عباس أرحيلة - حينما تكون النُّسْخَةُ الأُمُّ بخطِّ مُؤَلِّفِها

تمهيد:
نجد واضعي قواعد التحقيق ينصحون باتخاذ نسخة المؤلف أصلا وأساسا في تحقيق المخطوط. ولكن أغلب المخطوطات في التراث العربي لم تصل إلينا بخطوط مؤلفيها. وحتى ولو كانت بخط مؤلفها فإن الأمر ليس عندهم على إطلاقه، فهناك ملاحظات ينبغي اعتبارها ونحن نقرأ النسخة التي كتبت بخط المؤلف.

1 – قد تكون نسخة المؤلف التي عُثر عليها مُسَوَّدة، فعلى المحقق أن يبحث عن المبيَّضة. ويرى المستشرق الألماني بيرشتراسر أن المسوَّدة قد تكون قريبة من الأصل؛ إلا أنها في كثير من الأحيان لم تبلغ غاية الكمال الذي وصل إليه المؤلف في مُبَيَّضَته (1).
فقد يكتب المؤلف كتابه، ثم يعيد النظر فيه، ويضيف عليه ما يراه مناسباً ثم يُبَيِّض، ويترك نسختين متداولتين. وقد ذكر ياقوت الحموي (626 هـ) أن الجاحظ ألف كتاب "البيان والتبيين" مرتين، وكانت ثانيتهما أصح وأجود، وهو ما أشار إليه عبد السلام هارون (1908 - 1988م) في مقدمة تحقيقه للكتاب، وكشف عنه أثناء التحقيق(2).
2 - وقد يضيف المؤلف إضافات يلحقها بكتابه، فإذا ما ذكر أنها ذيلٌ أبقاها المحقق على حالها. أما إذا أشار إلى أنه كان يريد إلحاق هذه الزيادات في مكانها، ولم تسعفه الظروف، كان على المحقق أن يلبي رغبة المؤلف، على أن يذكر ما فعله في مكانه.
3 - وقد يضع المؤلف كتاباً ثم يعود إلى كتابته من جديد في بلد آخر وظروف أخرى. فابن دريد أملى كتاب "الجمهرة" بفارس وببغداد من حفظه،" فلما اختلف الإملاء زاد ونقص ... وآخر ما صحَّ من النسخ، نسخة أبي الفتح عبيد الله بن أحمد النحوي؛ لأنه كتبها من عدة نسخ وقرأها عليه (3).
وعلى هذا فقد يكون هناك أكثر من مبيضة، وقد تفضل إحداهما الأخرى بالدقة. فقد ورد في كتاب الفهرست أن أبا عمر الزاهد غلام ثعلب ( محمد بن عبد الواحد 345هـ) ألف كتابه "الياقوت في اللغة" ست مرات، وأملى كتابه في العرضة الأخيرة قائلا:" فمن روى عني في هذه النسخة هذه العرضة حرفاً واحداً من قولي فهو كذاب عليَّ، وهي من قراءة أبي إسحاق ( الطبري) على سائر الناس، وأنا أسمعها حرفاً حرفاً"(4).
وعلق عبد السلام هارون على الخبر بقوله: وأمثال هذه النسخ تسمى نٌسخة الأم (5). فنسخة المؤلف قد تتكرر، كما لا حظ هارون، ولا يُمكن القطعُ بها ما لم ينص هو عليها، وليس وجود خطه عليها دليلا على أنها النسخة الأم، بل إن الأمر كله اعتباري لا قطعي(6). ومما هو جدير بالتنبيه أيضا أن بعض المؤلفين يؤلف الكتاب الواحد على ضروب شتى من التأليف (7).
4 – وقد تكون النسخة الواحدة مكتوبة أحياناً في زمنين متفاوتين، بحيث يضيع جزؤها، فيكمله ناسخ آخر في زمن آخر(8).
أما دواوين الشعر، فقلما نجد الشاعر نفسه يكتب ديوانه بخط يده. وإذا حصل مثل هذا فإن النسخة – إن عثرنا عليها- ستكون أُمّاً، وتعد من روائع المخطوطات. وقد يُنسخ الديوان عن الشاعر نفسه، أو يُقرأ عليه بعد نسخه. وكثيراً ما نقع على أكثر من نسخة للديوان الواحد؛ بعضها لرواته ومحبيه، وبعضها لحساده ومبغضيه.
وحتى لو كانت النسخة بضبط المؤلف وتعليقاته، فإن الأمر يحتاج إلى تحرّيات لإخراج النص وتوزيعه بين المتن والهوامش.
5 - وذكر عبد السلام هارون أن بعض النساخ ينقل عبارة المؤلف في آخر كتبه، وهي في المعتاد نحو "كتب فلان" أي المؤلف؛ ثم لا يُعقب الناسخ على ذلك بما يُشعر بنقله عن نسخة الأصل، فيظن القارئ أنها هي نسخة المؤلف. وهذه مشكلة تحتاج إلى فطنة المحقق وخبرته بالخط والتاريخ والورق.
وقال بيرشتراسر:" إن كتاب المسلمين يُشيرون غالبا إلى وجود نسخ المخطوطات التي كتبت بخط مشاهير المؤلفين في أماكن بعينها، وفي عصور بعينها، وقد بقي عدد لا بأس به من أمثال هذه المخطوطات التي كتبت بخط مؤلفيها إلى يومنا هذا. والمرجح أن العرب كانوا أكثر تقديرا لقيمة المخطوطات المكتوبة بخط مؤلفيها من علماء الغرب"(9).
هوامش:
(1) أصول نقد النصوص ونشر الكتب، محاضرات المستشرق الألماني: برجستراسر، إعداد د. محمد حمدي البكري – ط1[ القاهرة، مطبعة دار الكتب، 1969]، ص15
(2) تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام محمد هارون – ط5 [القاهرة، مكتبة السنة،1994]، ص 33
(3) الفهرست: النديم ( محمد بن أبي يعقوب، أبو الفرج 380هـ)، تحقيق: د. يوسف علي الطويل – ط1 [ بيروت، دار الكتب العلمية، 1996]، ص97
(4) نفسه، ص 121
(5) تحقيق النصوص ونشرها: عبد السلام هارون، ص29، ط5
(6) نفسه، ص35
(7) نفسه، ص36
(8) نفسه، ص 29
(9) أصول نقد النصوص ونشر الكتب، ص16 – 17
 
أعلى