حسيب شحادة - سبعة أضعاف مقابل الخدمة الجيّدة

في ما يلي ترجمة عربية لهذه القصّة بالعبرية، رواها إفريم بن توفيق بن صباح يوشع المفرجي (إفريم بن متصليح بن صفر يهوشع همرحيبي، ١٩٣٦ - ، حولون) بالعبرية على بنياميم صدقة (١٩٤٤-)، الذي أعدّها، نقّحها، ونشرها في الدورية السامرية أ. ب. - أخبار السامرة، في العددين ١٢٢٦-١٢٢٧، ١٥ كانون ثان ٢٠١٧، ص.٨٥-٨٧.

هذه الدورية التي تصدر مرّتين شهريًا في مدينة حولون جنوبي تل أبيب، فريدة من نوعها: إنّها تستعمل أربع لغات بأربعة خطوط أو أربع أبجديات: العبرية أو الآرامية السامرية بالخطّ العبري القديم، المعروف اليوم بالحروف السامرية؛ العبرية الحديثة بالخطّ المربّع/الأشوري، أي الخطّ العبري الحالي؛ العربية بالرسم العربي؛ الإنجليزية (أحيانًا لغات أخرى، مثل الفرنسية والألمانية والإسبانية) بالخطّ اللاتيني.

بدأت هذه الدورية السامرية في الصدور منذ أواخر العام ١٩٦٩، وما زالت تصدر بانتظام، تُوزَّع مجّانًا على كلّ بيت سامري في نابلس وحولون، قرابة الثمانمائة سامري، وهناك مشتركون فيها من الباحثين والمهتمّين بالدراسات السامرية، في شتّى دول العالم. هذه الدورية، ما زالت حيّة تُرزق، لا بل وتتطوّر بفضل إخلاص ومثابرة المحرّرين الشقيقين، بنياميم (الأمين) ويفت (حسني)، نجْلي المرحوم راضي صدقة الصباحي (رتصون صدقة الصفري، ٢٢ شباط ١٩٢٢ــ٢٠ كانون الثاني ١٩٩٠).


الحفاظ على صورة الإنسان

”أبي اتّخذ الخطوة المطلوبة في بداية خمسينات القرن العشرين، قام وغادر نابلس مع أفراد أُسرته إلى المجهول، إلى الحيّ السامري في مدينة حولون، التي أُقيمت ربّما عام قبل ذلك. في هذه الخطوة، أراد والدي أن يضع حدًّا للحلقة المفرغة من الجوع والإملاق الذي عشناه في نابلس، حينما كان مخصّص الجوينت [‪ American Jewish Joint Distribution Committee - JDC‬، منظمة صدقة عالمية أمريكية يهودية صهيونية تأسست عام ١٩١٤ لمساعدة اليهود في العالم وأحيانًا لغيرهم؛ وهناك جوينت إسرائيل الذي أُسّس عام ١٩٧٦] الضئيل بواسطة الصليب الأحمر أو القَدْر الذي تلقّاه من الجوينت كان دخله الوحيد. وهذا لم يكفِ إلا لبضعة أيّام.

كنّا جميعًا، الوالدان، الأبناء والبنات، مختبئين في شَقّة من غرفة واحدة في الحارة السامرية الجديدة في نابلس، وكان أبي يقول كلّ يوم إنّ موته أفضلُ من حياته. تلك السنوات، نهاية الأربعينات وبداية الخمسينات من القرن العشرين، كانت أصعبَ فترة في حياتنا. أبي كان خيّاطًا، ولكن بحوزة مَن كان المال لشراء رداء؟ كان والدي مجبورًا أن يقتصد في المصروفات ليتمكّن من وضع شيء ما في الأفواه الكثيرة، عايشين علْقلّة (خبز في الضيق وماء في الشدّة، أنظر إشعياء ٣٠: ٢٠). إذًا، إنّك تفهم لماذا حمَل نفسه وترك نابلس؟ أخذ قرارًا بينه وبين نفسه، أن لا حياة أسوأ ممّا هو فيها، في أيّ مكان آخرَ في العالَم. ولكن إلى أن وصل لهذا القرار الصعب، الذي اتّضح في ما بعد، بأنه كان الأفضل في حياته القصيرة، مرّت علينا أيّام عصيبة جدّا.

وضْع والدي الاقتصاديُّ الصعب، لم يؤثّر قيدَ أَنْمُلة على صورته كإنسان. علِم أنّ رأس الحكمة مخافةُ الله [أنظر مثلًا: سيراخ ١:١٦؛ مزمور ١١١: ١٠]، لأنّ الله خلق الإنسان على صورته، كما ورد في التوراة [سفر التكوين ١: ٢٦]؛ على صورته أي في الطريق السويّ لمخافة الله والسير في دروبه. أبي كان متديّنًا جدًّا وغيورًا على دينه. عمِل جُهده لنقل مخافة الله كاملة إلينا، وقال دائمًا: بغضّ الطرف عمّا يحدث، ينبغي ألّا نفوّت أيّة لحظة من الفرص المتاحة لنا هنا وهنا، لإثبات أنّ صورة الله في شخصيّتنا.

الضابط البدوي هاوي المشروب المُسْكِر

حصل ذات يوم أنّ ضابطًا بدويًّا، من الجيش الأردني المتواجد في معسكر خيام كبير في ميدان مقابل السجن الكبير في شرقي نابلس، طلب من أبي خياطة رداء له. سُرّ الضابط بالرداء الذي خاطه أبي، فمنحه دينارًا كاملًا ليوم عمل. شكر أبي الله في الأعالي على هذه الهدية التي أغدقها على عبده الأمين. بينما كان يصلّي بهدوء، لم ينتبه إلى أنّ الضابط البدوي وقف ينظر إليه باهتمام كبير. كحّ الضابط قليلًا، ليلفت انتباه والدي، ذُعر أبي في مكانه، ونظر إلى الضابط نظرة خجولة بعض الشيء. ”ما هي هذه اللغة التي تصلّي بها؟“ ــ سأل الضابط مندهشًا ــ ”لا تبدو لي عربية“. ”أنا سامري“، أجابه والدي، ”ألا تعرف السامريين الساكنين في الحيّ، فوق، اسمي توفيق وابني البكر اسمه صدقي“. ”أنت سامريّ؟“ سأل الضابط البدوي ضاحكًا. ”منذ مدّة طويلة، حال وصولي مع الكتيبة إلى نابلس، وأنا أبحث عن أحد السامريين“. ”أنت بدوي تبحث عن كاهن ليخطّ لك تعويذة، لستُ كاهنًا، إنّي سامري بسيط“ ــ ردّ عليه أبي، وفوجىء الضابط باللهجة الفخورة التي فيها قال أبي قوله.

”لا تعويذة مرادي، ولكنّي سمعتُ، لا تحكِ ذلك لأصدقائي، أنّكم أنتم السامريون تُنتجون عرقًا فاخرًا. قل لي أين تسكن لآتيك في ساعات الظهر، لأشرب من عرقك اللذيذ“. ”أهلًا وسهلًا في كلّ وقت“ ـ جاوبه أبي بكلّ سرور، ”أنتظرك، تعال متى شئت“.

أَجْر الضيافة

غادر الضابط المكان فرِحًا راضيا. أبي، أسرع عائدًا إلى البيت للاستعداد لزيارة الضابط. الدينار الذي تسلّمه من الضابط البدوي، كان كلَّ ما لديه من نقود، على وجه هذه البسيطة، إلا أنّ هذه الحقيقة ما كانت لتبدّل أيّ شيء من رغبته الشديدة في الإثبات للقاضي مدى أهمية الضيافة بالنسبة له. في طريقه إلى البيت، اشترى في السوق ديكًا كبيرًا ذا عُرْف سميك، ورق عنب طازجًا، وكوسى صغيرة مكرشة (منتفخة، ذات كِرش كبير)، طماطم، بصلًا ، خيارًا، ملبّسًا وحلويات تقطُر زيتًا حلوا. لم يشتر عرقًا. السامري يقدّم لضيفه عرقًا بيتيًّا من المخزون (إلْمونِه) الموجود دومًا لكل مناسبة فرح.

عاد مسرعًا إلى البيت، حاملًا كلّ هذا الخير. لم يبق في جيبه قرش، ومع هذا لم يتعكّر صفو مزاجه. عزم على أن يعمل كلّ ما بوسعه لإرضاء ضيفه. أبي نَدَهَ زوجته نجلاء (يوخبد) من عند الجيران: هيّا تعالي، أسرعي بثلاثة أكيال دقيق سميذ اعجني واصنعي رغفانا“ (سفر التكوين ١٨: ٦؛ أنظر حسيب شحادة، الترجمة العربية لتوراة السامريين، المجلّد الأوّل: سفر التكوين وسفر الخروج. القدس: الأكاديمية الإسرائيلية للعلوم والآداب، ١٩٨٩، ص. ٧٣). أخذ الديك وركض إلى الجزّار، واستعجل في طبخه مع أوراق العنب المحشي بالأرز الطري وهي تقطر بعصير البندورة الطازجة. حشا الكوسى بالأرز وبلحم من الديك، أمّا زوجته فقد انتهت من إعداد سلَطات بمذاقات متنوّعة، كلّ واحدة منها ألذّ من الأخرى. ثم تعاونّا مع أمّنا في إعداد المائدة بدون أن نسأل أبانا ما وراء كلّ هذه التحضيرات. عرفنا أنّه ينتظر ضيفًا جليلا.

ماذا أقول لك؟ مائدة كهذه لم تر أعينُنا قطّ. يسيل لُعابي حين أتذكّرها. ملأتِ المائدة المحمّلةُ بكلّ ما لذّ وطاب، كلَّ الغرفة من أوّلها لآخرها. كلّ من لم يعرف أنّ أبي بذّر على هذه المائدة الدينار اليتيم الذي كان بحوزته، ظنّ أنّ أمامه مائدة أحد أثرياء نابلس.

على حين غِرّة، فُتح الباب بعد سماع طرق خفيف، وإذا بالضابط البدوي وبصحبته صديقان. دعاهم أبي للجلوس على رأس المائدة، وأخذ يخدمهم، يُطلق نحونا أوامر قصيرة، وأحيانًا كان يكتفي بهزّة رأس فسارعنا لتلبية رغبته. أحضر أحدنا زجاجة عرق، فلمعت أعين الضيوف، والثاني جلب مشروبًا باردًا، كماجات صغيرة ساخنة، ورق عنب يقطُر برائحة جنّة عدن، وكوسى باخرة لا ألذّ منها. جلس الضيوف بجانب المائدة وقتًا طويلًا، منخرطين بحديث مفعم بالحيوية مع والدي السعيد جدًّا بضيوفه، وكأنّه ملكٌ يستضيف ملوكًا وأمراء في قصره. تمتّعوا بالمشروب البيتيّ، والوالد لم يكفّ عن الإشارة لنا بملء كؤوسهم مرّة تلو الأخرى.

بعد ثلاث ساعات تقريبًا، غادر الضيوف، فرافقهم أبي إلى خارج البيت، بعد أن شكر الضابط البدوي أبي قائلًا إنّه لن ينسى هذه الضيافة الحاتمية؛ وبعد أن اعتلى صهوة حصانه قال الضابط لأبي: أدعوك لزيارتي يوم الأحد القادم في مخيّم الجيش. هو يعلم أنّ أبي لن يتناول عنده شيئًا، إلّا أنّه أحسّ بحاجة لمكافأة صنيعه الحسن. أبي لفت انتباه الضابط، إلى أنّه لم يقم بأكثرَ ممّا يتوقّع من أيّ إنسان مثله، وينبغي على الضابط ألّا يشعر بأنّه مَدين. أبي لا يشكّ أنّ الضابط كان سيسلك مثله لو زاره هو، ضحك الضابط، واندفع بحصانه من هناك وبرفقته، صديقاه، ضابطان أيضا.

في الوقت المحدّد وصل أبي مخيّم الجيش في شرقي نابلس. عندما سأل عن خيمة الضابط تبيّن له أنّ ضيفه كان قائدَ الكتيبة بلحمه وعظمه. جندي بسيط، رافقه إلى الخيمة، وقدّمه للقائد. فرح الضابط البدوي كثيرًا بلقائه. قبل أن تمكّن أبي من الاستراحة، دسّ الضابط البدوي يده إلى أعماق عباءته واستلّ منها أوراقًا نقدية مخضرّة. أبي أوقف نفَسه، كان هناك ما لا يقلّ عن خمسين دينارا. مدّ الضابط يده بالأوراق لأبي قائلا: بالرغم من مائدة الملوك التي أعددتَها لي ولصديقيّ، فاقتك لم تخفَ علينا. بالرغم من فقرك، لم توفّر ما لديك من مال قليل في جيبك، وأظهرت لنا صورة الخالق فيك بأبهى رونقها. حقًّا، إنّكم شعب حكيم وذكي، أنتم السامريون، كرماء وأصدقاء رائعين. خذ هذه الهدية منّي، لأنّي على يقين بأنّك بحاجة ماسّة لها، قال.

تولّدت صداقة وطيدة لحدّ كبير بينهما. كان الضابط البدوي، الشخص الأخيرَ الذي ودّعه أبي، عندما غادر نابلس، في طريقه نحو حياة جديدة في دولة إسرائيل“.
البروفيسور حسيب شحادة، جامعة هلسنكي.
 
أعلى