دراسة محمد يوب - "قال لي و مضى" للقاص عبد الحميد الغرباوي دراسة بنيوية تكوينية

"قال لي و مضى " مجموعة قصصية للأديب المغربي عبد الحميد الغرباوي ، التي صدرها ببليوغرافية ، رصد فيها مجموع قصصه حسب الحروف الأبجدية .
و نحن من خلال هذه الدراسة نريد تسليط الضوء على المستويين المشكلين لبنيات هذه المجموعة القصصية ، أي أننا سنتعامل مع هذه المجموعة كدراسة نقدية ، من خلال البنية الداخلية و البنية الخارجية .
وعندما نفصل الداخل عن الخارج ، ليس الهدف من ذلك الفصل النهائي بين بنية الشكل وبنية المضمون ، وإنما يكون الفصل بينهما من أجل تسهيل عملية الدراسة النقدية ، لتبسيط تناول المجموعة وتيسيرها أمام القارئ .
لأن الأديب أثناء عملية الإبداع لا يفصل بين ما هو داخلي و ما هو خارجي، فالداخل هو قالب يستوعب الخارج في علاقة جدلية تجمع بين الدال و المدلول ، فالداخل لابد له من خارج ، و الخارج لابد له من داخل .
1-على مستوى البنية الفنية الداخلية:
إن أي دراسة نقدية لعمل من الأعمال الأدبية لا تتم إلا بدراسة المكونات الداخلية لهذه الأعمال ، من أجل معرفة البنية الخارجية.
و لمعرفة المكونات الداخلية لهذه المجموعة القصصية لابد من الانطلاق من اللغة ،ليس كتركيب وقواعد ، بل كصياغة وتعبير داخل السياق الاجتماعي و الأيديولوجي ، لأن دراسة اللغة كتركيب يساهم في تجميد اللغة وارتكانها في مرحلة الوصف السانكروني ، دون الانتقال بها إلى المرحلة الدياكرونية في علاقتها مع المكونات الخارجية "لأن تجمد اللغة يعني بقاؤها خارج الحركة التاريخية للسياق التخاطبي ، ويعني أيضا تراجع التركيب مرتميا في عزلته" .
و اللغة في " قال لي و مضى " لغة إيحائية ، تشير إلى كثير من الدلالات الخارجية، مما يساعد على تحمل هذه المجموعة القصصية لعدة قراءات ، في ضوء الرؤية الأيديولوجية التي ينطلق منها القارئ / الناقد.
فاللغة فيها لغة انفجارية تخرج عن المعتاد و تبتعد عن التفسير القاموسي المعجمي ، والقارئ بذلك يعطي للكلمة الواحدة عدة دلالات ، حسب رؤيته النقدية .
و اللغة انطلاقا من هذا المنظور_ في كتابات عبد الحميد الغرباوي_ و في قال لي و مضى بالذات ، تبتعد عن اللغة التقريرية المباشرة ، و تعتمد لغة تمزج بين الواقع و المتخيل ، هذا الواقع الذي اختمر في ذهنية الأديب و صاغه أدبا ، أي أنه اهتم بما يسمى عند تودوروف بأدبية العمل الأدبي ، لأن اللغة الأدبية هي التي تميز الخطاب الأدبي عن باقي أنواع الخطابات الأخرى ، كالخطاب السياسي و التاريخي و الاجتماعي ....
و المجموعة القصصية بهذا المعنى كتبت بلغة في حالتها الحركية ، الديناميكية، التي ينعدم فيها الانسجام و التوحد ، بمعنى أن الكتابة من هذا النوع تعطي للأصوات المتعددة التعبير عن نفسها بكل حرية ، و لهذا نجد بأن المجموعة القصصية كانت واضحة و معبرة عن نبض الشارع و همومه ، إنها كتابة بلغة مفارقة مليئة بالثنائيات الضدية ، و الألفاظ المفارقة (الكلب يموء ، القط يعوي ، السماء متربة ، الأرض فضاء تحلق فيه عصافير تنعق..العتمة ضوء، الضوء ظلام أبيض) تحول.

و جمالية اللغة في هذه المجموعة القصصية ، توهمنا بحقيقة ما يكتب القاص عبد الحميد الغرباوي ،وهي بذلك تجعلنا ننظر إلى عالم القصص المشكلة للمجموعة و كأنها حقيقية ثابتة ، نعيشها و نتعايش معها .
و أحداث هذه المجموعة القصصية تتشكل في تفضيئ زمكاني يعطيها صبغة المعقولية ، وتتخذ مشروعيتها من المعطيات الواقعية و المرجعية ، لأن هذه الأحداث تتنوع بتنوع طريقة السرد الحكائي الذي يعتمده الكاتب ، و ما هذا الفضاء إلا الأمكنة التي يتنقل فيها الأبطال بكل حرية في فضاء القصة الذي حدده الكاتب .
أما الزمن فقد جمع فيه بين زمنين ، زمن القص و زمن الوقائع ، بحيث لا يشعر القارئ بأن القاص يميز بين زمن وقوع الأحداث ، و زمن سرد الأحداث ، إنه زمن واحد و هذا نوع آخر من توظيف الزمن في الكتابة الحداثية عن عبد الحميد الغرباوي.
إن الفضاء القصصي ينطلق مما هو معيش وواقعي ، لكن هذا الواقع لم يكن آليا ميكانيكيا ، بل اختمر في ذهنية القاص ، فأنتجه أدبا بعيدا عن التقريرية و النقل الآلي للواقع .
بهذا المعنى نلاحظ تدخل ذات المبدع في خلق الفضاء الذي يلائم شخصياته ، ويسير مع أحداث المجموعة القصصية ، ثم إن هذا الفضاء قد يقرؤه القارئ عدة قراءات ، لأنه متنوع بتنوع أشكال و أحداث القصص ، وتنوع الأبطال المؤدون لهذه الأحداث.
ولهذا عندما نقرؤ هذه المجموعة القصصية نشعر و كأننا نتابع و نشاهد تحركات الشخصيات التي تطورت من مرحلة الشخوص إلى مرحلة التمثيل في نوع من الحركية الجدلية التي تساعد على نمو و تطور الممثلين.
و ما يجعل الأحداث تتخذ صبغة الواقعية هو عملية السرد في هذه القصص ، فنلاحظ بان القاص يسرد الأحداث نيابة عن نفسه ، و عن الشخصيات ، وفي كثير من القصص يفسح للمثلين المجال للتعبير عن أنفسهم .
غير أن القاص السارد يبقى دائما هو الشخصية المتميزة عن الشخصيات الأخرى وذلك بمعاينته للأحداث و للوقائع ، فنجده مرة يتوسط الشخصيات و مرة يتخذ مكانا معزولا يراقب من خلاله الأحداث بنوع من التكثيف ، و التركيز الدقيق للألفاظ بعيدا عن الحشو الذي لا فائدة منه ، وقمة التكثيف و الاقتضاب يظهر من خلال أقصر قصة قصيرة في هذه المجموعة القصصية " مرآة" التي قال فيها " فقدت فضتها فأصيبت بالعمى " .
إن هذه القصة تبين للقارئ مدى احترام القاص لآليات الكتابة ، في هذا الجنس الذي يصل إلى أعلى مرحلة النشوة الفنية و الجمالية عندما يكون قصيرا ، لأن القصة القصيرة كلما كانت الألفاظ فيها قصيرة و ضيقة كلما كانت المعاني و الدلالات واسعة ، إنها عالم خصب شاسع متعدد الدلالات بتعدد القراءات .
كما أن الصبغة الثانية التي ركز عليها الكاتب هي انزياح اللغة من اللغة القصصية النثرية ، إلى اللغة الشعرية التي تحافظ على الجرس الموسيقي و الصور الجمالية و البلاغية . و هذا النوع من الكتابة القصصية نجده في قصة " مانوية" التي جاءت على شكل قصيدة نثرية :
اللحظة
الكل يبكي
اللحظة
كراسي المعزين
تبكي
اللحظة
أشجار الساحة تبكي
وكذلك الشأن بالنسبة لقصة " مجد "
لست أدري
كلما نمت أحلم
أني أسقط
أسقط
إلى
أ
ع
ل
ى
نموذج آخر من الكتابة المفارقة على مستوى اللغة ، و على مستوى الدلالات ، عادة ما يكون السقوط من أعلى إلى تحت ، لكن القاص هنا فضل ركوب هذا النوع من الكتابة الأدبية ، التي تحدث رجة في ذهن القارئ و تدفعه إلى التفكير في طبيعة السقوط إلى أعلى .و الشئ الذي ساعد على هذا النوع من الكتابة ، هو تجربة القاص المتنوعة في أشكال مختلفة في الكتابة الأدبية شعرا وقصة ومسرحا وصحافة وغيرها من الأجناس الأدبية الأخرى التي خاض الأديب عبد الحميد الغرباوي غمارها .
2-على مستوى البنية الخارجية:
عندما نتحدث عن البنية الخارجية يتبادر إلى الذهن الواقع المعيش الذي يحدد فيه الإنسان كيانه ويجتهد من أجل تجاوزه ، و تحقيق واقع أفضل، ولذلك يجد نفسه في صراع دائم مع هذا الواقع و مستجداته المتغيرة و المتناقضة .
وهذه النظرة إلى الواقع تبقى بسيطة ، لأنها نابعة من عقلية بسيطة كذلك تكتفي بالأشياء المحسوسة و لا تتجاوزها إلى ما فوق الواقع ، ولكن هذا المافوق واقع لا نعني به الجانب الميتافيزيقي ، الهروبي ، و إنما نقصد به حضور الإنسان داخل الواقع الاجتماعي ولكن بنوع من التميز.
وهذا التميز هو الذي يبحث عنه القاص عبد الحميد الغرباوي من خلال هذه المجموعة القصصية " قال لي و مضى" . لقد نقل الواقع الاجتماعي في هذه القصص ، ولكن ليس بشكل مرآتي ، ينقل الواقع بحذافيره . لأن نقل الواقع بهذه الطريقة يعني اعتبار المجموعة القصصية عملا ميكانيكيا يعكس الواقع الاجتماعي بشكل آلي و حرفي .
إن الواقع في هذه المجموعة القصصية ، واقع ذو طبيعة أيديولوجية ، بمعنى أن اللغة عندما تعبر عن أحداث وشخصيات معينة ، تنحرف عن مدلولها المادي المكشوف ، و تتخذ طابعا أيديولوجيا يكشف عن صراع مطروح على المستوى التخيلي .( قرر كتابة رواية فيها مخزون القلب من مشاعر و أحاسيس ، كل ما استخلصه من تجارب و معاناة في الحياة و مواقف تجاه الآخر ...) تقشير
(و دون تردد واصل الحذف و الشذب و التكثيف إلى أن بقيت الفكرة وحدها معلقة على جذع علامة استفهام كبيرة ) تقشير
إنها إشارة إلى دخول مجموعة من الكتبة ، الذين يسترزقون بأقلامهم ، و الذين يتخذوا من الكتابة القصصية ، وسيلة لامتطاء عالم الكتابة ، عالم المعرفة ، عالم الكتابة الصحفية التي لم تعط للبطل(الكاتب ) ما يستحقه من تقدير، مع حبه الخالص لهذه المغامرة التي تحتاج إلى بذل مجهود كبير من إخلاص وحب رغبة في ملئ الفراغ الذي تعاني منه الكتابة الأدبية في هذا المجال .
ولكن يظهر أن الكاتب قد اتخذ موقفا باعتزال الكتابة ، أو بشكل أصح اعتزال الكتابة الصحفية الملجمة ، التي تطلب من الكاتب الحر الابتعاد عن مبادئه (الأوراق التي أحبرها...أسودها بعبارات و حكايات ..
عندما تتحول إلى ركام أحرقها أو أمزقها ....) الأوراق
لكن يبدو أن هم الكتابة لصيق بالكاتب ، لأنها تلاحقه أينما حل و ارتحل ( لكن ، لماذا كلما تخلصت منها تعود ؟
كما لو أنها تتناسل ...) الأوراق
و المتمعن للمجموعة القصصية" قال لي ومضى" بل لكتابات القاص عبد الحميد الغرباوي بصفة عامة ، يرى بأن الواقع عبارة عن صورة ذهنية ، اختمرت في ذهن الكاتب فأعطت مزيجا من الخيال و الواقع المعيش ، ويمكن تلمس ذلك من خلال قصة" تحفز" التي شبه فيها بعض الأشخاص بأنهم ذئاب بشرية (نظر في عينيها..
فألقى نفسه في قلب محيط هادئ أزرق ..
نظرت في عينيه فرأت ذئبا جائعا
غضبة المحيط كانت عنيفة..) تحفز
إن القاص هنا يختار بعض الصور الخيالية ، ليكمل بها ما هو حقيقي وواقعي ، وهنا تظهر خاصية أخرى عند الكاتب ، وهو تعاطفه مع المرأة الأم الحبيبة الصديقة ... ويصورها في كثير من القصص ، على أنها مغلوبة على أمرها ، و أن الرجل هو السبب في انحراف بعضهن ، و خروجهن إلى طريق الدعارة ، و الاشتغال في العلب الليلية ، من أجل سد رمق الأطفال الأبرياء الذين لا يعرفون من هم آباؤهم ، فظلوا هكذا يعانون من أثر هذه الأزمة على أنفسهم ، هذه الأزمة التي ستخلف أطفالا منحرفين ، وبالتالي يكررون نفس المأساة ، إنها مأساة الأمهات العازبات ( غنت لهم طويلا.
بح صوتها من كثرة الغناء ، لبت طلباتهم .
رقصت إرضاء لخاطرهم....
...انحنت لتطمئن على صغيرتها الرضيع ، فرأتها فاتحة عينبها تنظر فيها مبتسمة،........ابتسمت لها ، قبلتها ، هامسة : " لن أدعك لمصير كمصيري أبدا ، أبدا.") أمومة .
إنها غاية في الإحساس بمخاطر الضحك على الفتيات ، و إدخالهن في لعبة الخداع و الإغراء ، وذلك بوعدهن بالزواج الكاذب( مراهقة ). هذا الزواج الذي تنتج عنه حالات إنسانية مكسرة المشاعر ، مضطربة الأفكار ، تتولد عنها حالات نفسية غير سوية ، و السبب في ذلك بعض الرجال الذين يتقنون فن التمثيل ( أسرع إلى غرفة الممثل ، وصدى التصفيق يتردد عبر الممر المؤدي إليها ..
أحكم إغلاق الباب خلفه
نظر إلى وجهه في المرآة
و أجهش باكيا.)الممثل .
بهذه النماذج القصصية ، نكون قد أخذنا فكرة عن رؤية القاص و أبعاده الدلالية ، من خلال تنوع أبطاله وتنوع رؤاهم الفكرية ، وهذا التنوع في الرؤى يعود إلى تعدد الشخصيات في المجموعة القصصية ، باعتبار أن هذه الشخصيات تعبر عن وعي جمعي .
و القاص عبد الحميد الغرباوي ( على لسان أبطاله الحداثيين ) لا يتميز ضمن هذا الوعي ، إلا بكونه أقوى مساهمة من الآخرين ، لأنه هو الذي يسير هذه الشخصيات و يخطط لها ،وبكيفية التعاطي مع الأحداث المسندة إليها من خلال السرد و الحوار و الترميز و التضمين و التكثيف ، وكل آليات الكتابة التي تحتاج إليها القصة القصيرة جدا .
إن الواقع في هذه المجموعة القصصية هو مخزون الذاكرة الماضية و الحاضرة ، مخزون الواقع المعيش في درب السلطان و ساحة سراغنة ، و درب البلدية ،لأن القاص عبد الحميد الغرباوي عايش مجموعة من الأحداث و الوقائع و مع مرور الزمن رشحت في ذهنه ، ثم عاد إليها لينقلها أدبا في شكل قصص قصيرة جدا ، جمعها في هذه المجموعة القصصية تحت عنوان " قال لي و مضى"



محمد يوب
 
أعلى