منقول - مشيخة الإلغيين من الحضريين للمختار السوسي

هذا الكتاب هو جزء كان في الأصل ضمن الفصل الثاني من القسم الثالث من المعسول في صيغته الأولى، وارتأى محمد المختار السوسي أن يترك هؤلاء الأشياخ والأساتذة الحضريين المذكورين في هذه المشيخة على حدة، وقد سعى في إخراج هذا الجزء في حياته لكنه لم يبيض منه إلا ترجمة الشيخ شعيب الدكالي، وقد كان تأليفه إبان نفيه في إلغ ما بين 1937 و1945م، ثم قام ابنه البار عبد الوافي بإخراج هذا الجزء كما قام بإخراج غيره، وقدم له بمقدمة معرفة بموقع هذا المصنف بين تراث والده رحمه الله.
مشيخة الفقيه محمد المختار السوسي
ترجم الفقيه محمد المختار السوسي لجملة وافرة من مشايخه الذين قضوا في أواسط القرن الرابع عشر الهجري، وقد كان هؤلاء المشايخ مفزع الناس وموئلهم في مسائل العلم والفتوى والإصلاح، وقد ساق هذه التراجم على نمط مخالف لنمط المعتنين بالتأريخ لأهل العلم من ذكر أصنافهم ومآثرهم، وأخذ في سبيل ذلك وتوسل بنمط جديد يتعلق بالذكريات والانطباعات النفسية وأثر المترجمين في الناس، يسوق كل ذلك في جزالة لفظ وحسن رصف، مع عاطفة جياشة تجاه مشايخه وتحننه للقائهم، وندمه على ما فاته من الأخذ عنهم والإفادة من علمهم، فهو قد نهج في التأريخ لمشايخه نهج الأديب المؤرخ؛ يطربك بأبيات قالها في حق شيخه، ثم يجول بك في جنان من الود والمحبة يتقدمها شوق الطالب لشيخه، ثم يأخذك أخذا لينا هينا إلى علم شيخه وإلى ما حصله من الفضائل وما اغترفه من الشمائل، وأين برز علمه وأين استوى عوده وأملوده، ويوازن بين مراحل الأخذ عنه مع الصدق والتحري، ثم يستطرد في ذكر أشجانه المؤرقة وتأسفه وتفجعه على افتقاد العلماء وذهابهم، وتحول تلك المجالس العامرة بالعلم والفنون إلى مجالس يتردد فيها الصدى والحنين، أو تحولها إلى ذكريات تتراءى للمشوق، ثم إنك في نظرك في هذا الكتاب الحفيل لتجد أخبارا متفرقة عن كل شيخ شيخا في غير موضعها المعتاد، فيتردد ذكر أبي شعيب الدكالي في كل التراجم كما يتردد اسم غيره، وتجد خبرا لم يذكره في ترجمة محمد بن العربي العلوي قد تجده في ترجمته لمحمد الرافعي وهكذا، فالكتاب يقرأ من أوله إلى منتهاه لمن أراد أن يحصل نظرة متعمقة مدركة لفوائد هذا الكتاب.

أبوشعيب الدكالي


ويذكر في سبيل التمهيد لفضله وعلمه ما أدركه الشيخ من الشفوف على الأقران والسمو بالعلوم وانتشار التلاميذ، وكيف ساد وهو شاب، حتى كان يحضر دروسه أساطين العلم وأعلامه كابن إبراهيم السباعي، "وميزة أخرى للشيخ وهو أنه لم يعرف بادعاء صلاح ولا بالتقول فيما يقول"، وقد حمله علمه على أن سلم له الكل؛ القريب والبعيد، والمساند والمعاند.
ثم صار يحكي ما رآه بعينيه وسمعه بأذنيه بقوله : "والشيخ شعيب علامة مشارك يذاكر كل ذي فن في فنه ثم لا يعجز أن يتخلل معه في مسالكه الدقيقة، وإن كان مذاكره أكثر تحصيلا من الشيخ في ذلك الفن، فقد أوتي ملكة يقتدر بها أن يعلو دائما كعبه في المباحثة فلا يقوم جليسه إلا معجبا به راضيا".
والطريف في ترجمته هاته أن يورد منها ما حكاه الشيخ بنفسه وردده في مجالس أنسه، من ذلك قول محمد المختار السوسي : "نشأ الشيخ يتيما وربما مات والده قبل أن يعرفه فتولى أحد عمومته كفالته فأحسن كفالته، واعتنى بتعليمه كتاب الله أولا، ثم الروايات السبع ثانيا، ثم حفظ المتون كلها التي كانت تدرس من المختصر فما دونه ثالثا، فكان يحكي لنا رحمه الله أن يد عمه كانت عليه شديدة جدا ولا يعرف شفقة عليه في سبيل واجب القراءة فما كاد يستتم اثنتي عشرة سنة حتى حفظ كل ما تقدم حفظا متقنا، ولما أعلن السلطان مولاي الحسن الأول في الناس أن كل من عرض المختصر حفظا فله جائزة أقبل الشيخ من البادية وهو ابن نحو ثلاثة عشرة سنة فمثل بين يدي السيد علي المسفيوي؛ وكان إذ ذاك وزير الشكايات وله حرمة علمية لأنه من أساتذة السلطان، ولذلك نصبه لامتحان حفاظ المختصر، قال الشيخ : فاستصغرني وظن أنني أكذب فقلت له : اقبض النسخة، فصرت أملي عليه، ثم نقلني إلى بعض أبواب أخرى وهكذا حتى مر بي على أبواب في الأخير، فتعجب جدا مني، فقلت له : وأحفظ أيضا الشاطبية، فسردت عليه منها، ثم التحفة، وسردت عليه منها، وهكذا وهو يزداد عجبا إلى أن تلوت عليه من كل ما أحفظ، فقلت له : وهل هنا من يتقن القراءات السبع فإنها أيضا من محفوظاتي، فطال تعجبه كثيرا، فخرجت من عنده بجائزة عظيمة جدا".
وبالجملة فإن الشيخ أبا شعيب الدكالي "آية من آيات هذا العصر، أتقن أصول المسائل وتمهر في الخلافيات وأقوال العلماء المتفقة والمختلفة، حتى كان ما يحتاج إليه في الدروس غالبا مستحضرا عنده بديهة لا يحتاج فيه إلى مراجعة، مع مقدرته الغريبة في إطالة الدرس إن شاء بما لا يمل وإن طال، وفي إيجازه إيجازا غير مخل إن اقتضى المقام ذلك".
ولما سمع السلطان مولاي عبد الحفيظ بالشيخ استدعاه لجواره، "فأوعز السلطان أن تهيأ له بهائم يحمل عليها متاعه وأهله إلى فاس، فدخل الحضرة الحفيظية وقد هيئت له دار عظيمة ومؤونة كبيرة، وعند حضوره لمجالس السلطان كان يتقدم كل الشيوخ من الأكابر والجهابذة كابن الخياط والمهدي الوزاني والبلغيثي، وكان السلطان إذ ذاك حر الفكر يرفع ضد كل البدع سيوفا مرهفة، فلم يجد من يخلص لمبدئه كالشيخ شعيب الدكالي".

طريقته في التدريس وإلقاء المسائل
وفي سياق الترجمة يتوغل الفقيه محمد المختار السوسي في ذكره لطريقة تدرسيه فيقول : "يبتدئ الدرس معك وأنت وهو خالي الوفاض مما سيقال، ثم عند التقرير لا يلقي إليهم إلا ما كان قد قتله بحثا، فجلاه إليك في ثوب مبهج قريب الملمس لطيف المنظر، ثم يأخذ بيدك تدريجيا وهو يترقى بك شيئا فشيئا، وشهية تفهمك تتفتح بالمسائل الأولى السهلة التي فهمتها بديهة، إلى أن يقف بك إلى معترك الأفهام ومنتطح الكباش، فهناك تتكفل لك عبارته السهلة الواضحة وفصاحته العربية المعسولة وتقريره المنظم المرتب ترتيبا طبيعيا بأن تفهم كل عويص جال فيه الأستاذ بتقريره، ثم إذا عن لك إشكال ورآك الأستاذ بحذقه الغريب وفراسته الإياسية تحدجه بطرفك وتردد سؤالا من فيك يتوجه إليك بذلك الوجه النير البراق الأسرة ويقول لك : ما تقول يا سيدي، فتتجرأ إذن أن تعلن سؤالك وأنت باعتناء الأستاذ بك بين أولئك الجماهير الكثيرين مسترق العواطف مبتهج الفؤاد منشرح الصدر، ثم تسمع جوابا لطيفا هادئا مصوغا في قالب التنازل العظيم، فإن راجعته ثانيا أو ثالثا يمادك المجاوبة، وإن رأى من كلامك ناحية فيها صواب اعترف لك على رؤوس الأشهاد بأنك على صواب، فلا تسل عما يعتريك إذ ذاك من الحبور والسرور والرغبة التامة في تحصيل العلم، فلا يزال ذلك يتكرر حتى تهتم أن تطلق كل الحياة وشهواتها ليكون لك هذا العلم السهل الذي نال به الشيخ شعيب ما نال".
وقد كان الشيخ مالكيا يدافع عن المذهب وينافح عنه ويستشهد له ويروم الانحياش إلى أعلامه وفحوله، إلا أنه لم يكن متعصبا، فإن ظهر له الحق أيده واتبعه وأظهر العذر في السبب الذي جعل الإمام مالكا يقول به، ومنه قوله : "..إن الهدي عند المالكية منهي عن ركوبه، وهذا الحديث وارد عليهم، وقد مال إليه فخر المالكية ابن العربي المعافري فقال : إن ركوبه وإن كرهه مالك فلسنا له بممالك، ونقول به متبعين محمد بن عبد الله وإن لي يقل به أبو عبد الله".
وقد كان الشيخ يميل إلى القبض في الصلاة ويرجحه بالأدلة القوية، فبه وبعلماء آخرين انتشر القبض اليوم في الحواضر، كما أنه كانت له أنظار كثيرة قد يختارها من الخلاف، وقد يكون هو أبا عذرها، وقد ذهبت بكل أسف ولم يكن أحد من تلاميذه قد اهتبل بتقييدها.
ثم بخلص الفقيه محمد المختار السوسي إلى أن دروس أبي شعيب "بثت روحا عليا في النشء الذي فيه الحياة، فتفتقت الأفكار وجرؤ التلاميذ على الصراحة بما يعن لهم، ولو كان كل الذين يحضرون دروسه مستعدين لروحه السامية لكان المغرب اليوم على غير ما هو عليه الآن في العلوم الدينية، فقد أحيى الله بالشيخ أفكارا، ونشر به علوما، واستبدل به حالة لحالة أخرى، حتى انقلبت أساليب التدريس وسلكت مجاري التفهم للعلوم مسلكا آخر، فانقلبت بسببه جميع أحوال الطلبة من جنب إلى جنب آخر بالتدريج".

مولاي أحمد بن المامون البلغيثي

ثم ينتقل إلى ذكر شيخ آخر ممن تلمذ له فيعرف بمولاي أحمد البلغيثي بقوله : "أحد الأدباء المشهورين ويضم إلى تضلعه في الأدب تضلعا في باقي العلوم الإسلامية من عربية وفقه وحديث وتفسير؛ أتقنها كلها إتقان المشارك الذي له اطلاع واسع في كل فن".
حضر الفقيه محمد المختار السوسي دروس البلغيثي في البخاري لكنه لم يجد لها من حلاوة الحديث ما كان يعرفه عن الشيخ الدكالي، وإنما هي أبحاث ملتقطة تسعفه بها مشاركته الواسعة في العلوم والفنون، ولم يكن يمعن في الحديث بحثا متعمقا كما أن مطالعته للفتح لم تكن من أغراضه، ولكنه –أي البلغيثي- لم يكن يتذوق كثيرا من أبحاثه، ما جعل الفقيه محمد المختار السوسي ينقطع عن دروسه ومجالسه إلا ما كان من زيارته ومطارحته القصائد والأدبيات، وهذا كله كان بسبب الشفوف الذي حصل له من ملازمة الشيخ شعيب بمراكش إذ يقول الفقيه : "وأنت ترى أن الشيخ شعيبا أذاقنا ما أذاقنا فنفعنا من جهة وأضر بنا من جهة، نفعنا من جهة أنه رقى مداركنا حتى عرفنا لب العلم وكيف تذوق المسائل، ولكنه بسبب انقطاعنا عنه واضطرارنا إلى آخرين لا يزالون على ذلك السير العدمليّ القديم، قد أبت علينا أذواقنا أن تتنازل وأن تصبر على ذلك السير الذي فيه فوائد على علاته".
ويذكر الشيخ في استطراداته أنه ذاكر الأستاذ الرافعي الجديدي فقال له : إني نادم على عدم أخذي عن الفضيلي، فقال له الرافعي : "لا تندم فإن هذه المعلومات التي عندك في الأصول وتمرنك على إعمالها في الأدلة ما كان الفضيلي ليعرف بعضها وإن كان يستظهر كل ما قيل"، ثم قال : "إن علم الأصول علم سهل ولكن أفسده جمع الجوامع ومحشوه، ثم جاء أمثال الفضيلي الذي لا يعرف أن يعمله في الأدلة وإنما يعرفه مسائل مجردة فأفسدوه وهم لا يشعرون".
ومن إنصاف مولاي أحمد البلغيثي ما ذكره له من علم ابن إبراهيم السباعي في مذاكرة جرت له مع علماء فاس وطلبته، قال البلغيثي : "إذ ذاك انقشعت عن عيني غشاوة كثيفة فعلمت أن في المغرب علماء آخرين غير من نعرفهم بفاس، وذهب عني ما كنت أسمعه في صغري لا علم إلا علم الفاسيين، ولا عالم اليوم بفاس إلا ابن الخياط"، قال : ثم لما صرت أجول في المغرب أدركت مقدار غلطنا وأننا في أقماع من الجهالة بأنحاء المغرب في حين أننا غير شاعرين".
تولى البلغيثي القضاء في الصويرة مرتين ثم البيضاء، وكان شديد الشكيمة لا ينحني لأحد، وقد وقع بينه وبين باشا البيضاء إذ ذاك مشادة أفضت إلى عزلهما معا، ثم بعد ذلك انخرط في مجلس الاستيناف، وبعد الأربعين تولى قضاء مكناس ثم أعفي منه، فلزم داره بفاس يدرس ويفتي ويؤلف.
وكان تيجانيا متدينا حسن المعاشرة طيب السمعة، وهو من الذين لم يتركوا نظيرا لهم بعد وفاتهم، وكان ممن يقبض في الصلاة ويجول في المذاهب جولانا ما، وربما يترجح عنده في مسألة غير المعتمد في مذهب مالك، وذلك مما يدل على حرية فكره رحمه الله.

محمد بن العربي العلوي

مهر الفقيه في الفنون التي تلقاها وكانت له مشاركة فيها، ولكن الذي كانت له فيها المهارة التامة هي علوم العربية على اختلاف أنواعها، ويده في الأدب وفي الذوق العالي لم يدركه فيها أحد ممن لقيناهم بفاس، اتصل بدروس الشيخ الدكالي فكان سارده في الدروس الحديثية، وكان السبب في رجوعه عن التجانية كتاب ابن تيمية "الفرقان بين أولياء الرحمن وأولياء الشيطان".
وكان الأستاذ في مناظراته ذا تؤدة واتساع صدر وذا حجة ظاهرة، يدرك بحذقه ما يليق أن يحتج به على كل إنسان وكيف يدخل عليه.
وقد قال لي مرة : "إن قضايا تأتي إلى يدي وأدرك أن الحق فيها يعاكس المشهور في المذهب المالكي، فأسلك بالقضية مسالك حتى أوافق فيها الحق الذي ينشرح له صدري ثم لا ينكره الفقه المالكي"، ولكونه يحافظ عند تنفيذ الحكم على المنصوص من المشهور أو الراجح لم يرد عليه فيما علمنا حكم من الاستيناف.
"والمحصل أن الأستاذ إذا توجه لمسألة فإنه يحررها تحريرا بالغا ثم إذا عقد عزمه على ما حرره لا يتحلحل عنه وإن ناظره الأولون والآخرون".
"وقد كان يجول في كل مجال ويطل من كل ثنية فلا يترك للإرشاد بابا إلا طرقه، ثم يتخلص منه إلى ما هو دائما مبدأه ومنتهى غايته، فيشيد بالتوحيد ويؤيده وينصب دلائله بما يبهر الحاضرين ويفحم المناظرين".

المدني بن الحسني الرباطي

ويذكر عنه أوليته وأنه ممن "نشأ برياض الزيتون بمراكش أيام الدولة العزيزية فهناك تلقى القرآن، ثم انتقل إلى الرباط فأخذ بها سائر العلوم، ولم يغادرها لطلب العلم ولم يكن طلبه إلا بها، فأخذ عن علماء الرباط، وسمت به همته إلى الانقطاع لطلب العلم، فأقبل على نفسه بذهن وقاد وذاكرة حادة يدرس ويقيد ويحفظ ما يحفظ في غرفته، ويلتهم ما يلتهم من الكتب والأسفار، حتى صار أعجوبة المغرب وحديث الأعصار ومستمد المؤرخين، فمن باب المطالعة والتتبع والاستظهار دخل سيدي المدني، فأمعن في التاريخ العام والتاريخ الخاص بالمغرب وحصله تحصيلا صار به مشاركا، وأمعن أيضا في علوم الحديث إمعانا، وحصلت له معرفة تامة برجاله واصطلاحاته وكتبه، ثم أقبل على حفظ متون الحديث، ضاما إليها علوم اختلاف المذاهب، وأتقن الأصول والنوازل والمسائل، أما العربية وعلومها فقد حاز فيها الدرجة الرفيعة نحوا ولغة وبيانا وأدبا".
وتعانى التدريس وتصدر للإفادة فأملى على المختصر الفرائد من الفوائد ونظم مسائله وأبان دلائله، وهكذا كان في جل مجالسه.
فعندما افتتح بلوغ المرام كان يتناول الحديث من كل جهة منطوقا ومفهوما على المنهج الأصولي، فيأتي بدروس قيمة ويعرض المذاهب وحجج الكل، وذلك بعدما يتكلم على الحديث من جهة الاصطلاح، فكان يستوعب تلخيص الحبير للحافظ ابن حجر فيملي ما هنالك ثم يزيد عليه، فيكون منتهى ما يقرر حديثا أو حديثين.
وقد كان بلوغ المرام بدراسة الأستاذ هو الفاتح للفقيه محمد المختار السوسي عن الكيفية المختارة في دراسة الحديث "ففيه تعلمنا كيف ننظم تفهم الحديث فنبتدئ أولا بالتكلم حول سنده ومرتبته ومخرجيه
، ثم نتكلم على المتن من جهة العربية أولا، ثم ندخل في فقه الحديث فنتعرض لسببه، ثم بعد ذلك نتكلم حول ظاهر متن الحديث؛ أهو نص في الذي يساق له أم هو ظاهر ؟ ومن القائل بمدلوله من الأئمة ؟ ومن لم يقل به ؟ مع إيراد العذر لمن لم يقل به، ثم يوشح ذلك بالقواعد الأصولية والقواعد الاصطلاحية الفنية مع تتبع العمومات في المتن والمطلقات وعكسها".
هكذا كان الأستاذ يدرس، "فنشاهد حرية الفكر ونبذ التعصب المذهبي، فتتجلى لنا عظمة علم الأصول ودلالة الأحاديث كما هي، فنخرج من الحديث وقد عرفنا مدلوله، ومن يقول به، مع إدراكنا العذر الواضح –إن كان- ممن لم يقل به".
"ولسيدي المدني كتاب "منار السبيل إلى مختصر خليل بالحجة والدليل"، موضوعه استخراج الأدلة من الأحاديث والآيات للمالكية، فكان بذلك أهم كتاب يصلح لهذا العصر الذي لا يزال الناس فيه منكبين على خليل مع اشرئبابهم إلى الحديث، وأخبرت أنه في أربعة أجزاء، ويكفي هذا الكتاب دليلا على يد الأستاذ في السنة، فقد قام أخيرا للمالكية بما قام به البيهقي قديما للشافعية والطحاوي للحنفية، وقد أفرغ الأستاذ جهده في هذا الكتاب يتتبع له كل كتاب حديثي حتى أمكن له أن يكمله".
محمد بن عبد السلام السايح الرباطي
من جملة ما حفظ الفقيه محمد المختار السوسي من نصائحه قوله له : "إنني أقول لك كلمة احفظها عني تنفعك في مستقبلك وتعينك في بحثك، وتكفكف من غلواء احتمالاتك التي أراك بها غنيا تنثرها بلا حساب، إن هذا البحث نفسه لو كشف لك الغطاء وقرأت ما كان سلكه فيه النظار الكبار الذين كانوا أقعد بمعرفة مدلولات العربية، وأشد تمكنا في معرفة الحديث والإحاطة بكل ما يمس المقام، وكانوا أكثر منك حرية رأي ومتانة تفكير وسلامة ذوق لرأيت ما يبهرك، فإنهم ما توصلوا إلى هذه النتيجة إلا بعد جهود عنيفة خلقهم الله لها في ذلك العصر، وتأتى لهم بقربهم من عصر النبوة وعهد التنزيل وطلاوة العروبة ما ليتأتى لبني هذا العصر، وإن ادعوا من حدة الأذهان ما ادعوا، فهذه القواعد الأصولية التي أصلوها بجهودهم ما أصلوا كل واحدة منها إلا بعد كد وعنت وتتبع وإمعان وموازنة بين كل الجزئيات التي يمكن للبشر أن يستقريها، فكيف يتأتى لشاب من أحد شبان القرن الرابع عشر الهجري أن ينطح تلك القواعد الرامية ما لم يأت بجهود أكبر من جهودهم، ومصابرة أعصارا طوالا في الاستقراء، أفيسهل لمن تتألق له بارقة فهم تألق البرق الخاطف أن يعمد إلى دك تلك القواعد فينسفها، هيهات هيهات فما هو في الحقيقة إلا
كناطح صخرة يوما ليوهنها فلم يضرها وأوهى قرنه الوعل
إنني والله لأتعجب من بعض شبان اليوم المعجبين بأفهامهم حين أراهم يتطاولون إلى مجاذبة النظار المتقدمين أفهامهم، فيردون عليهم ما يقررونه من القواعد العامة، فأقول : إن هذا العصر عصر العجائب، ومن عجائبه هؤلاء المتنطعون الذين يزعمون أنهم يحسنون كل شيء، في حين أنهم لا يحسنون أي شيء، يتصور أحدهم نقطة من ماء سراب فيظل يحوم حولها ويسبح بخياله من بعيد فيها، وما فيها إلا نقطة متخيلة من سراب، ثم يزعم أنه يغرق بها بحارا طامية تشد الآفاق بأمواجها، فيملك ذلك الخيال عليه شعوره حتى لا تحمله أرض ولا سماء، وما هو في الحقيقة إلا أجهل وأقمأ وأخرق من أقلته أرض وأظلته سماء، حذار يا فلان أن تكون من هؤلاء فتخسر حياتك وتكفر بسلفك، وتغمط جهود العالم الإسلامي الذي ما مر فوق هذه الكرة عالم مثله عقلا وعلما ومدنية، فهذه نصيحتي إليك فاقبلها بهذه المناسبة، وإياك أن تحسب أنني تأثرت من مباحثتك هذه، فأيم الله إنني لمعجب بك وما إعجابي بك إلا من أجل أمثال هذه المباحثات، ولكنني لا حظت عليك أنك ربما تعمد عن عمد إلى ترهة، فتترك المحجة فتحسب أنك بذلك ممن يحسنون صنعا، فأردت أن لا ترجع إلى مثل ذلك منذ اليوم، فابحث واجعل أفكار العظماء رائدا لبحثك، ثم إذا اقتنعت -بعد بذل جهود عظيمة كما يفعل العظماء- أن من اتخذته رائدا قد زل عن الطريق السوي فحينئذ لا بأس عليك إن أعلنت ما يظهر لك".
وكان مما قاله له : "إن خزانة العرب قد ضاعت بكل أسف في دجلة يوم هولاكو، وفي ساحات الفردوس المفقود، عندما كانت تحرق الكتب في ساحات المدن المحتلة، فقد أحرق مرة ثمانون ألف مجلد دفعة واحدة، ففي ذلك ذهبت أفكار العرب وجهودهم في الفلسفة وغيرها، على أن بقية قليلة ما تزال موؤودة في المكاتب العامة والخاصة".
وذكر يوما له "أن الفقه لا يمكن أن يجمد وإن حاوله الجامدون، فأفاض الأستاذ في ذلك بأدلة تاريخية تشهد بأن الفقه تتطور جزئياته وإن كانت كلياته مستقرة".
"كان الأستاذ حرا طليق الفكر إلى غاية ما بعدها غاية، ولكن الذي يزين تفكيره أنه غير متنطع، فترى في مذاكرته وقار العلم في عقل الفلسفة، ولم يكن مجلسه معنا إلا مجلس وقار مقصورا على العلم".
لسيدي السايح مشاركة عظيمة جدا حتى إن المدني بن الحسني قال في حقه وهو أحد أقرانه : "إن الأستاذ السايح هو الذي أخذ العلم كما يكون الأخذ"، فقد أتقن الأدب والنحو والفقه المالكي بجزئياته فلا يعزب عنه كل ما في الزرقاني وحواشيه، والتفسير والحديث وله فيهما باع طويل حفظا وفهما واستحضارا للنقول، كما كان أيضا مؤرخا ومطلعا على الفلسفة ومذاهبها.
محمد بن أحمد الرافعي الجديدي
كان الأستاذ الرافعي آية في حفظ المتون، فقد ذكر للفقيه السوسي أنه "حفظ في صغره ثمانين متنا تتعلق بكل الفنون المتداولة، وكان أخذه في منشإه بأزمور، وكان والده عالما كبيرا، وكان من أعجب الناس في المطالعة مع تثبت فيها واستظهار، وحفظ مع المعرفة بالحديث والتفسير، ويستظهر غالب ما قيل من الأقوال المشهورة فيهما، وهو العالم الوحيد الذي ترتجف منه فرائص كثيرين من أفذاذ علماء المغرب، لأن حجته معه، مع جرأة ترغمك على القبول، أضف إلى ذلك جولاته الكثيرة في الفلسفة قديمها وحديثها، رجالها ومصنفاتها، ومدارسها ومذاهبها.
وقد عرضت على الأستاذ وظائف شتى فاستنكف من أن يكون له قيد، وإن كان من ذهب مرصع بالجواهر والياقوت، ولكنه مع فقره غني بنفسه لا يتدلى إلى أحد طمعا مما عنده، وهو يمثل عظمة العلم والتعالي به، وكثيرا ما سمعته يقول : "من تماوت بالعلم أهانه، ولسان العالم سيفه".


مولاي عبد الرحمن ابن زيدان

قال فيه المؤلف : "مفخرة المغرب وأحد العلماء المشهورين في هذا العصر بالتنقيب بين الكتب، وخير دليل على تمكنه ومعرفته كتابه "إتحاف أعلام الناس بجمال أخبار حاضرة مكناس"؛ لما تضمنه من وثائق تاريخية عظيمة الوقع جليلة النفع، تأتت للأستاذ لكونه أحد أبناء الأسرة المالكة، ولمداخلته للذين أولعوا بجمع ذلك من أرباب الخزائن الخاصة، والمديرين للخزائن العلمية للحكومات، فكان جاهه وأخلاقه وسمعته الطيبة تفتح له كل باب وتيسر له كل عسير.
وفي الأخير
هذه نظرة عابرة في مشيخة الفقيه محمد المختار السوسي أوردنا فيها جملا صالحة من أخبار بعض المترجمين، وقد ارتأينا أن يكون نظرنا لهؤلاء مبنيا على خصال أهمها الاشتهار بالحفظ والذكاء الحاد والنبوغ المبكر والقدرة على المناظرة والإفحام، فجل هؤلاء الواردين هنا ممن اشتهروا بالحفظ والإيغال في مسالكه، والشفوف على الأقران بما نالوه من هذه النعمة السابغة، وكذا تميزهم بالنبوغ المبكر وبروزهم للتصدر والإفادة وهم مازالوا في عنفوان الشباب، وكذلك مناظراتهم المتلوة ومجادلاتهم المجلوة في الدفاتر وعلى المنابر، فقد كانت مجالسهم عامرة مقصودة من العام والخاص.
والكتاب فيه من الأخبار والفوائد من أشعار وذكريات ومناظرات ما يطرب القارئ ويرقص المطالع، هنيئا لأهل العلم وطالبيه بهذا المصنف الماتع ليكرعوا من حياضه، وينهلوا من عيونه المتكاثرة وفنونه المتناثرة.
 
أعلى