دراسة عروة علي موسى - قراءة في قصة ( امرأة من كمبو كديس ) لعبد العزيز بركة ساكن

بدأت القصة بتحديد زمنها في ثلاثة أبعاد : الأول كونه صباحاً ، والثاني كونه قائظاً ، والثالث كونه خريفياً ، فبهذا الزمن الغريب مهَّد القاصُ لأحداث قصته إذ أن الزمن هنا يشوبه التناقض والغرابة لأن المتوقع أن يكون الجو في هذا الزمن مقبولاً ، ولكن كأنما أراد القاص أن يقول لنا أن المكان الذي حدثت فيه القصة يتسم بالقيظ المفتعل الذي هو جزءاً من السودان ككل تسوده الصور المعكوسة المتمثلة في جور الحاكمين اتسم ، وقلة حيلة الغلابة الذين يمارسون حياتهم في الهامش وفي صمت .. لينتقل القاص بعد ذلك لتحديد مكان القصة التي أشار إليها ( المدينة ) ولكنه حدد المكان بصورة أدق عند الإشارة إلى مكان الحدث ( كمبو كديس ) بيد أن الأحداث المحورية في القصة تمت في ( سوق المدينة ) الذي جاءت إليه بطلة القصة من ذلك المكان المتواري في أطراف المدينة بحثاً عن الرزق كتاجرة في سلع بدائية تجد من يقبلها في السوق الذي وصفه القاص وصفاً دقيقاً وجعله مسرحاً معداً لكذا أحداث ...
لا بد أن نلحظ أن القاص / الراوي أشار إلى وضعه في خارطة ذلك المجتمع حينما برر تسكعه في شوراع المدينة في ذلك الوقت الذي كان يفترض فيه أن يكون في مكان عمله ، ولكنه ينبئك بالسبب بأنه طُرد من عمله للصالح العام ، وهنا يكون الراوي الأقدر على طرح المعالجة الاجتماعية لمجتمعه لاتصافه بالناس ومعرفته بتفاصيل حياتهم لذا جاء سرده القصصي بهذا التوجه الاجتماعي محاولاً معالجة أحوال مجتمعه والتنبيه إلى المصائب والآلام والمظالم التي يعيشها هؤلاء المهمشون ليبرزها في صورة واضحة مثيرة للمتلقي وحافزة له على المواصلة في المتابعة ، فيحس بها كأنها هواجسه التي بداخله تجاه هؤلاء الغلابة ، ولكنه عُدِم وسيلة التعبير عنها ، فأخذها القاص / الراوي وقدمها له ، وذلك لما يملكه من مقدرة على السرد والتصوير والقدرة على النقد ، ومحاولة المعالجة الصريحة .
فالقاص عبد العزيز بركة ساكن اتخذ هذه المعالجة الإصلاحية المباشرة في القصة لأنه أدرى بحاجة المجتمع إلى الإصلاح والتغيير ، فنراه يفضح الحاكم ، ومن يمثله دون تحفظ أو مواربة ، فقد علم أن البلاد تحكمها قوانين غير منصفة ، فشاعت المظالم وبخاصة بين صفوف الفقراء ، وأن الولاء للحاكم صادر هو المؤهل الذي يستطيع به الشخص الغير مناسب أن يكون في مكان غير محله ، والشخص المناسب تراه يتسكع في طرقات المدينة كحال القاص / الراوي .
قدّم القاص بطلة قصته وروج لها لمحاولة منه لتبرير دفاعه عنها ، فهي وأن كانت تبيع المسكر إلا أنها امرأة صادقة في التعامل فهي لا تغش فيه ( فهي على حد قولها لا تريد أت يأكل أولادها الحرام ) ، ومع ذلك ، فهي حافظة لأسرار الذين يأتون إليها لتناول المسكر حينما يفعل الخمر بهم فعلته كحال الراوي نفسه ، وهذه صورة باذخة من النقد الذاتي الذي يتهرب منه كثيراً من الناس ، فها هو القاص ولما يحمله من جرأة بادر بذكره وتولى زمام المجاهرة به ناقلاً لنا صورة عالية من النقد الذاتي الذي يجب أن يصحب هؤلاء القوم الذين يظننهم الناس أنهم صفوة ، ولكنهم في ساعة ما يكونوا في حاجة لأصحاب الهامش هؤلاء ، وهنا كأنما أراد القاص إلى التنبيه بدور هؤلاء المعدمين في حياة الناس بأي شكل من الأشكال وكيف أنهم أناس أنقياء وصادقين دفعتهم حاجتهم ليكونوا في فوهة مدفع لسان الناس ظلماً وجوراً دون دارية بحالهم ووضعهم الذي يعيشون فيه ..
رغم أن السرد هو المحرك الأساسي لهذه القصة إلا أن القاص لجأ للحوار في قصته مرتين : مرة وبصورة خاطفة تناسب الموقف ، وذلك حينما تحدث مع عزيزة بنت كلتومة وهي خائفة وجلة تحمل إخاها منتصر ( يا بت .. قفي ) ردت بسرعة ( أمي قبضو عليها ) وهذا الحوار جعله القاص / الراوي أداة لنقل المتلقي من حالة القلق التي خلقها القاص عندما وصف الاضطراب الذي كان يسود سوق النوبة ساعتها إلى المحور الأساسي من القصة الذي هو الظلم الذي يتعرض لها أهل الهامش بفعل جور الحاكم وبطشه ..
ولكن الحوار الثاني كان عميقاً رغم أنه منلوج داخلي صنعه القاص / الراوي مع نفسه ، وسرح بخياله مع القاضي (جلال الجميل ) الذي كان في السابق ، وهنا أراد القاص أن يقول لنا إن حاكم القول ليس له الاستعداد للاستماع لأي وجهة نظر أخرى غير وجهة نظره .. وصور القاص / الراوي الهرج والمرج الذي ينتظم تلك المحاكمات وتهكم القاضي عند الانتهاء من جلد ( كلتومة ) حينما يقول لها : (هيا قومي.. استغفري ربك الله وأعلني توبتك.. توبة نصوحة أمام الجميع ) !!
ختم القاص / الراوي قصته بهذا المشهد المؤثر والجريء من كلتومة بعد أن طلب منها القاضي التوبة ، فقد صور القاص المشهد بدقة عالية فانظر إلى هذا التصوير ... ( نظرت إليه – كلتومة – نظرة فاحصة، عميقة – أحسستُ أنها معتصرة من خلايا كبدها – ثم بصقت على الأرض بصاقاً دامياً مرّاً )
وانتقل القاص / الراوي لينقل لنا تأثير هذا التصرف في وجوه كل القوم : رواد السوق كلهم ، وحتى أسراب الحدأة والغربان ، والمثقفاتية ( القاص نموذجاً ) و ( أعضاء المحكمة المتفلقصين كمُخصيىّ القرون الوسطى ) وصديقات كلتومة البائسات ، وشملهم القاص / الروي جميعاً في ( موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون معها او مع السلطة الجميع.. الجميع بدون فرز ) .. فكل هؤلاء رغم الاختلاف في التوجه والتمرد والإذعان والتصفيق والنعيق ، والشماتة والعطف ، والسلطة ، والخضوع ، فكلهم جميعاً رغم هذا الاختلاف البين اتفقوا على شيء واحد .. هو مرارة هذا ( البصاق ) الذي عبرت به كلتومة عن استهجانها للحاكم وبطانته ، وعن تهكمها من صمت المثقفاتية ، والناس جميعاً على هذا السخف الصادر من الحاكم باسم الدين ظلماً وجوراً ...
فالقاص رغم تسرعه في توصيل قضيته وطرحها إلا أننا نجد أن الصورة الفنية عنده متماسكة ، والمواقف التفصيلية وتدفقها يأتي بصورة مركزة ، وتتنامى ذات الفكرة الإصلاحية المباشرة في نهاية القصة ، ولكن بالمشهد الباذخ الذي ذكرناه حينما بصقت كلتومة ، فكل هذا مبرر في وجهة نظري لأن الأسلوب القصصي لابد أن ينحاز إلى الإيحاء، أو إلى تشكيل الفكرة في بناء الشخصية وسياق الحدث ، فقد برع عبد العزيز بركة ساكن في هذا ، وساعده في ذلك قربه للمآسي الاجتماعية في مجتمعه ، ومعرفته ودرايته بفن القصص ، فأدى ذلك إلى تشكيل الفكرة بمؤداها الإصلاحي مازجاً ذلك بجودة الحركة الفنية للشخوص ، والزمان ، والمكان ، والحدث العام الذي قادنا إليها .
فالقاص عموماً يفكر في تهيئة الأفكار والآراء التي يبني عليها القصة ، قبل بدايته في تشكل القصة نفسها وخلق عقدتها وحبك الحوادث فيها ، وقد برع عبد العزيز بركة ساكن في ذلك الإعداد والتهيئة حتى خلق لنا كائناً يمور حركة ومشاهد بأسلوب سردي جميل تحكَّم فيه المنطق إلى أبعد الحدود.
ولا يفوتني أن أذكر أن القاص / الراوي قد استعمل اللغة البسيطة المباشرة ، واللغة الباذخة ، وذلك كل حسب حاجته في ثنايا القصة وهذا ما يوطد علاقة القاص / الرواي بالمتلقي لطرح فكرته ، فيحس بها المتلقي كأنها فكرته فينبري مدافعاً عنها ، وبهذا يكون القاص / الراوي قد نجح في خلق حالة سخط عام ضد الحاكم ، وخلق حالة من التعاطف مع أهل الهامش من خلال كلتومة ، فهذا في ظني ما دفع القاص / الراوي ليسرد لنا هذه الوقائع ، فالأشكال القصصية عموماً يجب لها دور في الحياة ، فهي وسيلة يمكن لها أن تسهم في نهضة الشعوب عبر تزويد المتلقي بالمعرفة ، ونشر الآراء والمبادئ و نشر النظريات الاجتماعية ، وبيان ظلم الحاكم ، فهي أداة القاص في الإصلاح ، وليست الحكاية فيها سوى إطار خارجي للتشويق لمتابعة القراءة ، فالفن القصصي عند عبد العزيز بركة ساكن ليس محض إمضاء للوقت والتسلية بل معالجة وأداة للتغيير والتأثير ، فجاءت هذه القصة عنيفة النقد كأنها تقريع السياط على ظهر الجميع بصمتهم على جور الحاكمين ، فكل هذا يجب وضعه في الاعتبار لا سيما أن القاص خُبر عنه جرأته في الطرح خلال جُل أعماله القصصية والروائية ...


عروة علي موسى ،،،
 
امرأة من كمبو كديس
عبد العزيز بركة ساكن

في صباح قائظ من يوم خريفي، بينما كنت أتسكع في شوارع المدينة – كعادتي – منذ أن طُردت من وظيفتي للصالح العام قبل سنتين – سمعت صرّاخ أطفال وما يشبه التهليل والتكبير وأصوات نسوة تندفع إليَّ مع ريح السموم الصباحية، آتية من جهة تجمع سوق النوبة، كان نهيق حمير الأعراب القادمين من أطراف المدينة هو الصوت الوحيد المعتاد بين مظاهرة الأصوات تلك. هادئون كانوا دائماً رواد سوق النوبة، يساومون في هدوء وخبث وحنكة، يشترون ويبيعون في صمت وكأنهم يؤدون صلاة خاصة. نعم قد يسمع نداء موسي السَمِح الجزار بين الفينة والأخري،وقد تتشاجر بائعتان، و قد، لكن تهليل وتكبير وصراخ أطفال؟!، وكفرد أصيل في هذه المدينة أمتلك حساً تشكيكياً عميقاً هتف في:
- إن هنالك شيئاً ما في سوق النوبة...
وكما يتشمم كلب الصيد أثر الأرنب البريّ تشممت طريقي الي المكان.
عزيزة – إبنة كلتوم بائعة العْرقِي – كنا نحن قطيع المثقفين نطلق عليها اخصائية العْرقِي – مرت امام وجهي كالطلقة الطائشة وهي تحمل – على كتفها – أخاها الصغير منتصر، غير عابئة بصرخاته المتقطعة المخنوقة بلعابه اللزّج والتي تثير الشفقة في قلب أقسى شرطي في العالم الثالث، كان أعجفا صغيرا،له عينان مستديرتان لامعتان كعيني سحلية.. أعرفها جيداً وأعرف أيضاً أنها عائدة من عند أمها كلتومة التي تبيع الكسرة. نهاراً بالسوق، فكان لزاماً على عزيزة أن تحمل منتصر الرضيع ثلاث مرات في اليوم الى أمها بالسوق لكي ترضعه رضعة الصباح، رضعة النهار، ورضعة الغداء، وتحرص كلتومة أشد الحرص بألا تفّوت على إبنها الصغير رضعة واحدة حتى لا يمرض مرض الصعّيد، ويموت. لأن منتصر كان نزقاً شقياً و هبّاش، فما كانت كلتومة ترغب في ابقاءه معها في السوق.
صرخت فيها..
- يا بت.. يا عزيزة..
إلتفتت الي بسرعة رشقتني بنظرة عابرة وجدت في سعيها الي حيث تشاء، ولكني ومن خلال لمحتي الخاطفة لوجهها والتي لم تتعد الثلاثة ثوانٍ، رأيت بؤساً وألماً مكثفاً متقنطراً على وجهها الصغير الأملس، بؤساً لا يمكن اخفاؤه أو احتماله لدرجة أنني تيقنت في نفسي أنه لو قسّمنا هذا الحزن والبؤس على كل مشردي العالم لما وسعوه، وفي نظرتها السريعة كانت أسئلة – أيضاً – غامضة ومبهمة ومحيرة في نفس الوقت، جريت وراءها صارخاً:
- يا بنت....
أنا وأصدقائي من ابناء أعيان البلدة ومثقفيها، نفضل أن نسكر من عَرقِي بلح كلتومة وفي بيتها الصغير في كمبُو كديِس فهي امرأة أمينة صديقة حيث إنها لا تسرقنا – كما تفعل الحبشيات وكثير من بائعات العرقي – آخذة منا ثمن عَرقِي لم نشربه، عندما نثمل وتلعب الخمرة بعقولنا الصفراء – أو تغش العرقي بالسبرتو أو الماء أو غير ذلك من فنون السرقة.
\" إنني لا أُطعم أبنائي الحرام \".
كما أنها كانت دائماً حافظة لأسرارنا وخبائث فضائحنا \" أنا عن نفسي عندما أسكر أفقد مع وعيي وقاري واحترامي وأصبح حيواناً مثقفاً لا أكثر فقد أتبول في ملابسي وأتقيأ علي صدري، وإذا لم يحدث هذا أفشيت كل أسراري الأسرية وتحدثت عن أبي – ضابط المجلس – وقلت علانية ما يعرفه الناس عنه، وما لا يعرفونه بل أفشيت ما أعرف من خططه المستقبلية في سرقة التموين والجازولين.. الى آخر مآسي يومي وأسرتي.. \" فكانت كلثومة – والحق يقال – تسمع بإهتمام ولكنهها لا تقول شيئاً، وكنا جميعاً نحترمها ونقدرها مثل أمهاتنا وبالتالي \"عزيزة\" كانت لنا أختاً صغرى..
- يا بنت.... قفي..
أمسكت بكمها القصير.. ودون أن تنظر الي قالت بصوت مبحوح تخالطه صرخات \" منتصر \" الحامضة المتدفقة تباعاً:
- أمي..
- أمي قبضوا عليها..
- \"...... \"
إذاً فهمت كل شئ وشعرت بأن الدينا أظلمت فجأة أمام عيني وأن شعري تحول الى دبابيس مسمومة توخزني في جلد رأسي،ولم استطع ان اقول او افعل لها شيئاً سوى زلق كفي من على كتفها الصغير المتعب، في برود تاركاً إياها تمضي لتذوب في بحر مآسيها ومحنتها و\"منتصر\" مبللا صدرها بلعابه اللزّج المُلبِّنْ يصليها بصرخاته وندائه المتواصل – بلثغته الحلوة الممتعة – رغم مآساة الموقف – لأمه \" اتوما \".
كثيراً ما كنت اخجل من نفسي عندما اجدني عاجزاً امام موقف ما، فاذا حدث ذلك بالامس لذهبت الى جلال الجميل القاضي ودار بيننا الحوار التالي:
- صدر القرار منك ؟
- كنت مجبراً ... فانت تعرف لا شئ بأيدينا تماما ..
- ولماذا كلتومة ... فهي تعول اطفالاً وزوجها مقتول في الجنوب منذ سنوات.
- لم يكن الامر بشأن كلتومة وحدها..
ولكن حظها.. فلابد –كما تعرف – ان يكون هنالك ضحايا قالوا ان الوالي في زيارة جاسوسيّة في كل مكان. ويجب ان يعرف ان الناس هنا تعمل، تحارب الفساد الى آخر الاوهام كما ان كلتوم كانت تعلم بقرار التفتيش، لقد أخبرها \"احمد صالح\" ..
- ولكنهم وجدوا عندها جالوناً من العرقي وثلاث زجاجات مليئة بعرقي البلح.
- هذا تلفيق من الشرطة، فقد كانوا يخبئون هذه الأشياء في عربتهم.. فهم غالباً لا يجدون شيئاً عند هؤلاء النسوة..
- وما العمل ؟
- كالعادة نخفف الحكم ما امكن وبدلاً من السجن نضع الغرامة وصديقاتها يقمن بمساعدتها في الدفع كما يفعلن دائماً..
- هذا ما كان يحدث إذا وقعت احدى \" زبوناتنا \" في قفص الشرطة، ولكن أين اليوم \" جلال الجميل \" ؟!
- فإن القاضي الجديد لا يشرب العرقي ولكن – فقط – الويسكي \" والانشا* \" ويدعى مخالفة الله والتقوي، وبالتالي يصعب الوصول إليه حتى الآن على الأقل.
جسدها النحيل المتعب يرقد على الكنبة في وسط سوق السبت وقد أهالوا عليه صفيحة من المياه ما تزال تقطر من جلبابها القطني الرخيص الى نهاية الجلد، ولو أنها لا تحفل بكتل البشر التي تحيط بها \" مشفقة او شامتة \" إلا أنها كانت تحاول إخفاء وجهها ما أمكن بين ساعديها وتحاول بقدر المستطاع وبجدية الا تصدر منها تنهيدة، آهة، صرخة ألم أو مجرد زفير مندفع قد يُخّيل للشرطيين القضاة او الجلاد، جمهور المتفرجين أنه توجع من وقع سوط \" العنج* \" الأسود المشرب بالقطران والذي يصلي ظهرها مشقاً مبرحاً ممزقاً لحميات فيه عجفاء بائسة.
وعندما استطعت أن أجد لنفسي مكاناً أشاهد من خلاله ما يحدث كان الشاويش السمين يصرخ بغلظه..
- ثمانية وثلاثين إإيه.. هوب..
- تسعة وثلاثين.. إييه.. هوب..
- أربعون.. إيييه.. آآه.. تماماً مولانا... أربعون جلدة..
قال القاضي وعلى فمه ابتسامة صفراء قاسية محاولاً من خلالها ان يكون تقياً، عادلاً، محبوباً وحاسماً في نفس الوقت..
- هيا قومي.. استغفري ربك الله واعلني توبتك.. توبة نصوحة امام الجميع..
- نظرت إليه – كلتومة – نظرة فاحصة، عميقة – أحسست انها معتصرة من خلايا كبدها – ثم بصقت على الأرض بصاقاً دامياً مرّاً – واقسم ان جميع المتفرجين: الإعراب ذوو الجلاليب المسودة من الأوساخ والتي تفوح منها رائحة وَبر الجِّمال والحمِّير،وقطرانها وروثها بسياطهم وسيوفهم. الشماسة أبناء الشوارع المتشردين.
أصحاب المتاجر – أغلقوا دكاكينهم مضحين بقدر من المبيعات كبير في سبيل ان يحضروا المحاكمة – الكلاب الضآلة الحذّرة المختبئة خلف العشب متجنبة أعين الناس، وغير الضآلة أيضاً.
أسراب الحدأة والغربان والتي تضع حلقة في السماء، ناعقة. \" المثقفاتية \" مثلي – والذين ليس بإمكانهم فعل شيئ غير التعليق الذكي الصائب المُبرر غير المقنع لغير شريحتهم والمثير للضحك والسخرية من نساء \" الكسرة \"، العرقي، الشاي وغيرهم من الكادحات.
أعضاء المحكمة \" المتفلقصين \" كمُخصيىّ القرون الوسطى، صديقاتها البائسات، موظفات المجلس، الشامتون، المتعاطفون \" معها او مع السلطة \" الجميع.. الجميع بدون فرز \".. اقسم انهم جميعاً أحسوا بمرارة هذا البصاق وكأنه مقذوفاً في عمق حلوقهم مراً كنقع الحنظّل.
ودون أن تحرك فوهتا عيناها عن وجهه انتعلت حذاءها البلاستيكي القديم وشقت طريقها عبر الجمع مصوبة وجهها المجهد شطر بيتها – ساعية بخطي ثابتة سريعة – رغم ما بها من إرهاق – فكان عليها أن تسرع حتى لا تُفوت منتصر الصغير رضعة الصباح.


* الإنشا : نوع من الخمور المستوردة من أثيوبيا.
* سوط العنج : هو سوط مصنوع من جلد فرس البحر يستخدم لجلد الإبل والحمير.
 
أعلى