الجنس في الثقافة : عبد الصمد الكباص - الجنس في المغرب عن منظومة التنكّر واقتصاد اللذة واقتصاد الفقر

إنك لا ترى سوى ظلَّك وأنت تدير ظهرك للشمس
جبران خليل جبران

عندما نطرح سؤال الجنس في المغرب، فإننا لا نطرح فقط ما تشكل عبر تاريخ طويل نسجت حوله خيوط ثقافة بكاملها، ولا حتي الموضوع الذي من خلال طرحه تنكشف جرأة لم تكن متاحة من قبل، فهذا أصبح متجاوزا. إننا بالأحري وفي العمق، لا نطرح من خلال هذا السؤال، سوي مسألة الفرد والحرية. أي السؤال المتعلق بالمجال الذي فيه يختبر الفرد بشكل عيني حدود حريته ويتشكل هو نفسه انطلاقا من هذه الحدود. إذ أنه يجد في جنسه البؤرة التي تتجمع فيها أنظمة النواهي والمحظورات التي تجعله يتولد كموضوع خاضع، وتجعل حريته تتشكل كصيغة للخضوع والانضباط والاحجام والكبت.

بالمغرب، ولأنه منذ 1956، لم يطرح الفرد وحريته أبدا كرهان عمومي فإن الجنس وعلاقة الفرد بجسده من حيث هو قاعدة للرغبة، لم يسبق أن طرحت عبر ارتباط وثيق بمفهوم الحرية. لقد كان الرهان طيلة هذه المدة، وفي سياق الصراع السياسي الدائر بين نظم الحكم وقوي المعارضة، ينصب علي الحريات العامة، توسيعها أو تضييقها، تأسيس الأحزاب والجمعيات، ضمان حق الانتماء إليها، ضمان حرية النشاط السياسي، حرية الصحافة وتنظيم الجمعيات.. أما الفرد وحرياته العينية التي من خلالها تتولد الفردانية التي تشكل النواة التي ينتظم حولها المجتمع والدولة الحداثيان، فلم يكونا موضع انشغال سياسي. لذلك لم يظهر الجسد كموضوع سياسي حاسم في إطار الصراع الذي طبع مرحلة ما بعد الاستقلال وحدد ملامحها. بل أكثر من ذلك فإن الحرية لم تطرح كتعبير عن الفردية. ولم يحدد الفرد باعتباره مجال تحققها الفعلي. وهكذا تكرس تأويل فرضه نظام الحكم للإنسان يتولد عبره لا كذات وإنما كموضوع. نصيبه الأصلي الذي حدد له سلفا انطلاقا من موروث ديني وتقاليد مازالت تمارس ثقلها التاريخي، هو ولاؤه كأكبر واجب من المفروض عليه ليس فقط القيام به وإنما كذلك تحمل مسؤوليته. كما أن حريته نفسها تصبح مفهومة في ضوء هذا التأويل باعتبارها صيغ الخضوع المتاحة من خلال هذا الواجب. وبالمقابل فإن الفرد ككائن مستحق لنفسه ولحريته منعكسة في جسده ورغباته كان مطموسا بشكل كلي. يمكن الوقوف علي هذا التأويل بسهولة من خلال تشريعات الدولة متحققة في قوانينها الخاصة وفي الخطاب الرسمي وفي مجموع الممارسات التي تتمتع بشرعية من داخل المؤسسات التي تتم في إطارها. أما في مطالب المعارضة اليسارية فتنعكس صورة إنسان بجسده لا تشكل الرغبة واللذة أي رهان بالنسبة له. فهو كائن تكونه تطلعات سياسية تنصب علي ترسيخ حقوق الجماعات السياسية وتوسيع دائرة نشاطها، وعلي ضمان مؤسسات تمثيلية تشكل تعبيرا عن اختياره الحر. وهذه بالطبع مطالب لا نجادل في مشروعيتها وأهميتها. لكن المثير هو أن جسد هذا الكائـن أسقط من صلب مطالبه السياسية. حيث لا وجود لأي مطلب يشي بأن لهذا الكائـن جسدا تكون الرغبة جانبا صميما منه. كما أن الحرية المطروحة من خلال هذه المطالب ليست حرية أفراد وإنما حرية جماعات سياسية ونقابية في ممارسة نشاطها وتحركاتها. ليس هناك ما يفيد أن هناك صراعا من أجل إثبات الفردية كواقعة اجتماعية تتكون كنواة حقوقية تشكلها مجموعة من الحقوق المشدودة بشكل وثيق إلي الحرية الفردية التي من المفروض أن تمثل غاية قصوي لكل التشريعات. والتي كذلك من المفروض أن يختبرها عينيا ـ وليس صوريا ـ من خلال ممارسات مباشرة تمس اعتقاداته وجسده واختياراته الثقافية والايديولوجية.. ففي الوقت الذي تصر فيه مطالب المعارضة علي ضمان حق الاختيار الحر للفرد للمؤسسات التمثيلية، لم تجرؤ أبدا علي طرح مسألة ضمان حقه في التصرف الحر في جسده وفي رغباته وملذاته. فالحريات المختبرة عينيا من قبل الفرد وفي ارتباط مباشر بذاته مطموسة كليا من أفق هذه المطالب.

لقد شكل جسد الحاجة موضوع النضال السياسي- النقابي. فعليه تنصب التشريعات الخاصة بالشغل والخطط الاقتصادية المتصارع حولها. لأنه ينكشف كقاعدة للجهد والقوة والحاجة التي تمثل أساس عملية الانتاج والاستهلاك. أما جسد الرغبة فتنفرد به الدولة من خلال سياستها الجنسية. حيث تتدخل الدولة عبر تشريعاتها وإجراءاتها وممارسات مؤسساتها وأجهزتها، في صياغة الجوانب الأكثر حميمية من حياة الفرد. وذلك بتحديدها الحيز الشرعي للرغبة وتوسطها ما بين رغبات الفرد وما يلبيها. وانتزاعها من الفرد ووضعه تحت وصاية الجماعة.. أما جسد اللذة فيبقي أفقا حداثيا لم توجد بعد الشروط التي ستعمل كإجراءات توليدية لـه، وفي مقدمتها شرط فردنة المجتمع. وهي الشروط التي تجعل اللذة استحقاقا يمارس بموجب حق وليس اختلاسا غير مشروع.

في النهاية يبقي الجنس هو المأساة اليومية التي يعانيها المغاربة في يتم تام. حيث لا يتم الاعتراف حتي بأن هناك قمعا مسترسلا للجسد أو علي الأقل بأن هناك نمطا من الاستحواذ غير المشروع علي الرغبة من قبل أطراف غريبة عنها كالجماعة، الدولة.. إن الأجساد المعذبة داخل المعتقلات السرية بسبب انتماءات أو تحركات سياسية، هي أكثر حظا من الجسد الطليق في الشارع لأن هناك علي الأقل خطابا حقوقيا تسنده حركات حقوقية وسياسية يقر ويندد بهذا التعذيب ويطالب بإيقافه ومعاقبة المسؤولين عنه. لكن بالنسبة للجسد الطليق فإنه متروك في العراء يتحمل نفسه كعبء وعذاب يومي غير معترف به إذ لا أحد يجرؤ علي التنديد أو المطالبة بطرح هذا الوضع للمناقشة المندرجة ضمن أفق سياسي وليس معرفيا فقط.

إن الوضع الخطير الذي يرتسم خلال ما وصفناه سالفا يتمثل في كون نظام الحكم والمعارضة اليسارية والحركات الحقوقية (أي فرقاء المغرب المعاصر) تقاطعوا جميعا في نقطة حاسمة انطلاقا منها يتأسس ما يمكن أن نسميه : منظومة التنكر التي تشتغل فيها مجموعة من العناصر: خطابات، تشريعات، إجراءات، تقسيمات قيمية، أولويات مطلبية.. والتي يبدو فيها احتجاب الجسد كحق، شيئا مشروعا. ويأخذ فيها طمس حق الفرد في الحرية طابعا عاديا. وينسب فيها كل مطلب متعلق بهذا الحق إلي التفاهة والميوعة واللاجدوي وفي أحسن الأحوال يعتبر ذا أهمية ثانوية. أي إجمالا المنظومة التي يسري عبرها مفعول التنكر للفرد ولحريته وأساسا لحقه في جسده، يسري كممارسة مشروعة لا تستدعي أية مناقشة.

من أهم مفعولات منظومة التنكر هذه، هو كون الجنس لم يطرح أبداً بالمغرب من خلال مفهوم الحرية ومفهوم الحق. أي الحيازة التي يخولها له وجوده ككائن جدير بحريته ـ خارج ارتباط بالانتاج- وبمتعته ولذته، عندما يصبح الجنس رهانا للحرية وتصبح الحرية رهانا للفرد ويصبح الفرد رهانا للمجتمع والدولة، عندها فقط يمكننا أن نقول أننا نشهد عتبة حداثتنا قيد التشكل.




نظام التقتير كاقتصاد اللذة

إذا كان هذا هو وضع الجنس بشكل عام داخل منظومة التنكر ـ كما عرضناها اعلاه ـ فكيف يتحدد موقع ممارسة تنسب عادة الي الشذوذ والانحراف كالجنسية المثلية؟ تمثل الجنسية المثلية احراجا للطبيعة التي تكرست ثقافيا كمعيار من خلال ما يسمي بالعلاقات او الممارسات الطبيعية. فهي افراز من داخل الطبيعة لما يعتبر كخروج عنها. انها ممارسة عابرة للثقافات والمجتمعات لا تخص ثقافة معينة او مجتمعا او عرقا او منطقة جغرافية. وتضع موقع اشكال الثنائية المعيارية طبيعي/ غير طبيعي . مثلما انها تمارس احراجا للنظام الثقافي يتمثل في السؤال الآتي: هل هناك فعلا مؤسسات قادرة علي فرض الانضباط التام والمطلق للمحظورات الجنسية ـ وهل سحب المشروعية عن ممارسة معينة يعني اعدامها؟

بالمغرب ومن خلال اشتغال منظومة التنكر تكون الرغبة مكونة ومصوغة من خلال المحظورات التي لا تكبح فقط جماح طاقة حيوية وتوجيهها نحو موضوع يحدد باعتباره الموضوع المشروع لتلبية وإشباع الرغبة، وإنما كذلك تعمل علي تكوين وتنمية مواقع لرغبات متعارضة مع هذه المحظورات، أي أن هذه المحظورات هي نفسها التي تولد ما تحظره. لذلك فإن الاستعمال الجنسي للجسد الذي يستثني من التوجه الليبرالي الذي تدعي الدولة المغربية أنها تنهجه وتعتبره أحد ركائزها، يوضع بإرادة سياسية للدولة- من خلال تشريعاتها وممارسات أجهزتها (أمن، قضاء) تحت وصاية مركبة للأخلاق والدين والجماعة مع استبعاد الفرد منها. وما ينتج عن هذا الوضع هو ما يمكن أن تسميه نظام التقتير كاقتصاد للذة حيث تنفصل الرغبة عن ميولاتها الطبيعية وتتقطع الصلة بينها وبين الاختيار الذي يمليه الميل النابع من صميم هذه الرغبة نفسها. بمعني أن المغاربة يستعملون أجسادهم من أجل لذة لا تحددها ميولات رغبات منبثقة تلقائيا من قلب هذه الأجساد ذاتها. إن الاستعمال الجنسي لأجسادهم يتم وفق ما هم مضطرون إليه ومجبرون عليه انطلاقا من إلزامات مفارقة لإرادتهم واختبارهم. في إطار نظام التقتير تظهر الجنسية المثلية ليس كاختيار حر، وإنما بديلا عما ليس مسموحا به ولا مباحا ولا مقبولا.. انها تأخذ وضعا مقلوبا. ففي الوقت الذي كان مفروضا فيه ـ بحكم طبيعة الثقافة المهيمنة داخل المجتمع ـ ان تكون غير طبيعية وغير مقبولة ومرفوضة حتى كإمكان، فإنها بالعكس تصبح ملجأ للتحايل علي المحظورات التي تنتصب كموجة للرغبة ومحدد لطبيعة موضوعها. والسياق العام، أي السياق الثقافي ـ القيمي المدعوم بنظام عقابي، يعمل علي توفير شروط وظروف وجودها وشيوعها. فاذا كانت الممارسة المثلية ممارسة غير مقبولة ـ من حيث كونها تتحدد كشذوذ عن المعيار الطبيعي داخل النظام الثقافي المهيمن ـ فان الشروط والظروف التي تتم فيها تتمتع ـ بالعكس ـ بمشروعية مسحوبة ومسقطة عن الشروط والظروف التي تتيح انتعاش الممارسة التي تصنف ـ ثقافيا ـ كممارسة طبيعية، يمكننا ان نقف علي ذلك من خلال المثال الآتي: ضمنيا يبدو أن تشريعات الدولة المغربية تتبني تأويلا جنسويا مبالغا فيه للعلاقات بين الجنسين، إذ أن تواجد شاب وشابة في الشارع العام من دون علاقة دموية أو زوجية، يؤول باعتباره تحريضا علي الفساد بما يستتبع ذلك من مطاردات لفرق الشرطة لكل تواجد من هذا النوع في الشارع والمقاهي ولو كان عابرا. وما يتلوه من استفسارات يعقبها الاعتقال والتقديم للمحاكمة بموجب مقتضيات القانون الجنائي. هذه إجراءات يومية جار بها العمل بشكل مألوف. يطرح هنا من خلال هذه الواقعة ثلاث مفارقات:

الاولى تتعلق بمنظومة القيم، حيث رغم التطور الاجتماعي والاقتصادي الذي تراجع عن منطق الفصل الصارم بين الجنسين، إذ نلاحظ اختلاطا داخل مؤسسات الانتاج والادارة وفي مؤسسات التعليم والتكوين : الجامعات والمعاهد والمدارس، إلا أن المنظومة القيمية التي تحايث هذا المنطق مازالت مستمرة وتباشر مفعولها في الواقع وتمارس ضغطها علي الافراد. فليست الممارسات التي وصفناها قبل قليل والمنضوية في إطار منظومة العقاب المغربية من مطاردات واعتقال ومحاكمة، سوي تحيين عملي لهذه المنظومة القيمية. إذ كان من المفروض بالنسبة لدولة تحاسب علي سلوك عابر كتواجد شخصين من جنسين مختلفين في الشارع العام، أن تفرض حظرا شاملا علي كل اختلاط محتمل بين الجنسين خارج المؤسسة الزوجية. لكن الذي يقع هو أن هذا الاختلاط محفز بمنطق الإنتاج ومعاقب عليه بمنطق القيم والقانون.

هذه المفارقة تعكس التضارب القيمي الذي يميز المغرب المعاصر. حيث أن سلوكات الفرد تنازعها قيم متعارضة تنتظم تارة حول قيمتي المردودية والمنفعة التي تقرها الرسملة، وتارة تنتظم حول القيم المفروضة بتأويل ديني وأخلاقي، وأخري حول قيم يفرضها العرف والتقاليد.. وهذا يفيد أن المغرب ليس فقط في حاجة إلي إصلاح مؤسساته الدستورية وإصلاح هياكله الاقتصادية والادارية، بل هو كذلك في حاجة إلي إصلاح قيمي يحل إشكال تعارض المنظومات التي تعمل بشكل متواز وتتنازع الفرد والقوانين المنظمة لحياته.

أما المفارقة الثانية فتكمن فيما يلي : رغم أن دستور المغرب الأخير يؤكد علي احترام حقوق الإنسان، ورغم النهضة والانتعاش الذي عرفته الحركة الحقوقية بالمغرب في عقد التسعينات، فإنه لم يسبق أن طرحت هذه الممارسات المشار إليها أعلاه باعتبارها خرقا لحق من حقوق الإنسان التي من المفروض أن تكون موضوع حماية من تشريعات الدولة وأجهزتها وليس موضوع انتهاك. إذ لا يجب أن يوضع الفرد بدون مبرر قاهر في موقف يكون فيه مضطرا لتبرير علاقاته الشخصية. لكن الذي يقع هو أن هذه الممارسات (مطاردات، اعتقال، محاكمة) تبدو عادية جدا ولا تثير أدني تحفظ لدي المدافعين عن حقوق الإنسان. فباستثناء المذكرة التي وجهها رئيس المنظمة المغربية لحقوق الإنسان لوزير الداخلية محمد الميداوي 2000 والتي تتضمن إشارة إلي هذا الموضوع، لا أحد يصنف هذه الممارسات كخروقات جسيمة. ليترك الفرد في عزلة تامة يتلقي هذا العنف من دون أدني سند أو حماية ولو معنوية. بما في ذلك الحركات النسائية التي لم تلتفت أبدا إلي أن ليس للمرأة حتى الحق في أن تكون مع رجل في الشارع العام بما يتضمن ذلك من إسقاط ضمني للحق في الصداقة. هذه المفارقة تمثل إحراجا مزدوجا لادعاءات الحركات الحقوقية بالمغرب وكذلك لادعاءات الدولة التي تتطابق في المنظور السياسوي لحقوق إنسان. فالدولة تعتبر أنها صفت ملف حقوق الإنسان بمجرد الافراج عن الخصوم السياسيين للنظام الحاكم. والحركات الحقوقية تركزت مطالبها حول تصفية مستتبعات الاعتقال السياسي من تعويض ومحاسبة. أما الخروقات التي تتم يوميا ويتعرض لها الفرد بشكل مستديم في التفاصيل الأكثر جزئية من حياته اليومية فلا تدخل أبدا في اعتبار الطرفين. وهذا يفيد أن الإقرار بالكونية، وباعتماد المرجعية الدولية علي مستوي حقوق الإنسان، هو بالنسبة للطرفين لا يغدو أن يكون سوي ادعاء.

أما علي المستوي العملي (الممارسات والمطالب) فهنالك سيادة لمنطق تجزيئي لهذه الحقوق يستند لفكرة الخصوصية وليس للكونية.

المفارقة الثالثة يمكن أن نصوغها علي النحو الآتي: إن اختلاء الجنسين ببعضهما أو تواجدهما معا في الفضاء العام (شارع، مقهى..) يعتبر الإفصاح العملي عن ميل جنسي والدعوة إليه، وفق التأويل الضمني لتشريعات الدولة، وهكذا ففي الوقت الذي يطارد فيه هذا الإفصاح عن الرغبة الجنسية التي يحددها العرف الشائع كرغبة طبيعية، ويضيق الخناق علي أبسط تجلياتها الرمزية، فإن الإعلان الرمزي عن الجنسية المثلية من خلال سلوكات معينة شائعة ومنتشرة لم يكن أبدا موضوع مضايقة ولا اضطهاد. فوقوف فتاتين متعانقتين أو مستندتين أو واضعتين يديهما في يد بعضهما البعض، لا يثير أي شك ولا يترتب عنه أي عقاب. في حين أن ما يماثلها من سلوكات بين جنسين مختلفين يعتبر سلوكا مرفوضا من الناحية الأخلاقية ومخالفة تستدعي العقاب من الناحية القانونية.

ما يستفاد من كل هذا هو أن المحيط الثقافي ـ القانوني، يجعل مقبولا وطبيعيا ومشروعا الشروط والظروف الملائمة للممارسة التي يحددها باعتبارها غير مقبولة وغير طبيعية وشاذة. في حين أنه يعمل علي تأزم ومحاصرة شروط وظروف تنمية ما يحددها كممارسة جنسية طبيعية، أي أنه يجعلها غير طبيعية ولا مقبولة.

إن الجسد يعيش بالمغرب في ظل منظومة تضيق الخناق وتضطهد ما تعتبره رغبة طبيعية، تبتلعها في حيز ضيق يجعلها مرتبطة بمؤسسة الزواج وتعرضها للإعدام خارج هذه المؤسسة. وتنعش وتشجع ضمنيا ما تعتبره ممارسة شاذة مرتكزة إلى رغبة تصنفها كرغبة غير طبيعية. هذه المفارقة التي تمثل صلب ما سميناه بنظام التقتير كاقتصاد للذة، تضع كسب اللذة وتوزيعها حسب الرغبة الدافعة إليها، في وضع ملتبس تلعب فيه المشروعية و الطبيعة دور قواعد تقييمية متشابكة لكن غير منسجمة لهذا التوزيع. فتكون الجنسية المثلية بمثابة المنصب الذي تلجأ إليه الرغبة المضطهدة أو المتحايلة علي شروط اضطهادها بالاتجاه نحو ممارسة رغم كونها تنصف ضمن الشذوذ إلا أن شروط تنميتها تحظي بتشجيع وإنعاش وكذلك بشرعية ذات وضع ملتبس.

هذه هي المفارقة التي يتحملها في صمت الجسد بالمغرب، وكذلك المغاربة الذين يحققون وجودهم من خلاله. وينثني عليها مجتمع بأكمله مازال إلي الآن يصدق نفاقه ويرفض النظر مليا في شروخه.




الجنسية المثلية والفقر

شيء عادي اذن، ان نقول بان الجنسية المثلية تنتظم في المغرب داخل اقتصاديات الفقر كنشاط اقتصادي يضمن مدخولا معينا وله نصيب غير معترف به من الرواج التجاري لقطاعات معينة. مثلما لا يعترف للدعارة بين الجنسين بنصيبها في إنعاش حركة الاستهلاك والدورة الاقتصادية داخل قطاعات محددة: كالمقاهي، الحانات، المطاعم، العلب والأندية الليلية، والفنادق.. وقد تمتد السلسلة وتتوسع. ولا يتم التأكد من الدور المحوري للدعارة في إنعاش هذه القطاعات إلا في حالة حدوث أزمة، بالمغرب وفي سياق اقتصاديات الفقر، تتولد الجنسية المثلية كممارسة تمتد تنميتها وفق قيمة المردودية. إنها ليست رغبة تستدعي المتعة واللذة بقدر ما هي خدمة لها مقابل ومجهود يستحق أجرا.. واذا كانت الدعارة السحاقية لا تظهر في هذا المشهد بشكل ضاغط، فان الدعارة الذكورية تمثل نشاطا شبع علني مستفيدة من الظروف المواتية التي يهيئها نظام التقتير كما وصفناه سالفا، غير أن هذه الدعارة ليست بالضرورة مثلية. إنها نشاط يقوم علي تأجير الجسد لزبون يستعمله كأداة للحصول علي متعة مقابل تعريفة متفق عليها. لكن ليس من المفروض أن يكون هذا الزبون رجلا دائما. وهو وضع معروف جدا داخل المدن التي تعيش علي السياحة كنشاط اقتصادي أساسا لا داعي للتفصيل فيه.
ان المثلية هنا ليست لها اي علاقة بالمتعة وانما بالمنفعة والمردودية. انها ليست رغبة تجد في الجسد حقا انبثاقها الطبيعي فتتوخى الوصول الي ما يلبيها ويشبعها، إنها بالأحرى نشاط تتحدد شروط وجوده قواعد عمله من داخل الاقتصاد: حساباته وإكراهاته. هذا الوضع يغير علاقة الفرد بجنسه. حيث يغدو ليس الحيز المتلبس والغامض الذي فيه يتحقق الجسد في بعده الممتع ويعكس الوجود في ما ينتجه من لذة، بل يغدو الامتداد المباشر لحقل اكتسحته الحاجة وزحفت عليه قوانين قاهرة لحساب الربح والخسارة، وتدبير المدخول والنفقة والموازنة بينهما.(...)
تلك هي الأنظمة الثلاثة التي تصوغ ليس فقط الحقيقة المتغيرة للجنسية المثلية بل وكذلك قيمتها التنكرية ويرتبط بها ارتباطا جدليا، فان اقتصاد الفقر يمثل نظاما موازيا لهما.

إن الجسد هو المجال الذي فيه تتقاطع الرغبة ـ كتوق أولي ـ بالمشروعية والقيمة. وفي هذا التقاطع تتحدد أنحاء وصيغ توليد الكائنات التي تلتئم لتشكل نمط المجتمع الذي يسود فتتولد هذه الكائنات إما كنواة وإما كموضوعات. لذلك فإن الجنس هو في العمق المجال الحيوي الذي نطرح عليه ليس فقط مسألة التباس وجودنا، وإنما كذلك سؤال قيمنا ونختبر فعالية حقوقنا وحدود حريتنا.

إن السؤال عينه الذي يطرح من داخل كل ممارسة ويجعل توقنا إلي أن نكون أحرارا، والي أن يكون لنا جسد يستعمل بموجب حق ثابت، يجعله شيئا راهنا وملحا وحيويا داخل أي تناول حداثي لأفقنا الاجتماعي. هذا الأفق الذي من مقومات انفتاحه كإمكان الاعتراف بأن هناك قضية ملحة تتركز في مفهوم بسيط هو الحق في الجسد. وربما أن وقت طرحها سياسيا قد أوشك، أقول فقط ربما.




03.JPG
 
أعلى