محمد جبريل - دلالة الحكاية بين شهرزاد وزهرة الصباح

(1 ـ 3)

" احترموا التراث ، وتعلموا استخلاص مايحويه من خصب خالد "
أوجست رودان
" السرد يعادل الحياة ، وغياب القصص يساوى الموت . ولو أن شهرزاد لم تجد المزيد من القصص لترويها ، لكان عليها أن تفقد رأسها "
تودوروف
" قيمتنا الوحيدة هى أننا أصيلون ، نعرض ذواتنا كما هى ، لا كما يرغب الآخرون أن نكون "
جارثيا ماركيث بعد تسلمه جائزة نوبل

ـ 1 ـ
يعرف أريك أريكسون Erik Eriksson الهوية بأنها " إدراك الفرد بذاته ككيان فى صيرورة دائمة " .
وبداية ، فإن التراث ليس مطلقاً ، ليس بعداً واحداً ، إنما هو تراثات متعددة . ثمة التراث الدينى ، والتراث التاريخى ، والتراث الشعبى ، والتراث اللغوى ، إلخ . من الخطأ العلمى حصر التراث فى علوم الدين ، مع أهميتها الملحة ، وضرورتها ، وقداستها ( لعلنا نذكر ما دعا إليه أدونيس فى كتابه " الثابت والمتحول " إلى إهدار التراث مرة واحدة ، باعتباره سلباً مطلقاً ، هدم الدين ـ فى تقديره ـ شرط أول لنهوض الإنسان العربى . علوم الدين تراث ، والتاريخ أيضاً تراث ، وإبداعات السلف فى الإنسانيات المختلفة .. ذلك كله ينتمى إلى التراث ، فلا معنى ـ على أى مستوى ـ لقصر التراث على علوم الدين ، رغم اتفاقنا مع الاجتهادات التى ترى أن الدين هو الدعامة الأساسية للتراث العربى ) . التراث يختلف عن ذلك تماماً . إنه يعنى المحافظة على التواصل مع الماضى ، وليس الانقطاع عنه ، فهو جماع خبرة الشعب فى توالى عصوره وأجياله ، بكل ما تحمله من قيم وعادات وتقاليد وسلوكيات . إنه كل الموروث ، سواء أكان دينياً أم غير دينى ، سواء أكان ثابتاً أم قابلاً للتغير والتطور بتوالى العصور . من الصعب أن نستعيد الماضى ، ومن الصعب كذلك أن نضيف ونطور ونثرى ، ما لم يكن ذلك كله مستنداً إلى تراث يأخذ منه ويتصل به . وبالتأكيد ، فلن تتحقق الهوية الثقافية العربية فى ظل الانقطاع عن التراث العربى ، والاقتصار على الثقافات الغربية . التراث فى حياتنا ، نقطة انتهى إليها القدامى ، وينطلق منها ـ أو هذا هو المفروض ـ المعاصرون . قد يطيلون الوقوف أمامها ، وتأملها ، وقد يبادرون بمجاوزتها إلى ما هو أشد تعبيراً عن العصر . وكما يقول ريموند جابمان ، فإن الأدب يأتينا بشكل رئيس من الماضى . وهناك مبررات أكاديمية قوية لعدم جواز دراسة أدب الحاضر دون امتلاك بعض المعلومات عما سبقه " ( 1 ) . أما القول بأن " ما يهم ليس الماضى بل المستقبل ، ولا خلاف حول هذا ( من ادّعى ؟! ) وما ينبغى علينا هو أن نبحث الحاضر لنتجاوزه إلى المستقبل ، فإن ما واجه الأسلاف من مشكلات ليست مشكلاتنا ، وحلولهم ليست بالتالى حلولاً لمشكلاتنا " ( 2 ) ـ هذا القول يحتاج إلى مراجعة شديدة ..
***
ثمة تعريف للتراث بأنه " تعبير غامض يشير إلى النتاج الحضارى للأمة ، منذ اكتملت لها مقوماتها " . مع ذلك ، فإنى أرفض التعريف المجرد للتراث ، المعنى الواسع الذى ينقصه التحديد ، وتنقصه الدقة بالتالى . التراث ـ كما أشرنا ـ ليس مقصوراً على الدين وحده . الدين بعد أساسى فى التراث ، ولعله العنصر الأساس ، لكنه جزء من التراث . والدين ـ فى الوقت نفسه ـ ليس كله تراثاً ، فهو ككل القيم والثقافات والظواهر ، لابد أن يفيد من التطورات المجتمعية . إن عناصر التراث تتعدد ما بين تاريخية ودينية وأدبية وأسطورية وصوفية وفلسفية وفلكلورية وأسطورية ، وتراثنا موجود فى كتب الأخبار والتاريخ والحكايات والسير الشعبية والملاحم والعمارة والموسيقا والتراجم والطبقات والأدب والشعر والزجل والبلاليق والأغنيات والنوادر والسمر والحكايات والأمثال والنوادر والمُلح والمقامات . وكما يقول زكريا ابراهيم ـ بحق ـ فإن الأصالة مبدأ سيكولوجى هام ، لأنها تعبير عن ضرورة الانطلاق من الذات ، والعمل على تحقيق الذات ، بحيث يصبح المرء عين ذاته من خلال أفعاله الحرة وإنجازاته الإبداعية " ( 3 )
***
إن أم المشكلات فى حياتنا الثقافية الراهنة ـ على حد تعبير أستاذنا زكى نجيب محمود ـ هى محاولة الكشف عن صيغة لحياتنا الفكرية والعملية ، تجمع لنا فى طيّها طرفين ، إذ تحافظ لنا على خصائصها العربية الأصيلة ، وفى الوقت نفسه تفتح لنا الأبواب على مصاريعها ، لنستقبل ـ فى رحابة صدر ـ أسس الحياة العصرية ، كما يحياها اليوم روادها ( 4 )
من هنا جاءت دعوة زكى نجيب محمود إلى المزاوجة بين التراث والواقع ، بين الأصالة والمعاصرة . ليست دعوة توفيقية كما يرى البعض ، لكنها نظرة علمية موضوعية متفهمة ، تحيط بالماضى والحاضر وتستشرف المستقبل فى آن . وكما يقول ادوار كار فإن المجتمع الذى يفقد يقينه فى القدرة على التقدم فى المستقبل ، لابد أن يتوقف عن العناية بالتقدم فى الماضى ..
إن الجديد يتخلق من القديم ، والمعاصر يستمد أصوله من التراث . والتراث ـ من ناحية ثانية ـ يصلنا بالأصالة ، يجعل الحلقات متتالية ، يجنبنا المبالغة فى التأثر والمحاكاة . وبتعبير محدد ، فإن التراث تعبير عن الأصالة ، وتحقيق لوحدة الشخصية العربية . أذكّر بقول أندريه مالرو " الثقافة هى الدفاع عن التراث وإبرازه " ..
***
واللافت أننا نتحدث عن التراث ، ونناقشه ، ونصدر فيه أحكاماً ، بينما المكتبات العامة والخاصة تزخر بآلاف المخطوطات التى تغيب فيها ابداعات ودراسات وحقائق كثيرة . الأحكام الكلية تشوبها ظلال ما لم يسبقها تعرف كلى كذلك إلى ما تناولته تلك الأحكام . ولعل أهم فائدة يمكن أن يهبها لنا " الكومبيوتر " ـ أو الحاسوب ـ هى احصاء ـ وتوثيق ـ ما فى مكتبات العالم من مخطوطات تحتاج إلى العناية والفهرسة والتصنيف والتحقيق ، فالنشر . وقد أورد معهد المخطوطات العربية إحصائية ، تؤكد أن عدد المخطوطات العربية فى العالم يبلغ أكثر من ثلاثة ملايين مخطوط ، بينما لم يتجاوز ما طبع منها حتى الآن نصف مليون مخطوط !..
لذلك جاء القول إن التراث العربى لم يكتشف بعد ، ومازالت تقف فى سبيل اكتشافه ، وغربلته ، ونقده ، بما يحرك الحاضر ، ويصبح جزءاً منه ، عقبات كثيرة ، يصل بعضها إلى درجة الإرهاب المادى والمعنوى . وإذا كان البعض يرى فى الهروب إلى الماضى حنيناً رومانسياً نواجه به غربة واقعنا ، أو غربتناعن الواقع الذى نحياه ، فهو يفصلنا عن عصرنا ، ويعود بنا إلى أزمنة مضت دون تلامس مع الحاضر ، إذا كان ذلك كذلك ، فإن عوالم خيالية ـ كما يقول أستاذنا فؤاد زكريا بحق ـ ينتمى إليها هؤلاء التنويريون الذين يرفضون الماضى كله ، ويتنكرون للتراث بأسره ( 5 ) . نحن ـ لكى نناقش التراث ـ فلابد أن نقرأه ، نقرأ أعمال الجاحظ وأبى تمام والتوحيدى والمعرى والمتنبى وابن سينا والجرجانى والغزالى وابن رشد وعشرات غيرهم ، تمثل إسهاماتهم كم التراث وكيفه ، وتبين عن أهمية اتصال التراث بالمعاصر لأنه المرتكز الفعلى ، نقطة البداية ، الدعامات التى يستند إليها إبداعنا المعاصر ، وثقافتنا المعاصرة عموماً .
التراث الثقافى بعد أهم فى شخصية الأمة . وهو السبيل إلى ثقافة موحدة ، متسقة ، يعيشها مثقف حى فى عصرنا هذا ، بحيث يندمج فيها المنقول والأصيل فى نظرة واحدة ( 6 ) . وثمة اجتهادات تهب التراث دلالة سياسية . وكما يقول بلند الحيدرى فإن " التركيز على العصر ـ الحداثة ـ يضعف من شأن التراث ، ومن ثم تصبح قدرتنا على المواجهة مرتبطة بقوانين العصر الحديث التى صنعها ويصنعها الوافد ، فتدخل إلى الصراع بقوانين ليست قوانيننا ، وبالتالى قد نهزم " ( 7 ) ، بل إننا لا نستطيع أن نتحول إلى منتجين فى ضوء رفض التراث ، لأن التراث تواصل ، والتخلى عنه يعنى إخضاع الثقافة العربية ، الهوية العربية ، للثقافة الغربية ، تفرض سيطرتها وهيمنتها ، تتحول إلى سلع استهلاكية وافدة لا تقابلها سلع منتجة !
***
إن السؤال الذى طالما أثير إلى حد الإملال هو : هل ينتمى فن القصة ـ الرواية والقصة القصيرة ـ إلى التراث العربى ، أو إلى التراث العالمى ؟ ، وبتعبير آخر : هل القصة والرواية وليدتا تأثر بالقصة والرواية فى الغرب ، وإفادة منهما ، أو أنهما استمرار لمعطيات هذين الجنسين الأدبيين فى تراثنا القديم ، سواء الفرعونى ، أو القبطى ، أو الإسلامى العربى ، إلى الإرهاصات المعاصرة متمثلة فى أعمال على مبارك والنديم وغيرهما ؟..
ثمة اجتهاد مهم يرى أن الدراسات التى تتناول الأدب العربى أو أحد عصوره ، تجهل لغات عرب الجزيرة قبل الإسلام فيما عدا لهجة قريش . لذلك فإن القصص العربى الذى تتصل حوادثه بأدبنا فى الجاهلية إلى اليوم قليل جداً ( 8 )
وقد تأتى الإفادة من التراث فى محاولة تصوير الواقع تواصلاً بالتحامه بالأساطير الكونية . وعلى سبيل المثال ، فأنت تحيا عالماً من الخيال والسحر والأسطورة ، إذا قرأت جامع كرامات الأولياء " للنبهانى ، أو " بهجة الأسرار ومعدن الأسرار ومعدن الأنوار " للشطنوفى ، أو " طبقات الأولياء " لابن الملقن ، أو " طبقات الخواص " للشرجى الزبيدى إلخ . والملاحظ أن القصة القصيرة جداً تنتسب بوشائج قوية إلى النوادر العربية الطريفة . القصة التى تشغل أسطراً قليلة تهبنا دلالة ما ، هى ـ مع فارق المقولة والتكنيك ـ النادرة التى تشغل أسطراً قليلة ، وتهبنا حكمة ، أو موعظة ..
***
يواجه التراث العربى اتهامات بمعايب كثيرة ، كالغيبية ، والتواكلية ، والقصور فى الخيال ، والافتقار إلى الحاسة النقدية ، وإلى فلسفة الحياة المتكاملة ، وغياب الحس الأسطورى والقصصى والدرامى إلخ .. وهى معايب تعانى التباين أحياناً ، والتجنى أحياناً أخرى . التراث ليس ـ كما يتصور البعض ـ سلباً مطلقاً " تكتنفه الغيبية وضيق الأفق والتعصب والأسطورية " ( 9 ) ، والعمل الإبداعى الذى يوظف التراث لا يصدر عن رغبة فى " دغدغة حواس أبناء العالم المتقدم ، وإلهاب خيالاتهم الموروثة نحو كل ما كان قائماً ، أو ما هو قائم ، فى العالم القديم " ( 10 ) ، وإن كنت أعيب على بعض المبدعين لجوئهم إلى التراث إلى حد الاقتباس ، أو التقليد المغلف بدعوى " التناص " ، فنجد ملامح مؤكدة لطواسين الحلاج ، ومخاطبات النفرى ، ومواقفه ، ورسائل الجنيد ، ونصوص ابن عربى ، وشرح النابلسى ، وغوثية الجيلانى ، وتأريخ المقريزى وابن إياس وابن تغرى بردى ، وغيرها ..
***
ليست أوروبا وحدها ـ كما يقول ميلان كونديرا ـ مجتمع الرواية ، فالعرب أيضاً ـ والأدلة موجودة ـ مجتمع الرواية . أرفض قول كونديرا إن " الرواية التى كتبت تحت الخط 35 ، على الرغم من كونها غريبة نوعاً ما بالنسبة للمذاق الأوربى ، تعد امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية لصيغتها ، وروحها ، ولقربها إلى حد يثير الدهشة لبدايات الرواية الأوروبية المبكرة " ( 11 ) ، هذه الرواية ليست امتداداً لتاريخ الرواية الأوروبية ، للتراث الروائى الأوروبى ، إنما هى امتداد للتراث الروائى العربى ، لبدايات الرواية العربية المبكرة . ليس فى قولى ادعاء ولا مغالاة ، لكنها الحقيقة التى تستند إلى أسس علمية ، موضوعية . ولا يخلو من دلالة قول الكاتب الراحل إبراهيم المصرى : " إذا كان الأوروبيون قد بدءوا بقصص بوكاشيو ، فإننا بدأنا بقصص ألف ليلة ( 12 ) . ويقول الأرجنتينى جورج لويس بورخيس : " لولا ألف ليلة لما وجد معظم أدب الغرب " . ويحدد البعض تأثير ألف ليلة وليلة على الأدب العالمى بأنها كانت السبب المباشر لنشوء فن القصة القصيرة . ويضيف جبرا إبراهيم جبرا ان الرواية الأوروبية كانت فى شبه حكايات ألف ليلة وليلة حتى أواخر القرن الثامن عشر ، فهى روايات حوادث أو مواقف ، لا روايات شخصيات يبغى الكاتب عرض ما فى دخائلها من مشاكل نفسية ، فسواء أخذنا قصص بوكاتشيو أو روايات فولتير أو روايات الإنجليز فى القرن الثامن عشر ، نجدها جميعاً مثل قصص ألف ليلة وليلة ، تعنى المخاطر والأهوال ، أو النكات الغرامية ، أو العبر الحكيمة " ( 13 ) . وثمة اجتهادات ـ أوروبية ـ أن الأدب الواقعى بدأ بترجمة ألف ليلة وليلة للمرة الأولى مع أنها فانتازيا خالصة ..
لقد كانت القصة فى أوروبا ـ والقول لفؤاد حسنين على ـ كماً مهملاً " لم يعن بها أديب ، ولم يلتفت اليها مؤرخ ، لذلك ظلت الآداب الأوروبية قروناً عديدة محرومة من سماتها ، وأوجد فيها المجاميع الكثيرة ، كمجموعة بنتشتنترا فى الهند ، وألف ليلة وليلة فى العالم الإسلامى ، الى جانب تلك المجاميع التى تركها البابليون والأشوريون وقدماء المصريين " ( 14 )
نحن نتعرف ـ مثلاً ـ فى سندريلا بطلة الحكاية العالمية الشهيرة إلى رودوبيس الفتاة المصرية الجميلة التى كانت تستحم فى الخلاء ، فخطف نسر حذاءها ، وأسقطه فى حجر الفرعون . وأعلن الفرعون أنه سيتزوج صاحبة الحذاء ، واهتدى إليها أعوانه ـ بعد طول عناء ـ وتزوجها الفرعون بالفعل . الحكاية لابد أن تذكرك بحكاية سندريلا . حدثت تبديلات وتحويرات حتى انتهت الحكاية الى صورة سندريلا الحالية . من هنا فإن القول بأن " أصول وحكايات وخرافات كل العالم مصدرها الهند " ( 15 ) هو اجتهاد يعانى الشحوب مقابلاً لريادة الحكايات والأساطير والخرافات المصرية
إن أصل الواقعية السحرية هو قصص السندباد البحرى ، وعلاء الدين ، والصعاليك الثلاثة ، وقمر الزمان ، وحسن البصرى ، وغيرها من قصص ألف ليلة . ذلك ما يؤكده جابرييل جارثيا ماركيث فى قوله إن الواقعية السحرية هى ما يشبه العودة إلى الليالى العربية ، وأنها أثر خالد أيقظ الرواية الأوروبية منذ فولتير حتى زماننا الحالى ..
ولصديقى يوسف زيدان ملاحظة ذكية : ان الكثير من النصوص الأدبية المعاصرة هى أقل معاصرة مما يظن وأكثر تراثية . ويقارن زيدان بين مشهد التحليق فى رواية ماركيث " مائة عام من العزلة " وبين مشهد فى نص عربى مكتوب يعود إلى القرن الثامن الهجرى : " وقد ناظر جماعة من الكفار البراهمة ، جماعة من مشايخ الصوفية .. من ذلك قضية الشيخ الكبير العارف بالله بهاء الدين السندى مع البرهمى الذى جاء إليه ، وارتفع فى هواء مجلسه ، فارتفع الشيخ حينئذ فى الهواء ، ودار فى جوانب المجلس ، فأسلم ذلك البرهمى لعجزه عن ذلك ، لكونهم لا يقدرون على الدوران فى الهواء ، بل يرتفع الواحد منهم مستوياً لا غير ، وقضية الشيخ الكبير فريد الدين مع البرهمى الذى ارتفع فى الهواء ، فارتفعت إليه نَعْلُ الشيخ ، ولم تزل تضرب رأسه وتصفعه ، حتى وقع على الأرض " ( 16 ) .
ويقول إدوارد سعيد : إن فى الأدب العربى ـ فيما قبل القرن العشرين ـ أشكالاً غنية مختلفة للقصص ، تحمل أسماء كالقصة والسيرة والحديث والخرافة والأسطورة والخبر والنادرة والمقامة .. لكن أياً من هذه الأسماء لم يتطور ـ كما تطورت الرواية الأوروبية ـ ليغدو نموذجاً رئيساً .. وهو رأى يحمل الكثير من الصحة ، لكن اللافت ـ فى محاولاتنا لاستدعاء التراث ـ أننا نلجأ إلى كل تلك الأشكال الفنية التى أشار إليها إدوارد سعيد ، ربما بمحاكاة تصل إلى درجة التقليد ، إلى درجة الحافر على الحافر كما يقول العروضيون . فما الذى اختلف حين أصبحت تلك الأشكال قصصاً معاصرة ، فى حين لم تكتسب ـ من قبل ـ تلك الصفة ؟..


.../...


محمد جبريـل
 
(2 ـ 3)

نحن نخلط كثيراً بين المدنية والحضارة ، فالمدنية هى المكتسبات العلمية والتكنولوجية . أما الحضارة فهى نحن : موروثاتنا وقيمنا وجذورنا الثقافية ، وارتكازاً إلى هذا المعنى ، فإن مجرد التساؤل عن دور التراث فى صياغة ثقافة ما ، أمر غير وارد ، ومستبعد ، لأن التراث هو معطيات الأمس ، ومعطيات اليوم هى تراث الغد ، والحلقات متصلة ..
وإذا كان البعض يحرص على ربط التراث بالتخلف ، فإن ذلك الرأى ـ الذى يصعب أن نفترض فيه حسن النية ـ يجد الرد عليه فى أن التراث لا يستعاد ، بل إنه من المستحيل أن يحدث ذلك ، لأن الآتى حتى فيما قد يرين إليه من استاتيكية ، يحمل الإضافة والجديد دوماً . ولكن المطلوب هو تمثل التراث ، وإدراجه فى جدلية التجربة المعاصرة ، الثقافة المعاصرة ، بحيث يصبح هذا التمثل تطويراً للتراث ، موقفاً نقدياً وتجاوزاً فى آن معاً ، وبحيث يصبح دور التراث فى صناعة ثقافتنا المعاصرة قضية غير مطروحة ولا واردة ، لأن التراث أصل أصيل فى أية ثقافة قائمة أو مرجوة . بل إن الأدب العربى المعاصر لم يكتسب ملامحه إلاّ بتوثيق صلاته بالتراث منذ عصر النهضة ، والأدبين الإغريقى والرومانى تحديداً . إن الثقافة الجديدة التى يمكن التحدث فيها ، هى تلك التى تصل بين الأصالة والمعاصرة ، بين القديم والجديد ، بين الموروث والآنى ، فيصبح المستقبل بكل زخمه هو اتجاهنا الأوحد ..
أوافق ألان روب جرييه فى أن عظمة الروائى تكمن فى أنه يبحث ويخترع دون أن يتقيد بنموذج ثابت ( 17 ) ، ولكن من الصعب ـ فى تقديرى ـ أن ينفصل المبدع تماماً عن تاريخه الروائى ، خاصة إذا مثّل هذا التاريخ ارهاصات تمتد بمئات الأعوام ، كما فى التراث العربى القديم ، مثل ألف ليلة وليلة ، وكتابات الجاحظ ، وابن طفيل ، وأغانى الأصفهانى ، ومقامات الهمذانى ، وحكايات أشعب ، ورسالة أبى العلاء ، وكتب التصوف الإسلامى ، وتمتد بعشرات الأعوام ، كما فى الأعمال التى ربما تجد بدايتها فى " علم الدين " أو " حديث عيسى بن هشام " أو " عذراء دنشواى " أو " زينب " إلى آخر القائمة . وعلى حد تعبير بول فاليرى فإن الأسد عبارة عن خراف مهضومة ! .
إن المبدع العربى لن يستطيع تطوير أشكال فنية عربية معبرة عن الواقع العربى ، دون تلمّس لجوهر التراث لا حرفيته ، ودون محاولة جادة للإدراك النوعى للحساسية العربية فى عمقها واكتمالها ( 18 ) . الهوية القومية لا تقتصر على المضمون ، على الأحداث والشخصيات ، لكنها تشمل الشكل ، أو التقنية . إن لم يكن لها اختلافها وتميزها ، فإنها لن تكون سوى مسخ مشوه لإبداعات الآخرين . أشير ـ بتعجب ـ إلى إفادة جارثيا ماركيث من ألف ليلة وليلة ، حين جعل المرأة تطير فى رائعته " مائة عام من العزلة " . وطارت ـ فور ترجمة الرواية إلى العربية ـ نساء كثيرات ، فى إبداعات عربية ، بصرف النظر إن كانت تحتاج إلى ذلك بالفعل . إن مبدعى أمريكا اللاتينية يتمايزون فى أعمالهم بصورة لافتة ، لكنهم يعبّرون عن بانورامية لها خصوصيتها وتفردها ، عنوانها : الرواية فى أمريكا اللاتينية . وأذكّر بقول إدوارد سعيد " نحن ـ فى الوطن العربى ـ نقوم بالنسخ المباشر . ما إن يقرأ الواحد كتاباً من تأليف فوكو أو جرامشو حتى يرغب فى التحول إلى فوكوى أو جرامشى
***
مع محاولاتى فى توظيف التراث ، فإنى كنت أحاول ـ فى المقابل ـ أن أتمثل الثقافات الجديدة . إن رواية اليوم ـ والقول لروب جرييه ـ " هى ما سنضعه هذا اليوم ، وإن علينا ألاّ ننحى التشابه بينها وبين ماكانت عليه الرواية بالأمس . علينا أن نتقدم إلى أبعد " . وفى رأيى أن الإضافات التى قدمها الإبداع الغربى إلى فن القصة والرواية بما يجاوز معطيات الإبداع العربى القديم ، لا يعنى اعتبار الفن الروئى والقصصى فى الغرب بداية مطلقة لهما ، وإلاّ فإنه بوسعنا أن نعتبر كل إضافة فى كل زمان ومكان بداية غير مسبوقة للفن الذى تنتمى اليه ، أى أننا نلغى ماسبق ، ونعتبر البداية فى الإضافة والتطوير ..
والسؤال : هل نعتبر التراث العربى بداية القصة الأوروبية ـ على سبيل المثال ـ فى ضوء اعتراف المستشرق الإنجليزى ا . ر . جب H . A . R . Gibb بأن أوروبا قد تأثرت ـ أواخر القرون الوسطى وأوائل عصر النهضة ـ بالمأثورات الشعبية العربية ، وهى التى منحتها السمات القومية فى الأدب ، وأن القصة الإيطالية فى عصر النهضة انما هى وليدة القصص الشعبى العربى ، وأن شوسر ـ أبا الأدب الإنجليزى ـ قد تأثر ـ بدرجة وبأخرى ـ بالنهج العربى فى السرد والوصف والتصوير .. ومع ذلك فإن الكثير مما نظنه من تراثنا ـ على حد تعبير رانيلا ـ لا نكاد نقبل أنه أتى إلينا من الشرق " ( 19 )
***
من الخطأ أن نرتمى فى حضن التراث اطلاقاً ، كما أنه من الخطأ أن نرتمى فى حضن الثقافة الغربية اطلاقاً . واللافت أن الدعوة إلى الانكفاء على الماضى ، والتعامل معه باعتباره " المنقذ من الضلال " ، الحل لمشكلات العصر والأزمات التى نواجهها ، تلك الدعوة تقابلها دعوة إلى ملاحقة المنجزات الإبداعية والعلمية التى حققها الغرب . توظيف التراث لا يعنى الانكفاء على الماضى ، لكننا نفيد منه فى الإضافة ، أن يكون فاعلاً فى المستقبل . نحن نفيد من التراث فى تحقيق التواصل ، ونفيد من الثقافة الغربية فى تحقيق المعاصرة . الصواب أن نفيد من التراث ، ومن الثقافة الغربية المعاصرة فى تحقيق شخصيتنا المتفردة ، فى صياغة ملامح متميزة لإبداعنا وفكرنا وثقافتنا الخاصة عموماً . أكرر : من الخطأ أن نكتفى بإحياء تراثنا القديم ، أو النقل عن الغرب . الأصوب أن نقدم معطياتنا نحن ، لا نكتفى بالتلقى ، بالنقل أو التلخيص ، أو حتى الاستلهام ، وانما يجب أن نضيف إبداعنا الآنى ، وفكرنا الآنى ، وتعبيرنا الآنى عن صوت حياتنا المعاصرة . إن التجديد موصول بالتراث . إنه الجذور التى تحفظ عليها الحياة والاستمرار . ثمة تفاعل خلاق يجب أن ينشأ بين الآنى والتراث ، ليس بمجرد التقليد أو المحاكاة أو الاستلهام ، وإنما الإفادة من عناصره لتكوين رؤية إبداعية جديدة ، قد تسمى توظيف التراث ، أو استلهامه ، أو استيحائه إلخ .. لكنها تظل ـ فى المحصلة النهائية ـ إفادة من التراث ، اتصالاً به ، تفاعلاًً خلاقاً معه . والعمل الذى يوظف التراث قد يهب المتلقى تفسيرات ومدلولات ورؤى جديدة ..
***
إذا كان لكل شعب بيئته المغايرة التى تتوضح ـ بدرجة أوبأخرى ـ فى إبداعاته ، فإن ذلك ما يجدر بإبداعاتنا أن تحرص عليه ..
إن الكثير من أعمالنا الإبداعية مجرد تقليد لإبداعات غربية ، فهى قد فقدت هويتها ، وما ينبغى أن تكون عليه من تفرد . إن المذاهب الأدبية والفنية المختلفة فى الغرب ، تعبر عن واقع معاش . إنها مدارس وليدة البيئات التى أثمرتها لأنها بيئات مثقفة فى عمومها ، ومتأملة ، ومنتجة ، ومستشرفة . أما نحن ، فنبدع ، لكن هوية إبداعنا قد تأخذ عن مدارس الغرب ، دون أن تكون لنا هويتنا الإبداعية الخاصة التى تتواصل بالتراث ، وتلاحق العصر ، وتستشرف المستقبل فى آن . إن محاولة الإفادة من تجارب الآخرين ، لا يعنى أننا نحاكيها ، وإنما نذيبها فى تجاربنا الإبداعية ، تصبح نحن ، ولا نصبح الآخرين . ولعلنا نجد مثلاً متفوقاً فى التكنيك ، أو البناء الفنى ، فى سيرة عنترة ، عندما قسم الراوى سيرة عنترة إلى ماسماه اثنين وسبعين كتاباً ، وحرص فى نهاية كل كتاب أن يقطع الكلام بما يثير شوق القارئ الى المتابعة ، حتى يظل على إنصاته أو قراءته . وكما يقول الموسيقار الألمانى يوهانس برامز ( 1833 ـ 1897 ) فإن " الثورة على القوالب الفنية لمجرد الثورة ، لا يمكنها أبداً أن تخلق فناً جديداً " . والأصوب ـ كما يقول فردريك شليجل ، أن يوحد الفنانون ـ عبر عصورهم ـ العالم الماضى مع العالم القادم .
***
فى كتابه " تجديد الفكر العربى " تحدث زكى نجيب محمود عن التراث وثقافة الغرب ، فوجد أن البعض ـ مثل العقاد ـ وجد أن الجمع بينهما ممكن ، بينما قبل طه حسين وآخرون التراث كله وبعض الغرب دون بعض ، وثمة آخرون ـ مثل أحمد أمين والحكيم ـ أجروا تعديلاً فى التراث وفى الغرب معاً . أما الأجيال التالية فهى لا تعرف شيئاً من التراث العربى ، ولا ترضى ـ فى الوقت نفسه ـ بقبول الثقافة الغربية " خشية أن يقال عنه إنه من توابع المستعمرين " ( 20 ) . ويزيد زكى نجيب محمود فيتهم معطيات الأدباء بأنها سطحية ( 21 )
وفيما يتصل بالملاحظة الأخيرة تحديداً ـ وهى غلبة السطحية على إبداعات أدباء الأجيال الحالية ـ فإنها تحتاج إلى مراجعة ..
لقد بدأت حركة احياء التراث العربى منذ أواسط القرن التاسع عشر ، انسلاخاً من السكونية التى فرضها الحكم العثمانى . كان توظيف التراث بداية المسرح المصرى كما يتبدى فى أعمال مارون النقاش ( 1817 ـ 1855 ) وأبو خليل القبانى ( 1833 ـ 1903 ) ثم فى الأعمال المسرحية التالية ، وصولاً إلى زماننا الحالى فى أعمال أحمد شوقى وتوفيق الحكيم وعلى أحمد باكثير وعبد الرحمن الشرقاوى وصلاح عبد الصبور والفريد فرج وسعد الله ونوس وزكريا تامر وعز الدين المدنى . أما توظيف التراث فى الرواية فيجد بدايته فى روايات جورجى زيدان التى عرض فيها لتاريخ العرب ومصر منذ عهد الخلفاء الراشدين إلى أخريات القرن الثامن عشر . ثم توالت الروايات التى تحاول توظيف التراث ، مثل أعمال فريد أبو حديد وسعيد العريان وسعد مكاوى ونجيب محفوظ وعبد الحميد السحار وعادل كامل وأحمد شمس الدين الحجاجى ومجيد طوبيا وجمال الغيطانى وخيرى عبد الجواد ومنير عتيبة وغيرهم .. وثمة رموز وشخصيات يحفل بها تراثنا ـ وموروثنا ـ الشعبى المصرى ، تصلح قواماً لأعمال أدبية معاصرة : الخضر وأبو زيد والسيد البدوى وأشعب والشاطر حسن وعلى الزيبق وأحمد الدنف وشيحة والسفيرة عزيزة وأبو الريش وحسن المغنواتى وهبنقة وجحا وسيبويه المصرى وذو النون وأبو الحسن الشاذلى وشحادى أبو حطب وحسن الذوق والسيدة أم الأنوار حارسة مصر إلخ


.../...
 
(3/3)

يعجبنى التعبير : " إن ولادة اليوم الإبداعية هى حصاد إخصاب تم فى فترات سابقة " ..
وقد حاولت أن أفيد مما تزخر به الملاحم والسير والحكايات الشعبية العربية من إمكانات ، مضمونية وشكلية ، فكتبت الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل واعترافات سيد القرية ، وغيرها ..
لم ألجأ الى التراث مثلما يفعل علماء الآثار فى حفرياتهم . بل ان تلك الحفريات تصل الماضى بالحاضر على نحو ما ، تجعل السلسلة متصلة الحلقات . التراث اشتباك فنى ـ ودلالى ـ بين موتيفات الماضى والواقع المعاش . توظيف التراث لا يعنى ابتعاد المبدع عن الواقع المعاش ، عن الأوضاع الآنية لمجتمعه . أذكّرك بقول نجيب محفوظ إن موقفه فى ألف ليلة وليلة كمن يستوحى عملاً قديماً لاستغلاله عصرياً ، أى أن عينه كانت دائماً على الحاضر ( 22 )
إن توظيف التراث يجد قيمته فى التفسير المعاصر ، وليس مجرد إعادة تقديم ما كان فى صورة الماضى ، فهى خالية من الروح . وبتعبير آخر ، فإن توظيف التراث وسيلة فنية للتعامل مع الواقع الذى نحياه [ أرفض كلمة " الإسقاط " ، وأرفض تسمية الأدب السياحى ] ( 23 ) ، وعادة ، فإن التراث ـ الشفاهى بخاصة ـ يتعرض لعمليات انتقاء ، قد تكون إلى الأفضل أو الى الأسوأ ، لكنها عمليات اختيار يعبّر عن العصر ، والفترة ، ومايستهدف الراوى توصيله . بل إن الرواية المعاصرة لم تقتصر على توظيف الأحداث التاريخية ، والأبطال التاريخيين ، وإنما تجاوزت ذلك الى توظيف لغة التراث التاريخى نفسه ، لغة المقريزى وابن اياس والسيوطى وغيرهم ، وان كنت أتحفظ على ذلك لسبب مهم هو أن لغة هؤلاء المؤرخين أقرب الى لغة الصحافة فى زماننا الحالى . أوافق على أن اللغة التراثية تعيدنا إلى الوراء ، على الرغم من كل ما يشاع ويقال ويكتب من أن ذلك يتم باسم الخصوصية والأصالة " إذ لاشئ من هذا فيها " ( 24 ) . على المبدع العربى أن يستخلص البنيات التراثية ويستوعبها ، ثم يعيد صياغتها فى قالب جديد ، بحيث يصبح التراث مصدراً للاستعارات والرموز والنماذج العليا التى تعبر عن الحساسية العربية الحديثة ، وتشكلها فى آن واحد ( 25 ) . وفى تقديرى أن الحرافيش لأستاذنا نجيب محفوظ هى أهم الروايات العربية إطلاقاً ، لأنها رواية عربية بالفعل . لم تحاول المحاكاة ولا التقليد فى أى من مقوماتها . أفاد نجيب محفوظ فى روايته من الفنون العربية فى الزخرفة والعمارة ، ومن الحكايات الشعبية والنوادر وسير الأبطال ، ومن التاريخ . " الحرافيش " توظيف للتراث بمستوياته الدينية والتاريخية والشعبية ، ولكن اللغة التى صيغت بها عصرية تنتمى إلى زماننا الحالى ، لغة صوفية ، أو أفادت من الشعر ..
أنا لا أحاكى النص التاريخى ، لا أحاكى مفرداته ولا جمله ولا تركيباته اللغوية عموماً . لا أنتقل بنصى الإبداعى الخاص إلى عصور سابقة ، وإنما أحاول ـ ما أتاحت لى موهبتى ـ أن أصوغ الوقائع ، وأصور الشخصيات فى لغة العصر الذى أنتمى إليه ..
من المهم أن تعبّر اللغة عن العصر الذى كتبت فيه ، وليس العصر الذى صورته ..

ـ 2 ـ
إذا كنت أرفض محاولة الاستعلاء من خلال استعادة الماضى ، والتشبث به ، فإنى أرفض ـ فى الوقت نفسه ـ شعور النقص أو الدونية . أشير إلى تأثر الأدباء الأوروبيين بالإبداع العربى من سيرة وحكاية ورواية وغيرها ، مثل سير عنترة وسيف بن ذى يزن والهلالية وحكايات ألف ليلة وقصص الحب العذرى وروايات المعرى وابن طفيل وابن شهيد وابن المقفع إلخ . أذكرك بقول كرتشكوتسكى " إن القرآن وألف ليلة وليلة كانا بمثابة الآثار العظيمة للأدب العربى التى استطاع أجدادنا التعرف عليها فى القرن الثامن عشر " ( 26 ) . وقد تحولت قصة ابن طفيل " حى بن يقظان " إلى قصة أوروبية كتبها دانييل ديفو ، وإن حذف منها كل الدلالات الفلسفية ، وسماّها " روبنسون كروزو " ، فصارت من كلاسيكيات الرواية الأوروبية ، وأفاد منها الفلاسفة وعلماء النفس الأوروبيون ـ وفى مكتبتى مؤلف عن التاريخ الجنسى لروبنسون كروزو ـ وأنتج الغرب العديد من الأفلام التى تتناول قصة روبنسون كروزو فى قالب المغامرة ، وتناست الأقلام ـ وبعضها ، للأسف ، تكتب بالعربية ـ الأصل العربى لقصة ديفو ، وهو نص ينبض بدلالات عميقة ، وليس مجرد تعبير عن أزمات جنسية ونفسية مبعثها الشعور بالوحدة !
***
راج عن ألف ليلة وليلة معتقد مشابه لمعتقد لعنة الفراعنة . إنه لعنة ألف ليلة وليلة . من يقرأ الكتاب يحل عليه ـ فى نهاية عام القراءة ـ مصيبة تدمر حياته . وربما لهذا السبب ظل الكتاب مخطوطاً لمئات السنين ..
لم يعرف لحكايات ألف ليلة مؤلف محدد ، ولا جامع للحكايات ، ولا مترجم ، أو مترجمون ، إلى اللغة العربية . إنها أشبه بمجموعة من الحكايات الشعبية مجهولة المصدر . تقول مقدمة الطبعة الرابعة التى صدرت عن المطبعة الكاثوليكية ببيروت إنه " ليس لهذا الكتاب من كاتب " . وثمة من أكد أن المؤلف سورى " وضعه بلغة مبسطة سهلة ، متوخياً تعليم اللغة العربية إلى الراغبين فيها أكثر من توخى الاقتراب إلى أفهام الناس " ( 27 ) ، ورأى بأن أصل الكتاب هندى ( 28 ) ، ورأى ثالث بأن الكتاب هندى مطعّم بقصص فارسية وللعرب فيه بعض الفضل ( 29 ) . وجمع البعض بين اختلاف تلك الآراء جميعها ، فقال إن واضع الكتاب أكثر من مؤلف واحد ( 30 ) . إنها لم تتجمد فى صيغة ثابتة ، لأنه لم يكتبها شخص واحد . تعاقب على الإضافة فيها ، وعلى الحذف والتعديل والتبديل ، رواة متعددون بالشفاهة والكتابة . ويرجح أستاذنا أحمد حسن الزيات أن حكايات ألف ليلة وليلة قد جمعت ما بين عامى 1517 ـ 1526 م . ويستند فى اجتهاده إلى أنه قد ورد فى الكتاب ذكر القهوة والباب العالى ودواوين الحكومة فى الدولة العثمانية وغيرها مما لم يكن معروفاً قبل تلك الفترة ، فضلاً عن أن القهوة لم تكن قد عرفت فى الشرق قبل ذلك التاريخ . ولعله يمكن القول إن ألف ليلة وليلة أصبحت ـ فى الأعوام التالية لترجمتها ـ جزءاً أساسياً من الثقافات الغربية ، وأضافت إلى الإبداع الأوروبى ما لم يحققه عمل آخر ، فيما عدا التوراة والأساطير الإغريقية . أقدر قول فاروق خورشيد : " إذا كان العالم قد ظل ـ منذ ترجمة جالان لألف ليلة وحتى الآن ، يعيش فى أحلام الإنسان وأشواقه ومخاوفه من خلال قصصها وخيالها وحبكتها الفنية ، فهذا دين كبير على هذا العالم الجديد ، ولهذه الحضارة العربية الحديثة ، يجب أن يؤديه حباً واحتراماً لأصحاب الفضل فيه " . لقد أثرت ألف ليلة على الأدب الأوروبى تأثيرات متنوعة وكثيرة فى المسرحيات والقصص ، والشعر الغنائى والمسرحيات الغنائية . وقد ربطت الدراسات بين ترجمة ألف ليلة وليلة إلى الإنجليزية ، وبين ظهور الرواية الأوروبية الحديثة ، واعتبرت حكاية " التفاحات الثلاث " ـ ألف ليلة ـ هى الأصل فى نشأة الرواية البوليسية . وعظم تأثير ألف ليلة وليلة فى أواخر القرن الثامن عشر ، ثم طوال العهد الرومانتيكى [ دعك من الصور المشوهة التى حاول الغرب استيحائها ، أو الصاقها ، بحياة العرب من خلال الأعمال المأخوذة عن حكايات ألف ليلة ] فثمة مسرحيتان ليوجين سكريب هما " على بابا " و " المصباح الصغير العجيب " ، وثمة التأثير المؤكد على روايتى بلزاك الجلد المسحور وزنبقة الوادى " ومسرحية فونتين ألف مسرح ومسرح . كما قدم شارل ايتين مسرحية علاء الدين والمصباح العجيب ، وقدم موران دى بومبينى المصباح الرائع ، وكتب بيير كارموش المصباح العجيب ، وألف تيودور كونيار مسرحية على بابا ومسرحية ألف ليلة . وهناك ألف ساعة وربع ساعة و قصص صينية لجيوليت ، وقصص شرقية " لكايلوس ، وحب أنس الوجود لكلود ايتين سافارى .. ونحن نجد ظلاً لحكاية العبد الدميم ، القذر ، القاسى ، فى حكايات ألف ليلة وليلة ، فى رواية إميل زولا نانا . وفى تقدير جبرا ابراهيم جبرا أن " استخدام التكنيك المتعدد الطبقات ، وتفتيت الزمن ، والاهتمام بحياة الفرد فى المجتمع ـ وهى كلها من الاهتمامات الرئيسة للرواية المعاصرة ـ كل هذه موجودة فى ألف ليلة وليلة " ( 31 ) . أما السينما العالمية ، فقد قدمت العديد من الأفلام علاء الدين والفانوس السحرى ، على بابا ، السندباد البحرى المأخوذة عن حكايات ألف ليلة : لص بغداد ، حكايات ، إلخ
***
كم يؤلم النفس أن نجد الإعجاب بتراثنا فى مرايا الآخرين ، فتنقل إلينا عدوى الإعجاب . وكانت ألف ليلة وليلة مهملة فى حياتنا ، لا نكاد نجد فيها أكثر من كتاب للتسلية . فلما تعددت استلهامات الأدب الأوروبى منها ، حاكيناه فى استلهاماته ، وأعلنا نفس الإعجاب الذى خص به كتاب الغرب " ألف ليلة وليلة " ..
ولعلى أوافق على القول بإنه إذا كنا لا نعرف ـ تحديداً ـ من هو مؤلف ألف ليلة وليلة ، ومن حوّرها وأضاف إليها ، فإن المهم هو أنها كتبت بالعربية ، عن المجتمع العربى ، والمواطن العربى . حتى لو استقت أصولها من مصادر أمم أخرى . والمثل شكسبير الذى استقى خطوط معظم مسرحياته من مصادر غير انجليزية ، وإن ظل فنه ـ فى النهاية ـ إنجليزياً صرفاً ، بقدر ما كان الفن فى ألف ليلة عربياً صرفاً ..
لقد أكد بايرون أنه قرأ ألف ليلة قبل أن يبلغ العاشرة من عمره . وأعلن فولتير أنه لم يبدأ فى كتابة القصة إلاّ بعد أن قرأ ألف ليلة وليلة أربع عشرة مرة ، وتمنى استندال أن يفقد الذاكرة ليستعيد ـ ثانية ـ لذة قراءة ألف ليلة . واعترف أناتول فرانس أن حكايات ألف ليلة كانت فى مقدمة ما قرأه قبل أن يكتب الأدب . كما اعترف هيرمين ميلفيل ان ألف ليلة وليلة هى التى أطلقت خياله ، وأصدرت العالمة الألمانية كاترينا مومزن كتاباً بعنوان " جوتة وألف ليلة وليلة " أكدت فيه تأثر جوتة بألف ليلة وليلة فى أعماله المختلفة ، ومن بينها فاوست . ويقول " لى هانت " : " تعد الليالى العربية بالنسبة لنا واحدة من أجمل الكتب فى العالم ، لا لسبب أن المتعة فيها فقط ، ولكن لأن الألم فيها يمتلك فرص تغيّر وتقلّب لا نهاية لها ، ولأن المتعة فى متناول كل من لديه الجسد والروح والخيال " . ويعترف والتر سكوت : " إنى أعرف القليل عن الشرق إذا لم أضع فى الحسبان ذكريات طفولتى عن قصص ألف ليلة وليلة . أما بورخيس فيعزو تأثره بألف ليلة وتوظيفه لحكاياته فى أعماله إلى أنه قرأهامن أولها إلى آخرها " احتشدت بالسحر . كنت مأخوذاً به " . ( 32 ) . أما جابرييل جارثيا ماركيث فهو يجيب عن السؤال : ما أهم الكتب التى قرأها ؟. يقول : ألف ليلة وليلة ، الملك أوديب لسوفلوكليس ، موبى ديك لملفيل . هكذا بالترتيب . ألف ليلة وليلة ـ القول لماركيث ـ هى الكتاب الأول الذى قرأه فى حياته ، وقد أثر ـ فيما بعد ـ تأثيراً مباشراً على كل كتاباته " " أنا بدأت من الأدب العربى ، من ألف ليلة وليلة بالذات . لقد بدأت من هناك ، ولم أنته بعد . ألف ليلة وليلة أول كتاب قرأته فى حياتى . وجدته فى البيت الذى نشأت فيه ، ولا أعرف أية ترجمة كانت تلك ، لكنى أذكر أنها حوت الأحداث فقط دون تعليقات أو قصائد . وقد كانت أحداثها مثيرة لدرجة ربطتنى بالأدب منذ ذلك الحين " ( 33 ) . لقد وقفت مذهولاً أمام تلك القدرة العربية الهائلة على مقاربة الخيال الأوروبى بكثير من الحس الطبيعى المطلق الذى ربما لا يوجد ـ فى تقديرى ـ من يملك أسراره غير العرب ( 34 ) . ويقول اليوغوسلافى رادى يوجوفتش إن " أهمية قصص ألف ليلة وليلة بالنسبة إلى الآداب الفولكورية اليوغوسلافية قد دفعت بعض العلماء اليوغوسلاف إلى أن يوجهوا أنظارهم بدقة علمية إلى إمكان تأثير هذه المجموعة القصصية فى آدابنا الشعبية قبل كل شئ " ( 35 ) . وهو ما توصلت إليه اليوغوسلافية " نيفنا كرستيتش " فى دراسة مطولة لها عن الموتيفات المشتركة فى ألف ليلة وليلة ومجموعة الملاحم والقصص الشعبية اليوغوسلافية : وجود 57 موتيفاً مشتركاً تعكس تأثير القصص العربى على القصص الشعبى اليوغوسلافى . وإذا كانت الموسوعة الإسلامية ترى فى العلاقة بالعجائب إحدى الإضافات المهمة التى قدمتها العبقرية الإسلامية للأدب الكونى فى شكل قصص وحكايات ألف ليلة وليلة ( 36 ) . فلعلى أذكر ـ أخيراً ـ قول شوفان : " من المستحيل إعداد قائمة كاملة بالآداب التى تأثرت قليلاً أو كثيراً بألف ليلة وليلة "
***
من البديهى أن نعيد إلى ألف ليلة وليلة ما تستحقه من مكانة . إنها معلم مهم ومؤثر فى فننا الروائى والقصصى ، فضلاً عن تأثيرها المؤكد فى فن القصة فى العالم جميعاً [ يشير جبرا ابراهيم جبرا إلى أن أسلافنا ـ رحمهم الله ! ـ لم يعدوا ألف ليلة أدباً ـ مجلة " الأديب ـ يناير 1954 ، ويضيف ا . ل . رانيلا أن العرب لم يحتفلوا بألف ليلة وليلة ، باعتبارها نمطاً من الكتابة يشذ عن الكتابة العربية ، وغير جديرة بالاحترام ، لأنها عامية وسوقية ، وليست أدباً بأى حال من الأحوال ، إنما هى خليط من فولكلور الشارع صيغ بلغة سوقية ] ( 37 ) . وحسب اجتهادى الشخصى ، فإن ما سمّى بمحاولات تهذيب ألف ليلة وليلة ، أساء إليها ، أفقدها الكثير من المقومات الفنية والجمالية ، ومن عفوية الفن وبساطته . تحول الكثير من حكاياتها إلى حكايات تعليمية ، وعظية . وقد ظلت الحكايات موضعاً للرقابة والحذف والتبديل ، بدعوى المراعاة الأخلاقية ، وحورت فأصبحت غالبية حكاياتها أدباً للأطفال ـ مع إنها ليست كذلك ! ـ وظلت النظرة إلى النص الأصلى عموماً تنطوى على عدم الاحترام . وكما يرى جمال الدين بن الشيخ ، فإنه حتى فى زمننا الحالى ، فإن نصوص الليالى الألف لا ينظر إليها فى الجامعات العربية على أنها جديرة بالتحليل والدراسة ( 38 ) . بل إن موريس بلانشو يجد فى الليالى الألف ما يخاطب القارئ الأوروبى ابتداء . فهو يتساءل : كيف أمكن لليالى أن تتحدث إلى العرب ؟.. فى باله ـ بالطبع ـ آلاف المحظورات والنواهى ومحاولات وأد التخيل . يضيف بلانشو " إنها تتحدث إلينا " ( 39 )
والحق أن تأكيدى على وجوب احتفائنا بألف ليلة وليلة ، لا يعنى أن نظرتنا إليها قاصرة فى إطلاقها . ثمة من يجدون فيها أثراً أدبياً يستحق الكثير من الدرس والاهتمام . أستاذتنا سهير القلماوى فى رسالتها للدكتوراه عن ألف ليلة ، تذهب إلى أن الكتاب كان حافزاً مهماً لعناية الغرب بالشرق ، عناية تتعدى النواحى الاستعمارية والتجارية والسياسية " بل لسنا نغالى إذا أرجعنا كثيراً من قوة حركة الاستشراق وانتشارها إلى ما ترك هذا الأثر قليلاً ومن بعده كثيراً إلى زيارة هذه البلاد الشرقية " . وأشير إلى أن الروائى ودارس التراث الشعبى فاروق خورشيد يخصص فى مكتبه ـ منذ فترة طويلة ـ جلسة أسبوعية لإعادة قراءة ألف ليلة وليلة ، يحضرها مجموعة ممتازة من الأساتذة والدارسين ، يناقشون الحكايات ، ويحللونها ، ويعرضون لجوانب الإبداع الفنى فيها ، والقراءة الواعية الفاهمة لألف ليلة وليلة فى اجتهاد جبرا إبراهيم جبرا أنها " مزيج غنى من الواقع والرمز ، فهى تصور حضارة عصر معين ، وفى الوقت نفسه تكشف عن النزعات البشرية إطلاقاً ، فالكتاب بجملته بحث عن السعادة ، والكثير مما فيه ضرب من الحوادث الحلمية ، تتحقق فيها الرغبات كما تتحقق فى أحلام اليقظة . ومع ذلك ، فإن ذلك المجهول الذى جمع الحكايات بين دفتى كتاب واحد ، أدرك العلاقة الخفية بين ما هو من خلق الخيال وبين ما هو من مقومات الشخصية ، فجعل من شهريار ـ بعد أن فرغت شهرزاد من أحاديثها إليه ـ ملكاً أحكم وأعدل من ذى قبل ، وبذلك دلل على حقيقة رددها فى الغرب نقاد كثيرون ، وهى أن الأدب ينشط المخيلة ، والمخيلة النشيطة تيسّر على المرء إدراك حالات الغير ، وبالتالى فهمهم وحبهم " ( 40 ) .
***
يقول ليتمان : إن النواة الأصلية لكتاب " ألف ليلة وليلة " مأخوذة عن كتاب قصصى فارسى يعرف بكتاب هزاز أفسانه [ ألف خرافة ] ربما نقل إلى العربية فى القرن الثالث الهجرى ، وإن مادة هذه القصص معظمها من أصل هندى . ويضيف : " على هذا فإن هذه القصص التى أخذت من كتاب هزاز أفسانه هى التى تكونت منها نواة كتاب ألف ليلة وليلة ، ثم تجمعت حول هذه النواة فى أرض عربية ، طبقات مختلفة من الحكايات " . أما الألمانى فالتر فيبكه فيذهب إلى أن " حواديت ألف ليلة وليلة " لم يكن مهبطها فقط بلاد فارس ، إنما هى أساطير جالت وصالت فى دول المشرق العربى والشرق الأقصى " . ويتساءل ماكدونالد : " من هو ذلك الفنان ، أو الفنانون المصريون ـ حدد الرجل الجنسية ! ـ الذين كتبوا قصص معروف وجودر وأبو قير ؟ ومن الذى ابتكر حكايات الأحدب ، وحكاية مزين بغداد ؟ ومن هو الذى كتب قصة علاء الدين بالعربية ؟ . إن هذه الحكايات جميعاً فيها من الواقعية المباشرة الإنسانية ما يرى القراء الغربيون أنه يباين كل المباينة ما فى القصص الفارسى أو الهندى من بعد عن الواقع " ( 41 )
وتخلصاً من مشكلة مؤلف الحكايات : هل هو كاتب واحد أو مجموعة كتاب ، وهل الحكايات ذات أصل فارسى أو هندى عربى أو مصرى .. فقد ذهب العديد من الدارسين إلى أنها ذات أصل فارسى ـ هندى ـ بغدادى ـ مصرى . ربما لأن أحداث الحكايات دارت فى هذه البلدان . لذلك فإنه من الصعب نسبة الحكايات إلى مؤلف واحد ، لكنها جهد مجموعة من المؤلفين ، أضافوا إليها الكثير من الوقائع والأحداث . وبصرف النظر عن الاجتهادات التى تختلففى أصول ألف ليلة : هل هى مقتبسة من الهندية أو الفارسية أو الرومية ، أم هى مؤلف عربى مجهول ، فإن الليالى ـ بالصورة التى تطالع بها قارئها منذ استكملت ملامحها النهائية ـ عربية المكان والزمان والقسمات ، فيما عدا بعض الهوامش التى لا تبدّل من الملامح الأساسية . إن للثقافات العالمية دورها الذى يصعب إغفاله فى رواية الليالى الألف ، ولكن يظل للثقافة العربية دورها الأول والأساس فى " إبداع " ذلك الإنجاز العالمى المهم . وكما يقول الباحث العراقى عبد الغنى الملاح فإن كتاب ألف ليلة وليلة ، بالإضافة إلى كونه نابعاً من مخيلة الشعوب الشرقية بصورة خاصة ، والحضارات العالمية القديمة بصورة عامة ، فإن للعرب الدور الأكبر فى تسجيله ، وإخراجه بشكله النهائى ، وإيصاله إلينا بصيغته الأخيرة ( 42 )
والحق أن ألف ليلة وليلة تحمل ـ بالفعل ـ بصمات هندية وفارسية ويونانية وفرعونية وعربية قديمة ، فضلاً عن المجتمعات العربية التى تخلقت بعد ظهور الإسلام ، وهو ما سمى بالأجزاء البغدادية ، أو المصرية . لكن ألف ليلة تظل أثراً اسلامياً ، ينتصر للدين الإسلامى ، وللشخصيات الإسلامية ، ويحفل بالكثير من قيم الدين الإسلامى : المعتقدات والعادات والتقاليد والأمثال والألغاز ، وانطلاقات المكان فى بلاد ومدن اسلامية ، هى القاهرة والبصرة والبغداد والشام وغيرها ، وشخصيات تحيا فى تلك البلاد والمدن ، فثمة السلطان والوزير وعالم الدين والقاضى والصياد والحمّال والحشاش واللص والجندى والصيرفى والنخاس والجندى والدلاّلة والصانع ، وثمة الأسواق وساحات بيع الرقيق والخانات والمساجد والصحراء إلخ . فضلاً عن الكثير من الأمثال والنوادر وقصص الرحلات المنقولة من كتب العرب . لقد وضعت ألف ليلة ـ للمرة الأولى ـ فى مدينة إسلامية ، ثم انتقلت إلى مدينة اسلامية أخرى ، فجرى فيها تبديل وتحوير وحذف واضافة ، ثم انتقلت إلى مدن إسلامية أخرى ، فى عصور تالية ، وأدخلت عليها حكايات جديدة ، فجاءت الليالى الألف تعبيراً عن الحياة فى امتداد العالم الإسلامى . ويلاحظ قاسم عبده قاسم ان فارس وأجزاء كبيرة من الهند ، كانت ـ ولا تزال ـ ضمن دار الإسلام . وكانت الثقافة العربية هى ثقافة المسلمين فى تلك المناطق ( 43 )
لذلك فإنه من الصعب أن تنسلخ ألف ليلة من صفتها العربية ، أو تنسلخ صفتها العربية منها . " إن ألف ليلة " حكايات عربية ، كانت تلبى حاجة ثقافية اجتماعية لجماهير الناس فى العالم العربى آنذاك ، كما كانت تعبيراً عن جوانب هامة من حياة الفرد العربى فى تلك الفترة " ( 44 ) . ويقول فانس رادولف إن ألف ليلة وليلة " تشكلت وصقلت من خلال المصادفة وطبيعة الانتقال الشفاهى . فقد أضيفت مواد ، إما عن طريق المصادفة ، أو توافق الظروف ، ولكن لكى تعيش الحكاية لابد أن تلقى قبولاً من المستمعين الذين يحفظونها ويصبحون من بعد رواتها . وبهذا يكون الملايين من المستمعين عبر السنين قد ساهموا فى تشكيل الحكايات ، فى حين صقلها الرواة " ( 45 ) [ ثمة قصتان أصليتان من قصص ألف ليلة وليلة كانتا معروفتين من القرن الثانى الهجرى ـ هلال ناجى ـ المورد جـ45 العدد 2 المجلد 2 ]
لقد جمعت ألف ليلة موروثاُ هائلاً من الحكايات والخرافات والحواديت . وقد جاء ذلك إما من العصر الجاهلى ، وما سبق ، وإما من الشعوب التى عرفها العرب ، واحتكوا بها ، مثل فارس والهند واليونان وغيرها . لكن الموهبة العربية ـ والمصرية بخاصة ـ تظل غالبة ، ذلك " لأن الهندى يحكى ويبالغ ويكدس مايرويه ، أما العربى فإنه يرسم ويتأنى ، ولا يستطيع أن ينفصل بنفسه عن حكايته الخرافية " . ويقول حسين فوزى : " أنا واحد من الناس أعتقد أن كتاب ألف ليلة وليلة أدب مصرى فى الكثير من قصصه " ( 46 ) . ويذهب المستشرق " نولد كافه " إلى أن حكايات الصعاليك فى ألف ليلة وليلة فيها عنصر مصرى خالص . بل إن الكاتب الراحل محمد فهمى عبد اللطيف ـ وإسهاماته فى دراسة الأدب الشعبى رائدة ومتفردة وثرية ، وإن تجاهلتها دراسات تالية لأسباب غير مفهومة ! ـ يؤكد أن القاهرة هى موطن ألف ليلة وليلة ، وفيها صنعت قصص هذا الكتاب وصيغت فى سردها القصصى المعروف . ويقول " جالان " فى مقدمة الجزء الأول من ترجمته لألف ليلة ، إن " ألف ليلة وليلة هى الشرق بعاداته وأخلاقه وأديانه وشعوبه من الخاصة إلى العامة ، وانها الصورة الصادقة له ، فمن قرأها فكأنه رحل إلى الشرق ، ورآه ، ولمسه لمس اليد " . ويقول فون ديرلاين : " هذه المجموعة من الحكايات الخرافية ترسم صورة للحياة العربية خلال قرون ستة " ، فهى حكايات عربية إذن .

ـ 3 ـ
استلهم الكثير من أدبائنا ألف ليلة وليلة . أذكّرك بأحلام شهرزاد لطه حسين ، وشهرزاد للحكيم ، وشهرزاد لباكثير ، والقصر المسحور لطه حسين والحكيم ، ورحلات السندباد لخليل حاوى ، وشهريار لعمر النص ، ورحلات السندباد السبع لأحمد هاشم الشريف وغيرها . ومع إن توظيف نجيب محفوظ لليالى الألف لم يظفر بالحفاوة النقدية التى ظفر بها معظم أعمال محفوظ ، فإن الفنان يعتبرها من أفضل ما كتب ( 47 ) . يقول : " ألف ليلة تحولت معى ، فيما يتعلق بالمضمون والاهتمامات ، إلى الحاضر . ويشبه ذلك ما فعله بعض الكتاب حين تناولوا أسطورة أوديب ، وعالجوا عن طريقها المشكلات المعاصرة " ( 48 )
وإذا كانت معظم الإبداعات التى حاولت توظيف ألف ليلة وليلة قد اختارت ـ بداية لأحداثها ـ الليلة الثانية بعد الألف ، فإن روايتى زهرة الصباح تبدأ فى الليلة الأولى بعد الألف ، ثم تمضى أحداث زهرة الصباح فى موازاة أحداث ألف ليلة وليلة . تروى الأولى حكاية زهرة الصباح وسعد الداخلى ، مثلما تروى الثانية حكاية شهرزاد وشهريار ..
رواية زهرة الصباح محاولة لتوظيف تراث ألف ليلة وليلة فى عمل معاصر ، وإن ظلت ليالى ألف ليلة إطاراً له . زهرة الصباح ابنة أحد الوزراء المقربين من شهريار ، اختيرت لتكون التالية بعد شهرزاد ، تنتظر دورها ، إما أن يمل شهريار الحكى ، أو تخفق شهرزاد . وتسعى زهرة الصباح بواسطة أبيها إلى الإفادة من كل مايقرأه ويستمع اليه من الحكايات والحواديت والأساطير والسير الشعبية المصرية ، تحفظها حتى تبقى على حياتها لو حل عليها الدور . وأثناء ذلك أيضاً ينبض قلب زهرة الصباح بحب سعد الداخلى الملوانى ، الشاب المقيم فى البيت المقابل . ويرضخ الأب لإرادة ابنته بالزواج من الشاب ، ويتم زواجهما فى السر ، ويحيا الشاب فى قصر أبيها باعتباره خادماً ، وتظل زهرة الصباح تنهل مما ينقله أبوها ، مما يقرأه ويسمعه ، فى الوقت الذى تنشط فيه حركات التذمر ضد شهريار ، مقابلاً لإصراره على قتل بنات الناس . ويواجه شهريار ـ فى النهاية ـ بغضبة الناس المعلنة ، كما يفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت منه ثلاثة أبناء . وهو ماحدث فى ألف ليلة وليلة بالفعل . ويعود شهريار عن غيه ، ويعفو عن شهرزاد ممثلة لكل النساء ، والسؤال يشغل الجميع : هل جرى ما جرى خوفاً من غضبة الناس ، أو أن الكلمة قد أثرت فيه من خلال حكايات الليالى الألف ، فتبدلت أحواله . أما زهرة الصباح فإنها تكون قد عاشت الخوف وتجاوزته . وبينما كان شهريار يعفو عن شهرزاد ، ويعترف بأبنائه الثلاثة ، تكون هى حاملاً من زوجها سعد الداخلى
***
كانت دنيا زاد هى الفتاة التالية لشهرزاد فى ألف ليلة . أما زهرة الصباح فقد كانت الفتاة هى التالية لشهرزاد فى روايتى . ليس ثمة دنيا زاد فى الرواية ، وهذا ـ كما تعرف ـ حق الفنان . الفن اختيار ومخيّلة . وقد حاول كل من والد شهرزاد ووالد زهرة الصباح أن يمنع التضحية بابنته ، أو يرجئ ـ فى الأقل ـ وصولها إلى بقعة الدم ، ولكن الوسائل اختلفت ، فقد حاول الوزير أن يثبّط عزيمة ابنته فلا توافق على الذهاب إلى قصر الملك . وهى ـ كما ترى ـ كانت محاولة يائسة ، وإن يفسّرها أنها صادرة من أب يخشى على حياة ابنته . أما عبد النبى المتبولى فقد لجأ إلى المتاح ، وهو أن تحفظ زهرة الصباح الكثير الكثير من الحكايات لتواصل الحكى ، فتطيل حياتها إن سيقت شهرزاد إلى بقعة الدم ، فى الليلة التى لا تجد فيه ما ترويه ، أو يشعر شهريار بالملل . وفى الليالى الألف تتداخل الحكايات : شهرزاد هى الراوية لحكايات متوالية ، ننسى بعضها ، ونتذكر بعضها . أما رواية زهرة الصباح فهى تروى لنا حكاية واحدة ، هى التى تهمنا ، وليست الحكايات التى ترافق أيامها ، سواء نسبت إلى شهرزاد ، أو إلى قضايا الناس ، أو سير الرواة [ بالنسبة للشكل ، فإنى أتأمل ملاحظة صديقى أحمد درويش ، وأوافق عليها ، بامتزاج الحاكى والراوى فى " زهرة الصباح " ، وباستفادة التقنيات الحديثة من الموروث القديم ـ تقنيات الفن القصصى عبر الحاكى والراوى ص 258 ]
***
ثمة وصف لشهرزاد بأنها " فتاة فدائية ، لأنها تعرضت لسيف شهريار الذى فتك ببنات المدينة ، أرادت أن تغويهن ، فوضعت نفسها أمام النطع والسيف ، متحدية بعزيمة صادقة وقلب شجاع " ( 49 ) . أما توفيق الحكيم فيجد فى شهرزاد استمراراً لإيزيس . بعثت زوجها شهريار بعد موت نفسه ، وأعادت الحياة إلى انسانيته ، تعلم من أحاديثها وقصصها ، وعادت إليه نفسه ( 50 ) . ولعل ذلك بعض ماعبرت عنه زهرة الصباح ، لكنه لم يكن كل ما حملته .
ألحت حكايات شهرزاد على طبيعة النساء المنحرفة ، اتساقاً مع الثقافة العربية التى يرى جمال الدين بن شيخ انها تحمل مسئولية التعاسة للمرأة ( 51 ) . أما حكايات زهرة الصباح ، فقد قدمت المرأة فى صورة مغايرة ، همها البيت والأسرة والحياة التى تخلو من المعايب ، ومن الخوف ..
إن زهرة الصباح تحيا فى الرواية . تسأل ، وتجيب ، وتنظر من الشرفة ، وتخرج إلى السوق ، وإلى الحمام ، وتحب ، وتتزوج . وشهرزاد فى روايتى لها كذلك ملامحها الواضحة التى يتعرف القارئ اليها ، بعكس شهرزاد فى الليالى ، فإنها مجرد صوت يروى . حتى تنتهى الليلة الواحدة بعد الألف ، وان تخفَّت شهرزاد وراء الأقنعة التى كانت ترتديها فى كل ليلة لنماذج النساء اللائى كانت تقدمهن فى كل ليلة ( 52 )
أفادت شهرزاد من الحكايات التى جمعتها من الكتب ، وهى كتب فى التاريخ والشعر والطب وأقوال الحكماء والملوك ، أفادت من الذاكرة المكتوبة . أما زهرة الصباح فقد تنوعت عناصر الإفادة ـ والفضل لأبيها عبد النبى المتبولى ـ فبالإضافة إلى حكايات شهرزاد لشهريار ، والتى كانت تنقلها له القهرمانة نجوى لينقلها إلى زهرة الصباح ، فإنه نقل حكايات الرواية فى الأسواق والطريف من القضايا التى عرضت عليه ..
جعل عبد النبى المتبولى نفسه فى موضع ابنته زهرة الصباح ، فأدرك أن الراوى الماهر ـ ترقباً لما سيحدث ، أو قد يحدث ـ " من يعرف أكبر عدد ممكن من الحكايات ، ويعرف كيف يرويها . الراوى الماهر كذلك هو الذى يعرف من أين يتزود بالحكايات ، ويعرف بالتالى من يقصده فى حالة الخصاصة بغية الحصول على حكايات جديدة " ( 53 ) . وكما يقول رولان بارت فإن " حكايات العالم لا حصر لها . تلك حقيقة أولى مدهشة حول جنس الحكاية ذاته ، الذى يتفرق فى كيانات مختلفة ، كما لو أن كل مادة فى الكون صالحة لأن يودع الإنسان فيها حكاياته . فالحكاية يمكن أن تحملها اللغة المحدودة ، شفوية أو كتابية ، أو تحمله الإشارة ، أو يحملها الخليط الممزوج من كل هذه الكيانات ( 54 )
***
شفى شهريار من مرض الحقد والرغبة فى الانتقام ، وشفى المتبولى من أمراض كثيرة كانت هى التى تسيّر حياته ، وتملى عليه أقواله وتصرفاته . وكانت الحكايات ، الكلمات ، هى الدواء الناجع لكلا الرجلين . وتبين أهمية الكلمة فى حياة كل من شهرزاد وشهريار ، عندما روت الحكاية عن الملك الذى أراد أن يضاجع جارية وزيره ، فقالت له الجارية : هذا الأمر لا يفوتنا ، ولكن صبراً أيها الملك ، وأقم عندى هذا اليوم كله ، حتى أصنع لك شيئاً تأكله . وأتت الجارية للملك بكتاب نبضه المواعظ والحكم التى تنهى عن الزنا ، وتكسر الهمة عن ارتكاب المعاصى . لذلك كان حرص شهريار على الكتاب ، فهو يعنى بالكتب ، ويسرف فى اقتنائها واقتناء المخطوطات ، ويمضى نهاره فى المكتبة ، يختلى بنفسه ، يطلب دواة وأوراقاً ، وينشغل فى الكتابة والتأليف فى نظم الشعر والزجل والموشحات والبلاليق وتدوين الحوادث . وصار يعقد الكثير من جلساته فى قاعة المكتبة ، بعد إعادة تأثيثها ، يجالسه العلماء والأدباء والشعراء ، يطرحون الموضوعات كيفما اتفق ، ينصت كثيراً ، ولا يتكلم إلاّ قليلاً ، يزيل الرهبة من نفوس المحيطين بتواضع ظاهر ، يبين عن حبه للعلم والعلماء فى هداياه الوفيرة وخلعه وعطاياه . ورجا شهرزاد أن تعيد رواية حكاياتها على النساخين ، ينقلونها وهم جلوس وراء ستار ، ويكتبونها بماء الذهب ، فتحفظ فى خزائن الدولة ..
إن معجزة الإسلام هى القرآن الكريم . لكل نبى معجزاته التى أقنعت المؤمنين به أنه نبى من الله . أما رسول الإسلام ( ص ) فقد كان القرآن الكريم هو المعجزة التى تحدت من يستطيع أن يأتى بمثلها . والقرآن الكريم قوامه الكلمة ، ففى الكلمة إذن تكمن هذه المعجزة السماوية الخالدة ، وفى الكلمة أيضاً تكمن رسالات وأفكار ومبادئ وحكم وعبر وعظات " قل لئن اجتمعت الإنس والجن على أن يأتوا بمثل هذا القرآن لا يأتون بمثله ولو كان بعضهم لبعض ظهيراً " ..
لم تكن شهرزاد قد ضمنت حياتها بما ترويه من حكايات ، لكنها كانت تحاول ـ بتلك الحكايات ـ أن تضيف إلى كل يوم فى حياتها يوماً جديداً ، ولعلها كانت تثق فى داخلها أنها ستموت ، وأن كل ما كانت تحاوله هو تأجيل اللحظة الحتمية . وقد فقدت شهرزاد فى الليلة الأولى بعد الألف قدرتها على الحكى ، أو الرغبة فيه ، أو لأنها لم تعتد تحتمل أن تعيش يوماً بيوم ، وترغب فى أن تتعرف على مصيرها نهائياً ، وخلال ليلة تكون هى الليلة الحاسمة ( 56 ) . وإذا كانت الطبعة التى قال فيها شهريار لشهرزاد فى الليلة الحادية بعد الألف : كفى ، بمعنى أن حكاية تلك الليلة أحدثت ما كانت شهرزاد تحاول إلغاءه ، وتتوقعه فى الوقت نفسه ، وهو تسرب الملل إلى نفس شهريار .. إذا كانت تلك الطبعة هى الصحيحة ، فإن زهرة الصباح كانت ستحل بدلاً من شهرزاد ، لولا أنه عفا عن شهرزاد لأنها كانت قد أنجبت أطفالها الذكور الثلاثة .
كان الهدف من حكاية القصص فى ألف ليلة وليلة ـ كما يقول يوسف الشارونى ـ هو التغلب على الوقت والزمن . وقد أتاحت الحكايات / الكلمات لشهرزاد أن تطيل حياتها بالفعل ، حتى كسبتها فى النهاية ، نتيجة لانشغال شهريار بالاستماع إلى الحكايات والاستمتاع بها . أما الهدف من حكاية القصص فى زهرة الصباح فهو تأجيل الموت . لقد تغلب الإنسان على الخوف ، وتغلبت الحياة على الموت . أتذكر قول رامان سلدن : " إن بقاء الراوى ـ شهرزاد ـ فى ألف ليلة كان يعتمد على الانتباه المستمر للمروى عليه ـ شهريار ـ ذلك لأنه كان سيقتلها إذا فقد اهتمامه بما ترويه ( 57 )
أفلحت شهرزاد فى تخليص شهريار من جنونه ، بروايتها لحكايات ذات قوة علاجية لا جدال فيها ، بحيث وضعته فى حالة تنبّه طيلة ثلاث سنوات تقريباً حتى تمكنت من شفاء حقده وضغينته ، وتمكنت بالتالى من إنقاذ البشرية ( 58 ) . أما زهرة الصباح فقد أعطت المعنى للحياة فى ظل الخوف . تأجل ـ بحكايات شهرزاد ـ ما كان ينتظر زهرة الصباح من مصير ، لكن الحكايات ـ فى الحقيقة ـ لم تستطع أن تزيل الخوف الذى ظل فى نفس زهرة الصباح حتى أعلن شهريار عفوه عن شهرزاد ..
واللافت أننا نفاجأ بأن شهرزاد قد أنجبت من شهريار أبناءها الثلاثة . أما زهرة الصباح ، فنحن نتابع تطورات حياتها منذ أحبت وتزوجت ، واستعدت للإنجاب ..
***
أما شخصيات ألف ليلة وليلة بعامة ، فهى تختلف ـ فى مجموعها ـ عن شخصيات التاريخ العربى المكتوب . إنها شخصيات تنتسب إلى الناس العاديين ، هؤلاء الذين نلتقى بهم فى البيوت والأسواق والشوارع والوكايل والخانات . من يشقيهم البحث عن قوت أيامهم . ثمة الشيالون والإسكافية والصيادون والحلاقون والمزارعون الصغار والحرافيش والذين بلا مهنة . إنهم التعبير عن التاريخ الحقيقى للفترات التى عاشوا فيها ، وليس الخلفاء والسلاطين والملوك والأمراء والوزراء والولاة والقضاة والمحتسبين إلخ ..
إن الناس العاديين هم الأبطال الحقيقيون لرواية زهرة الصباح " ، وكانوا ـ من قبل ـ الأبطال الحقيقيين لروايات الأسوار وإمام آخر الزمان ومن أوراق أبى الطيب المتنبى وقلعة الجبل ، تخفت ـ أمام جهارة أصواتهم ـ أصوات المقيمين فى القصور .
الكاتب العربى أغسطس 1999 ـ فكر وإبداع مارس 2000
ــــــــــ
الهوامش :
1 ـ ت . عاصم إسماعيل ـ آفاق عربية مارس 1985
2 ـ الهوية والتراث ص 103
3 ـ العربى مارس 1975
4 ـ ثقافتنا فى مواجهة العصر ص 54
5 ـ الأهرام 3/3/1994
6 ـ زكى نجيب محمود : تجديد الفكر العربى ص 6
7 ـ المجلة 2/3/1988
8 ـ فؤاد حسنين على : قصصنا الشعبى ص 65
9 ـ رفعت سلام : بحثاً عن التراث العربى ص 20
10 ـ صبرى العسكرى ـ الأهرام 29/5/1988
11 ـ ميلان كونديرا : الطفل المنبوذ ـ ت . رانيا خلاف ص 400
12 ـ البلاغ اليومى 12 يناير 1932
13 ـ مجلة " الأديب " فبراير 1950
14 ـ قصصنا الشعبى ص 31
15 ـ الأعمال الكاملة لشوقى عبد الحكيم ـ جـ 2 ص 65
16 ـ المتواليات ص 72
17 ـ ألان روب جرييه : لقطات ـ ت . عبد الحميد إبراهيم ص 65
18 ـ سامية محرز : روايات عربية ، قراءة مقارنة ص 65
19 ـ أ . ل . رانيلا : الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 258
20 ـ تجديد الفكر العربى ـ ص 292
21 ـ المرجع السابق ص 292
22 ـ الرأى الأردنية 22/3/1983
23 ـ الأهرام 29/5/1988
24 ـ عبد الرحمن مجيد الربيعى : الخروج من بيت الطاعة ص 105
25 ـ روايات عربية ص 17
26 ـ لعل ألف ليلة وليلة أكثر الكتابات الأدبية الشعبية ذيوعاً ، منذ نشر أنطوان جالان Galland ترجمته لها عام 1704 . كما ترجمت حى بن يقظان إلى الإنجليزية أثناء القرنين السابع عشر والثامن عشر ، ثم ظهرت إحدى عشرة طبعة بلغات مختلفة بين عامى 1671 : 1783
27 ـ الشيراوى ـ مقدمة الطبعة الفارسية
28 ـ هوم وشيكل ـ الطبعة الكاثوليكية عن النسخة الإنجليزية
29 ـ المصدر السابق
30 ـ المسعودى : مروج الذهب جـ 4 ص 90
31 ـ العربى مايو 1984
32 ـ حوار مع بورخيس ـ الثقافة الأجنبية 2/1984
33 ـ الوطن العربى العدد 277
34 ـ المرجع السابق
35 ـ آفاق عربية مارس 1985
36 ـ الموسوعة الإسلامية طـ 2 جـ 1 ص 209 : 210
37 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 302
38 ـ جمال الدين بن الشيخ : ألف ليلة وليلة ، أو القول الأسير ـ ت . محمد برادة ـ المجلس الأعلى للثقافة ص 28
39 ـ المرجع السابق ص 20
40 ـ مجلة " الأديب " يناير 1954
41 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 94
42 ـ رحلة فى ألف ليلة وليلة ص 8
43 ـ قاسم عبده قاسم : الرؤية الشعبية للحروب الصليبية ـ المأثورات الشعبية إبريل 1987
44 ـ المرجع السابق
45 ـ الماضى المشترك بين العرب والغرب ص 315
46 ـ سندباد مصرى ص 269
47 ـ الأهرام 20/10/1988
48 ـ الرأى الأردنية 22/3/1982
49 ـ الدوحة نوفمبر 1985
50 ـ تحت المصباح الأخضر ص 131
51 ـ ألف ليلة وليلة أو القول الأسير ص 34
52 ـ نبيلة إبراهيم : المرأة ذات الألف وجه فى ألف ليلة وليلة ـ أدب ونقد مايو 1966
53 ـ عبد الفتاح كيليطو : العين والإبرة ـ ت . مصطفى النحال ص 32
54 ـ تقنيات الفن القصصى بين الراوى والحاكى ص 21
55 ـ الإسراء ـ 88
56 ـ العين والإبرة ص 31
57 ـ رامان سلدن : النظرية الأدبية المعاصرة ـ ت جابر عصفور ص 204
58 ـ العين والإبرة ص 16
 
أعلى