دراسة عدنان حسين أحمد - النَص المُزدوج

أثار إعدام الروائي حسن مطلك نقمة الوسط الثقافي العراقي، ففضلاً عن أهميته كإنسان يحق له أن يعيش حياته الخاصة كما يشاء، فهو فنان تشكيلي، وخطّاط، وقاص، وروائي، وكاتب مسرحي ينتمي إلى كتّاب القصة والرواية الطليعيين في العراق، بل أن روايته الأولى (دابادا) التي أثارت جدلاً واسعاً في المشهد الثقافي العراقي قد رفضتها دور النشر العراقية كلها ومن دون استثناء بسبب ”فنيّتها العالية“، وقد أعرب الناقد د.عبد الله إبراهيم عن دهشته لمثل هذه التبريرات غير المنطقية في تأخير نشر الرواية حيث قال:”إذ أُتهِمتْ.. ويا للعجب؛ بأنها رواية طليعية، لم يحِنْ أوان نشرها بعد. ولا بد من الانتظار سنوات كيما تتوافر إمكانات قرائية لدى القرّاء لتقبّل عالمها الجديد، وطرائقها السردية المبتكرة."(8). ومع ذلك فقد نشرتها ”الدار العربية للموسوعات“ في بيروت عام 1988، وكتب عنها العديد من النقاد العراقيين والعرب، كما أعادت نشرها ”الهيئة المصرية العامة للكتاب“ في القاهرة عام 2001 تحت محور ”كتابات جديدة“ لتشير إلى أهميتها ودورانها في فلك الرواية المختلفة والمغايرة لما هو سائد من الأنماط السردية. وتأكيداً على قوة الابتكار في هذا النص الروائي سنقتبس الفقرة الآتية من المقال ذاته للدكتور عبد الله إبراهيم حيث يقول:”لا تعتمد هذه الرواية.. على التفسير ووصف سلوك الشخصيات، والعناية بالاستهلال والذروة والحل، ولا تُعنى ببناء حكايتها، ولا بمحاولة إقناع الآخرين بصدقها أو عدمه، إذ تعد ذلك جزءاً من الموروث الذي لا بد من الانطلاق منه إلى ما هو جديد.. إلى ما هو مبتكر.“(9)
لا شك في أن رواية " دابادا " هي نص متعالٍ، لا يعتمد على بنية حكائية رصينة، بقدر اعتماده على لغة متوهجة تحاول الوصول إلى فضاء ما بعد اللغة، أو قول ما لم تقله اللغة نفسها من خلال هيمنة الرؤية على سياق النص الغائب الذي يستمد قوته من اللغة المضيئة أو اللغة الصوتية ذات الإيقاعات المميزة في آنٍ واحد، والتي لا تحيل إلى المعنى حسب، وإنما تنشُد استدراج المتلقي إلى فضاء مليء بالمفاجآت المدهشة. لنقرأ ما قاله القاص محمود جنداري عن رواية "دابادا" وتفرّد مبدعها في تجاوز الأنماط الكتابية السائدة آنذاك حيث قال:" إن حسن مطلك يقترح علينا الكتابة خارج شروط الرواية، أو خارج شروط الفن المتوارثة وبذلك يقطع الطريق على المخيلة وخداعها، ولا يعطيها إلا أقل جسامة في العمل الروائي، وبذلك يطمئننا إلى أنها ليست خدعة، إنما هي غير ذلك.". لقد اختار حسن مطلك خلال العقد الثالث والأخير من حياته أصعب المسالك وأوعرها في كتابة نصه الإبداعي المخاتل، والقائم على "غياب النص" بحسب توصيف الناقد د.باسل الشيخلي، والذي يعتمد على "تصديع البنية الحكائية" كما يذهب د.عبد الله إبراهيم، أو استثماره للموروث الشعبي والأسطوري كما يؤكد القاص عبد عون الروضان، إضافة إلى سلسلة طويلة من الأساليب والتقنيات التي تفنن بها حسن مطلك خلال السنوات الخمس التي كرسها لهذا النص الروائي المُؤلف من "220" صفحة من القطع المتوسط.

الأسلوب المخاتل
لا أنوي هنا الخوض في التفاصيل الدقيقة لشكل الرواية ومضمونها، ولكنني سأتوقف عند تقنيات الأسلوب المخاتل الذي يراوغ رقيب السلطة، ويتحايل عليه من أجل الوصول إلى القارئ. كان حسن مطلك كاتباً جريئاً، وقد قطع على نفسه عهداً بأن يتحدى السلطة القمعية ويقارعها، ولكن بطريقته الخاصة التي تعتمد على الأسلوب غير المباشر. وعلى القارئ أن يتأنى كثيراً في أثناء قراءته لأي نص من نصوصه كي يمسك بالدلالات المُرَّحّلة التي يبتغيها الكاتب، ويريد من القارئ أن يلامسها، ويصل إليها، حتى ولو في القراءة الثالثة للنص.جاءت الإشارة إلى شجاعة حسن مطلك من قبل الروائي جبرا إبراهيم جبرا الذي عاش في العراق نحو خمسة عقود، حيث قال:" إنها رواية غير عادية، فهي جديدة، وكاتبها شاب جريء."(10) لم يُتح هامش الحرية الضيّق جداً للنقاد العراقيين الفرصة لقول الأشياء "اللامقولة أو المحجوبة بفعل الخوف والترهيب السلطوي" وحتى جبرا إبراهيم جبرا، الكاتب العربي الذي كانت له حظوة لدى رموز النظام السابق، اكتفى بالإشارة إلى جرأة حسن مطلك من دون تسليط الضوء على مواطن الجرأة في النص الروائي المخاتل الذي يحتاج إلى قراءة تفكيكية تحلّل النص، وتعيد صياغته من جديد، خصوصاً وأن هذه الرواية كما يعتقد عبد الرحمن مجيد الربيعي بأنها "رواية مختلفة، لا يمكن أن تذكِّرنا بأي عملٍ روائي آخر، ولم تتعكز على إنجاز روائي سابق.. إنها رواية وحيدة ومكتفية بما حملت."اعتمد حسن مطلك في كتابة هذه الرواية على أسلوب" الواقعية المُطلَقة "وكما هو معروف فإن الكاتب الذي يتبنى هذا الأسلوب يحاول أن يحشّد أغلب الفنون القولية وغير القولية في نصه الروائي بعد أن يحطّم الحواجز التي تفصل بين هذه الأجناس الإبداعية، ويذوّبها إلى الدرجة التي يصعب فيها الفصل بين جنس إبداعي وآخر.

الكتابة المقنّعة
كما أفاد حسن مطلك في هذه الرواية، وفي روايته الثانية (قوّة الضحك في أورا) التي صدرت بعد إعدامه بثلاث عشرة سنة، من بنية "النص المزدوج"، والدلالات المقنّعة، والتقنيات السينمائية لعل أبرزها اللعبة المونتاجية التي تأتي في أهميتها بعد "عين الكاميرا" والسيناريو، وما إلى ذلك من معطيات سينمائية. وقد ذهب بعض النقاد إلى الاعتقاد بأن لغة حسن مطلك هي السر الأكبر الذي يكمن وراء نجاح هذا النص الروائي المغاير فقد أكد الناقد د.باسل الشيخلي بأن "هذه الرواية تتجاوز حدود الواقعية لتدخل في إشكالية أكبر وأوسع من نمطية الكتابة المقنّعة... وإن لغة دابادا هي سر قوتها"(11) وعلى رغم من قناعتي التامة بأن اللغة المشعّة التي استعملها حسن مطلك هي عنصر مهم من عناصر البنية الروائية، إضافة إلى كل التقنيات الأخرى التي وظّفها في نصه الروائي إلا أنني أجد نفسي مضطراً هنا للتوقف عند اللغة المقنّعة، والنص المزدوج، أو المخاتل الذي يشير بوضوح تام إلى ترحيل الدلالة من المعنى المباشر إلى المعنى المجازي الذي يقصده كاتب النص ومبدعه بوصفه شخصاً ناقماً على السلطة، ومؤلّباً عليها. ففي رواية "دابادا" ثمة إحالة واضحة إلى السلطة القمعية التي رمز إليها من خلال الحمار " قندّس" فشاهين حاول قتل "قندس" الذي هو رأس السلطة "قفز ملتقطاً مديته، والمدية في يده، هاجر في الرأس، الحمار المدهون بزيت الخروع على بعد ذراع وطعنة.. طعنة.. طعنة"( دابادا ص،195 ) غير أنه كان يمسك مُديته بالمقلوب، فيطعن يده "ويهجم الألم لحظة رؤية الدم." (دابادا،ص195). لقد أصاب شاهين نفسه، وأن الدّم الذي يراه قد تفجّر من باطن يده، وليس من الحمار قندس. "أعرف بأني لم أقتله لأني اكتشفت فيما بعد... استعملت المدية بشكل معكوس لأن كفي ظل يؤلمني والدم هو دمي أنا لا دم الحمار"( دابادا ص210). لقد تنبأ حسن مطلك بموته المبكر، وهذا جزء من آلية الإنزياح المجازي للسارد والراوي العليم إلى شخصية حسن مطلك المقنّعة حين قال في روايته:" أنه يعي وقائع موته كمن ينفذ خطة طويلة بذل في إعدادها زمناً يمتد من آشور بانيبال حتى القيامة"(دابادا،ص52) وذهب شقيقه د.محسن الرملي إلى تأكيد نبوءة حسن الذي أدرك بأنه سوف يموت في الثلاثين من عمره حينما قال في نصه الروائي الأول:" سأموت في الثلاثين أو أتعرض لأزمة."(دابادا،ص107) ويفسّر محسن الرملي هذه الأزمة بمحنة التعذيب التي تعرّض لها شقيقه حسن مطلك طوال الأشهر الستة قبل أن يُنفّذ به حكم الإعدام شنقاً حتى الموت. وقد استشهد حسن فعلاً قبل أن يكمل الثلاثين من عمره، ولم يمت الحمار قندس لا الفعلي، ولا المجازي الذي رُحلِّت إليه الدلالة، بل أن الكارثة قد حلّت بكل الشخصيات الوطنية التي اشتركت في التخطيط لمحاولة الاغتيال، وقلب نظام الحكم الاستبدادي في العراق. وفي رواية "دابادا" ما يؤكد هذه النبوءة أيضاً حيث نقرأ:"تسلل المساء الحزين إلى بقعة هاجر التي لا تعرف ماذا تقول.. فكانت تقوم لتكنس جثث العصافير الساقطة على العتبة"(دابادا، ص205) تمتد اللغة المقنّعة في النص المراوغ الثاني أيضاً (قوة الضحك في أورا) حيث لا يمكن قراءة هذا النص قراءة واقعية من دون ترحيل دلالاته إلى القراءة المجازية، التي تمر عبر "الواقعية المُطلقة أو الكلّية". ولا يمكن البتة أخذ شخصية المستر أوليفر على أنه مجرد منقِّب أثري من دون ربطه بالسلطة سواء أكانت خارجية قادمة من الغرب الإستعماري، أم داخلية متواطئة مع الآخر الإمبريالي، ولا يمكن التعاطي مع شخصية ديّام بوصفه مواطناً عابراً لأنه يشكّل جزءاً حيوياً من الذاكرة الشعبية للناس. وقد اضطر في نهاية النص الروائي إلى المراوغة والكذب من أجل إنقاذ الكنز الذي يضم المكتبة الآشورية المطمورة في باطن الأرض. اعتمد حسن مطلك على اللغة المقنّعة، والنص المخاتل من أجل تمرير ثيماته وأفكاره لعقد من السنوات بسبب طبيعة العلاقة الإشكالية بين المثقف العراقي والسلطة الشوفينية، وحينما سنحت له أول فرصة لمنازلة الدكتاتورية، ترك القلم المُصادَر جانباً وقرر حمل السلاح لأنه كان موقناً بأن صرح الدكتاتورية لا يقوّضه إلا رصاص الثائرين.
---------------------------------------------------------------------
*جل الإحالات المشار إليها بالأرقام يمكن النظر إليها في العدد 11 من مجلة (ألـواح) سنة 2001م مدريد.


ــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــــ
*نشر هذا المقال في صحيفة (الصباح الجديد) بتاريخ 19/7/2006م بغداد.
**عدنان حسين أحمد: كاتب وناقد عراقي يقيم في هولندا.


عدنان حسين أحمد
 
أعلى