مقامات محمد أنقار - المقامة في درجة الصفر

أولاً: نص «المقامة الذهبية في الحمى» للسيوطي:

قال الله تعالى في كتابه العزيز وكَفى به حَكَماً عدلاً مرضياً: «وإن مِنْكم إلا واردُها كَان على رَبِّكَ حتْماً مقضِياً». أخرجَ ابنُ أبي حَاتمٍ والبيهقي عن مُجاهدٍ أحدِ البحورِ الزّاخرةِ: أنه قال في تفسير هذه الآية: «الحمى [في الدُّنيا] حَظُّ المُؤمِنِ من الورُودِ في الآخِرةِ»، وورَدَ في عِدَّةٍ من الأخبارِ، عن النبي المختار(ص) أنَّه قال في تفسيرِ هذه الآيةِ: «الحُمى كِيٌر من جَهنم فما أصابَ المؤمنَ منها كان حظُّه من النارِ» فسُبحانَ مَن لطفَ بعبادهِ، وهَدى عبدَه المؤمنَ إلى رشادِهِ، وقربه من إبعادِهِ؛ ليفُوزَ بإسعادِهِ، وصالحهُ بأمراضِ الدُّنيا عن إضرامِ جَهنم في مَعادِهِ، وعجلَ له اليسيرَ من الحُمى ليحميَهُ من العُقوبةِ الشّديدةِ، [ونَجاهُ من دسيسةِ الشيطانِ ليسلك به الطرائقَ السديدةَ]، ويحثه على الخَلائقِ المديحةِ الحَميدةِ، وتَفقدَه في كل بُرهةٍ بقليلٍ من ألمٍ، ليكونَ رهبةً ونزهةً عما اقترفَ وألمّ، وما ذَاكَ إلا ببركةِ سيدِ الأكوان، صلى الله عليه وسلم وعلى الآل والأصحابِ والأنصارِ والأعوانِ. أنزل الحُمى في أولِ الزمانِ ليُذلَّ بها الأسدَ، ثم جعلها سِجناً في الأرض لتُصلحَ من بَدنِ المؤمنِ ما فَسدَ، جُعلتْ كفارةً وطَهوراً من الذنوبِ، وتذكرةً للمؤمنِ بنار جهنم كي يتوبَ، وهي أوفى الأمراضِ فيما يعدُّهُ المؤمنُ/ لذُخرِهِ، وأوفى الأعراضِ فيما يعتَدُّهُ وأقوى لمحو وِزْرِه؛ لأنها تُعطي كلَّ عضوٍ قسطَهُ من أجرِهِ، وقد وردَ في بعضِ الأحاديثِ أن "الحُمى شَهادةٌ"، وبذلكَ يحصلُ المؤمنُ على الحُسنى منها وزيادة، وهي المكنية: أم مِلْدَمٍ، تبري اللحمَ وتمصُّ الدمَ.

وقد جاءت إلى خدمة النبي صلى الله [تعالى] وسلم عليه، واستأذنت بالبابِ وهي واقفةً لديه، وسألتْه أن يبعثها إلى أحبِّ قومِه إليه، فبعثَها إلى الأنصارِ، لأنهم ذَوو النُّهى وأُلُو الأبصارِ، لتكونَ وقاءً لهم من ألوانِ النارِ، ويكفي في فَضلِها قولُ النبي عليه [أفضل] الصلاةِ والسلامِ: »أتاني جبريلُ بالحُمى والطاعونِ فأمسكتُ الحُمى بالمدينةِ، وأرسلتُ الطاعونَ إلى الشامِ«. وأعظمُ من ذلكَ عندَ من نزلتْ به وأقرُّ للعين، وأرقُّ للغَينِ، وأبعدُ مـن الأيْنِ والبَيْنِ، والحَيْنِ، والرَّينِ، أنه صلى الله [تعالى] عليه وسلم كان يوعَك كما يُوعَكُ رجلانِ لأن له أجرينِ، فلا جرَم أن حاز صاحبُها شرفاً، وورفَ ظلُّها الوارفُ عليه حينَ رَفَّ ولمّ شَعثَه ورَفا، وأيقنَ منها بفرجِ شفاءٍ لا بِشَفَا جُرُف [بُوعِدت جُرُفاً]، وانتشقَ من عَرْفِ غَدِقٍ غَرْفَ عَرَقٍ طفَّ و طفا، في رحمة الله وشفاعة النبي المصطفى، ونغيِّرُ الأسلوب ونقول: وانتشق من عِرْقِ عَرَقٍ عَرْفَ غَرَفٍ ناهيك/ بها غرفاً، وابتسق زهْراً جرَّه مما قطرَ منه وكَفى، [وانتسق في سلك الصّالحينَ وحسبهُ ذلك وكَفى] .

وقد صحّ النّهيُ عن سبِّ الحُمى لما فيها من المزيدِ، فإنها تُذهِبُ خطايا بني آدمَ كما يُذهِبُ الكِيرُ خَبثَ الحديدِ، وفي حديث رواه من شَمَّـر في طلب العُلا ذيلَهُ: »إن الله ليكفِّرُ عن المؤمن خَطاياهُ بحُمّى ليلةٍ«، وفي أثرٍ رَواهُ بعضُهم وحسَّـنَهُ: »إن حُـمَّى ليلةٍ كفّارةُ سَنةٍ«، فيا لَها من حَسنةٍ، الناسُ منها في سِنةٍ. ولَها مَنافعُ بدنيّةٌ، ومآثرُ سَنيّةٌ غير دَنيةٍ، وذلكَ أنها تُنقي البدنَ، وتنفي عنه الأفنَ والعَفنَ، رُبّ سَقمٍ [في البدنِ] أزلي ومرضٍ عُولج منهُ زماناً وهو مُمتلي، فلمّا طَرأتْ عَليه أَبرأتْهُ فإذا هو مُنجلي، وربما صَحتِ الأجسادُ بالعللِ، وقالَ بعضُ الأطباءِ في حِكَمهِ الكافية: »كَثيرٌ من الأمراضِ يُستبشرُ فيها بالـحُمّى كما يستبشر المريضُ بالعافية«، وذَكروا أنها تَفتحُ كَثيراً من السُّددِ، وتُنـضِجُ من الأخلاطِ والموادِّ ما فسدَ، وتَنفعُ من الفَالِجِ واللّقوةِ والتّشنُّجِ الامتِلائي والرمدِ. وقد أُمِرَ فيها بالصدقةِ والرُّقيةِ، وفيها أيّ بلاغٍ ونقيةٍ، قال خير من جاءَ بالصّدق وصدَّقه: »مرُوا أبا ثابتٍ فليتصدّق، دَاوُوا/ مرضاكم بالصّدقةِ«، فعلَيكُم فيها بالرُّقى والقِرى، تَحظ منها بالرُّقي بلا قُوى، ومن رقَاها ما رقى به الأمينُ جبريلُ، خيرَ نبيٍّ جاءَهُ الوحيُ من الله والتّنـزيلُ: »بسم الله أرقِيكَ واللهُ يَشفيكَ، من كل داء يؤذيكَ«، وممّا دَعا به النبيُّ صلى الله عليه [وسلم] لمن وجد نَصبَها: »اللهم أذهبْ عنه حرّها وبردَها ووصَبها«.

ويقولُ صاحِبُها كما وردَ في صحيح الأخبارِ: »بسم الله الكبيرِ نعوذُ بالله العظيمِ من شرِّ كلِّ عِرقٍ نعَّارٍ، ومِن شرِ حرِّ النار«. وتواترَ الأمرُ بإبرادِها بالماءِ، وأصحُّ كيفِيَّاتِهِ أن يُرشّ بين الصَدرِ والجيبِ كما فعلتهُ أسماءُ [رضي الله عنها] ، فإنها أختُ أمِّ المؤمنينَ، وممن كانَ يُلازِمُ بيتَ سيّد المرسلينَ، ولها الأصلُ العَريقُ، وأبوها أبو بكرٍ الصديقُ، وهي رَاويةُ الحَديثِ والخبرِ، وتَفسيرُ الراوي مُقدّم على غيرِهِ لأنه أعرفُ وأصدقُ وأبرُّ.

ومن الخواصِّ التي ذكرَها عن الجِنِّ من ائتسَرَ، ذباب [الماءِ] يُعقدُ في خيط عِهْنٍ ويشدُّ في العَضُد الأيسرِ، ومما يَنفعُ تعليقُهُ السّمكُ الرعَّاد، وعظْمةُ جَناحِ الدّيكِ اليُمنى والطويلُ العُنقِ من الجرادِ، ووردَ الحَثُّ فيها على الاكتتامِ، كما وردَ في سائرِ الأسقامِ، وإنَّ من كَتمَ حُمّى يومٍ كُتبَ له براءةٌ من النارِ، وخرج من ذُنوبِهِ// كيوم ولدتهُ أمهُ وسترَ عليه السّتارُ.

ولوقورِ مَعالِيها لمِغَاليها، ووفورِ معَانِيها عند مُعَانيها، رغِبَ جماعةٌ من السّلفِ فيها، ودعت طائفةٌ من الصحابةِ [رضوانُ الله عليهم] بملازمة الحُمّى لها إلى تَوفيِّها، وتلقوا بِشرَها بالنّشرِ والطي، وعدّوا لامَ لَدمِها رافعةً وإن كانت لامَ كيّ، [وممن دَعا بذلكَ سَعدُ بنُ مَعاذ وأُبيّ رضي الله عنهما]، وقد قالَ بعضُ من اقتفى آثارَهم، [وتدثَّر دِثارهم]، [في ذلك شعراً]:
زارت ممحّصةُ الذُّنـوبِ وودعّـت
أهـلاً بها: من زائر ومـودّعِ
قالتْ – وقد عزمتْ على ترحَالِها –
ماذا تُريدُ؟ فقلت: أن لا تُقلعي

آخرُها والحمدُ لله وحده، وصلى الله وسلم على من لا نبي بعدَهُ محمد وآله وصحبه».(1)


ثانياً: تأملات في «مقامة الحمى»:

منذ أكثر من سبعين سنة كتب زكي مبارك بقدر كبير من الدقة النقدية:
»إن كل ما كُتب من المقامات يرجع في جوهره إلى فن بديع الزمان، فالصورة واحدة من حيث السجع والازدواج، وطريقة القصص واحدة، الافتنان في الموضوعات هو كذلك من مبتكرات بديع الزمان، حتى الطريقة التعليمية التي عُرفت في مقامات السيوطي وابن الجوزي والقلقشندي هي أيضاً مما ابتكر بديع الزمان، والفرق يرجع إلى صور الثقافات في مختلف العصور، فبديع الزمان صوَّر مشكلات عصره، والحريري مثل معضلات زمانه، والسيوطي فصّل أوهام الناس وعلومهم في أيامه، وجاء محمد المويلحي في العصر الأخير فوضع كتاباً في نقد الحياة الاجتماعية في مصر تأثر فيه سجع بديع الزمان وحفظ من رسومه اسم راويته عيسى بن هشام».(2)

يهمنا من هذه الالتفاتة النقدية الجامعة أمران؛ اعتبار (مقامات بديع الزمان) معياراً يُرجع إليه حينما يتم الحديث عن تصنيف المقامات وتجنيسها والحكم عليها في مجالي النقد وتاريخ الأدب، ثم الغاية التعليمية التي ميزت مقامات السيوطي الذي نخصص له دون سـواه هذا المقال. وإذا كنا نفترض أن الأمر الأول لن يستدعي كثيراً من الجدل النقدي أو التاريخي بحكم الريادة المعقودة للهمذاني على نطاق واسع؛ فإننا نتصور أن الأمر الثاني يحتاج إلى نظر إضافي من أجل الطموح إلى مزيد من العمق في تجنيس مختلف ألوان المقامات.

وواضح أن ريادة الهمذاني قد ارتبطت أساساً بطريقته المتميزة في الحكي قبل أن تكون نتيجة للغايات التعليمية أو اللغوية أو تفننه في صياغة موضوعات الكدية. لذلك أضحى القص أو الحكي مكوناً في الكتابة المقامية بكل ما في كلمة مكون من دلالات جمالية. بل إن الحكي غطى حتى المكونات الأخرى أو كاد، وصرف الأنظار عن باقي الأنماط والأنواع التي تنتسب إلى جنس المقامات عبر سبيل آخر غير الحكي. والحق أن المكون الحكائي يغري بقراءة المقامات والاستماع إليها مثلما يغري بمعالجتها النقدية. و العكس صحيح أيضاً من حيث إن فتور الحكي أو انعدامه قد يجعل متعة القراءة أو الاستماع فاترة. بيد أن الإغراء الحكائي لا يجب أن يصدنا في جميع الحالات عن الاحتفاء بتلك الأنماط المقامية الأخرى التي تنعدم الحكاية منها ويوجِّه الكاتب جهده فيها نحو ما سماه زكي مبارك بالطريقة التعليمية. ذلك أن الغاية التجنيسية المتعالية تقتضي مراعاة كل الأصناف والأنماط والفروع دونما تفاضل جمالي فيما بينها. وفي هذا الـسياق وقع اختيارنا على نص السيوطي المعنون بـ "المقامة الذهبية في الحمى" بعد أن لاحظنا من ناحية، انتسابه التاريخي إلى جنس المقامات انتساباً واعياً مطرداً، ولمسنا من ناحية ثانية خلوه من المكون الحكائي بمختلف تجلياته. وهكذا افترضنا مبدئياً أن «مقامة الحمى» تقع في درجة الصفر من منظور المقامة الهمذانية ذات السَّمت الحكائي الصريح. ثم لزِم علينا بعد ذلك أن نوضح كيف أن السيوطي قد اجتهد لكي يضفي على مقامته قوة تعبيرية تحررها من عقدة النقص المتربصة بها. لذلك تصورنا أن السيوطي كان يعي ما يفعل، بل ويتحمس لما يفعل، فكانت النتيجة تأصيل نمط فرعي آخر من أنماط المقامات. وإذا كنا في مجالي الأجناس والأنواع الأدبية لا نحبذ الوقوع في فخ المفاضلة كان لزاماً علينا على الرغم من ذلك أن نبرر بطريقة نقدية ملموسة الصيغ الجمالية التي استند إليها السيوطي في اجتهاده الواعي المتحمس.

منذ القراءة الأولى يكتشف القارئ أن "مقامة الحمى" لا صلة لها بالنمط الحكائي. فشتان ما بين هذه المقامة و"المقامة الأسيوطية" على سبيل المثال التي حذا فيها السيوطي نفسُه حذو الحريري متلمساً الغاية التعليمية عبر الوسيط الحكائي. ويقتضي الإنصافُ النقدي القول إن هذا الوسيط الحكائي هش في "المقامة الأسيوطية" إلى جانب أنه مسخر للقصد التعليمي. ذلك أن السيوطي لم يشأ الإمعان في طلب القصد الحكائي في مقاماته التي هي من هذا القبيل، إلى أنْ عدمه بصورة تامة من «مقامة الحمى» وفي غيرها. وأفترض أن الرجل لم يمعن في طلب هذا القصد لسببين: أولاً وعيه الجمالي الذي صدر عنه في كتابة مقامة غير حكائية تخالف النموذج الهمذاني، ثم رفضه أسلوب القصاصين في تقديم المعرفة.

ومن «المعروف أن السيوطي من كبار نقاد الحديث في عصره، وقد انتـهى إليه حفظه، وكتابه (الجامع الكبير) عبارة عن موسوعة حديثية ضخمة حوت ثمانين ألف حديث وأثر مرتبة حسب الأقوال والأفعال شاهد على رسوخ قدمه وإحاطته بدقائق هذا العلم الشريف، ولذلك فإنه لا يسع السيوطي وهو مجدد عصره أن يسكت عن القُصّاص الذين يضعون الأحاديث، ويكذبون فيما يروونه، وقد ألف في ذلك "تحذير الخواص من أكاذيب القصاص" ونقدهم عرضاً في "مقامة الدَوَران الفلكي" و"مقامة طَرْزِ العِمامة" وأفرد لمحاربتهم مقامة" الفتّاش على القشّاش"».(3)

عندما نمضي في قراءة «مقامة الحمى» في ضوء مكونات المقامة الهمذانية وسماتها التكوينية نكتشف أنها مقامة بتراء من حيث إن كاتبها لا يسندها إلى راو بعينه، على عكس ما يحصل في النموذج الهمذاني الذي يتكرر فيه اسم الراوي عيسى بن هشام إلى جانب اسم البطل أبي الفتح الإسكندري. وتكرار ورود اسم الراوي واسم الشخصية الرئيسة يحدث في غير النموذج الهمذاني كما في مقامات الحريري. وحتى السيوطي نفسه يسند رواية بعض مقاماته إلى هاشم بن القاسم أو إلى عنصر من عناصر الطبيعة، ويديرها حول شخصية البطل أبي بشر العلابي . بيد أن اسمي الراوي والشخصية الرئيسة لا يطَّردان في كل الأنماط والأنواع المقامية مما يجعلها تختلف عن النموذج الهمذاني في هذا الجانب.

من الواضح أن «مقامة الحمى» نص مقامي حتى وإن لم يرد فيه ذكر للراوي والبطل الرئيس. فالسيوطي من ناحية، ومؤرخو الأدب ونقلته من ناحية ثانية يضيفون بوعي وإلحاح اصطلاح المقامة إلى لفظة "الحمى". ومن البيّن أن هذه الإضافة ليست اعتباطية حتى وإن لم يكن ثمة راوية ولا بطل ولا كدية. وإذا صعب علينا مبدئياً أن نعثر في مقامة السيوطي على مكونات النموذج الهمذاني فإن ذلك لا يجب أن يصدنا عن الإمعان في استقصاء السمات التكوينية المحتمل أن يشترك فيها الكاتبان.

وإذا غضضنا الطرف عن السجع وعن سمة "الاستشهاد" بمختلف أنواعه لاحظنا أن السيوطي يصبو إلى أن يمضي عن عمد "ضد" المقامة النموذج. فليس ثمة مجال للتخييل الحكائي. نقول التخييل وليس الخيال ما دام ثمة فرق بينهما على مستوى الماهية. وفي هذا السياق قد نستشرف في «مقامة الحمى» ألواناً من الخيال فيما يضربه الكاتب من أمثلة ويستعين به من أجل الشرح والتوضيح، لكن غاية التخييل تظل غير متحققة.ويمكننا أن نتمحل أكثر في طلب السمات أو السمات التكوينية المشتركة والمختلفة فنتحدث عن خط تصاعدي للأدلة وحجج الاحتفاء بالموضوع في «مقامة الحمى». إن نص السيوطي يبدأ بالقرآن الكريم وينتهي بالدعاء بعد أن يمر على الحديث والأخبار ثم الشعر. ولعلنا راصدون في المقامة الهمذانية شيئاً من هذا التدرج التصاعدي في إيراد شواهدها واقتباساتها. بيد أننا يجب أن نبادر بعد ذلك إلى القول إن التصاعد لدى الهمذاني اقتضته الوظيفة القصصية قبل الغاية الإقناعية.

وثمة أمر آخر مختلف بين النموذجين يتمثل في طريقة الاحتفاء "بالموضوع" المختار. وإذا كانت الغاية الحكائية قد تبدو منذ الوهلة الأولى من حوافز التحرر في تناول "الموضوع" والتوسع في معالجته سردياً لدى الهمذاني؛ فقد تكون في العمق سبباً من أسباب تجميد ذلك الموضوع والوقوف به عند حد. ولقد لاحظ سمير الدروبي في هذا السياق أن «المقامةَ الحكايةَ، وهي النمط الذي سار عليه بديع الزمان الهمذاني ومن تابعه في طريقته من المقاميين، تقيّد الموضوعات، وتجعل جلها محصورة في دائرة اللغة والنحو والألغاز، وتربطها بالكدية والاستجداء، وهو موضوع لم يرغب السيوطي في تناوله لأن ظاهرة الكدية لم تعد مثيرة في عصر السيوطي حيث أصبحت من الظواهر المألوفة».(4)

وإلى جانب التحرر في التناول المقامي لمس بعضهم سمات أخرى في نموذج السيوطي تمثلت في طرافة الموضوع وابتداعه بعد تفكير وروية ورغبة مبيتة.(5) وهكذا أمعن السيوطي في الاحتفاء بموضوع الحمى وتحمس له كأنه يصبو بذلك إلى أن يُفرغ طاقته الإبداعية في حقل أدبي آخر غير حقل التخييل السردي الذي كان من المنتظر أن يخوض فيه. بيد أن الرجل أحجم عن الخوض ليس من موقف عجز مادام لم يعدم القدرة على الوصف والتصوير التخيـيلي في مواقف أخرى. ونحن نعلم أن للسيوطي في هذين المجالين أكثر من مقامة. ولقد أشاد بتينك القدرتين أكثر من باحث. وهو على سبيل المثال قدم في "المقامة النّيلية" «وصفاً دقيقاً لهذه الحالة - شُحِّ النيلِ في سنة من السنوات - فقد كان قلمه بارعاً ونابضاً بالحياة. فلم يكن كالمصور الدقيق فحسب بل جمع إلى ذلك ملكَة المتخيل الفنان».(6)

ومادمنا في سياق الحديث عن الوصف لا بد أن نتساءل عن الموقع الذي يمكن أن تحتله صفةُ "الذهبيةِ" التي وسم بها السيوطي مقامته. فهل يتعلق الأمر بمسايرة العرف السائد قديماً في صياغة العناوين صياغة تتضمن الجميل والطريف والممتع والمفيد، أم إن الأمر يتجاوز ذلك إلى تعويض النقص الحكائي بالصفة الذهبية المشعة، أم إن السيوطي قصد أن يلطّف من حدة الحمى حتى يكون العنوان في مستوى لطافة عناوين جل مقاماته؟.الحق أني أرى هذه الاحتمالات واردة جميعاً. فمن الثابت أن معظم عناوين كتب السيوطي لا تكاد تخرج عن دائرة ذلك العرف الجميل.(7) كما أن الرغبة في تلطيف حدة العلة احتمال وارد بقوة مادام الرجل يصبو في مقامته إلى أن يجعل من الحمى رحمة لا نقمة. ولعل في ذلك قدراً كبيراً من الطرافة الموضوعية المشار إليها آنفاً. بيد أن الاحتمال الثاني المرتبط بالنقص الحكائي يحتاج إلى حجج أقوى نراها متحققة في قدرة السيوطي على الحكي في غير هذه المقامة، ثم في إمعانه الشديد في أن تَقطَع مقامته الصلة بكل ماهو حكائي وكأنه يصبو بذلك - وبكل وعيه الأسلوبي والجمالي- إلى الخروج عن أعراف جنس أدبي أحْسَن تمثُّلَه، وإلى قلب حقيقة الشيء، ثم إلى تجاوز نمط تعبيري عبر نمط آخر؛ فكان له ما أراد.

هكذا يتضح أننا لو تأملنا «مقامة الحمى» من منظور معيار المقامة الهمذانية، خاصة المنظور الحكائي؛ وجدناها تقع فعلياً في درجة الصفر. لكننا لو فعلنا ذلك من منظور جنس أدبي آخر وليكن على سبيل المثال جنس المقالة لأمكننا ترتيب «مقامة الحمى» في درجة أدبية عالية. وفي هذه الحالة الثانية ستغدو تلك المقامة نصاً يطمح إلى الإقناع والتأثير بالحجة وقلب صورة الحقيقة اعتماداً على مختلف الشواهد والأمثلة المقتبسة من القرآن الكريم ومن الحديث النبوي والشعر والمأثور. بل أكثر من ذلك يبدو كأن كاتب تلك المقالة يعي جيداً عملية الإقناع ويتعمدها. لذلك قال: "لنغير الأسلوب"(8) حينما استشعر أن القارئ لم يستوعب جيداً الصيغة التعبيرية الأولى واقترح أخرى عوضاً عنها.يذكر أكثر من باحث أن أغلب مقامات السيوطي قد اتخذت خطة المقالة التي تقوم »على عرض وتقديم وخاتمة، وتقصد توضيح رأي خاص في قضية أدبية أو اجتماعية أو ذاتية. وقد تصف رحلة لكاتبها»(9). ويعلل يوسف نور عوض سبب هذا التحول من مقامات السرد إلى المقامات المقالات بكون هذه الأخيرة »توضح الأدران التي حلت بالمجتمع المصري خلال العصر المملوكي وفيها وصف دقيق للسلوك البشري. وهذه المقامات تؤكد رأينا الذي ذكرناه في أكثر من موضع وهو أن بعض كُتاب المقامات رأوا في المقامة حلاً لأزمة الشكل الأدبي في باب المقالة، فهم لم يعرفوا المقالة بمفهومها الذي اتضح عند المتأخرين ولذلك فقد كتبوا كثيراً من المقالات على أنها مقامات والمقصود بالمقامات في مثل هذه الحال أنها أحاديث أدبية وليست مقامات فنية بحسب الاصطلاح. ومن مقامات السيوطي في هذا اللون مقامة الحمى».(10)

ويقول عبد الفتاح كيليطو محاولاً تجنيس هذا النمط من المقامات:
»لننظر [...] إلى نصوص السيوطي ( المتوفى في عام 911 / 1505)، التي سماها مؤلفها هذه المرة مقامات. تساءلنا طويلاً عن صحة هذه التسمية التي بدت لنا بدون أساس. "المقامات الست التي وصلت إلى علمنا تتحدث على التوالي عن الورد والمسك والزمرد والخضروات والياقوت والبقول. وجميعها موضوعات لا مقابل لها في مقامات الهمذاني. كل مقامة من مقامات السيوطي مناظرة بين مختلف ممثلي صنف من الأشياء؛ في هذه المساجلة يستعرض كل ممثل مزاياه بهدف التفوق على الآخرين. كل هذا لا علاقة له في الظاهر بالهمذاني، ومع ذلك فقد اختار السيوطي كلمة مقامة لتعيين تأليفاته. فقط حين رأينا ابن القفطي يستخدم التسمية نفسها لتعيين [كتاب] دعوة الأطباء [لابن بُطلان المتوفى عام 458 / 1066]، بدأت تظهر لنا بداية الجواب. تجلت لنا حينئذ الرابطة بين دعوة الأطباء ومقامات السيوطي ومقامات الهمذاني: هذه المؤلفات الثلاثة تستخدم إسناد الخطاب. توجد مقامة حين يُسنِدُ المؤلفُ القولَ، على النمط الخيالي لشخصية أو عدة شخصيات. كثير من المشكلات تجد حلها حين ننـتبه إلى أن كلمة مقامة تعني في آن واحد نوعاً ونمطاً من الخطاب»(11).

إسناد القول يعد إذن مكوناً من مكونات المقامة، أو على وجه التدقيق مكوناً من مكونات الكتب الثلاثة المشار إليها آنفا بما في ذلك مقامات السيوطي. وواضح أن كيليطو بنى حُكمه على عدد محدود جداً من مقامات السيوطي التي تضمنها المصدر المطبوع طبعة حجرية. في تلك الطبعة غير المؤرخة ستُ مقامات اتخذت شكل المناظرة وتضمنت بالفعل إسناداً للقول مما دفع كيليطو إلى الجزم بأن »كل المقامات لا تستخدم " التعرف"، لكنها جميعاً تستخدم الخطاب المسند»(12). واضح أيضاً أن كيليطو لم يكن قد اطّلع في الصيغة الأصلية لكتابه على مقامات أخرى للسيوطي تضمنها الكتاب الذي حققه سمير محمود الدروبي وبلغ مجموعها تـسعاً وعشرين مقامة، بما في ذلك «المـقامة الذهبية في الحمى» التي تخلو من إسناد الخطاب إلى شخصية على النمط الخيالي. إن مقامة الحمى ومقامات سيوطية أخرى لا تتضمن إسناداً للقول إسناداً يتسم بحد أدنى من التخييل. صحيح أن ثمة إسناداً للآيات والأحاديث والأخبار، ولكن شتان بين الأمرين. لذلك يغدو معيار الإسناد الحكائي للخطاب غير منطبق على "مقامة الحمى" وغيرها. إن السيوطي تعمد أن يتجاوز التخييل والكدية والتعرف والإسناد ويكتب مقامة من طينة أخرى قد نسميها مع كيليطو نفسه "نوعاً فرْعاً "، ولكن ليس لأنها تتضمن إسناداً خيالياً بل لأنها في وعي صاحبها تنويع آخر من تنويعات جنس المقامات في كلّيته.

«المقامة الذهبية في الحمى» تندرج ضمن الجنس الأدبي المعروف بالمقامات. هي بالنسبة إلى السيوطي وعصره نمط يحتفظ بصلة "واعية" بجنس المقامات ويجب أن يحمل نفس تسمية "المقامة". وهي بالنسبة إلينا وإلى عصرنا "مقامة مقالة". وتعليل ذلك أن نقاد اليوم اخترعوا لهذا النمط الأدبي تسمية استمدوها من حقل الأجناس والأنواع الأدبية السائدة في عصرنا. لقد أزعجتهم الثغرة الأجناسية التي توهموا وجودها ونحتوا تبعاً لذلك تسمية قدَّ مقاسهم وليس قَدّ مقاس وعي السيوطي، في حين أن العبرة في مجال تسمية الأجناس الأدبية بما يصدر عنه الكاتب في وقته وعصره وليس بالاقتراحات اللاحقة، وإلا هل ينطبق مصطلح الرواية المتداول اليوم على "ألف ليلة وليلة" انطباقاً حقيقياً؟.كما «أن غياب تسميةٍ [نوعية أو أجناسية] لا ينبغي تفسيره باعتباره نقصاً جمالياً؛ بل يجب أن يدفعنا لنحصر من قريب التصنيف الخاص الذي أخضعت له الثقافة العربية نصوصها».(13)

ويظهر أن السيوطي كان رائداً في هذا المجال. فقد اتّسم وعيه الأدبي بالجمع بين تحقُّقين جماليين مشتركين يبدوان في ظاهرهما متناقضين ولكنهما في العمق ليسا كذلك: "المقامة" من حيث هي فن السرد، و"المقالة" من حيث هي فن عرض الفكرة. وبما أن السيوطي قصد العودة بفن المقامة إلى صورته الأولى التي كانت تعني "حديثاً يُلقى في مجلس"؛ فقد دشن بذلك صراعاً خفياً بين تينك التحقُّقين بقدر كبير من الوعي الأدبي. يقول مصطفى ناصف مترجماً بدقة عالية فكرة هذا الصراع:
كان أدب المقامات «مصالحةً غريبة مطلوبة بين اتجاهين متناقضين. لقد كان [هذا الأدب] طلباً لإدخال عنصر السرد في تفكيرنا، وطلباً لاتقاء المضي معه إلى أبعد مدى. لقد عرف الفكر الأدبي ذلك الصراع بين الحاجة إلى النسيان والحاجة إلى التذكر، بين الحاجة إلى الكلمة والحاجة إلى حدث يأخذ مكان الكلمة».(14)

«مقامة الحمى» هي إذن في درجة الصفر من منظور المعيار السردي، لكنها تتبوأ في مقابل ذلك رتبة لافتة في تطور أدب المقالات العربية التي لم تكد تقطع صلتها بفن المقامات ولو على مستوى العنوان فقط. صحيح أن السيوطي كتب مقالة وهو لا يعي أنه كتب مقالة بمقاييس عصرنا، ولكن على الرغم من ذلك يكفيه فخراً أنه أسهم إلى حد بعيد في تكسير رتابة جنس أدبي حسبنا خطأ أنها غير ممكنة أن تنكسر.

د. محمد أنقار

* عن مجلة الكلمة العدد 53 سبتمبر 2011

محمد أنقــار


 
أعلى