قصة قصيرة ألموج بيهار Almog Behar - أنا من اليهود.. ت من العبرية: مـحـمـد عـبـود

(١)
في تلك الْفَتْرَة انْقَلَبَ لِساني، وبِحُلُول شَهْر تَمُّوز الْتَصَقَ بسَقْف حَلْقي، ثُمَّ بدأ يُتزحلق بَعِيدًا على صَفْحة الحَلْق حتى وَصَلَ إلى النُطْق العربي. وبَيْنَمَا كُنْتُ أسير في الشارِع، عادَ إليَّ النُطْق العربي الذي كان يَتلفظُ بِهِ جَدِّي أَنْوَر رحمة الله عليه، وكَمْ حاوَلْتُ أن انتزعه مِن داخِلي، وألقي بِهِ في واحِدة من سِلال القُمامة العامَّة لكن دُونَ جَدْوَى. حاوَلْتُ مخلصًا أن أَنْطَق حَرْف العين، هَمْزة خَفِيفة مِثْل قول أُمي، الَتي فَعَلَتْ ذلك، في صِباها، تفاديًا لِغَضَب المُدَرِّسِينَ ونَظَرات التَلامِيذ الساخِرة، لكن الغُرَباء الَذِينَ يَمُرُونَ في الطَرِيق ثبّتُونِي في مَكانِي، حاوَلْتُ أن أخفّف حَرْف الحاء، وأَنْطَقَهُ خاء، حاوَلْتُ أن أَتَصَنَعُ مَسافة بَيْنَ الصادِ والسّين، جَرَّبْتُ الهُرُوب من هذه القاف العِراقِيَة. لكن لَمْ تَنْجَح مُحاوَلاتِي. وَبَدَأَ رِجال الشُرْطة يكسو الحَزْم مَلامِحهم، يَمُرُونَ أَمامي في شَوارِع أورشليم، أَشارُوا إلَيّ، وإلى لِحْيَتِي السَوْداء بِأَصابِع مُتَوَعَدة، تَهامَسُوا فِيمَا بَيْنَهُم داخِل الدَوْرِيَّة، وَبَدَءُوا في إِلْقاء القَبْض علي، وسؤالي عن اسمي، وهُوِيَّتِي. أَمَّا أنا فَكُنْتُ أَرِيدُ أن اسْتَوْقَفَ كل شُرْطِيِّ يَمُرُّ أَمامي، وأُشْهِرُ في وَجْهِهِ بِطاقة الهُوِيَّة، مُشِيرًا إلى خانة القَوْمِيَّة، لاقُولَ لَهُمْ، وَكَأَنَنِي أَبُوحُ بِسِرّ سَيُنْقِذُنِي من ذَنْب عظيم: "أنا من اليهود، أنا من اليهود".

لكن بطاقة الهُوِيَّة اخْتَفَتْ فُجْأَة، اختفت في اللَحْظة الَتي كُنْتُ في أَمَسّ الحاجة إِلَيْها. فبدأ رجال الشرطة يَعْتَقَلُونني صَباحًا وَمَساءً، ولا يُوجِدُ في مِحْفَظَتي شَهادة واحِدة ترضى الدِفاع عَنِي. في البيت، كُنْتُ أجد بطاقة الهوية مطوية بين وَصْلَيْنِ، وأنظر إلى جَيْبي، لأكتشف أن رُخْصة القِيادة تطلّ من المِحْفَظة وَكَأَنَنِي كنت على وُشْك إِخْراجها لأَمْر ما، وفي الحَقِيبة التي أحملها على ظَهْري وَجَدَت شَهادة خِدْمة الاحْتِياط مُخْتَبِئة بين كَوْمة من الوَثائِق، وكأنني نَسِيتُها هُناكَ دون قَصْد. لكن عندما تسمّر رجال الشرطة أمامي، لَمْ أعثُر على شهادة أو وَرَقة واحِدة تروي لَهُمْ عن مَاضِيِيَّ ومُسْتَقْبَلِي، حينها كنت أشرع في اسْتِخْدام الهاتِف؛ أَقُولُ لِلْشُرْطِيّ، اسْمَعْ، أَمْسِ فَقَطْ تَبدَّلتْ لكْنَتي وصارَت أَشْبَهُ بِاللغة العربيّة، أصْبَحَ لِساني ثَقِيلا، لكِنَها ليست لكْنة فلسطينية، إنها عراقية، وانت ايضا، لا تبدو لي انك تعلمت "الاِيدِش" في بيتك، انما من احدى الاماكن الخارجبة، وعُمُومًا رُبَّمَا كَانَ جَدَّكَ يَتحدثُ بلكْنة مُشابَهة للكنتي، اسمع، سَأَتَّصِلُ حالا بِأَصْدِقائِي، وَسَتسمع بِنَفْسك طَرِيقة نُطْقهم الرائِعة، أنهم يَتَحَدَثُونَ العِبْرِية كَما يَجِبُ أن تكون، بِدُونَ أَيّ لكْنة، وَإِذا كانُوا هؤُلاء هم أصدقائي فَلَكَ أن تَتَخَيَّلُ مَنْ أَكُونُ.

لكن أصدقائي الاَشْكِنازيم – اليهود من أصل أوروبّي – لم يَجيبونني، لَمْ يَسْتَجِيبُوا لِجَرَس تِلِيفُوني المُتوسل، كَانُوا يعاودون الاتصال بي في المَساء، أَوْ صَباح اليَوْم التَّالي، يسألُونني ماذا كُنْتَ تُرِيدُ، وَيَرْفُضُونَ تَمْيِيز نَبْرة صَوْتي. وظَلَلْتُ أنا واقفا أَمامَ رِجال الشُرْطة بِمُفردي، فَشَرَعْتُ أتصل بأصدقائي التونسيين والحلبيين والطرابلسيين، وأُرَدِدُ رُبَّمَا لا يَنْطِقُ هؤلاء العِبْرِية الأَنْقَى، ليست العبرية كما يَجِبُ أن تَكُون، لكنها على كل حال أَفْضَل من العبرية الَتي أَنْطِقُها الآن. والحَق، أنهم كانوا يجيبونني فَوْرًا، لَم يَتَلَكَئُوا في الاسْتِجابة لِجرس تليفوني، لكن المُفَاجَأَة أن لَهْجَتهم جاءَت عربية ثَقِيلة جِدًا، كَمَا أنهم سَمَعُوا على الطَرَف الآخَر تقسيمات عُود والحان قَانُون. كَانُوا يَرُدُونَ على تَحِيَّتِي: "أهلا بك"، "يا حبيبي"، ويسألونني "إيش لونك"، ويُودّعُونَنِي بـ"سلامتك". ماذا يفعل رجال الشرطة، بَعْدَ أن أَضَاعَني أصدقائي؟ كيف يُصَدِّقُونَ أنني ابن يعقوب، ولست من أبناء إسماعيل؟

شَرَعُوا في تَفْتِيشِي بِبُطْء، فتّشوا مَلابِسي، عَبَرُوا على جَسَدِي بِكَاشِف المَعَادِن، جَرَّدُونِي بصَمْتهم من كَلِماتي وأَفْكاري. فَتَّشُوا داخل طَبَقات جَلْدي عن حِقْدي الدَفِين، رَكَضُوا بأَقْصَى سُرْعة وَراءَ الأحزمة النَاسِفة، الأحزمة الناسفة التي في قلبي، وَيَفْرَحُونَ كُلَّمَا وجدوا رَغْبة مَشْبُوهة بِداخِلي. اِقْتَرَبَ رجال الشرطة مني أَزْواجًا أزواجا، قال أَحَدهم لِزَمِيلِهِ بِعَدَمَا طال وَقْت التَفْتِيش، انْظُر أنه مَخْتُون، حَقَّا يَبْدُو يَهُودِيًا هذا العَرَبي، رَدَّ عليهِ زميله: العَرَب أَيْضًا يَخْتِنُونَ، والأحزمة الناسِفة ليست لَها عَلاقة بالخِتان، ثُمَّ يُوَاصِلُونَ التَفْتِيش. والحَقِيقة أنني في تلك اللَحْظة التي أَسْلَمْتُ لَهُمْ فِيها جَسَدي، بَدَأَت تَلْتفُّ حَوْلَ قلبي أحزمة ناسِفة تَوَرَّمَت وانْتَفَخَت ورَفَضَت أن يبطل مَفْعُولَها، أَخَذَتْ تَزْأُرُ وتزأر. لكن لأنها لم تكُن مَصْنُوعَة من الصُلْب، أو البارُود، أَفْلَحَت في التَمَلُّص من أَجْهِزة كَشْف المَعادِن.

أخيرًا، عِنْدَما كان رجال الشرطة يتركونني وشأني طليقًا، لكن لست بريئًا، كنت أواصل طريقي وأسير في شارع "مَارْكُوس" المؤدي لمَسْرَح اَلْقُدْس مُرُورا بِمَبْنى القنصلية البلجيكية الفَخْم، والمَيْدان الفَسِيح المطْل على شارع جابوتِنْسْكِي. كُنْتُ ذاهبًا لِمُشاهدة فيلما أمريكيا حاصِلا على عِدَّة جَوائِز أوسكار، لكن فُجْأَة لم يكن هناك مَسْرَح في نِهاية الشارع، وفجأة لم يكن هذا شارع "ماركوس"، كان شارعا يحمل اسما عربيا، والبيوت عادت لتكون عربية، كذلك القنصلية البلجيكية، والناس في الساحات، والعائلات، العائلات نفسها أصبحت عربية، ليسوا مُجَرَّد شُبَّان يعملون في المِعْمار، ليسوا مجرد جامعي قُمامة، أو عمال يُرمّمون واجِهات المباني.

(٢)

ذَهَبْتُ لأتجول في شوارع حَيّ قَطَمون وفي شوارع الطالبية والبقعة، وبَدَلا من أن أرى أَثْرِياء أورشليم يجلسون في البيوت الرحبة، وبدلا من أن أقرأ أسماء الشوارع العبرية: "غُزَاة قَطَمون"، و"الهابطون من السفينة"، رأيت هناك مُجددًا أَثْرِياء فلسطين، كانوا هناك كما كانوا قبل حرب ٤٨، كما لم تحدث حرب ٤٨. أراهم يسيرون في الساحات بين الأشجار المُزهرة، يقطفون الثِمار، وكأن الصُحُف لم تحذّرهم من التسبُّب في ذُبُولِها، لأن الأرض سَتمتلئ بِاللاجِئِين. وبدا وكأن الزَمَن قَدْ سار باِتِّجاه تارِيخ مُغاير، مُخْتَلِف، وتَذكَّرتُ أنني سألتُ أُمِي لِماذا نَتحدَّث كَثِيرًا عن التاريخ، كَفانا تاريخا، يكفينا ما حدث لنا من التاريخ، هذا التاريخ يَكبِلني ويكبلك، لا يترك بي شَيْئًا، ولا يترك لك شيئا أَيْضًا.

حَقًّا، لقد تَجمَّدنا في تاريخنا، لكن ها هُوَ التاريخ سار للَحْظة فِي اتجاه مختلف. وأصبحت أنا أتجول في شوارع أَثْرِياء فلسطين، وفكَّرتُ أنهُمَ رُبَّمَا يُعامِلُونني بِاحْتِرام، على عَكْس رجال الشرطة، وتَمَنّيت أن أحكي لَهم كَم قرأت عن الأدِيب والمُرَبِّي خَلِيل السَكَاكِينِي، وكم وَدَدْتُ أن أُصَادِق أَحْفاده، كُنْتُ أسير بينهم، أقترب من الأَفْنِية لكن لم أَسْتَطِع الذَوَبان فيهم، فَبِحَوْزَتِي فَقَط العبرية بلكْنة عربية، أَمَّا لُغَتي العربية، التي لم أتعلمها في البيت، بل تعلمتها في الجيش، أصبحت فُجْأَة خَرْساء، مَخْنُوقة فِي حَلْقي، تَلعَن نفسها دُونَ أن تَصدُر كلمة، تنامُ في هَواءِ مَلاجِئِ نفسي الخانِق، تَخْتَبِئ وَراء أَنْظار أَفْراد أُسْرَتِي خَلْفَ سِتار اللُغة العبرية. وكُلَّما حاوَلْتُ أن أتحدث إليهم بِبَعْضِ الكَلِمات العربية القليلة، المُتَلَعثمة التي تعلَّمتها، كانَت تَخْرُج من فمي عبرية بلكنة عربية، حتى ظَنُّوا أنني أَسْخَر مِنهم، ولَوْلا أن لكنتي بدت عراقية جِدًا، لولا هذا فَقَط، لَتَأَكَّدُوا أنني حقًا اسْتَهْزَأَ بهم.

لكن هذه اللكنة حيَّرتهم، ظنوا أنني أسخر من العِرَاقِيِين، وَالصَدَّام حُسينيين، أَوْ رُبَّمَا أنا عراقي قدِيم، ضاعَتْ لُغَته، وبَقِيَتْ لكْنَته. لم أصنع أَصْدِقاء هناك، رَغْمَ رَغْبَتِي، وتَذكَّرت أنني سمِعت عمًّا لي يقول ذَاتَ مَرَّة أن هؤلاء العرب المُقيمين في أَحْياء القدس المُوسِرة "أَفَنْدِيَّة"، يَرْتدون بِذَلات غربية ويَعْتَمِرُون الطَرْبُوش، وسَمِعتُها يَوْمَئِذ الكلمة "أَفَنْدِيّ" بِأُذْنِي مَشْحُونَة بالسُخْرِيَّة والاحْتِقار، رَغْمَ أنني أستطيع أن أتذكَّر جيدا الآن، أنه لم يَقصِد ذلك، لكنني سمِعتُ فِيها نَبْرة احْتِقار، وكأنني أحد جُنُود "البَالْمَاح" يَنْتَعِلُ صَنْدَلًا، ويَرْتدي بِنْطَالا قَصِيرًا، ويَسخَر من الإقْطَاعِيّين العرب، ويَمْتَدِحُ اشْتِرَاكِيَّته المُقَدَسة، التي يؤمن بها كل الصَهْيُونِيِّين. قال لي عمّي: هؤلاء أَفَنْدِيَّة، تَعْبِيرًا عن احْتِرامه، لكن راحَت مِنِي لُغَتهم، وهم لا يَعْرِفُون لغتي، وَفَصَلَت بَيْنَنَا أَنْظِمة الحُكْم، والمَسافات الزَمَنِيَّة للأَجْيال.

في طريق عَوْدَتِي لِبَيْتِي، لم يَسْتَقْبِل لكْنَتِي جيدا سِوَى سائِقِي الحافِلات، فهم يُدْرِكُون صُعُوبة تَوَقُّع لكنة كل راكِب يَصْعَد إلى الحافِلة في القدس. ولم يَدرِ قلبي أنني عدت إلى قلبي، لم يدر، ولم تدر مَخاوِفي أنها انْقَضَّت عليَ، لم تدر.

(٣)
وهكذا صَارَ صوتي كصوت جدي، وفجأة بدأت الشوارع التي اعْتادت مَوْته وغِيابه، فجأة تسمع صوته من جَدِيد، لقد خرج من داخلي هذا الصوت الجميل، الذي كان مَسجونًا في ماضِيَّ، خرج لا يطلب التَكْفِير عن خَطِيئة، ولا يستجدي الفُتات، إنه صوتي، صوت قَوِيّ ومُرْتَفَع. وشوارع أورشليم التي اعتادت صَمْتي، وصمتنا، وجدت صعوبة بَالِغة أمام هذا الحديث، وراحَت تكتُم هذا الصوت، تُسكّته شيئًا فشيئًا، وتقول له احذر، ولي أيضًا كذلك، تقول له أنت غَرِيب عنا، وتقول لي يكفيك صمتك. وعلى الرَّغْمِ من خَوْفي، وعلى الرغم من أن هذا الصوت كان غريبا علي أيضا، وداهمني بعد جِيلَيْن من الغَفلة، إلا أنني ردَّدت كل كلماتي بهذا الصوت، لأنني لم أتمكَّن من مُواصلة الصَمْت، كان بِداخلي كَلام يرِيد أن يخرُج، وكلِماتي كانت تتغيَّر لَحظة خُروجها من الحنْجَرة. والغُرباءُ الذين لا يَعرِفونَني ظنّوا بأنني حَفِيدٌ مُخْلِصٌ، لم يُدْرِكوا أن النِسْيان طَغَى على الذاكِرة على مرّ السنين، لم يَتَصَوَّروا إلى أي مدى انْطمستْ ذاكِرتي، وكَمْ سنة مرّت ولم يَأتِ ذِكر جدي على لساني.

عِندما رجعت إلى البيت من جَوْلتي الأولى في الشوارع بطَرِيقة نُطْقي الجديدة، وبعد أن فتش رجال الشرطة كامل جسدي، انْدهشت زَوْجتي من طريقة نطقي، وأَثْناء حَدِيثها معي، ونَصائِحها بأن أكَُفّ عن ذلك، بدأت تَنْتَقِل إِليها مَظاهِر العَدْوَى، وظهر على شفتيها خَلِيط من نطق يَمَنِيّ تَرجع أُصُوله لأبِيها، وآخر اسْطَنْبُولي يرجع لأمها. وبعد عدة أيام صَارَت تَعُودُ من عملها يوميًا، لِتروي لي عن المَخاوِف في الأَقْسام من انْتِشار وَباء مُعْدٍ بين أفراد مكتبها، لقد بدأت طرق النطق القديمة تخرج للنور، بعد أن ظَنّوا كل الظن أنها اختفت. غير أنَّ خبر صَغير في زاوِية مُهْمَلة باحدى الصُحف الكُبْرَى يَكشِف أن المَسئولين الأمنيين يَتحرّون من الذي نقل عدوى طرق النطق المَحْظورة، وامتلأ المُحيط بأصوات النُواح على ضَياع مَجْهود خمسين عام من التَعْليم الناجح، ونتيجة الخَوْف من امتلاء البِلاد بالعرب، ستمتلئ البلاد بالكثير والكثير منهم، ولذلك قَرَّروا أن يُزوّدوا الإذاعة بقُرّاء نَشْرة يَنطِقون لغة عبرية سَليمة ومُنمّقة، حتى يضمنوا أن نَشعُر نحن بأننا غُرباء بطريقة نطقنا.

بعد قليل، أخبرتني زوجتي بصوت مُرتجف، تارة تشعر أنه هَابِطا من الشمال من مَضيق البوسفور، وتارة تشعر أنه صاعِدا من الجنوب من خَلِيج عدن، ان هذه العدوى أصابت الاَشْكِنازيم أيضا. لكنها تنبأت أن إِيقاع التَغْيِير عندهم سيسير ببُطْء، لأن أولادهم يظنون أن لكنات آبائهم وأَجْدادهم كانت في الأَصْل أمريكية، كما أن ذاكرتهم القريبة لا تَصِلهم بطرق النطق القديمة، ولكن عَمَّا قَرِيب سنسمع في الشوارع مُجددًا، اللكنة البولندية، والمَجَرية، والرومانية، والألمانية، والأوكرانية، وهذا سر رعب المسئولين عن الأمن، فهم خائفون فعلا، ساعتها لن يَجِدوا قُراء نشرة يُرسِلونهم إلى جنود الإذاعة، لن يجدوا معلمين يُلقّنون أبناءنا طريقة النطق السليم.

وعلى الرغم من تنبئِها بمَوْجة عظيمة من التغييرات، فإن والديَّ وقفا صامِدَين أمامي، وأمام موجات العدوى، ما زالوا يَتذكّرون سنين الماضي، وحَجْم المجهود الذي بذلوه في اكتِساب طريقة نطق صافِية، ثم بدءوا بدفعي بحَزْم، لأكُف عن ذلك، ويذكرونني بمُستقبلي الأكاديمي. تَوسَّلوا إليّ، لكن ماذا أفعل؟ كيف أستطيع أن أداري حَنيني، وحنيني فجأة تَجسَّد في هذا الصوت الغَريب عني، وأنا أَشعُر بالضِيق والأَسَى، لأنه يَصدُر عني، لكني لا أستطيع أن أُوقفه بقَرار في لَحْظة واحدة، لأنه لا شيءَ في داخلي يردعني عن فعل ذلك. إذا واصَلت التَحدُّث بهذه اللَهْجة، لن تَحصُل على المِنحة الدِراسية، قالها أبي، وكان صادِقًا. إذا لم تَعُد إلى لهجتنا السَلِسة فلتَتحمَّل ما سيَجرِي لك، قالتها أمي وكانت مُحقة، في كل مُقابلاتي، كان المحاضرين والمحاضِرات مُندهشين من طريقة نطقي، يُحاوَلون أن يَعثِروا بداخلي على لكنة أُخرى، تكون أكثر أكاديمية، وأكثر مُلائمة للجَوّ الجامِعيّ، على الرغم من أن الكلِمات كانت هي نفس الكلِمات لكنها ثَقيلة ومكسورة. كيف ستُواصل دراستك، إذا تحدثت بهذه الطريقة، قالوا لي وتَرجّوني، وأَلَحّوا علي، لكن ماذا يمكنني أن أفعل؟ هم يَخافون على مستقبلي فعلاً، لكن ماذا عن سَكينة قلبي المَهْدودة، وحَجَر قلبي المَكْسُور وزَوَايَا قلبي الحادّة، لم يتمكنوا من مُساعدتي، ولا رفع حُكْم القَدَر عني.

في تلك الأَثْناء تزايد قَلَقُهم، لكني لم أصغ لحديثهم، أَطْبقت آذَاني، وأَصْبحت لُغَتي صمّاء، وأَصْبحت أشعر أن لهجتهم غريبة عني، وصرت اسْتمْتع بمُرور الأيام والشُهور، وبِنُبوءات زوجتي تَتحقّق، وشوارع أورشليم تتغير أمام عيني، لكن أبي وأمي فقط تَجمّدا في مكانهما بلا أي تغيير. أطلعت زوجتي على "سِرِّي": "بدأت في كِتابة قِصَصي لكن بالحُروف العربية، سيَشعُر المسئولين بالأَقْسام الكَبِيرة بالصَدْمة مرة أخرى". عادت زوجتي بعد عدة أيام إلى البيت لتحكي لي أن رُؤَساء الأَقْسام ضَحِكوا من قُلوبهم، وقالوا، فليكتب، ليكتب قصصًا، هو وحده يستطيع قِراءتها، لن يقرأها آباؤه، ولا أبناؤه، وكذلك أولادنا لن يَتعرَّضوا للخَطَر. وسنَمنِحه، لو أراد، جميع الجَوائز الحكومية في الأدب العربي، دون أن نقرأ كلِمة مما كتبه.

صدق رؤساء الأَقْسام بالطبع، وشرعت زوجتي تَتنبّأ بما سيحدث مستعينة بأمثال يهودية-اسبانية من تركيا، كانت أمي تقول لي هذا المَثَل، صَحيح أنني لا أذكر كيف كانت تقوله بلغتها، لكنني أذكر طريقة نطقها. "انها لحظة خروج الروح" همست بالمثل، ثم شرحته، إننا نعيش لَحَظات الاحتضار، لا لحظات البَعْث، وكِبار المسئولين في الأَقْسام يعرِفون ذلك، وقرّروا أنه لا داع للقَلَق، سيكون شَرْط قَبُول الموظفين في المَناصِب هو إِتْقانهم للنطق العبري السليم، وعلى كل واحد أن يُفكّر مَرَّتَيْن حتى يوفر مصدر رِزْقه، ولُقْمة خُبْز يعيل بها أُسْرته، وبهذه الطريقة تعود اللغة العبرية المَأْلوفة، وكأنَّ شيئًا لم يكن.

(٤)
بدأ قلبي يميّز ايقاعات صوتي، يقول هذا صوتي، وهذا ليس صوتي، هذا حَرْف لام يخرج من فمي، وهذه قاف غَريبة عني. وكنت أبطئ إيقاع أفكاري، لكي أفكر وأتأمّل في أفكاري ذاتها، لكن لم يكن لديَّ وَقْت، فرَحت أنثر الكلمات مع الرِياح مثل مِلْح البحر الذي لا ينثره أحد، بالتأكيد، داخل البحر. وبدأ جدي يحادثني، ويسألني بصوتي هل هناك نهاية لهذه القصة؟ لماذا يختلِط تاريخي بتاريخك، كيف تَنتهك حياتك بهذه الطريقة؟ أنا من جِيل الصحراء، كيف تنهض وتعيدني للحياة، إنك الجيل الذي انْتظرناه، انتظرنا أَن يربوط ماضيه بماضي مُعَلِّميه، لأن ماضينا مُؤْلِم جدًا، لقد بقيت في الصحراء آكل الطُيور الجوارِح من أجلك، حتى لا تذكرني، حتى لا تتألم مثلنا، كيف تعضّ بالنواجِذ على كلماتي من جديد؟ وأين، في أورشليم، حيث لا مقاهي، ولا نهر دجلة يَشقِّ المدينة إلى رحمين، أنا لم أمت في أورشليم، ولا في مَسْقَط رَأْسي، لقد مت في الصحراء الفاصلة بينهما، صحراء الصَمْت.

يا حفيدي، أعد تقسيم قلبك، اَجعَله شُعبةً شُعبةً، وأسكنني في إحدى الشُعَب الخَفِيَّة، وعش أنت في بَاقِي الشُعَب. أو اعبر إلى شُعْبة الصمت، لأن التغيير الذي تظنّ أنه يحدث بسيط لِلْغاية، ولو ظهرت لكنة مختلفة ماذا سيحدث، هل سأحيا من جديد، هل ستعيش أنت حياتي من جديد؟ كفاك ما حدث لك في الشوارع، اذهب إلى والديك، لن تقنعهم طريقة نطقي، أنهم يعرفونها جيدا، وسبق أن تمرّدوا عليها ألف مرة. رّبما يَزرَع صَمْتك في قُلوبهم خَوْف الحاضر من الماضي والمستقبل. لماذا لا تعرض عليهم قصتك، ربما يَستفِيقوا. قال لي جدي هذه الكلمات وهو تقريبا يَستحلِفني بكل الأمْوات.

بدأت أحصي أَوْقات صمْتي، يومًا، أسبوعًا، شهرًا، حبسته بين جُدْران البيت، لا أفتح فمي، لا أفتح نافِذة، ولا يدخل الهواء غُرْفتي. واحتوى الصمت صوتي، كلمات كثيرة، أُسكتت. ولم أعد حاضِرا، ولم أعد موجودا، ولم تعد هناك نهاية لقصتي، حتى بِداية القصة نفسها تلاشت.

وبقيت صامِتًا فَتْرات طويلة، حتى قال لي والديَ، تحدث، إذا لم تتحدث لن تحصل على منحة، كيف ستواصل تعليمك، وماذا تفعل في مستقبلك، أين اِبْتِسامَتك، تحدث تحدث، بأية لكنة لأننا أصبحنا نخاف الصمت.

(٥)

نهر دِجلة لا يقسم مدينة القدس، وهدير مِياهه لا يُسكِّت الحدود المفروضة علينا، الحدود التي تفصل بيني وبين نفسي، لا أنا هنا ولا أنا هناك، لست شرقيًا في الغرْب ولا غربيًا في الشرْق، لست صوت الحاضر، ولا اصوات الماضي، ماذا ستكون النهاية؟ أسير في الشوارع أبْكَما، شبه أَصَم، وهذه المرة ملامِحي فقط هي التي تزعج رجال الشرطة، لحيتي الكثيفة فَحَسْب، وإصراري على ألا أخرج كلمة من فمي، ويمر شهر تموز مرة أخرى، ويحتضِر بداخلي. على الرغم من الحَرِّ الشديد، ارتدي مِعْطَفا لأخفي الأحزمة الناسفة التي في قلبي. ونَتِيجة إِخْلاص رجال الشرطة لعملهم يَقْتادوني إلى المُعْتَقَل ويأتي والديَّ في إثري، ليعرفا أين احتجز ابنهما.

التزم الصمت إزاء والديّ، ماذا يستطيعا أن يفعلا معي؟ أنا صامت حتى في حضور والديَّ، لكن بدأت أريهما رِواياتي التي أخفيتها، أشّرت لهما، هنا كتبت عنك يا أمي، وكتبت هنا عنك يا أبي. هنا كتبت قصائد احتِجاجية على العبريّة بالعبرية، أزيد من استخدام لغة الإشارة، لا يوجد لدي لغة أخرى استخدمها، من شدة الخِزْي لم تورثا لي شيئا. وهذا العَصْر يحرمني من إلقاء الشِعْر، فهم يَحْتشدون ضِدّي جَماعات جماعات، يحتشدون ضدكم أيضا، واللغة التي اصبحت لغتي، ذوتتني في داخلها، وجعلت مني نايًا أجوفًا تُرسل فيه أنفاسها، كل ذلك لكي ننتج مَعًا نغمة واحدة، صداها حزين، ونتبنى لغة أخرى كنا قد فقدناها. والحقيقة أن القصة نفسها تكرّرت مرات ومرات. كم قصة في ذاكرتي يا أمي، كم قصة في ذاكرتي يا أبي، وكم قصة في ذاكرة الإنسان؟ إنها نفس القصة، يحاول كل مرة أن يَروِيها بكلمات مختلفة، كل مرة يحاول أن يَفك شِيفْرة القصة المستعصية والمركّبة. ألا تميّزان قصتكما هنا؟! ومع هذا سلقد علمت بعض الإجابة من صمتكما. الآن فقط حاولت أن أكتب القصة بالنطق العربي، لكن ما نتيجة ذلك، انظرا أين نقف. خذوا قصتي وأقرءوها، يا أمي، يا أبي، اقرءوا كل قِصَصي التي أخفيتها عنكما سنوات طويلة، فأنتما تعانيان نفس الغُرْبة، نفس الصمت، نفس الشعور بالبعد بين القلب والجسد، بين التفكير والنطق، ربما تعرفان كيف يمكن حل هذه العُقْدة.

وفي أول كلام يصدر عن والديَّ تنكّرا إليّ، قال أبي هذا ليس ابننا، ولم نربّي هذه اللحية، قالت أمي، ما هذا، نحن لا ننطق بهذه الطريقة، وقالا في نفس واحد للمسئولين، كيف يكون ابننا، لا يوجد من يرث منه هذا النطق، لا من اقربئه، ولا من جده أنور الذي مات قبل ولادته، ولدنا لم… والمحا لي في كلامهما، وإن لم تتغير، سنعود إلى البيت محبَطين للأبد، وإذا تحسن نطقك وتراجعت عن القصص، عن هذه القصة، وهذه اللكنة، وهذا الصمت، وتحدثت معنًا بلغتنا، سنبقى هنا معك حتى يقضوا بخروجك حُرًّا، أو يحكموا علينا جميعًا.

ولم يدرِ والديّ أنني عدت إلى قلبهما، لم يدروا, ولم يدروا أن كل مخاوفهم ارتدت إليّ، لم يدروا.



أذار الثاني ٢٠٠٥, القدس.

- العمل الحاصل على جائزة أفضل قصة قصيرة في إسرائيل 2005






ألموج بيهار
 
أعلى