مقامات محمد كشك - توظيف المقامة في الرواية العربية

يرجع ظهور المقامة، بوصفها نوعاً سردياً قصصياً، إلى القرن الرابع الهجري، ويرى الدكتور عبد الله إبراهيم أن الهزة الخفيفة التي تعرضت لها بنية الخبر التقليدي في القرن الرابع الهجري، المؤلفة من الإسناد والمتن مهّدت لظهور فن المقامة، إذ إن تحطيم بنية الخبر من خلال التخلي عن الدقة في الإسناد، جعل الخبر لا "يحيل على واقعة تاريخية قدر عنايته بالإحالة على واقعية فنية متخيلة". يعني ما تقدم أن المقامة تطورت عن فن الخبر التقليدي، عبر تحطيم البنية التي يقوم عليها الخبر، والمؤلفة من إسناد ومتن حقيقيين واستبدال إسناد ومتن متخيلين بهما.‏

ويُشير الباحث الدكتور محمد رياض وتار في كتابه "توظيف التراث في الرواية العربية" الصادر حديثاً عن اتحاد الكُتّاب العرب ـ إلى اختلاف النقاد العرب في العصر الحديث حول فنية المقامة وانقسامهم إلى فريقين: أولهما اعتبر المقامة قصة فنية، واستدل بذلك على أسبقية العرب إلى معرفة فن القصة، وثانيهما رأى أن المقامة لا ترقى إلى مستوى القصة الفنية، وإنما هي "حديث أدبي بليغ". أما الدكتور عبد الملك مرتاض ـ بحسب رأي الكاتب ـ فقد اتخذ موقفاً وسطاً بين الموقفين السابقين، معتبراً أن "التعصب للمقامة إلى حد اعتبارها قصة فنية هو ظلم للقصة وللمقامة معاً". وأن المقامة ليست إلا جنساً أدبياً يتخذ الشكل السردي نسيجاً له، ومن الشخصيات المكررة الوجوه والمختلفة الأدوار، والطريفة الطباع أساساً له" وخلص الدكتور مرتاض إلى أن المقامة لا ترقى إلى مستوى القصة الفنية بمفهومها الحديث، على الرغم من توافرها على الزمان والمكان والحدث والحبكة السردية التي تبدو ضعيفة تارةً وغائية تارةً أخرى. (وفق ما جاء في كتابَي دكتور مرتاض: فن المقامات في الأدب العربي، ومقامات السيوطي).‏

ويطرح دكتور محمد رياض وتار، السؤال التالي: ما الذي يجعل المقامة قريبة من القصة الفنية؟ وبعبارة أخرى ما الذي يحقق للمقامة فنيتها؟ ثم تأتي الإجابة على النحو التالي: إن اقتراب المقامة من القصة الفنية لا يرجع إلى توافرها على عناصر القصة من حبكة، وزمان ومكان وشخصية وما يحقق فنية المقامة يرجع إلى أمرين: أولهما سخريتها، أي معالجتها لموضوعها معالجة ساخرة، وثانيهما التنوع الكلامي الذي يتأتّى لها عن طريق إدخالها الأجناس الأخرى في بنيتها "الشعر، القرآن، الحديث، الأمثال..".‏

إن الشرطين السابقين: السخرية والتنوع الكلامي هما الشرطان اللذان يميزان الرواية الفنية عن غيرها من الأجناس النثرية، كما يقول الناقد الروسي ميخائيل باختين في دراسته للكلمة الروائية التي رصد تاريخ تطورها في الأجناس النثرية القديمة، كالرواية السفسطائية، والأماديس والرواية الرعوية، ورواية الباروكو التي تركت تأثيراً كبيراً في الرواية الأوروبية المعاصرة (كتاب باختين: الكلمة في الرواية). والجدير بالذكر هنا أن فن المقامة أثّر في الأدب الأوروبي تأثيراً واسعاً متنوع الدلالة، فقد غذّت هذه المقامات قصص الشطار الإسبانية بنواحيها الفنية وعناصرها ذات الطابع الواقعي، ثم انتقل التأثير من الأدب الإسباني إلى سواه من الآداب الأوروبية، فساعد على موت قصص الرعاة، وعلى تقريب القصة من واقع الحياة، ثم على ميلاد قصص العادات والتقاليد في معناها الحديث، وهي التي تطورت، فكانت هي قصص القضايا الاجتماعية فيما بعد.. وقد تعرضت المقامة بوصفها جنساً سردياً قصصياً متطوراً للإجهاض ولم يتم الانتباه إلى أهمية المقامة إلا بعد الاطلاع على إمكاناتها السردية الكثيرة، والتفات الروائيين إلى التراث السردي القصصي والإفادة منه في التأسيس للرواية العربية المعاصرة، فظهرت بعض الروايات التي أفادت من فن المقامة، كرواية "الوقائع الغربية في اختفاء سعيد أبي النحس المتشائل "للروائي الفلسطيني إميل حبيبي، ورواية، "مدونة الاعترافات والأسرار" للروائي التونسي صلاح الدين بوجاه، ورواية "المقامة الرملية" للروائي الأردني هاشم غرايبة الذي عَمَدَ إلى تأسيس روايته على الموروث السردي، ممثلاً هنا بفن المقامة، ويتناص مع عناوين المقامات في التراث العربي، من حيث جعل المقامة تدور حول موضوع محدد، كما فعل بديع الزمان الهمذاني في "المقامة المضيرية"، أو جعلها تدور في مكان محدد "كالمقامة البغدادية".. أما رواية "المقامة الرملية" فقد اكتسبت اسمها من كون أحداثها تجري في بيئة صحراوية ترمز للوطن العربي. ولعل حرص الكاتب هاشم على كتابة رواية لا مقامة دفعه إلى المماهاة بين بطل الرواية والراوي، وجعل البطل لا يعتمد الحيلة والكدية كما فعل أبطال المقامات في التراث العربي.. وهذا دليل على أن تجربة الكاتب في توظيف فن المقامة تنهض على توظيف الشكل الفني للمقامة واتخاذه وسيلة للتعبير عن الحاضر وتصوير الواقع، فابن الأحوص، بطل الرواية نموذج للإنسان العربي بشكل عام، ولذا افترق عن أبطال المقامات.. ولقد تشرّبت رواية "المقامة الرملية" أسلوب فن المقامات فكثرت الجمل السردية المسجوعة التي تغلب عليها السجعات.. ويكثر في المقامات الاستشهاد بالشعر، وهذا ما فعله غرايبة في روايته، إذ نجد الاستشهاد بالشعر القديم والحديث والفصيح والعامي، يقول ابن الأحوص: "جاب الديار شاعر نكرة أتى من جهة الواحات ذات الينابيع الباردة التي يسكنها الأنماس.. وقف في مجلس الشيخ شامخ، فأنشدني وقال: وشمت البعيد... وسمعت الحديد... وسفت الصعيد.. لكسب السند، قدت الحرون... وزرت الجرون... وزدت الحصون.. ومتن الجلد، فلا تجزعن.. ولا تخضعن.. ولا تفرقن.. لجدب جرد.‏

ويُلاحظ الدكتور محسن جاسم الموسوي في دراسته للرواية العربية المعاصرة خلال فترة الستينات وجود شخصية الفتوة والشاطر والعيار والزاهد، ويعتبر هذا النمط من الشخصيات امتداداً لظاهرة الشطار والعيارين والفتيان في التاريخ العربي، في مرحلة الضعف والتمزق والانحطاط ويتقصى هذه الظاهرة في روايتي نجيب محفوظ "اللص والكلاب" و"ملحمة الحرافيش" ورواية غالب هلسا "السؤال" ورواية جمال الغيطاني "الزيني بركات" ورواية يوسف القعيد "المصري الفصيح: نوم الأغنياء"، ورواية الطاهر وطار "عرس بغل". ويستند الدكتور الموسوي ـ لتدعيم رأيه ـ إلى وجود قاسم مشترك بين أبطال الروايات السابقة والشطار والعيارين والمكدين الذين عرفهم المجتمع العربي في مرحلة ركوده وانهيار حضارته. إن عاشور الناجي بطل رواية ملحمة الحرافيش، والحاج كيان بطل رواية عرس بغل ـ على سبيل المثال ـ يشتركان والعيارين والمكدين والشطار في أنهما يعيشان في مجتمع فقدت فيه العدالة الاجتماعية ولذا يتمردان عليه ويرفضانه.‏


المقامات.jpg
 
أعلى