عمار علي حسن - "الثقافة الجنسية" على الفضائيات الدينية... من هبة قطب إلى القرضاوي

يكاد النسيان أن يطوي "عالم الدين" الذي يتدفق الدم إلى وجهه، وينضح العرق من كل مسام جلده غزيرا، حين يأتي على ذكر أمر يخص ثقافة الجنس وممارسته، مستجيبا لسؤال مباغت من أحد المتحلقين حوله، وينصتون في إمعان إلى عظته، ويلملمون كل ما يجود به لسانه من تأويلات وتفسيرات وسرد حكايات وإسداء نصائح وإرشادت عن العقيدة والعبادات والمعاملات.
لا يعني هذا أن كل منتجي الخطاب أو الرسالة الدينية كانوا في الماضي يقطرون حياء في مواقف كهذه، لكن عيش أغلبهم في مجتمعات محافظة مغلقة أوصد نوافذ عدة أمامهم للحديث البراح والمستريح في هذا الشأن، وجعل الطلب عليه شحيحا لدى أناس يعتبرون الجنس سرا دفينا، وهم إن تجاذبوا أطراف الحديث حوله في التجمعات الذكورية فلا يحتاجون في حديثهم هذا رأي الدين إنما إطلاق العنان للخيال في عرض مظاهر الفحولة، وإن تناولته الإناث في جلساتهن الخاصة فمن قبيل المباهاة بالقدرة على الغواية واصطياد الرجال وإمتاعهم.
لكن ثورة الاتصال الرهيبة نقلت ما كانت مجتمعاتنا تتهامس به عن الجنس إلى مجال مفتوح بلا حدود ولا سدود للتداول بجرأة بالغة، ورغبة محمومة في تحطيم "التابو" المتعلق به، وفضح المسكوت عنه في كل ما يخصه. فقد أتاحت الفضائيات والمواقع الإلكترونية، التي تتناسل بلا هوادة، لكثيرين، رجالا ونساء، أن يطرحوا ما عَنَّ وطاب لهم من أسئلة عن الجنس بلا خجل، مستترين خلف أسماء مستعارة أو ناقصة لا تدل على هوية المتكلم أو عنوانه. ولم يكن هناك مفر أمام علماء الدين وفقهائه من الاستجابة لهذا التحدي، الذي خلقته أسئلة واستفسارات واستفهامات موجهة إليهم، شأنهم في هذا شأن الأطباء والإخصائيين النفسيين والاجتماعيين.
وعلى الوجه الآخر أصبح لدى منتجي الرأي الديني والفتوى وسيلة توفر لهم اتصالا غير مباشر بجمهورهم العريض، حيث يتلقون الأسئلة حول الجنس ويجيبون عليها، عبر الأثير، الأمر الذي يحميهم من أي خجل قد يترتب على علاقة "الوجه للوجه"، ولديهم في الوقت نفسه ثلاثة أسباب ظاهرة تجعلهم يقبلون على الخوض في هذا الموضوع، يمكن ذكرها على النحو التالي:
1 مبرر فقهي: ينطلق من أنه "لا حياء في الدين" ويحيل إلى أن الرسول عليه الصلاة والسلام كان يتحدث عن الأمور التي تخص المعاشرة والنكاح مع أصحابه إن سألوه عنها، وكان يحيل ما تريد النساء أن يستفهمن عنه في هذا الشأن إلى زوجته السيدة عائشة، التي نقلت إليهن الرأي الديني الصائب، ومن هنا جاء الإسناد دوما إلى حديث منسوب للرسول يقول: "خذوا نصف دينكم عن هذه الحميراء" قاصدا بها أم المؤمنين عائشة.
2 مبرر إنساني: فالسؤال عن الجنس والانشغال به مسالة لا مفر منها لأنه غريزة طبيعية، ولولا هذا ما حافظ الإنسان على وجوده في الحياة. والدين مصدر أصيل للمعرفة عند الأغلبية الكاسحة من البشر، لاسيما في بلاد الشرق، ولأن مساره يجمع بين الروحي والمادي، وبين الدنيوي والأخروى، فإن الإجابات على أسئلة الجنس من خلال الدين تصبح أكثر إقناعا للقاعدة العريضة، أو بمعنى أدق أكثر طمأنينة لنفوسهم، حين يرومون الالتزام ب"الحلال" والابتعاد عن "الحرام".
3 مبرر تجاري: فالفضائيات ليست مشروعا رساليا خاصا، لاسيما المملوكة لأفراد، إذ يسعى أصحابها إلى الربح، أو على الأقل تغطية نفقاتها من دون زيادة ولا نقصان، ومن ثم فإن الإعلانات التجارية تشكل أهمية قصوى بالنسبة لها. ويحتاج جلب أكبر عدد من الإعلانات إلى برامج جاذبة للجمهور، حتى يمكن لمنتجي السلع والخدمات أن يطرحوا إعلاناتهم فيها وهم مطمئنون إلى أنها ستصل قاعدة شعبية عريضة، وذلك وفق قاعدة "العرض والطلب" الراسخة. وبالطبع فلا يوجد ما هو أكثر جاذبية من الحديث في الجنس. ويمتد هذا المبرر التجاري إلى مقدمي البرامج أو ضيوفها أيضا، إذ إن الحديث عن الجنس يفتح بابا وسيعا للشهرة، التي يسعى إليها كثير من شيوخ الدين، الأمر الذي يدل عليه افتعالهم لمشكلات عويصة أحيانا، أو انخراطهم في أي جدل يحظى بإقبال اجتماعي عميق وواسع النطاق.
4 مبرر اجتماعي: فالمجتمعات العربية تعاني من زيادة معدل العنوسة وتأخر سن الزواج لأسباب اقتصادية في الغالب الأعم، وكذلك ارتفاع نسب الذين يعانون من العجز الجنسي نتيجة إدمان المخدرات. ويحدث هذا في ظل انفتاح تام على العالم من خلال السفر الدائم للسياحة والتسوق والبعثات التعليمية وكذلك الإنترنت والفضائيات التي حولت العالم برمته إلى "حجرة صغيرة". وهذا الأمر خلق وضعا ضاغطا بشدة على أعصاب المجتمع، مما أدى إلى وقوع انفجارات جنسية متوالية تتراوح بين التحرش والاغتصاب والبحث عن طرق تحايلية مشرعنة لتصريف الطاقة الجنسية الحبيسة كالزواج العرفي وزواج المسيار، وطرق أخرى غير مشرعنة مثل البغاء.
وهذا الوضع الاجتماعي الصعب يفتح بابا لتدخل الدين من زاويتين، الأولى هي خوف علماء الدين من الانحلال واعتباره ترجمة لفشل مهمتهم في الحياة، والثاني هي سعي الناس أنفسهم إلى ما يرطب ضمائرهم أو يرضيها من ناحية التفكير في الجنس أو محاولة إشباعه، حيث يحتاجون إلى من يرسم لهم الحدود التفصيلية والفرعية بين "اللمم" و"الحرام". وحتى لو كان كل هذا "بَيِّن" ولا يحتاج إلى نقاش وجدل، فإن أغلب الناس، لاسيما في حال الاستهواء، يصبحون بحاجة ماسة إلى رأي شخص يثقون فيه، أو يستعملونه أداة لترضية أنفسهم، أو تعزيز وجهتهم أو قرارهم الذي اتخذوه بالفعل، ولذا يلجؤون إلى منتجي الخطاب الديني، لعل لديهم الفتوى والسلوى.
لكل هذا وجدنا بعض الفضائيات تخصص برامج كاملة للحديث عن القضايا الجنسية، مثل تلك التي تقدمها المصرية الشهيرة د. هبة قطب، وهي إن لم تكن عالمة دين، فإن جزءا من جرأة طرحها ودخولها إلى مناطق غير مأهولة في الحديث عن الجنس راجع إلى إسناد ديني يؤكد أن ما تفعله ليس حراما ولا مكروها إنما هو ضروري وواجب. وهناك برامج دينية تخصص حلقات للحديث في هذه المسألة، ولعل من أولها وأشهرها تلك الحلقة الشهيرة في برنامج "الشريعة والحياة" على قناة "الجزيرة" وقت أن كان يقدمها أحمد منصور واستضاف فيها الشيخ يوسف القرضاوي وتحدث باستفاضة وتفصيل ومن دون حواجز ولا خطوط حمراء عن "الممارسة الجنسية الشرعية". وعلى القنوات الدينية الشهيرة مثل "الناس" و"الحافظ" و"الرحمة" و"الرسالة" و"اقرأ" وغيرها طالما يستقبل الشيوخ أسئلة واستفسارات من المشاهدين حول الجنس، ويجيبون عنها بإحالات إلى تأويل لآيات والاستعانة بأحاديث أو آراء للفقهاء القدامي أو قصص وحكايات تراثية. وهناك أيضا مواقع دينية على الإنترنت تتلقى أسئلة مفتوحة من المتابعين ويأتي الشيوخ ليجيبوا عليها، ثم يقوم الشباب بنقل هذه الإجابات على مدوناتهم الخاصة، وعلى المنتديات، واتسع الأمر بعد انطلاق مواقع التواصل الاجتماعي "فيس بوك" و"تويتر".
وأمام إلحاح المشاهدين على طرح الأسئلة في لهفة وبكل ثبات ورباطة جأش، لم يعد هناك أي سبيل أمام علماء الدين وفقهائه سوى تقديم الإجابات لهم بكل ثبات أيضا. وهكذا بدأت حواجز الخجل تنهار شيئا فشيئا، عند منتجي الخطاب والفتوى الدينية، تحت لافتة عريضة تقول "لا حياء في الدين ولا في العلم".



02.jpg
 
أعلى