دراسة علي الراعي - صهيل الجواد الأبيض

في صهيل الجواد الابيض‏,‏ يصف زكريا تامر بطله الذي يتكرر في هذه المجموعة من القصص‏.‏ يصفه بأنه مخلوق ما‏,‏ ضائع في زحام مدينة كبيرة قديمة ويجعله يقول‏:‏ لست دون جوان‏.‏ لا أملك سيارة ولا بناية شامخة في شارع لايسكنه الفقراء‏.‏ لست بطل ملاكمة أو مصارعة‏.‏ صورتي لايعرفها قراء الصحف والمجلات‏.‏ اشتغل في اليوم ثماني ساعات‏.‏ اتعب‏.‏
ابتلع الطعام بسرعة عجيبة‏.‏ أتعب اشترك بحماسة في مناقشات عقيمة‏.‏ اقامر بمبالغ ضئيلة‏.‏ اضحك ببلاهة‏.‏ أغازل فتيات‏:‏ أروي بحزن حكاية حبي ذات الختام الحزين‏.‏ أسمع سيمفونيات سيبيليوس‏.‏ أقرأ كتابا‏.‏ أتسكع في طرقات لولبية‏.‏ أتجرع بنهم خمورا رديئة‏,‏ الليل بدونها كآبه فاجعة‏.‏
يدخل البطل احدي الخانات‏.‏ يري رجلا بائس المظهر‏,‏ يجلس الي طاولة قريبة‏.‏ يدير معه حوارا متخيلا‏.‏ الرجل البائس يزعم أنه بائع أقمشة في النهار وبحار مغامر في الليل‏.‏ يدعو الرجل البائس البطل الي أن يرحل معه‏.‏ الي أن يركب البحر ليري عالما جديدا مدهشا‏.‏ سيقف علي ظهر السفينة مرفوع الرأس‏.‏ سيضحك بسرور وحشي فكل الاحزان قد خلفها وراءه‏.‏ سيقابل اناسا غرباء‏.‏ وسيصغي الي موسيقي مدهشة تخلقه من جديد‏.‏
وستعود له طفولته المسلوبة‏.‏ وربما رقص مع فتاة عيناها كبيرتان‏,‏ تطل في أغوارهما شهوة مجنونة‏.‏ آه ما أروع الاشياء الجديدة المجهولة‏!‏ ولكن البطل يرفض هذا الاغراء الجميل‏.‏ يقول‏:‏ انني أعشق مدينتي بجنون‏.‏ رد محاوره المزعوم‏:‏ البلهاء وحدهم يفضلون الهدوء‏.‏ ويرد البطل‏.‏ أحيانا أحلم بزوجة وأطفال ومنزل‏.‏ وأتمني لو يتحقق هذا الحلم‏.‏ يعلق محاوره‏:‏ أنت مجنون‏.‏ ستتحول ببطء الي دوده ضجرة لاتقدر علي الهرب من قفصها الفولاذي‏.‏ يترك البطل الحانه ويسمع صفيرا مرحا من فم شاب يسير أمامه بخطي ثابتة مفعمة بحيوبة مدهشة‏.‏ يقدر ان الشاب سعيد‏.‏
ويعود بذاكرته الي سنوات مضت كانت له فيها فتاة هي مدينة أفراح ولذة‏.‏ شفتاها الارجوانيتان تفتحان لصحرائه الجائعة أبواب كنوز كانت نائمة في دمه‏.‏ أما الآن فهو وحيد مثل كلب الاسواق الاجرب ويعيش أيضا مثل كلب الاسواق الاجرب‏.‏ تعود الي ذاكرته رائحة لحم العامل المحترق الذي تساقط عليه الحديد المصهور‏.‏ ويقول هذه الرائحة هي رائحة العالم‏!‏
ويروح يسأل نفسه‏:‏ ماذا يفعل لو كان يملك مدنا من ذهب؟ ويرد علي نفسه‏.‏ أظن انني سأحدق الي لمعة حذائي الجديد وأقول بضجر‏:‏
أوه‏.‏ كل الاشياء تافهة وغبية‏!‏ ويواصل‏:‏ سأموت‏.‏ خطوة واحدة الي الامام‏,‏ أهرب بعدها من تعب المعمل والصياح والوجوه القاسية التي تسرق حتي الغبطة الوديعة المختبئة في عيني‏.‏ ويأخذ يبتلع الحبوب الملساء وهو يبتسم ابتسامة متشفية‏.‏ الحبوب وحدها هي التي ستنقذه من تعاسته‏.‏ تمدد علي الفراش دون أن يخلع ملابسه‏.‏
العالم ينأي عنه بصراخه القبيح‏.‏ تتمزق النقطة السوداء المختبئة في داخله‏.‏ تمزق اقنعتها وتظل تنمو حتي تتحول الي عنكبوت لايقاومه البطل بل يسقط بسهولة بين اذرعته اللزجة التي تلف حوله وتمنعه من الحركة‏.‏
يفتح الباب قليلا ويطل منه الجواد الابيض‏.‏ صهيلة يدعوه الي الانطلاق‏.‏
ولكنه لايستطيع تلبية النداء‏.‏ هو الآن جثة طافية علي وجه مياه نهر بطيء‏.‏ كم يشتهي ان يمتطي صهوة جواده الأبيض ويترك له العنان ليعدو به بعيدا عبر براري لا أفق لها‏.‏ يغضب الجواد حتي لا يستجيب البطل‏,‏ ويرحل ويسمع حوافره تطرق الأرض بايقاع غاضب بصحبة صهيل حزين ما يلبث ان يتلاشي‏.‏ قال البطل‏:‏ سأنتظر‏.‏ انه سيعود مرة أخري‏.‏ سيمل التشرد وتمضه الوحدة فيعود‏.‏ وسمع البطل صوت امرأه تهتف‏:‏ لاتحزن لحمي الساخن سينسيك العالم كله‏.‏ سألها من تكون‏:‏ فضحكت وقالت‏:‏ انا صديقة طفولتك‏.‏ كان يسعدك ان تلتصق بي بشدة وتقبلني بخجل‏.‏ قال البطل‏:‏ لاتخدعيني‏.‏ انت عاهرة عجوز فحدقت المرأة فيه وهي مذهولة‏.‏ ثم اخذت تبكي بحرقة‏.‏ فقال لها باضطراب‏:‏ اغفري لي‏.‏ أنا أحبك‏.‏ قالت ألا تشعر وأنت تردد هذه العبارة بأن انسانا رائعا سيولد في نفسك؟‏.‏ قال‏:‏ لا شيء داخلي سوي بعض العناكب والقبور المهجورة‏.‏ قالت المرأة بضراوة‏:‏
أنا أمقت القبور وامقتك وأمقت العالم كله‏.‏
اغمض البطل عينيه وهو يحس بتعب غريب‏.‏ وفي لحظات تضاءل العالم وتحول الي حجر ضخم هوي في فراغ لا أرض له‏.‏ ووجد نفسه وجها لوجه مع رجل قبيح أقبل نحوه وهو يلوح بسيف متألق النصل‏.‏ قال له الرجل سأقتلك‏.‏ هذا السيف قديم وله ضحية في كل ليلة‏.‏ أجاب البطل انه كمدينتي‏.‏ قال الرجل القبيح‏:‏ سيقتل ويقتل حتي تنقرض الضحايا ولا يبقي سواي وعندئذ سأكون الضحية لكي يظل السيف محتفظا بفتوته وتألقه‏.‏ سأقتلك‏.‏ ستتمتع بطعم لذة جديدة بينما ينزلق النصل الصلب في لحمك اللين‏.‏ يشعر البطل بخوف بلا قناع‏.‏
يعود طفلا يعدو في الازقة الضيقة‏.‏ يضحك بعذوبة ويحتضن كل الاشياء يقول‏:‏ آه‏.‏ ليتني لم أكبر‏.‏ هزمت قبل ولادتي‏.‏ ورثت سيف جلاد‏.‏ أحرقت أكواخ أمسي‏.‏ بعت غدي‏.‏ تموت حديقة الياسمين في قلبي‏.‏ سأهرم‏.‏ آه يانجمي المنطفيء علي رخام فخدي امرأة‏.‏ آه حتي يهرم الموت‏.‏ الأنهار القرمزية تنتحب بصمت في حقولي الجرداء‏.‏ بلبل جريح ليغرد علي غصن شجرة ليمون‏.‏ خيول متعبة نائمة علي اسفلت لامع‏.‏ الفجر يبدو كمشنقة‏.‏ النساء يأكلن التفاح بأناة ويتمطين علي وسائد من حرير‏.‏ رجال من اعقاب سجائر‏.‏ شفتاك يا حبيبتي المسكينة حانة شاحبة الضوء يأوي اليها العائدون من المواني‏.‏ اله مدينتي خبز‏.‏ حبيبتي جميلة كالخبز‏.‏ ذليلة كبكاء رجل‏.‏ اطفيء شموع النوافذ‏.‏ الباب موصد‏.‏ لا تنتظري عودتي يا أمي‏.‏ لن استطيع الفرار‏.‏ الباب موصد‏.‏ يا خفاش المدينة‏,‏ يا أخي‏,‏ لحمي لحريق مديتك‏:‏ ربما استطعت أن أحلم بالفرار‏.‏
سمع صهيل الجواد الابيض‏.‏ رجع بسرعة لم يتوقعها‏.‏ سيكون الحصان صديقه الابدي‏.‏ وهتف بحرارة رجل كهل مجعد البشرة كقشرة شجرة ليمون هرمة‏.‏ قال‏:‏ البشر طيبون‏.‏ البشر طيبون‏.‏ البشر طيبون‏.‏
ود البطل لو يضحك كمجنون‏.‏ غير ان البراري الخضراء كانت تناديه بشوق تنادي الرجل المتعب وجواده‏.‏ وفي مكان في العالم سطع قمر‏,‏ نوره ازرق بارد‏.‏ فكانت الابواق النحاسية ترسل صراخا وحشيا يحاول ان يتسلق اعلي قمة‏.‏ لكن الصمت يهزمه ولايبقي سوي كمان صغير ناعم يتأوه وحده مرتجفا بينما كان الرجل المتعب يبتعد خلسة عن المدينة ممتطيا جواده الابيض‏.‏
يتحرك عبر هذه المجموعة بطل واحد هو اشبه بالمهرج‏,‏ وان كان خلافا للمهرج ـ لايضحك ابدا‏,‏ من خصائص المهرج جوع لاينتهي للنساء والطعام‏.‏ ومن خصائصه ايضا التشرد المستمر‏.‏ والعزوف عن العمل ما امكن‏.‏ وحنينه الدائم الي الترحال في المكان وفي الزمان‏.‏ في قصة التثاؤب يتمني البطل لو يقطع صلته الوطيدة بالمدينة ويصل الي مدينة من نوع جديد وغريب‏.‏ مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر‏.‏ مدينة لاتاريخ لها وأيامها تمر بلا اسماء والسماء والقمر والربيع والليل والخريف والشتاء والنهار والصيف‏.‏ كل هذه العناصر طليقة حرة غير مرتبطة بزمان معين او بلون ثابت‏.‏ وناس هذه المدينة يشتغلون جميعا في اليوم الواحد بضع ساعات فقط ويقضون بقية اوقاتهم في الاسترخاء والانتشاء بمسرات غامضة‏.‏ عندما يصل البطل الي المدينة سيقول له المشرفون عليها‏:‏ لابد ان تنجح في الاجابة عن اسئلتنا‏.‏ ما اسمك؟ فيرد أنا بلا اسم‏.‏ متي ولدت؟ لم اولد بعد هل تحب العمل؟ لا‏.‏ احب كل الاشياء الا العمل‏.‏ ما هو الشئ الذي يرفع المخلوق البشري الي مرتبة انسان؟ الكسل‏.‏ ماهي احسن الفضائل؟ الكسل‏.‏ ما هواياتك؟ التثاؤب‏.‏ وهنا سوف يصافحه المسئولون ويقولون ادخل مدينتنا فأنت مواطن مثالي‏.‏ اعمل ليومك فقط‏.‏ وعش كما تشتهي‏.‏ استسلم لنزواتك‏,‏ افعل كل الحماقات بحماسة‏.‏ ويكون في هذه المدينة امرأة فائقة الجمال تقول له‏:‏ يجب ان تحارب‏.‏
فيسألها من سأحارب؟ تقول‏:‏ يجب ان تعمل‏:‏ فيقول أي عمل؟ تقول يجب ان تمتطي جوادا‏.‏ يقول‏:‏ انا لا املك سيفا‏.‏ تقول يجب ان تكون بلبلا‏.‏ يرد‏:‏ صوتي خشن مبحوح‏.‏ تقول كن نسرا‏,‏ يرد ولدت بلا اجنحة‏.‏ تقول كن كلمة مرتجفة في اغنية حب‏.‏ يقول أنا غضب سجين‏.‏ تقول‏:‏ ستموت يوم يسقط الثلج‏.‏ وعندئذ سيقول بكآبة سأموت يوم يسقط الثلج‏.‏ وسأحب هذه المرأة حتي موتي‏.‏ وفي ساعات وحدتي سأبحث عن كلمات جديدة غريبة ذات ايقاع فظ‏,‏ وسأغنيها لنفسي بصوت ثمل‏.‏ آه ما أجمل الحياة في تلك المدينة‏.‏
سأرحل في يوم لابد من مقدمة‏.‏ سأترك خلفي مدينتي المكتظة بالجيف المتحركة وسأنقذ نفسي من اسي مرير يتعقبني باستمرار يقطع ابوه حلمه هذا بفظاظة حين يأتي ليطالبه بنقود‏.‏
ولكن ثيابه خالية‏.‏ فتشها الاب فلم يجد شيئا ـ هنالك يلجأ البطل الي حيلة المهرج الدائمة التي تنقذه من الورطة‏.‏ يكذب علي ابيه الطيب القلب ويقول اعطيت كل نقودي لصديق متعطل منذ مدة طويلة وهو مسئول عن عائلة كبيرة‏.‏ وقد قبل هذه المنحة بعد الحاح وتوسل من البطل ويصدقه ابوه‏,‏ فيتنهد بارتياح‏,‏ يغمض عينيه ويعود بحلم بالرحيل الي مدينة شنقت الجوع والكآبة والضجر‏.‏
وكان المهرج البطل قد بات ليلته في حضن احدي بائعات الهوي‏.‏ ونظر اليها فوجد حياتها غاصة بالمتاعب‏.‏ قال لنفسه‏:‏ هذه المرأة طيبة‏,‏ وتستحق بيتا وزوجا صالحا‏.‏ ودفعته شفقة جارفة الي أن يدس في يدها عشرين ليرة‏,‏ وحين ودعته الي الباب قال لنفسه‏:‏ لست نادما علي عملي هذا لكن كيف سأواجه أبي هذا الصباح؟ ويجعله توقع غضب ابيه يشعر بالتعاسة لانه يعيش في مدينة بخيلة‏,‏ حياته فيها مجرد بكاء طويل‏.‏ وقد ولد فيها في يوم ما علي ارصفتها وسيظل حتي الموت مغلولا اليها‏.‏ كل مناه الآن ان تكون له علاقة صداقة مع فتاة تستمع اليه‏.‏ سيحدثها عن كآبته التي تغله الي شوارع لولبية لانهاية لها‏.‏ سيحدثها عن الله والناس والخبز والليل الوحشي الغريب‏.‏ وتمر امامه بائعة اوراق يانصيب جميلة وفي العاشرة فيقول لها لن اشتري‏.‏ لكن سأعطيك خمس ليرات إذا ذهبت معي الي البيت‏.‏ حدجته الفتاة بنظرة فيها اسف وازدراء وحزن‏,‏ ثم ابتعدت‏.‏ فقال البطل يالي من حقير‏.‏ واخذ يشعر بالغربة البلهاء‏.‏ وتذكر قول ابيه انت ولد لاتنفع‏,‏ وقول امه‏:‏ حياتي ضائعة بين ارجلكم وشماتة الاهل الذين يبشرونه بمستقبل اسود‏.‏ ويمر سرب من الفتيات تمنحه احداهن ابتسامة فيقول‏:‏ سأكون انسانا طيبا لو كانت مدينتي مثلك‏.‏
في هذه المجموعة الفذة يجتمع الواقع والفنتازيا في مزاج متماسك ـ تختلط الاماني بالاحلام‏,‏ ويقوم الشئ ونقيضه في صدر البطل‏.‏ يود الهرب الي المدينة التي شنقت الجوع والكآبة والضجر‏,‏ ولكنه مربوط الي ارصفة المدينة التي ولد عليها‏.‏ يقول لمحاوره البحار المزعوم‏:‏ انني أعشق مدينتي بجنون‏,‏ يضيف انه يحلم احيانا بزوجة واطفال ومنزل هو اذن ثابت في ارض المدينة‏,‏ واذ لم يكف عن الحلم بالانطلاق‏(‏ الجواد الابيض ـ الرحيل الي المدينة‏)‏ هو راغب في ان تتغير مدينته شريطة ان يجد فيها من يعطف عليه عطفا حقيقيا‏.‏ وحين تمنحه فتاة كانت تمشي مع سرب من الفتيات ابتسامة عذبة يقول ان مدينته لو اظهرت العطف علي ابنائها المشردين الفاقدي الحب والمسكن وسكينة النفس فسوف يصبح هو انسانا طيبا‏.‏ هذه مجموعة بالغة الطرافة‏.‏ شديدة العطف علي الانسان المحاصر تلتفت التفاته خاصة لضحايا المجتمع مثل بائعات الهوي‏.‏ ليس في قصصها ذلك الغضب الجارح الذي تبديه قصص اخري‏,‏ تضيف الي الغضب الهجاء الوحشي الذي عرفته اعمال زكريا تامر فيما بعد‏.‏


د‏.‏ علي الراعي

*الأهرام ـ في 4/10/1998م.
 
أعلى