحيدة بيضاء…
كان اللاعبون يداو لون عصي هم و كراتهم
لاهين عما تفعل الأشياء
لاهين عن متفرجين رأوا في لعبة البليارد لعبتهم;
وإن شئت الحقيقة قال أربعة من الشبان همسا :
غرفة البليارد ليست ثكنة…
……………
……………
……………
ما أغرب المقهى على »باب الزبير« !


( 3 )

قعب من سامراء. البئر , المطوي كقنبلة في النسيان , يفوح قليلا.
هذي جفناتي و نذوري. سنبيت الليلة في الصحن. وفي منتصف الليل
نراوغ ذاك القيم كي نهبط في البئر. الليل نحاس. سترن خطانا بين النجم وقلب الأرض.سنهتف :تحيا الحرية !ثم ندلي حبلا ونلوذ به حتى
نلمس قاع البئر…, النسوة جئن هنا من كل ضواحي بغداد ,
النسوة بالأسود والوشم الفيروز وأغنية الموتى , والنسوة يدعونك يا غائب ,
يا ساكن رضوى, يا مطع منا عسلا وفراتا. سنبيت الليلة في الصحن ,
فلا تطرد نا من ملكوتك , لا تتركنا لذئاب البر. يتامى نحن ,
ضعاف , وذوو أطفال , فارحمنا يا ساكن رضوى, أغمض عينيك
الجوهرتين , ودعنا نهبط في البئر. ستعرف من رائحة الحبل الجوت
منازل حيرتنا. لسنا سفهاء , وأعيننا سملت منذ قرون
في حرب ظالمة , عبر قرى ظالمة . لن نحلم حتى بندى كفيك .
فنحن خرجنا من أجداث كي ندخل أجداثا. لا أكفان لنا , لا صلوات.
لا آس ولا سدر ولا كافور. مباركة طلعتك , اسمعنا يا سبط
هنا … في قاع البئر ستسمعنا. هل تعلم , يا سبط , بأن قنابل
52B , وقذائف مدفعنا الهاوتزر , ذرتنا في الريح غبارا من لحم وعظام ?
هل تعلم , يا سبط , بأنا كنا جوعى وعراة حين قتلنا ? هل تعلم
يا سبط , بأنا حين ظمئنا أ ور د نا بنزينا ثمر مينا برصاص يشعلنا?
تحيا الحرية !في "الفاو" شربنا الغازات السامة حتى ذابت أعيننا
كالشحمة في القيظ , وفي كردستان أكلنا لحم الأكراد على السيخ.
إذا , نحن وحوش الكون , بقايا اللهب المتدافع من جوف التنين , ضباع
الغابات المنسية في كتب بائدة… هل تسمع نا يا سبط ? وهل تأذن للذئب
بأن يغدو حملا في لحظة إيمان ? هل تأخذ منا أنف سنا? إنا , يا سبط ,
التو ابون , وإنا يا سبط , الكذابون. فهل تأخذ يا ساكن رضوى , اليوم ,
بأيدينا? هل تمنحنا نفحة روض ورضى ?
كم كان عراق الوهم جميلا !
تحيا الحرية !
حبل الجوت تدلى.
والأنشوطة محكمة.
والبئر يساوي نصف المتر…
سلاما !


( 4 )

مقهى على "شط العرب"…
قد كنت ذو بت المرارة في فمي مت مط قا بالشاي…
كان النهر أبيض
ثم أشرعة , ولمح من نوارس لا تطيق البحر
( رامبو قال …)
كان النهر أبيض
والنخيل هو الذي نلقاه في اللوحات حسب ,
أتحسب الدنيا مضيعة ?
أريد الآن أن أ حصي الدقائق :
تحت كالبتوسة جلست فتاة فجأة . في البعد يمرق زورق , والقطة
السوداء تخمش جذع صفصاف تهد ل شعره في الماء . كان البار
عبر الشارع الكورنيش أعلن نوره. بحارة (جاءوا من النرويج ?)
يفتتحون ليلتهم. تهل الهند بالسمبوسك. السفن الثلاث لشرق إفريقية
ارتعشت قليلا. كانت الأمواج تعلو. أين نذهب في المساء الماثل ? الشاي
الذي أهملته ما زال منتظرا. وعبر الضفة الأخرى أرى سيارة. شفتي
تدغدغني.تكون الشمس لصقي. ألمس الكرسي. نور في الهواء يشيع.
بعد غد سيحملني القطار إلى محطات وراء النهر . موسكو ربما…
……………
مقهى على "شط العرب"…
كانت تماثيل الجنود (وأقرأ : الضباط) تصطف. الوجوه قبيحة. وإشارة
الأيدي إلى إيران أقبح. وحد ه, بدر , تسوره مزابل يومه العادي…
لن تأتي الحمائم كي تحط , ولو لتذرق , فوق لمته الخفيفة ,
سوف تأتي الطائرات. وسوف تنقض الصواريخ البعيدة بغتة في هدأة الجندي.
تلك الساعة الدقاقة السوداء (جاء بها إلينا أرمني) سوف تعلو في الهواء
(كأنها من صنع سلفادور دالي)… لم تعد في بصرة البصري
أروقة , ولم تعد القناطر (وهي من جذع النخيل) صراط نا نحو السماء .
الليل منقض…سنسكن في مقابرنا. أليس البوم أجمل ?
غننا يا قاطع الأوتار , غن…
الليل مشتعل بنيران القيامة , والضفاف مليئة بمسابح الألغام , والأسماك
صارت تأكل اللحم المدود مثلنا.
غن , "المقاهي أغلقت أبوابها"…
غن !


( 5 )

الليل ببغداد يجيء سريعا . الليل ببغداد يقيم طويلا . منذ قرون
والليل ببغداد يجيء سريعا ويقيم طويلا . سيقول الحدادون سئمنا
العيش , صناعتنا السيف , وصنعتنا الضعف . يقول النجارون
سئمنا العيش , صناعتنا التابوت . يقول الحذ اؤون سئمنا العيش,
صناعتنا جزمات الجيش. يقول الشعراء سئمنا العيش , صناعتنا
أصباغ الوجه. يقول أطباء المستشفى نحن سئمنا العيش , صناعتنا
أن نصلم آذانا أو نجدع ( مثل زمان الحجاج) أنوفا. ويقول الحلاج :
ترى , هل صار الحلاج الناس جميعا ?
قمر يتطاول. والنجم تضاءل. أين منائر وادي الذهب ? الخيل مطهمة ,
والناس سواسية , والحجر الأسود في البحرين. كأن سماء من قصدير
تطبق. يا أخبار الصحف الأولى, يا أشجار السبي , ويا أرصفة النفي…
الليل ببغداد يجيء سريعا. أسرع من صاروخ قيامتنا, أسرع حتى من صاعقة الرؤيا. أحيانا نتذكر أنا بشر , أن لنا , كالحيوان , عيونا …
أن لنا أطرافا تتحرك أيضا. نحن بلا أسماء…لماذا ت رخين ضفائرك الأبنوس
على زندي? ولماذا يتمشى زندك هذا العاج على شفتي ? لماذا ترتعشين?
أللذ ة ترتعشين ? أنا أغمضت العينين وأعطيتك أجنحتي. سنسافر ,
قولي: سنسافر…قولي إن الناس يعيشون على القارات القمرية كالناس.
وقولي إن لديهم أروقة وحدائق… سوف تهدهدني كلماتك حتى الموت.
الموجة تتلو الموجة
كان بدجلة بيت الساحرة . الضفة العالية اصطفقت بالماء الأحمر. سوف
نشيد عاصمة , ونمد جسورا.
لكن اللوحة تهتز…
اللوحة وهي على الحائط تهتز ,
ونسقط منها. أنت. أنا . نسقط منها. ها نحن غريبان هنا , ها نحن فقيران
هنا , يرعد نا البرد , وينهشنا الجوع , ويهتكنا الجرب الضاري
مثل كلاب البدو ,
سلاما يا أرض الثمر الأول
يا أرض الطين المعجون بآلهة…
يا نبع الريحان
سلاما…


( 6)

مقهى ل "سيدوري" على البحر :
السفائن ألقت المرساة فجرا , وهي تنتظر المساء ليلتقي
البحارة الحكماء تحت سقيفة المقهى. و سيدوري تهيء منذ
أزمان , موائد ها, وتمشط شعرها , وتحاور المرآة…
في الأفق البعيد سلالم ترقى وأبخرة.
ستنبت , بغتة , صفصافة.
قصب السقيفة كان مضفورا ومؤتلقا.
زلابية سقيفة ذلك المقهى…
وخمر في الجرار
وفي الجفنات ترغو , حرة , جعة الشعير
وفجأة , نادى الم نادي:
أين سيدوري?
وعاد الصوت يطفو كالنوارس :
أين سيدوري?
وسيدوري تهيء منذ أزمان , موائدها , وتمشط شعرها,
وتحاو ر المرآة…
سيدوري , ستجلس , في المساء , الكون
سوف تكون ربته
وساقية تجالس أهله , البحارة الحكماء
سوف تقول سيدوري نبوءتها
 
أعلى