علي العزير - الأيقونة

''وأحبها وتحبني ويحب ناقتها بعيري''. هكذا قال الشاعر في لحظة تجلٍ قبل مئات السنين، تاركا لنا أن نتجول في أعماق هذا الشعور الجليل، راصدين نقاءه، ومندهشين من قدرته الفائقة على التجاوز والتوغل، كما لو أنه فيروس رائع مراوغ ينتقل بالعدوى المباركة إلى ما، ومن، يقع في مجاله الحيوي الواسع، فالحب يكون شاملاً، عاصفاً، مجتاحاً، أو لا يكون.

هكذا عندما نحب تنتابنا رغبة جامحة في إسقاط تداعيات المخيلة على كل ما تدركه المشاعر من حولنا، تصير الأشياء أكثر إلفة، وأشد حميمية، يرتفع منسوب استعدادنا للتسامح والتغاضي عما نحسبه، في الأيام العجاف، ظلماً يلحقه بنا ناموس العيش، اعتماداً على الدفق الإيحائي الهائل الذي ينثره الحب، يصير بإمكان البعير التعب أن يرنو ببصره خفراً نحو ناقة مزهوة بنفسها، يروي لها بعبارات مقتضبة، لكنها بليغة، كيف أن العمر كان قاسياً قبل أن يجمعه بها مكان واحد، ترفرف فوقه رايات العشق الزاهية، ولا يعود صعباً أن نتخيل ما سوف تجود به ملامح الأنثى حينئذ من إشراقات فائقة العذوبة، مفتوحة على قدر استثنائي من الغنج والدلال، الذي يزيد النار المستعرة اتقاداً. يمكن لهذا أن يحدث، أو يمكننا أن نتوقع حدوثه ونتمناه، وهذا كافٍ.

''هو كلمة السر التي تفتح كل الخزائن''، وإذا أمكننا أن نحب سندهش من تلك القدرة التي ستتاح لنا، وتجعلنا قادرين على القيام بما حسبنا أنفسنا دوماً عاجزين عن فعله، ذلك أن عين الحب وحدها تبقى ساهرة عندما يبسط النوم سلطانه على الكائنات، مخضعاً إياها لقانون انعدام الجدوى، حتى يكاد الحب أن يكون الوجه الآخر للموت، متناقضاً معه، من حيث هو أقرب إلى التماهي، فالحب الحقيقي، كما هو حال الموت المفجع، لا يعرف حدوداً ولا يعترف بموانع أو عوائق، يهاجم الحواس جميعها، ويزرع راياته في القلب والعقل معاً، لذلك دعانا العالمون إلى التكلم همساً عندما يكون حديثنا عنه وفي حضرته، همس يليق بعذوبته، ويتناغم مع خفوت النظرة المتسللة إلى ملامح المعشوق. وكان أن ذهب فقيه الحب في العصر العربي الحديث الشاعر نزار قباني، كشأن العاشقين دوماً، إلى المغالاة في الوصف، معلنا أن ''كلماتنا في الحب تقتل حبنا''، و''أن الحروف تموت حين تقال''. لكن العبارات التي يقولها الحبيب، وان كانت نادرة، يبقى لها موقع أثير في رحاب اللغة، تصير أكثر تألقاً من سواها، وتحظى بدوي لا يتأتى لتلك التي تلقي بها الصدفة خارج سياق التداول، حتى تكاد مملكة القول حينها أن تتشظى معلنة ترسيم الحدود منها بين وطن تبنيه مفردات العشق، ومنفى تقرره سواها وتستقر فيه.

اختلف المحبون في توصيف إرهاصات الحب، نزّهه نزار عن أن يكون ''رواية شرقية بختامها يتزوج الأبطال''، لكن الروائي الإيطالي البرتو مورافيا أنجز عملاً روائياً رائعاً، حمل عنوان ''الحب الزوجي''، وفيه يحكي الراوي بشغف عن عشقه لزوجته التي عرفت كيف تبقيه متيماً بها على الرغم من دخولهما القفص الذهبي، هي حكاية مشاعر صادقة، الزوجة التي يتحدث عنها مورافيا ليست فائقة الذكاء ولا واسعة الثقافة ولا عميقة التجربة، هي فقط إنسانة محبة بكل جوارحها، وقد كفاها ذلك لتبقي زوجها في حالة عشق دائمة الاشتعال.

في روايته الشهيرة، ''إحدى عشر دقيقة''، يذهب بنا الروائي البرازيلي باولو كويلو إلى مناطق بكر من جغرافيا العشق، حيث البطلة بائعة هوى أمكنها أن تحب احد الرسامين التشكيليين، وأن تجعله يحبها هو أيضاً، كان يمكن للرواية أن تظل أثرا إبداعياً مميزاً ليس إلا، لولا أن الكاتب فاجأنا في خاتمة الصفحات المائتين والخمسين التي يتكون منها العمل، بتوجيه التحية، إلى البطلة ماريا، وهذا اسمها المستعار، هي خرجت من علب الليل نحو المنزل الزوجي، وأصبحت الآن أماً لابنتين، وتقيم في مدينة جنيف، حصل ذلك بعد علاقة عشق مع أحد رواد المبغى الذي عملت به.

يقول علاّمة الروائية العربية نجيب محفوظ إن المرأة هي أهم رابط يجمعنا إلى الحياة، أما الروائي الكولومبي غابرييل غارسيا ماركيز فيذهب إلى أبعد من ذلك، إذ يجعل من المرأة نوعاً من الأيقونة السحرية التي تدفع الأذى: ''أشعر أنه لا يمكن لسوء أن يصيبني عندما أكون في حضرة النساء''.

الحياة نفسها تبدو متواطئة مع هذا الروائي الساحر، الذي أعلن في معرض شكره اللجنة التي منحته جائزة نوبل عام 1982: ''كان يتوجب علينا دوماً إعمال المخيلة لتقبل ما يقترحه علينا الواقع من غرائب وأعاجيب''، ماركيز اليوم في عقده الثامن، وهو يعاني مرضاً عضالاً، لكن صلة سحرية تربطه بمواطنته الفاتنة شاكيرا، التي تجسد الوجه الآخر للمعجزة الكولومبية. ولعلها تكرس البعد الايقوني للمرأة في حياة الكاتب الكبير. هي تولت الغناء في فيلم ''الحب في زمن الكوليرا'' المقتبس عن أجمل روايات ماركيز. وهو لم يتردد في الكتابة عنها مانحاً إياها ما لم تحصل عليه منه الأخريات، ولم تحصل عليه هي من الآخرين: ''عندما ترقص، إنما تعيد صناعة جسدها الذي يجمع بين الإثارة والبراءة''. الرواية التي صارت فيلماً، تتحدث عن حكاية عشق اختمرت طيلة نصف قرن تحت نار آدمية هادئة، ثمة عاشق انتظر خمسين عاما للقاء معشوقته، بعد وفاة زوجها، الحب كان يسير بالتوازي مع مرض الكوليرا المتفشي، لم لا أليس هو الفيروس الرائع الذي يقبل الانتقال بالعدوى المباركة؟!

الاتحاد
 
أعلى