خالد منتصر - نجيب محفوظ ودرس خصوصى فى علم الجنس

عين الأديب الفنان مختلفة ومتفردة ومتميزة عن عيون كل البشر، فهى ليست مجرد قرنية تمرر الصورة وعدسة تركزها وشبكية تستقبلها على فيلمها الحساس، ثم ترسلها إلى المخ للترجمة، عين الفنان تنفذ إلى الروح وتخترق ما وراء المشهد، عين لها أجنحة شفافة تزيل الركام والصدأ وتنفذ إلى النواة والجوهر مباشرة. نجيب محفوظ هذا الهادئ الباسم المنضبط كساعة بيج بن، كان يمتلك تلك العين، لذلك أصبح نجيب محفوظ العبقرى الذى لا تتخيل وأنت جالس معه على مقهى الفيشاوى مستغرقاً فى الحوار، أنه ينفذ بأشعة إكس عابراً رواد المقهى وعابرى السبيل وحتى البلطجية وبائعات الهوى، لم أتخيل وأنا أدرس علم السكسولوجى فى قصر العينى على يد د.سعيد عبدالعظيم من وجهة نظر الطب النفسى، وعلى يد د.شوقى الحجار من زاوية الأمراض العضوية الجنسية، لم أتخيل أننى سأكتشف رواية «السراب»، وأعيد قراءتها بعين مختلفة، وأكتشف أيضاً أن هذا العبقرى الساحر استطاع فى عام 1948 أن يشرح نظريات فى علم السكسولوجى بمهارة ورؤية لا تقل وضوحاً ونفاذاً عن رواد علم الجنس، مثل ماستر وجونسون وكينزى وكابلان وقدمها وتناولها قبلهم بأكثر من ربع قرن. الضعف الجنسى الذى أصاب كامل رؤبة لاظ ليلة الدخلة والاضطراب الذى عصره كثعبان الأناكوندا ليلة زفافه، هو نموذج يُدرس فى جامعات العالم لمشاعر وأحاسيس العريس العاجز جنسياً، كيف استطاع نجيب محفوظ أن يتخلص من زخارف الكتابة الروائية المملة الثقيلة وقتها، وأن يصنع لنا تلك الجوهرة الروائية بتلك البساطة الآسرة، اقرأوا هذا الاقتباس على لسان كامل رؤبة لاظ، ثم أكملوا قراءة باقى المشهد من الرواية لكى تكتشفوا أنه كان يستحق مائة نوبل، يقول «كامل»: «إننى فى حلم سعيد، ولكن الخوف لا يزايلنى واليأس يثير فى وجهى غباراً، وكيف لى بالنجاة وجسمى ميت لا حياة فيه؟ وأحرق جفاف الخوف حلقى، ووقفت حيال عجزى ويأسى حائراً أتساءل: أى شيطان أغرانى بالزواج؟ ألم يكن عذاب الحسرة القديم خيراً من هذا العذاب؟ كيف خاننى جسمى؟ وإلام يدوم هذا اليأس؟!!»، كيف وصل «كامل» إلى نقطة اللاعودة الجنسية، وكيف خانه جسده اللاهث وسُدت أمامه منافذ النشوة برغم الشبق والشوق إلى جسد زوجته «رباب» التى يحبها ويعشقها؟! إنها الأم، إنها عقدة أوديب.

Oedipal sexual conflict بصورتها الكلاسيكية، أو كما يقولون «زى ما بيقول الكتاب»، أم متسلطة تحب الابن بجنون، وفى غياب الأب تستبدله بكامل، الذى ينسحق أمامها كالمنوم مغناطيسياً، تضطرب الصور أمامه، فلا يعرف هل زوجته هى رباب، أم هى أمه التى لا يجب أن يمسها برغم عشقه لها، إحساس مزمن بالذنب، ارتباط شرطى بين الجنس والدنس والخطيئة والنجاسة، دائرة مفرغة من فشل يقود إلى فشل، منحنى جليدى يشده إلى هوة سحيقة بلا قاع، هنا تلمع الفكرة البكر الطازجة واللقطة العبقرية التى ذكرها علم الجنس فيما بعد تحت عنوان situational impotence، الضعف الجنسى طبقاً لتغير الموقف والرفيقة أو الطرف الآخر، «كامل» العاجز جنسياً عن إقامة علاقة مع زوجته «رباب» ذات الحسب والنسب الجميلة المؤدبة المعطرة، هو نفسه الذى يقيم علاقة جنسية ناجحة وملتهبة مع المعلمة «عنايات» السوقية البدائية المخاصمة للجمال وللإتيكيت!! جثة مع «رباب» وهرقل مع «عنايات»!! موقف نشاهده فى عياداتنا كثيراً وأصبح له توصيفه العلمى، ولكن عين زرقاء اليمامة نجيب محفوظ الرادارية اكتشفته قبل صك المصطلح العلمى بعشرات السنين، طرح علينا «محفوظ» إجابات متعددة عن سبب فك عقدة كامل رؤبة لاظ مع «عنايات» وتركنا لنختار الحل الأنسب والإجابة الأمثل، هل لأن «عنايات» فاعل لا مفعول به؟ هل لأنها أسقطت الحواجز وقدمت له الجنس الخام دون شوكة وسكين وحفلة كوكتيل دبلوماسى؟!!، هل لأنها كانت بعيدة عن صورة الأم الطاهرة المثالية ما سمح له بانتهاك كل المسكوت عنه فى العلاقة واقتحم بجرأة منطقة الألغام تحت شعار هذه امرأة ساقطة مختلفة عن أمى، ولا يمكن أن تكون أمى، لذلك سأفعل معها وأمارس كل الخطايا؟!!.. إلخ.

هكذا العباقرة وفلتات الزمن الأدبية ودرر التاج الروائى والفنى، مع كل قراءة تكتشف زاوية كانت غامضة عليك من قبل، كقطعة الكريستال لها ألف وجه ووجه، وكلها بنفس اللمعان والتألق.
 
أعلى