دعوة الحق - مالك بن المرحل: الأوضاع السياسية والاجتماعية والفكرية في عصره.

-1-
تعاونت يد الاهمال و الظروف العصيبة التي عاشها كثير من الادباء و الشعراء المغاربة في ظل الحروب و الفتنة التي عرفتها عصورهم ، على تغطية اخبارهم فظلوا مغمورين ، اخبارهم مجهولة و انتاجاتهم مهملة .
و العصر المريني الاول ، له قصب السبق في الكثير من النماذج التي عاشت مغمورة و طورتها بانتاجاتها المبعثرة يد النسيان ، و ظروف نهاية الموحدين و قيبام المرينيين ومن نماذج هذا العصر التي ساتناولها في حلقات ، شخصية الاديب الكبير مالك بن المرحل ، و سنقتصر ، في حلقتنا هذه ، على تصوير عصر هذا الاديب و الاوضاع التي عاشتها الاقاليم التي درج بها النواحي السياسية و الاجتماعية و الفكرية ، لما لهذه الاوضاع من تاثير على اطوار حياته .

الوضعية السياسية :
عاش ابن المرحل في فترة زمنية صعبة غطت فيها الفتن و القلاقل على ما سواها من الجوانب الاخرى في الامة ، وهي فترة نهاية الموحدين و قيام دولة المرينيين وما سادها من ثورات وحروب و انقسامات في رقعة الإمبراطورية الموحدية بالاندلس و الجزائر و تونس و المغرب . و لسنا بصدد الكلام عن اسباب انهيار هذه الامة او بروز الاخرى بقدر ما بهمنا ما و صلت اليه الاوضاع القرطاس (1) في تصوير الحالة التي آلت اليها الأمور بعد النكبة التي بدا بها انهيار الدولة الموحدية وما تعاقب عليها من الانحلال حتى وصلت الى ما وصلت اليه سياسيا :
(( وكان من سلف و تقدم من ملوك الموحدين اولوا حزم وراي ودين ، الى ان كانت وقعة العقاب التي اذنت لدولتهم بالذهاب ، و ذلك سنة تسع و ست مائة ، فرجع المنصور مهزوما ذا مذلة و انكسار ، فدخل حضرة مراكش ، و لم يزل ملكه في نقص وامره في ادبار الى ان توفي بها ف الحادي عشر من شعبان سنة عشر و ستمائة مفجوعا ، وولى بعده يوسف المستنصر ، وكان صبيا هلوعا جزوعا ، لم يبلغ الحلم و لا جرب الامور فاعتكف في قصره على اللهو و اللعب و الخمور ، و اسلم الملك لأعمامه و قرابته ، وفوض الأمور الى وزرائه و أشياخ دولته فتحاسدوا فيما بينهم على الرئاسة .. فأضاعوا الأمور... وجاروا في الاحكام ، وولوا أمورهم السفلة...
فبدا الفساد في ملكهم ، و الوهن في دينهم ، وظهر الجور في احكامهم .. فولت ايامهم ))(2)
ولا جدال في ان مال الامر الى الوزراء ، و تحاسدهم على الرئاسة ، وقطع الصلة بين الملك المخمر و شعبه زو الجور في الاحكام ، و ابعاد العلماء ، نذير بافول نجم الدولة ونهضتها ، و بقيام الفتن و الثورات ، شعورا بانحلال الاوضاع و عجز المسؤولين ، الامر الذي ادى الى تقطيع اوصال الامبراطورية و استقلال الاقاليم بنفسها : الاندلس و تونس و الجزائر عن المغرب، و قيام منافس خطير ، هم المرينيون (( وكانوا طائفة يدخلون بلاد المغرب في زمان الصيف ليرعوا انعامهم ))(3).
و لكن استفحال الامور في المغرب ناتج عن استبداد الوزراء و تحكمهم وفق اهوائهم ادى الى نهاية خلفائهم بما انتهى به امر خلفاء بني العباس ودولتهم على يد الاتراك و المماليك (( فكان اشياخهم يولون سلطانا ثم يخلعونه و يبايعون غيره ، ثم ينكتون عليه فيقتلونه و ينهبون امواله ، فسرى الوهن و الضعف في ملكهم ، وصارت ملوكهم ليس لهم حكم في البوادي ، وطمع الطامعون ، و كثرت الفتن ، و نبذ اكثر القبائل الطاعة فدخلت طائفة منهم المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب ليمتازوا على عادتهم ، فوجدوا المغرب خاليا من حماته، فاقاموا بمكانهم ، و بعثوا لاخوانهم للقدوم ))(4).
و كان ذاك سنة عشر و ستمائة ، ومن يومها و الحرب سجال بين الموحدين و المرينيين الى ان سقطت مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة كاخر معقل للموحدين ، ما عرفت فيها البلاد سوى الخراب و انعدام الاستقرار ، و تسلط الخوف على النفوس.
اما بالاندلس فقد استغل القشتاليون نصرهم بالعقاب فزادوا من ضغطهم على المسلمين هناك، ووجدوا ما يشجعهم من خلافات ولاة الاندلس على السلطة نتيجة ضغط السلطة المركزية، فتوسعوا ما امكنهم دون مقاومة تعترضهم ، و استولوا على القلع العديدة ، و احتلوا المدن مما اضطر معه العديد من سكانها الى الهجرة لغرناطة او الرحيل الى عدوة المغرب ، فرارا بدينهم و اغراضهم و اموالهم ، و تنافس الامراء في التنازل للفونش عن القلع و المراكز والمدن ، ليؤمنهم على ما بقي بايديهم ، وكثرت نداءات الاهالي ، استنجادا بعدوة المغرب ، و استضعف الاندلسيون بدورهم حكام المغرب الموحدين ، فعملوا على التخلص من حكمهم ، وظهر ذلك جلبا على يد محمد بن يوسف ين هود ، ومحمد بن الاحمر ، وقام والي الموحدين بتونس ، ابو زكرياء بتلمسان ، وقد اقلق الدولتين المتنافستين معا ، الموحدين و المرينيين ، وكان عاملا من عوامل القضاء على الاولى وزعزعة قوة الثانية في قدرتها علة الاحتفاظ بالمغرب موحدا كما كان في عهد الموحدين .
وباعتبار مدينة سبتة نقطة المرور الى الاندلس و الرجوع منها ، فقد عرفت هذه المدينة نشاطا سياسيا كبيرا ، مما كان يطمع فيها الغالب او المتسلط من حكام الاندلس او خضوعها للمغرب حسب ضعف الدولة او قوتها في العدوتين ، الامر الذي كان يدفع بولاتها للعمل على الاستقلال و الانفراد بالحكم و الخروج عن سلطات الوطن المغربي.
وهكذا عرفت سبتة عددا من المستبدين امثال سقوط البرغواطي ، و ابا عثمان بن الخلاص الذي اراد لنفسه بعد موت الرشيد ، الملك الموحدي الذي ولاه عليها ، الى ان قام عليه الفقيه ابو القاسم الغرقي و استولى عليه ، ثم قراه عليها يعقوب المريني مقابل ضريبة يؤديها للخزينة المغربية .
هذه باختصار الوضعية السياسية في عصر شاعرنا ابن المرحل مدة خمسين سنة من حياته الغامضة الساكنة ( الخاملة ) ، تمزيق رقعة الامبراطورية ، و تشتيت شمل المسلمين بالاندلس ، و الاستيلاء على بلادهم ، و انعدام الامن و سيطرة الخوف و كثرة الهجرات .

الوضعية الاجتماعية :
من الواضح ان الاستقرار الاجتماعي ، وتوفر العادات و التقاليد الموحدة ، و الذي يميز شعبا ما و بفرده بشخصيته المستقلة ، ياتي مع الاستقرار السياسي ، و ان انعدام هذا العنصر ادى الى انعدام العنصر الثاني بانفصام عرى الوحدة التي تجمع بين افراد الشعب الواحد نتيجة تعدد الانتماءات الدينية و الاختلافات التي سادت هذه المناطق .
ففي الاندلس ، كان للتهديد الدائم ، و التهيب المستمر من هجومات المسيحيين ، وخشية الاهالي على اموالهم ودينهم مما يهددهم ، من عوامل تشتيت شمائلهم بالهجرة و الاستشهاد في الحروب و الاسر ، و التفكير الفردي في وسائل النجاة من المصير المرعب ، مما ادى الى سقوط الاخلاق و انحطاطها بالعمل العدو اتقاء شره ، وخيانة الوطن نتيجة فقدان الثقة بالذات و انعدام الاحساس بالكفاءة الذاتية .
و بالمغرب كان الحذر و الحيطة شعار الفترة ، و استغلت المناسبة كما هي العادة في مثل هذه الاحوال من الخصوم وطغت المصلحة في ظل الصراع ، كما تميز سكان البلاد بتعدد العناصر و اختلاطها ، من بربرية و عربية و مهاجرين أندلسيون و يهود مسلمون و اختلاف مشاربهم هذا ادى الى تعدد العادات و انفصام وحدة الشخصية ، كما كان للمذاهب الفقهية و العقائدية اثره في هذا الصراع .
اما سبتة ، فقد عرفت عادات قارة تسربت اليها عن طريق الوافدين من الاندلس او المغرب و المستقرين بها ، و سنرى كيف ان المغرب اخذ الكثير فيما بعد من هذه العادات في الاحتفالات المختلفة الشعبية و الدينية و في اللباس و غيرها ، و على كل فقد كانت سبتة افضل حالا من غيرها ،لانها لم تكن ـ كما يقول المثل ـ لا في العير و لا في النفير فلا هي اندلس ولا هي مغرب ، بل كانت ملجا من كانوا يفضلون حياة الدعة و الراحة رغم انها لم تسلم كلية كما راينا في الحديث عن وضعها السياسي .
و هكذا كان الاضطراب سائدا في كل الأقاليم في الحياة الاجتماعية

الحياة الفكرية :
فهل في هذه الاوضاع السياسية منها و الاجتماعية ما يساعد و يشجع الادباء و المفكرين و العلماء على الظهور و الانتاج الفكري ؟ وهل تمة مجال للعناية باهله و شيوخه ؟
مؤكد ان الحركة العلمية و الثقافية تزدهر بتوفر الاستقرار و الامن على النفس و الاهتمام بالادباء و العلماء و العناية بهم حتى يقوموا بدورهم الحضاري في الامة ، وهذا ما يفسر لنا الصمت الذي صاحب هذه الفترة و قلة الاسماء المثقفة ، ثم الصخب المثمر الذي عرفته اثر عودة الاستقرار الى النفوس باستقرار اوضاع الدولة ، و الاسماء العديدة التي صحبته ، و لكن هذا لا يمنع من التذكير بما كانت تعيشه الاندلس من حركة ادبية و شعرية و علمية ، ان يقف بمجرد نهاية دولتهم او بدء ضعفها ، و لكن و لا بما كان بالمغرب حيث الاستمرار الموحدي لا يمكن الفوضى و الاظطراب ، و لن تزدهر الحياة الثقافية في هذا الجو .
هذه كانت الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية في عصر ابن المرحل قبل استقرار الاوضاع في المغرب نهائيا في ظل المرينيين ، وهذا ما حجبه عنا في هذه السنين كغيره من ادباء عصره ، دون ان يعرف عنه شيء ( خامل الذكر خفي المنزلة ) الى ان واتته الفرصة عن طريق ادبه و شعره حين استقرت الاوضاع ، وقد ساعد على ذلك شيء في ابن المرحل و اخلاقه ، هو بعده عن الشهرة ، ونفوره من مساقط النور ، ودخول غمار السياسة كما سنرى فيما بعد.
-*-
وما ان استقرت الاحوال بانتصار المرينيين ، حتى بدات الاوضاع تعرف طريقا مخالفا ، اذ تحددت على اثرها رقعة الوطن بشكله الجديد الذي يقارب مساحة المغرب الحديث ، و بدات العادات الاجتماعية تعرف طريقها الى الرسوخ نتيجة انصهار مختلف الاجناس وعودة الاستقرار ، كما عاد الامن للبلاد بفضل السلطة الجديدة الحازمة وعم الرخاء و الخير و كثرت النعم وعاد للنفوس طمانينتها ، و ازدهرت الصناعات و نشطت التجارة ، وعرفت الحركة الفكرية من جديد شكلها الذي كان لها قبل الفتن ، ونال الطلبة من عناية الدولة ما اعاد للعلم مكانته بتشجيعهم بالاعانات و بناء مدارس لسكناهم و تقريب العلماء و الفقهاء يقول الاستاذ محمد المنوني (5) (( فبعد استقرار الامن بالبلاد اخذوا (المرينيون ) في تنفيد برامجهم في الدفاع عن الاندلس ، وقد كان نجاحهم اكثر في تشجيع العلم و اقامة معالم العمران و بذلك حققوا كثيرا من الامال التي كان المغاربة يعلقونها على هذه الدولة الجديدة التي عبر عنها الشاعر المغربي الكبير مالك بن المرحل اثناء قصيدة قدمها ليعقوب بن عبد الحق في التهنئة بفتح مراكش
من سنة الله ان يحيى خليقته
على يديك و ان يكفيهم النقم
وان يقيم بك الاسلام من اود
و ان يديم بك الاحسان و النعما
و جاء في الذخيرة السنية وروض القرطاس عن يعقوب المنصور حين ارخا لسنة ثمان و خمسين وستمائة (( وفيها كان الرخاء العظيم بالمغرب مدة خمسة عشر سنة ، ستة دراهم للصفحة الواحدة من القمح ... الى ان يقول : و صنع المارستانات للغرباء و المجانين و امر الاطباء بتفقد احوالهم و اجرى للفقراء مالا معلوما ياخذونه في كل شهر ، وبنى المدارس بفاس و مراكش ، ورتب فيها الطلبة لقراءة القران و العلم و اجرى لهم مرتبات في كل شهر ، و اقام الدين ، وامر بتطهير الايتام و كسوتهم و الاحسان اليهم بالدراهم و الطعام في كل عاشوراء ، و اوقف الاوقاف لاطعام عابري السبيل و ذوي الحاجات و ترك امر سبتة في يد ولاتها العزقيين مقابل قدر مالي يؤدونه للخزينة المغربية ))(6).
و بذلك استطاع المغرب ان يتصرف للدفاع عن الاندلس ، (( ففي سنة اثنين و ستين و ستمائة جاز المجاهدون و قائدهم ابو معرف محمد ابن ادريس بن عبد الحق واخوه الفارس ابو ثابت و الحاج المجاهد التاهرتي في ثلاثة الاف رجل ، و كتب يعقوب الى الفقيه ابي القاسم العوفي صاحب سبتة في تجويزهم وودعهم ودعا لهم و انصرفوا ، وهو اول جيش جاز الى الاندلس من بني مرين )) (7).
و قد ساهم ابن المرحل في استنفار المجاهدين بقصيدة القاها عليهم في جامع القرويين كما سياتي .
و لعل هذه الاوضاع السياسية و الاجتماعية و الفكرية الجديدة التي عمت البلاد و ارضت السكان هي التي شجعت و دفعت كثيرا من العلماء و الفقهاء و الادياء الى الظهور و الخروج من زواياهم و انعزاليتهم ، و اذهب بخوفهم ، فاعاد لهم كمفكرين مكانتهم ، حتى يلعبوا دورهم الحضاري البناء ، وهو يفسر لنا الخصب الفكري و انفجاره و تعدد الادباء في هذه الفترة كما راينا.
فاين كان ابن المرحل في الفترتين المضطربة و المستقرة بل ومن هو ابن المرحل ؟
ذاك هو موضوع حديثنا في الحلقة المقبلة بحول الله .


1 انظر بحثنا بدعوة الحق في العددين التاسع من السنة 14 الثالث من السنة 15 فيمن يكون صاحب الذخيرة السنية بعنوان : الذخيرة السنية قسم مطول من روض القرطاس.
2 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 22 وروض القرطاس ص 200
3 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 28
4 الذخيرة السنية في أخبار الدولة المرينية ص 29
5 دعوة الحق عدد 3 السنة 8 ص 80
6 الذخيرة السنية ص 100 وروض القرطاس ص 216
7 الذخيرة و روض القرطاس ص 296

دعوة الحق
153 العدد



الادب المغربي.jpg
 
-2-

2- حياة ابن المحل و محيطه ..

1- حياته : في مالقة و سبتة و فاس من خلا أوضاع عصره :
أصل شاعرنا من مصامدة المغرب، و اسمه الكامل مالك بن عبد الرحمن بن علي ابن عبد الرحمن ابن فرج .. انتقل أحد أجداده إلى جزيرة الأندلس و نزل بوادي الحجارة بمدينة تسمى باسمه، مدينة الفرج(1) و منها انتقل إلى مدينة شنتمرية، و لما احتلها النصارى سنة خمس وستين و خمسمائة كان بها علي بن عبد الرحمن جد شاعرنا، فغادرها مهاجرا إلى مالقة، فلقب بالمرحل. و جرى هذا اللقب بعد ذلك على أولاده، و بمالقة هذه ولد أبو الحكم، و أبو المجد مالك بن المرحل في سابع عشر محرم سنة أربع و ستمائة الموافق لسبعين و مائتين و ألف ميلادية كما يعدد ذلك هو نفسه إذ يجيب ابن عبد الملك المراكشي حين سأله عن مولده(2).
يا سائلي عن مولدي كي أذكره = ولدت يوم سبعة و عشرة
من المحرم افتتاح أربـــــــــع = من بعد ستمائة مفسرة
ولكننا لا نعرفه إلا بسبتة، فمتى رحل من مالقة(3) هذه التي ولد فيها إلى سبتة ؟ و ما الداعي إلى هذه الرحلة ؟ هل هي عدوى الرحيل انتقلت من أجداده و التي حملوا اسمها بسببها قد نالت منه فرحل إلى سبتة ؟ و هل هو الحنين إلى الوطن قد هتف به و دعاه إلى ذلك ؟ أم هو شيء آخر غير ما ذكرنا ؟
أما عن السؤال الأول متى رحل، فليس بين أيدينا ما يثبت لنا ذلك نهائيا لا في مؤلفاته ولا في أقواله، و كل ما نستطيع أن نصل إليه أنه انتقل إلى سبتة و هو صغير. و ما بأيدينا هو وثيقة صداق كتبه شعرا لأسرة العزفيين ولاة سبتة قبل توليها، يذكر فيه تاريخ كتابة الصداق بسنة ثمان و عشرين و ستمائة و هو منظوم في بحر البسيط(4) يقول :
في شهر ذي الحجة يوم الخميس ضحى و ذلك في سادس من عشرة الأخرة
في عام عشرين زد لها ثمانيـــة = من بعد ستمائة كلها قمر
فأحمد شاهد بالعقد فيه علـــــى = شقيقه الزوج إبراهيم بالمهد
و ما لك عابد الرحمن والــــده = من الشهود بمنظوم و منتشر
و هكذا نجد أنه قام بهذه الشهادة و له من العمر أربع و عشرون سنة، و لا بد أن يكون له قدم في المدينة حتى يأخذ هذه المكانة التي تؤهله ليكون موثقا معروفا مشهورا في البلاد فيشهد لإحدى بيوتات المدينة المشهورين بالمال و العلم. و من المؤكد أيضا، أنه لم يكن صغيرا جدا، إذ يخبرنا المترجمون له أمثال بن القاضي أنه تلا بالسبع على أبي جعفر أحمد ابن الفحام المالقي، أي أنه قرأ القرآن و جالس عددا من الشيوخ أمثال أبي بكر بن عبد الرحمن بن علي، و أبي عمر بن ساليم و أبي النعيم رضوان ابن خالد و ابن عسكر، و ستأتي ترجمتهم، فأخذ عنهم ما أهله ليكون موثقا يشهد في زواج ابن أبي القاسم العزقي المذكور آنفا، خاصة و أن المصادر لا تذكر، كما لا تدل الأحوال على أنه درس بسبتة.
أما الداعي إلى رحلته، فالغالب أنها كانت كرحلة جده علي بن عبد الرحمن من شنتمرية إلى مالقة و لنفس الأسباب و الدواعي، إذ من المعلوم كما عرفنا سابقا، أن وقعة العقاب سنة تسع و ستمائة، التي انهزم فيها الموحدون، كانت انعكاساتها مؤلمة على الأندلسيين، إذ بعدها تمكن النصارى من الاستيلاء على أكبر مدن الأندلس كإشبيلة و قرطبة و غيرهما من المدن و القلاع. مما دعا كثيرا من أهل بلاد الأندلس للنزوح إلى غرناطة أو الهجرة كما سبق أن ذكرنا في التمهيد التاريخي، إلى المغرب عامة، و سبتة خاصة، فرارا بدينهم و أموالهم و حياتهم(5) فليس من الستبعد أن يكون رحيله إلى سبتة لمثل السبب الذي اضطر إليه جده ليقينه بأن العدو لن يلبث أن يصل إلى مالقة كما سقطت غيرها، و هو ما حصل فعلا، و إن تأخر الزمان قليلا، و ليس ببعيد أن يكون أهله قد لاقوا حتفهم في إحدى معارك المسلمين مع النصارى، فقرر، وهو الغريب، أو بناء على توصية من أهله قبل وفاتهم، النزوح إلى سبتة بعيدا عن ذلك الجو. و يؤيد هذا الرأي شطر من أبيات تركها قبل وفاته أوصى أن تكتب على قبره يقول فيها :
زر غريبا بمغرب = نازحا ما له ولي
و قد أتم ابن المرحل دراسته بالمغرب، و كانت بفاس، إذ لم يثبت أنه ذهب إلى غيرها، حيث أخذ عن أبي زيد البرنوصي و الفقيه اليزناسي، فحصل من دراسته باعا طويلا في علوم اللغة والآداب، إلى جانب اطلاعه على علوم الشرع مما أهله لمنصب القضاء مرات بجهات غرناطة و غيرها.
لا نعرف متى ذهب إلى فاس لإتمام دراسته، والغالب أنها كانت في أوائل سن قدومه لسبتة، أما توليه القضاء بجهات غرناطة، فلا شك أن ذلك كان و سبتة في عهدة الموحدين و حكمهم، إذ ظلت كذلك إلى سنة أربعين و ستمائة حين استولى عليها ابن خلاص، و إليها من قبل الموحدين. و يظهر من خلال الأحداث، أن ابن المرحل كان رجلا متدينا محترما منذ يفاعته، و لعل ذلك يرجع إلى أسرته أيضا، إذ نراه يتولى صناعة التوثيق من أربع و عشرين سنة، و يتولى القضاء، و هو مهمة لا يقدم لها إلا من عرف بأخلاق مستقيمة و اتزان و ذكر طيب بين الناس، ثم نراه فيما بعد بفاس يحرض الناس للتطوع لمحاربة النصارى بالأندلس، و ذلك من عمل الفقهاء المجاهدين.
و تجمع التراجم على اختلافها أنه كان حسن الكتابة، و الشعر غلب عليه(6)، و حسن الكتابة هذا بمعنى جودة الإنشاء و براعة الأسلوب و جمال الخط، قد أظهره انتخابه لكتابة دولة ابن الأحمر بالأندلس(7) و الأمير أبي مالك عبد الواحد المريني المرشح إذ ذاك لولاية العهد و لأبيه السلطان يعقوب الذي استكتبه كما جاء في الإحاطة(8) و لابنه يوسف من بعده و هذا ما وضعه في مكانة سامية على النطاق الرسمي، و هو ما يطلعنا على ما كان له من حسن صيت، و علم، مما يجعله في مصاف من زاولوا الكتابة بعده في بلاط المرينيين من أمثال ابن الخطيب السلماني الغرناطي، و ابن خلدون صاحب المقدمة.
و لم تكن الكتابة و انتخابه لها ناتجا عن خطه الحسن وأسلوبه الواضح الرائق، بل و عن خصال فيه نادرا ما تتوفر في الناس حتى المثقفين معهم فقد كان « نافذ الذهن شديد الإدراك قوي العارضة و التبريز في ميدان اللوذعية و حرارة النادرة وحلاوة الدعابة » « .. و قصد في رواية العلم و الشعر الملح و الفوائد لسعة الأفق و انفساح المعرفة و علو السن و طيب المجالســـة »(9).
فهذا و ما عرفناه من صفاته الحميدة، و أخلاقه المثالية، هو ما تبحث عنه الملوك، و هو ما تبحث عنه قصور المرينيين، و مجالسهم بالذات. و قد غلب عليه النظم و الشعر فكان أكثر إنتاجا و قد سهل عليه القول حتى كاد لا يتكلم إلا شعرا، إذ لا يتصل بكتاب أو فكرة إلا نقلها شعرا و سيأتي الحديث عنه و عن شعره في غير هذا المكان.
و يظهر أن ابن المرحل كان فترة انتدابه للقضاء، يستغل فراغه للمزيد من الدراسة في إشبيلية، فقد أخذ بها عن أبي علي الشلوبين و أبي القاسم بن بقي(10) و لعل هذا ما أخره عن قول الشعر إلى أن حصل من دراسته باعا طويلا في علوم اللغة و الأدب إلى جانب دراسته الأولى في علوم الشرع قبل أن تتفتق شاعريته بسبتة لأول مرة وهو يتقبل بلاده في عودته النهائية إليها فيقول :
سلام على سبتة المغرب = أخية مكة أو يثــــــرب(11)
أو يتغزل بجمالها منشدا :
أخطر على سبتة و انظر إلى = حملها تصبو إلى حسنه(12)
كأنه عود غناء وقد = ألقي في البحر على بطنه
و يذكر مترجموه أنه انتقل من سبتة إلى فاس ثم رجع إلى سبتة، ثم عاد إلى فاس ثانية و بقي بها إلى أن توفي بها. و يظهر أن المرة الأولى التي انتقل فيها من سبتة إلى فاس هي التي كانت من أجل تتميم دراسته و بين عودته لسبتة و رجوعه لفاس ثانية كان يتولى القضاء للموحدين بجهات غرناطة و غيرها فلم كانت عودته الثانية لفاس سنة اثنين و ستين و ستمائة ؟
ذكر صاحب الذخيرة السنية في تاريخ هذه السنة قال « فيها جاز المجاهدون من بني مرين و المتطوعة من أهل المغرب إلى الأندلس برسم الجهاد.. و هو أول جيش جاز إلى الأندلس من بني مرين، و السبب في جوازهم، أن النصارى، دمرهم الله تعالى، كانت تكالبت على بلاد المسلمين بالغارات و السبي، فأبادوا أكثرها، و أهلكوا قواعدها، فتفجع أهل العدوة لحالهم، فصنع الفقيه الأديب المكنى بأبي الحكم مالك بن المرحل رحمه الله قصيدة يحرض فيها بني مرين و سائر المسلمين على جهاد الكافرين و نصرة بلاد الأندلس من المسلمين المستضعفين فإنه كان في تلك السنة بمدينة فاس، يكتب للأمير أبي مالك بن أمير المسلمين أبي يوسف فقرئت القصيدة بصحن جامع القرويين من فاس يوم الجمة بعد الصلاة، فبكى الناس عند سماعها، و انتدب كثير منهم للجهاد »(13) و القصيدة من البسيط يقول في مفتتحها :
استنصر الدين بكم فاستقدموا = فإنكم أن تسلموه يسلـــــــــم
لا تسلموه الإسلام يا إخواننا = و اسرحوا لنصره و ألجموا
و لكن تلمذه ابن الزبير يقول عنه : « تقدم ذكره و قدموه علينا بغرناطة و آخر انفصالاته آخر سنة أربع و ستين و ستمائة » فما سبب وجوده بها ؟
لقد كان ابن المرحل صديق القصرين، قصر ابن الأحمر أولا ثم قصر المرينيين و كاتبهما معا، فليس أفضل منه لتقريب وجهتي النظر بين القصرين، و لعل سفرته لابن الأحمر موفدا من القصر المريني ليشرح لهم أسباب تأخر السلطان عن نجدتهم إثر طلبهم لها، و الجواز إلى الأندلس في تلك الظروف التي لم يكن قد تم للمرينيين الاستيلاء على المغرب ؟
و هكذا يكون عاد منها إلى سبتة و مكث بها مدة، قبل أن يرجع لفاس نهائيا حيث وافاه الأجل، فتكون مرات ذهابه و إيابه بين سبتة و فاس ثلاث مرات لا مرتين كما ذكر بعض مترجميه.
الأولى للدراسة و الثانية و هو كتابة الأمير وحض الجاهدين للتطوع و الأخيرة كسفير و هي ألتي توفي إثر عودته منها بفاس.
و لكنا نعلم أنه رجع لسبتة من جديد بعد ذلك بمدة، فلم كان رجوعه إليها هذه المرة ؟ هل لموت الأمير أبي مالك متبوعه أثر في هذا الرجوع ؟ فقد ألقى ابن المرحل قصيدة تهنئة يفتح مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة و بقي مدة سافر إثرها إلى سبتة و كانت وفاة الأمير مالك سنة إحدى و سبعين و ستمائة وهل لها صلة بقدوم أبي طالب العزقي سنة اثنين و سبعين و ستمائة إلى فاس لمصالحة أبي يوسف و صرفه عن سبتة بعد دخوله إلى طنجة و استيلائه عليها و بعد تغلب جيوش المرينيين عليه و هو صديق القصرين، فلعب بذلك دور النابغة في سبيل قبيلته بين قصري الحيرة و غسان ؟ قد يكون كل هذا أو بعضه. و لعلها السنوات أيضا التي تصدر فيها للتدريس بعد أن توسعت معارفه و نضجت وذاع ذكره و كثرت تآليفه إذ تخبرنا المصادر التي ترجمت له أن كل من أخذ عنه انتقل إليه بسبتة.

محيــط ابن المرحــل
اختلف محيط ابن المرحل باختلاف أطوار نشأته و سنه و ظروفه و يتكون هذا المحيط من أقاربه و أشياخه و أصحابه و تلامذته و متبوعيه و معاصريه ..

أقاربــــه :
(1) أخته : سبق أن قلنا أن ابن المرحل كان غريبا وحيدا حينما نزح إلى سبتة اللهم ما كان من أخت له ذكر صاحب الإحاطة أنها تزوجت من إبراهيم الأنصاري التلمساني(14).
(2)صهره : إبراهيم المذكور، و يكنى أبا إسحاق، كان فقيها عارفا مبرزا في العدد و الفرائض، أديبا شاعرا رحل به أبوه من تلمسان حيث ولد سنة تسع و ستمائة إلى غرناطة، و هو ابن تسع سنوات فأقام بها ثلاث سنوات انتقل بعدها إلى مالقة التي أخذ بها معظم قراءاته، و لعل صداقته لابن المرحل في صغره و التعرف على أسرته جعله ينتقل إليهم بسبتة ليجدد علاقته القديمة مع صديق الطفولة مالك، و إحياء عواطف القلب الكامنة منذ الصغر نحو أخته، بالمصاهرة، و قد توفي بسبتة سنة تسعين و ستمائة.
(3)ابنه محمد و قد ترجم له ابن القاضي بقوله : « محمد بن مالك بن عبد الرحمن ابن المرحل المالقي ... أجاز له والده وابن الحسين بن أحمد ابن الربيع .. و أجاز لابن رشيد و لغيره، و لم يذكر وفاته في مشيخته(15).

شيوخــــه :
أما عن شيوخ ابن المرحل فهم كما في مختلف الكتب التي ترجمت له :
1- جعفر بن الفحام، أحمد بن علي بن محمد ابن علي الأنصاري المالقي، رحل إلى شرق الأندلس و تلا هناك بالسبع، و كان تقيا ورعا مؤثرا للخلوة(16).
2- ابن عسكر : أبو عبد الله بن عسكر تلميذ أبي علي الرندي، النجيب، الذي أثنى عليه و أشار بأن يخلفه في موضعه لتصدر الإقراء.
3- أبو عمرو بن سالم بن صالح الفهرواني المالقي، و الأديب المقيد الضابط، أحد نحاة مالقة المشهورين.
4- أبو النعيم رضوان بن خالد، أحد شعراء عصره المشهورين، من أظرف الأدباء زيا و مجالسة توفي خارج بلده مالقة.
أما شيوخه بالمغرب فهم أبو زيد البرنوصي، و الفقيه اليزناسي، و لم أعثر على ترجمة لأبي زيد هذا، أما الثاني فلعله أن يكون :
5- عبد الرحيم بن محمد اليزناسي، العلم الصالح الفاضل المحصل المتقي و المكنى أبو زيد أحد العلماء الذين لهم السبق، رحل إلى المشرق، و لقي الأفاضل وجد و حصل كان مخصلا لمذهب مالك و أصول الفقه على طريقة الأقدمين و دخل بجاية ثم ارتحل عنها إلى فاس و استوطنها إلى أن توفي بها، و كان له ظهور بها(17).
أما في إشبيلية، فقد لقي بها أبا علي الشلوبين و هو من أئمة النحو المشهورين بالأندلس المتوفى بإشبيلية.
6- أبوا القاسم بن بقي وهو أحمد بن مخلد الفقيه المحدث، و لي القضاء مدة طويلة إلى أيام السلطان أبي يوسف المريني، و سنة من أيام ابنه محمد(18)
و لا أظننا في حاجة لتبيين مدى العلاقة التي تربط بين هؤلاء الاشياخ و تلميذهم أديبنا أبي الحكم الذي نراه نسخة لما عرفوا به من فضل و علم و فقه و لغة و قراءات و ما عرف به بعضهم من روحانية و تصوف.

تلاميــــذه(19) :
كما أخذ أبو الحكم فقد أعطى و عرف من تلاميذته ثلة من الأدباء و الشعراء، كان لهم شأن و وزن يذكر في عصرهم، و منهم :
أ-أحمد بن إبراهيم بن الزبير الثقفي العاصمي الغرناطي الأندلسي و يكنى أبا جعفر روى عنه و رحل إليه من بلده و خارجها الكثير، و تصدى للإقراء و إسماع الحديث و تعليم العربية و تدريس الفقه، و كان من أهل التجويد و الإتقان عارفا بالقراءات حافظا للحديث، متسع الرواية، بحث عنها و انتقل من أجلها إلى سبتة، فلعل ذلك للاتصال بشيخنا أبي الحكم لما عرف من علمه الواسع، و كان مولده بجيان سنة ثمان و عشرين و ستمائة.
ب- أبو حيان : أثير الدين محمد بن يوسف البربري النفزي النحوي الأندلسي المتوفى سنة خمس و أربعين و سبعمائة، و قد أجاز له ابن المرحل، يقول المقري : و ممن كتب عنه من مشاهير الأدباء، أبو الحكم مالك بن عبد الرحمن بن علي بن الفرج المالقي بن المرحل(20).
ج-ابن عبد الملك المراكشي : أبو عبد الله محمد بن محمد بن عبد الملك الأنصاري الأولي المراكشي، أخذ عن ابن المرحل بسبتة، و هو أديب بارع الكتابة، يقرض الشعر صاحب التأليف المشهور في تراجم الرجال « الذيل و التكملة لكتابي الموصول و الصلة »(21)، ذكر ابن المرحل في كتابه المذكور و وصفه بشيخنا،كما أخذ عليه مآخذ عروضية و غيرها في قصيدتين أوردهما له في كتابه المذكور(22) في مدح مثال النعل النبوية، منها كثرة التضمين كعيب من عيوب المنظم و غيرها من عيوب القافية. و قد رد عليه ابن رشد السبتي(23) صاحب الرحلة المعروفة ب ملء العيبة و إحضار ما جمع بطول الغيبة في الوجهة إلى مكة و طيبة و هي في أربعة أسفار.
أ-أحمد بن عبد الله الأنصاري المعروف بارصافي المتوفى سنة 650 يذكر ابن القاضي أنه أخذ عن أبي الحكم مالك ابن المرحل و عن صهره إبراهيم التلمساني الأنصاري و يورد خبرا على لسانه يقول : أخبرني شيخي بمدينة سبتة أبي الحكم مالك بن المرحل قال، ثم يروي خبرا عن أبي إسحاق إبراهيم بن سهل كاتب أبي علي بن خلاص صاحب سبتة(24).
ب-أبو جعفر أحمد بن محمد بن سعيد بن علي بن مالك المعافري من أهل غرناطة تولى قضاء المرية و ووادي آش ومالقة يقول عنه في درة الحجال أجاز له مالك بن المرحل(25).
ج-أبو عبد الله محمد بن جعفر الاسلمي يعرف بابن مشتمل و بالبلياني بشرق الأندلس توفي سنة 736 يقول عنه ابن القاضي أجاز له جماعة، منهم ....و الأديب مالك ابن المرحل(26).
د-القاضي أبو إسحاق إبراهيم الغافقي الإشبيلي، ولي القضاء بسبتة بعد خروجه من بلده إشبيلية عند تغلب الروم عليها سنة 646، أخذ اللغة على صدر النحاة ابن أبي الربيع، و روى عن ... و الأديب الفرضي أي الحكم مالك ابن المرحل لقب بأستاذ الطلبة و إمام الحلبة(27).
ه-محمد بن يوسف بن إبراهمي الامي نزيل المرية و يعرف بابن مشون من أساتذه المرية و مقرئيها، رحل إلى سبتة فأخذ بها عن ... و سمع إلى أبي إسحاق إبراهيم التلمساني و الأديب الحكم مالك ابن عبد الرحمن بن المرحل و الأديب أبي الحكم مالك الحسن عن عتيق بن حسين بن وثيق التغلبي(28)

معاصــــروه :
و من معاصري الشيخ أبي الحكم و أصحابه الذين وصلته بهم ظروف الأدب أو العمل أو المعاصرة.
1- أبو علي الحسن بن عتيق بن الحسين بن رشيق الثغلبي، وهو مرى الأصل سبتي الإستيطان، جاء في الإحاطة : « و قد وقعت بينه و بين ابن المرحل من الملاحات و المهاترات، أشد ما يجري بين متناقضين »(29) و لا ندري لها سببا سوى أن تكون نوعا من التنافس الأدبي، للشهرة الكبيرة التي لحقها ابن المرحل في سبتة، فأراد ابن رشيق أن يظهر على حسابه أو يزحزح مكانته في قصر سبتة ؟ أم هي عداوة الأدباء شاعت، دفعته إلى هجوه حسدا لما أصابه من سمعة و انتشار صيت ؟
قد يكون ! و لكن المعروف عن ابن رشيق أنه كان موحشا، جهم المحيا، فاحش القول، و قد جاء في قصيدة هجاء له في ابن المرحل ما ينم عن دعابة و سخرية كانت في ابن المرح، و لعل اجتماعا ضمهما، و أصابه إحدى دعاباته، أو علم عن لمز منه فيه، فوجد عليه، و نظم قصيدة في هجوه يقول فيها :
لكلاب سبتة في النباح مدارك
و أشدها دركا لذلك مالك
شيخ تفانى في البطالة عمره
و أحال فكيه الكلام الآفك
أحلى شمائله السباب المفترى
و أعف سيرته الهجاء الماعك
و ألذ شيء عنده في محفل
لمز لا ستار المحافل هالك
يخشى مخاطره اللئيم تفكها
و يعاف رؤيته الحليم الناسك(30)
و بعثها له مع كلب علقها في رقبته، و القصيدة طويل، و لكننا نكتفي بما سبق لما في الباقي من فحش و سقط الكلام(31).
و بصرف النظر عما تحمله من تهم باطلة بعد ابن المرحل بريئا منها، و لا تتناسب مع ما بلغنا عنه، من أخلاق فاضلة، و احترام بين الأوساط المختلفة، رغم ذلك فابن المرحل لم يقابل الهجو و السب بمثله و لم يغضب أو يغتاظ، بل أجاب ابن رشيق، بأعصاب هادئة تدل على نضج عقله و رزانة فقيه عالم :
كلاب المزابل آذينني
بأبوالهن على باب داري
و قد كنت أوجعها بالعصا
و لكن عوت من وراء الجدار(32)
2- ابن الربيع : العالم النحوي الذي جرت بينه وبين ابن المرحل مناظرة حول ( ماذا ) و التي قال فيها ابن المرحل ببيتيه المشهورين :
عاب قوم كان ماذا
ليت شعري اسم هذا
و إذا عابوه جهلا
دون علم كان ماذا؟
و ألف كتابا في الرد عليه سنورد الحديث عنه في موضعه من مؤلفاته النثرية.
3- سارة، بنت أحمد بن عثمان بن الصلاح الحلبية الفاسية، أستاذة و شاعرة و طبيبة ماهرة، كانت لها مكانة مرموقة في الأدب، أجادت كثيرا من الصناعات، أصلها من الشام وفدت على الأمير المستنصر بالله الحفصي صاحب إفريقيا فمدحته و دخلت سبتة أواخر المائة السابعة عن طريق الأندلس فمدحت رؤساءها، و قد صدر منها في مالك ما يدل على صداقة و مودة، و تقدير له وإعجاب به و بعلمه إذ تقول :
يا ذا العلا يا مالكي
أنعم علي بمالك
العالم المتفنن البحـ
ــر المحيط السالك
يا نفس إن جاد الزما
ن به بلغت منالك
و لطالما قد نلت ما
أملت من آمالك
فراجعها ابن المرحل بقوله و ذلك بمدينة سبتة :
يا نظرة الدنيا لقد
حزت العلا بكمالك
جمعت لك الآداب
حتى أنهى كمالك
و ملكت أفئدة الورى
فالناس فيك كمالك
أن قايسوك بمالك
ألقوك أملك مالك
فردت عليه برسالة نثرية بليغة، و أجابها بأبيات شعرية قال فيها :

قل للتي سارت برائق شعرها تحكي ابن سارة
الآن إذ سارت ركابك في البلاد دعيت سارة
بل أنت هاجر إذ هجرت بتونس دار الإمارة
ثم وفدت على أبي يوسف بن عبد الحق المريني بمراكش، فمدحته، و في أيامه توفيت بالدار البيضاء(33).

متبوعــو مالــك بن المرحـل :
لم يكن ابن المرحل من المتملقين أو الراغبين في التمسح بأبواب القصور أو حياتها فيما نعلم من خلال آثاره و أخلاقه، بل كان شيخا حكيما و فقيها ورعا و مسلما مؤمنا، و عالما، و أديبا قانعا، ذا نفس أبية. ففرض وجوده على البيئات المختلفة، و هو سيد نفسه، و لا غرابة و هو القائل :
أبت همتي أن يراني أمرؤ
على الدهر، يوما له ذا خضوع
و ما ذاك إلا لأني أتقيـ
ـت بعز القناعة ذل الخضزع(34)
و قد استكتبه السلطان أبو يعقوب كما عمل في كتابة الأمير أبي مالك عبد الواحد ابنه من قبل، فمدح أعمالهم و انتصاراتهم و شجاعتهم في نسر المسلمين و تهدئة الأوضاع، فكان على حق، لم ينافق، فالتاريخ يشهد على ما قام به المرينييون في نصرة الإسلام خاصة في الأندلس، جهادا لوجه الله، لم يريدوا من ورائه الحصون و المدن التي تسقط في أيديهم من حرب الروم إلى الحاكمين من أهل الأندلس، بل و حتى لرؤوس قوادهم، فكان أولئك الخونة الجبناء من حكامها يقدمونها هدية و تملقا مرة أخرى إلى من فقدوها من الأسبان، و ليس من شك في أنه لاقى تقدير رؤساء سبتة لمعرفته و مكانته، خاصة و أن اتصاله بولاتها العزفيين، لم يكن حديث العهد، فمن هؤلاء الذين اتصل بهم أو طلبوا منه العمل في خدمتهم :
1- السلطان أبو يوسف يعقوب المنصور المريني المولود سنة ست و ستمائة الذي بويع سنة ستة و خمسين و ستمائة و الذي تم في عهده القضاء على جل الثورات الخطيرة، التي أعطت الاستقرار للمغرب، و قد حارب يغمراس صاحب تلمسان، و جاز إلى الأندلس أربع مرات، أحرز فيها على انتصارات استرد فيها كثيرا من الحصون و المدن، و أعاد الطمأنينة لنفوس المسلمين من سكانها، و قد مدحه ابن المرحل بقوله و هو من البسيط :
أنتم لأبناء عبد الحق كلهم
فخرهم للورى فخرا إذا افتخروا
فحبكم شرفا إن كان جدكم
بر بن قيس جده مضر (35)
و قد استكتب ابن المرحل، و استقدمه إلى فاس من بلاده سبتة، و لعله وجد في علمه و أخلاقه ما يفيد ابنه ولي العهد، و كان السلطان يحبه و يعزه كثيرا فخصه به.
2- الأمير أبو مالك عبد الواحد : ابن السلطان أبي يوسف يعقوب المنصور المريني الذي أخذ له أبوه البيعة، من القبائل و العلماء و الأشراف لولاية العهد سنة ثمان و ستين و ستمائة بعد انتصاره في مراكش، و سقوطها من يد الموحدين كآخر معقل لهم « و كان الأمير أبو مالك على غاية العقل و الذكاء و النبل و الكرم و النباهة و السياسة و الإقدام و الحذق و الشجاعة و علو الهمة و مكارم الأخلاق، محبا في الأدب و التاريخ مقربا للعلماء و الفقهاء و الشعراء، و يذاكرهم »(36) و قد كان ساعد أبيه الأيمن في محاربة الخارجين عن الطاعة و الطامعين و حرب الموحدين. رفع إليه ابن المرحل قصيدة تهنئة بفتح مراكش سنة ثمان و ستين و ستمائة و هي البسيط يقول فيها :

فتح تبسمت الأكوان عنه فما
رأيت أملح منه مبسما و فما
فتح كما فتح البستان زهرته
و رجع الطير في أفنانه نغما
بفتح مراكش عم السرور فما
يكابد الغم إلا قلب من ظلما (37)
و قد توفي الأمير أبو مالك سنة إحدى و سبعين و ستمائة.
3- أبو القاسم محمد بن القاضي المحدث أبي العباس أحمد الشهير بابن العزفي اللخمي كان قيامه بسبتة سنة سبع و أربعين و ستمائة في دولة المرتضي الخليفة الموحدي بمراكش، قتل والي سبتة من قبل الرشيد الموحدي أبا عثمان بن خلاص، و ملك طنجة و دخل أصيلة، و توفي سنة سبع و سبعين و ستمائة عن سبعين سنة، و كان قد كتب رسالة طويلة إلى قبائل المغرب يستنصرهم فيها و يحثهم على الجهاد في سبيل الأندلس سنة اثنين و ستين و ستمائة، و هي السنة التي ألقى فيها ابن المرحل قصيدته بالقرويين يستنفر المجاهدين و سيأتي الحديث عنها في محله، و لا يبعد أن يكون اتفاق قد حصل بينه و بين ابن المرحل في استنفار المجاهدين للأندلس، و هو صديقهم و شاهد أفراحهم، إلا أن ما ضاع من شعر ابن المرحل، و البعيد عن متناول أيدينا، لم يمكنا من إظهار مدى العلاقة الجديدة التي كانت تجمع بينهما ثم بينه و بين ابنه من بعده أبي طالب، و هم ولاة سبتة(38).



* العدد 154
 
.-3-

مؤلفات ابن المرحل :
من خلال التأليف العديدة التي ذكرها كل من أرخ لابن المرحل في شتى فنون اللغة والأدب، ومن خلال ما تبقى منها، ومن خلال السلاسة والسهولة التي كان يجدها هذا الرجل في فن القول شعرا ونثرا، ومن خلال الحكام التي خلفها عنه والشهادات التي رسمها له كل من عرفه، نستطيع القول أن ابن المرحل ذا قلم سيال في كثير من فنون الأدب شعرا ونثرا، فهذا كتاب الأدب المغربي يذكر عنه أنه كان إلى جانب كونه شاعرا من الدرجة الأولى، عالما مشاركا في علوم شتى (1). ووصفه غيره بأنه كان شاعرا رقيقا مطبوعا سريع البديهة رشيق اللفظ ذاكرا للأدب واللغة وغيرها، وأنه استعان على ذلك بالمقاصد اللسانية من علم العربية والحفظ الجيد من الشعر والبصر بمعانيه. ونترك الآن الأحكام والشهادات وأصحابها إلى أماكنها في غير هذا المكان.
وقد ضاع القسم المهم من انتاجه مع عاديات الزمان وتقلب الأوضاع المختلفة التي سبق أن أشرنا إلى بعضها في الحلقة الأولى، أما ما بقي فلا يعطينا مع الأسف الصورة الحقيقية لمعارف هذا الرجل وشاعريته وفقهه وكل ما يمكن أن نستنشقه من الباقي، هو السيولة التي عرف بها هذا الرجل في التأليف شعرا ونظما ونثرا، وهي أشياء شهدت بها كل المصادر التي أرخت له، ورغم تعدد هذه المصادر مع الأسف فإن الأخبار ولفوائد التي تمدنا بها عن شاعرنا تكاد تكون متشابهة مما يدل على أنها أخذت عن بعضها كالإحاطة في أخبار غرناطة وفتح المتعال في مدح النعال وأزهار الرياض والذخيرة السنية ودرة الحجال وجدرة الاقتباس وغيرها، وتنقسم تآليفه إلى ثلاثة أصناف : التعليمية أو النظم والنشر والشعر.
أما المنظوم من شعره وهو غالب تآليفه فهو تعليمي ويتجلى في النحو والفقه واللغة، ومنها الكتب التالية :
1 – ارجوزة في نظم غريب القرآن لابن عزيز.
2 – نظم اختصار إصلاح المنطق لابن عربي.
3 – التبيين والتبصير في نظم كتاب التسيير. وهي قصيدة طويلة في علم القراءات عارض بها الشاطبية وزنا وقافية.
4 – الواضحة وهي قصيدة في الغرائض.
5 – ارجوزة سماها اللؤلؤ والمرجان.
7 – سلك لمسالك بن المرحل.
8 – نظم فصيح تعلب سماه الموطلة يستهله بفاتحة تبين بعد الصلاة والسلام على الرسول الكريم، ما عزم على تنفيذ من تفسير وشرح ولهذا الكتاب عن طريق النظم يقول :
حمدا الهي واجب لذاته
وشكره على علا صباته
نحمده سبحانه ونشكره
ومن ذنوب سلفت نستغفره
ثم نوالي أفضل الصلاة
على الرسول الطاهر الصفات
محمد ذي الكلم الفصيح
والفضل التقديس والتسبيح
وبعد هذا ما جرى في خاطري
في غير ندب نادب أو آمر
أن أنظم الفصيح في سلوك
من رجز مهذب مسبوك
وبعض ما لابد من تفسيره
وشرحه والقول في تقديره
ثم ينتقل إلى الباب الذي يريد تناوله، ففي باب فعلت يقول :
ورعدت سماؤنا وبرقت
كأنها قد بسمت ونطقت
كذلك الإنسان في الوعيد
وفي المخيف منه والتهديد
وقد يقال في الوعيد أوعدا
وأبرق الإنسان أن تهددا
قال الكميت بعد كسر السجن
وهرب صار به في أمن
أبرق وأرعد يا يزيد أننى
ليس الوعيد ضائري فامعن
هذا يزيد وأبوة يشهر
بخالد القسري ليس ينكر
وفي باب فعلت بفتح العين يقول :
وقد أغبطت المرء في أحواله
أغبطه بالكسر في استقباله
أعني تمنيت لنفسي مثل ما
له ولا يسلب تلك النعما
وهكذا يغضي كما يقول الأستاذ كنون مسترسل النفس ناظما رهاء ألف وثلاثمائة بيت يتقطع ولا ينبهر، ويكون نظمه مع ذلك أنما هو خاطر يخطر في صدق ودون تكلف (2).
9 – أرجوزة في النحو، وتوجد منها نسخة في الخزانة العامة في ثمان وثمانين صفحة.
10 – نظم الثلث من كتاب أدب الكاتب لابن فنيب بعد ترتيبه (3).
ويظهر أن هذه المنظومات جاءت متأخرة في مراحل عمر شاعرنا إذ نجد كتاب «الأدب المغربي» يذكر أن ابن المرحل قد استغل قدرته على النظم في نظم كثير من العلوم التي لا تهمنا بقدر ما تطلعنا على مرحلة الشيخوخة في التأليف (4). ومع تأييدنا لهذا الرأي فإننا نجد ما يبرره في عصر ابن المرحل وظروفه. بينما يلاحظ الأستاذ كنون الأمر من زاوية أخرى فيرى في نظمه قوة وانسجاما وخلوا من الحشو والتكلف كدليل على صدوره عن قريحة شاعرة وملكة قادرة جعلت الكفيف الانفاسي يضرب بها مثلا يتجلى في الأبيات التالية والأول ليس له يقول :
لقد مزقت قلبي سهام جفوتها
كما مزق اللخمي مذهب مالك
وصالت على الأوصال بالقد والبها
فأمست كأبيات بتقطيع مالك
وملكتها رقي لرقة عطفها
وان كنت لا أرضاه ملكا لمالك

وناديتها يا بغيتي يدل مهجتي
وما لي قليل في بديع جمالك (5)
والشاهد عندنا في البيت الثاني.
ونظم فصيح ثعلب مثال كامل على هذه القدرة التي يباشر بها حتى جاء من السهل الممتنع لا تكاد نعثر فيه على معجم من اللفظ رغم ما ضمته من شرح للغريب وتفسير للمشتبه من المعاني. وهذا واقع واضح لكل من قرأ منظوماته التي تأتي على خلاف المنظومات التي كثيرا ما يطيعها التكلف والحشو والجفاف لتؤدي سبغتها التعليمية التي وضعت لها، وقد بلغت به دقة الصنعة وسلاسة اللفظ وسهولته إلى تجميل منظوماته بالمحسنات البديعية من جناس وطباق، وإلى استغلال التشبيهات والاستعمارات في سهولة ويسر دون تعمل أو تكلف مما يشهد بقدرته على الأخذ بناصية اللغة، ومثل هذه الصنعة لن تجدها في شعره الذاتي كالغزل مثلا، حين يتعلق الأمر بأحوال نفسه وحين يتطلب الأمر صدق التعبير، مما لا يدع مجالا للصنعة والتزويق، وهو ما ستلاحظه حين نتناول شعره بالشيء من الدرس والتحليل.
كتبه النثرية : ليس لابن المرحل من كتبه النثرية التي بقيت أو عناوينها ما يثير الفضول لغرابته أو طراقته أو دسمه فأغلبها شروح لكتب أخرى أو إعادة تنظيمها، وبسرد عناوينها بتجلي ذلك في وضوح فمن كتبه النثرية :
1- شرح نظمه للفصيح ويوجد مع النظم في مجلدي.
2- ترتيب كتاب الأمثال لأبي عبيدة على حروف المعجم.
3- كتاب الحلى وقد ذكره صاحب جذوة الاقتباس.
4- شرح أرجوزة في العروض ذكره القاضي في درة الحجال.
5- كتاب الرمي بالحصا والضرب بالعصا كما سماه المقري.
وهذا الكتاب الأخير هو الذي قد نستثنيه من الحكم السابق. إذ يمتاز بطرافة موضوعه وبتوفر الحجج والاستدلالات الفقهية والأحاديث المروية والقصص الإخبارية والنوادر الأدبية وأكاد أقول أنه يمثل أين المرحل في ثقافته وإطلاعه وموسوعيته ومحفوظه في مختلف ثقافات عصره، ويمثل باعه الطويل في تناول الموضوع مهما تافها من جميع أوجهه في الشعر والنثر والفقه واللغة وكان أثر الجاحظ العظيم يطل علينا بذلك الخليط الزاخر من المعلومات الشبيهة بدائرة المعارف وهذا الكتاب عبارة عن مناظرة بينه وبين أبي الربيع المذكور آنفا حول كلمة « كان ماذا» هل يعمل في ماذا الاستفهامية ما قبلها. وإذا كان ابن المرحل يجيز ذلك فإن ابن الربيع النحوي أحد معاصريه قد أنكر عليه ذلك الاستعمال وغلطه وقال : الصواب ( ماذا كان) فأجابه ابن المرحل بالبيت التالي :
عـاب قــوم ( كــان مــاذا)
ليث شعـــــري لــم هــذا ؟
الــخ (6).
وظل النزاع بينهما، فألف أين المرحل في المسألة والاحتجاج لها من كلام العرب والرد على المنتقد كتابا كان ماذا أو كما سماه المقري كتاب الرمي بالحصا والضرب بالعصا. ومن كلامه في ذلك قوله :
أيهــا القـائل :
كــان مــاذا ليتــها عـدم
جنبــوها قــربها عـــدم
ليتنــي يا مال (7) لــم أرها
إنهــا كالنـــار تضطـرم
يقول لك مالك : لابد أن تصيح من تحت طبق على طبق نيران كان ماذا ؟ « ونادوا يا مالك ليقض علينا ربك، قال أنكم ماكثون، لقد جئناكم بالحق، ولكن أكثركم للحق كارهون، إلى كم في كان ماذا تقييدا بعد تقييد ؟ لقد حصلت منها في أمر شديد، إلى كم تعبد فيها وتبديء وتنظم وتنشيء، أغرك احتمالي لقدحك ومزحك، وصبري على ألم جرحك حتى قلت : ما لجرح بميت إيلام، انتهزت الفرصة في أذية صبور ودلاك حلمه بغرور حتى قلت :
كل حلــم أني بغير احتمــال
حجة لاجـيء إليهــا اللئـــام
تالله لو نهيت الأولى لانتهت الآخرة، ولم تكن الفاقرة تتبعها الفاقرة، ولكن أغضبت على القذى، وصبرت على الأذى حتى قيل : لو قدر لانتصر، وانصل لأمر فصار ديدنا، فلا جرم أن أتعقبت كلامك وألفت عليك كلامك فأقول: وإنما أخاطب من سمع خطابي ونظر في كتابي : أعلم أعزك الله أن هذا الرجل المشار إليه وهو الذي أثار نار كان ماذا التي أحرقته حتى صاح : ليتني يا مال لم أرها .. البيت. وذلك لله سمع رجلا ينشد في قصيدة في محفل كريم جمعني وإياه، وكان فيها : وإذا عشقت يكون ماذا؟ على أنه دين علي فيغتدي يروح ؟
فقال : لحن هذا الناظم، لا يقال كان ماذا ولا يكون ماذا ولا فعل ولا ماذا ؟ ولا يجوز ما كان على هذه الطريقة ولا سمع، فاستشهدت عليه ببيت الجارية وهو :
فعــاتبوها فــذاب شوقا
ومات عشقــا فكــان ماذا؟
ويقول الشــاعر :
فعــدك قد ملكــت الأرض طرا
ودان لك العبـاد فكــــان ماذا؟
فقال : هذا لحن، ولا يحتج بمثل هذا. فقلت له : إيراد العلماء لهذا الشعر وقبولهم له حجة على جوازه، وهذا كثير. ذكر أبو علي البغدادي في الذيل من النوادر انبانا الزبير أخي هارون بسنده عن وهبب بن مسلم عن أبيه قال : دخلت مسجد النبي صلى الله عليه وسلم مع نوفل بن مساحق فمرونا بسعيد بن المسيب فسلمنا عليه فرد ثم قال : يا أبا سعيد من أشعر؟ أصاحبنا أم صاحبكم، يريد عمر بن أبي ربيعة وقيس الرقيات. فقال له ابن مساحق : حين يقولان ماذا؟ قال : حين يقول صاحبنا :
خليلي ما بـــال المطـايا كأننــا
نراهـــا على الأدبــار بالقــوم تنكص ..
لأبيــات .
ويقول صاحبكم ماذا؟ فقال له وهب .. الخ.
وحكى أبو علي قال : قرع باب ابن الرقاع فخرجت بنية به صغيرة فقالت من هاهنا فقالوا : نحن الشعراء، قالت وتريدون ماذا؟ قالوا : نهاجي أباك. فقالت : تجمعتهم من كل ارب ووجهة على واحد. لازلتم قرن واحد، قال فاستحيو ورجعوا واستشهدت بحكاية أخرى أخرجها ابن قيبية في عيون الأخبار قال : من أعرابي بمؤذن وهو يقول : أشهد أن محمدا رسول الله، بنصب رسول الله. فقال الأعرابي ويحك يفعل ماذا؟ وبحكاية أخرى من الكتاب المذكور قال : وصعد اليربوعي فخطب وقال : أما بعد فإني والله ما أدري ما أقول ولا قيم أقمتموني أقول ماذا؟ فقال بعضهم : قل في الزيت، فقال : الزيت مبارك فكلوا منه وأدهنوا .. (8).
ما شعر ابن المرحل فيتجلى في الدواوين التالية :
1- الجوالات أي المختارات، وقد جمع فيها ما اختاره لنفسه من شعره وقد ضاع.
2- الصدور والمظالع وقد ضاع أيضا.
3- مدائحه النبوية وقد اعتبرها كتاب الأدب المغربي غرضا من أغراض التصوف ومنها:
أ- الوسيلة الكبرى المرجو نفعها في الدنيا والأخرى وهي تحتوي على قصائد في مدح النبي وذكر ميلاده وغزواته أي السيرة النبوية وقد رتبها على حروف المعجم ولزم افتتاح أبياتها بحرف الروى، وقد شرحها المؤلف، ويوجد فيها ديوان مع شرحه في خزانة الرباط العامة مخطوط رقم ج 89 وهذه صورة الصفحة الأولى منها يقول فيها :
إلى المصطفى أهديــت غـر ثنائي
فيا طيب إهدائي وحسن هـدائي
أزاهر روض تجتنــى بعطــارة
وأســـلاك در تصطفــى لصفاء
أكاليل من مـــدح النبــي محمد
بهــا حازت الآداب كــل بهـاء
أضفــت إلــى ميلاده غـزواته
ومــا عن لي من آيــة وأيـاء
أردت رضــى ربي بها فهو ارنجي
وربي كريم لا يضيــع رجائــي
[- المعشرات النبوية في المديح أيضا وتوجد منها حسبما ذكر الأستاذ كنون نسختان بالأسكوريال وهي مجموعة من نمط الوسيلة في كل حرف منها عشرة أبيات.
ج- المعشرات الزهدية وهي على نمط ما قبلها في عدد الأبيات والتزام البدء بحرف الروي وتختلف عنها في الموضوع الذي هو الزهد والترغيب عن الدنيا.
د- ديوان « دوبيت» صغير والدوبيت كلمة مركبة من دو الفارسية بمعنى اثنان وبيت العربية، وهي من نوع استعمل في المشرق واستعمله المغاربة ويكون غالبا في النسين أو الهجاء. وديوان أين المرحل في الدوبيت يوجد بالاسكوريال أيضا في كراس، ومعه قصائد أخرى (9).
وفي حلقتنا المقبلة، بحول الله سنتعرف على أغراض شعره وسنتناولها ببعض من التحليل والرأي. وسنرى كيف أنها أقدر على إبراز ملامح هذا الأديب.


1 ) الأدب المغربي : للأستاذين محمد بن تاويت ومحمد الصادق عفيفي ص 221.
2 ) ذكريات مشاهير رجالات المغرب ( ابن المرحل ) الأستاذ عبد الله كنون.
3) ذكريات مشاهير رجالات المغرب ( ابن المرحل ) الأستاذ عبد الله كنون.
4) ص 221.
5 ) نفح الطيب الجزء 2 ص 432.
6) بغية الوعاة للسيوطي ص 384- سلوة الأنفاس ج 3 ص 100- النفح ج 5 ص 279.
7) مال : ترخيم مالك.
8 ) نفح الطيب ج 2 ص 520 ليدن- وقد أوردها النبوغ المغربي كاملة.

دعوة الحق

155 العدد
 
-4-

شعر ابن المرحل
يمتاز شعر ابن المرحل بظاهرة فريدة تتجلى فى ان المتمحص فيه يلمس من خلال قصائده خلاصة مميزات الشعر فى العصر المريني فى شتى الجوانب التى مسها والاغراض التى تناولها ، بل يمكن للناقد والمؤرخ الادبي ان يستشف من خلاله اهتمامات السلاطين المرينيين ويلتقط كثيرا من مميزات المجتمع المغربي التى بدات بوادرها مع ميلاد هذه الدولة . واذا كانت كثير من اعمال ابن المرحل قد تبددت نتيجة ظروف انتقالية وحاسمة سبق الاشارة اليها ، فانها كذلك لم تحتفظ فى القلة الباقية الا بالشعر الذى عبر عن الجانب الديني والتعليمي وما يمكن ان يدخل ضمنهما من دعوة الى الجهاد والزهد فى الدنيا وهي بذلك تشهد على انه ابن المرحلة الاخيرة من حياته كما توضح الاسباب التى جعلت صفة الفقيه تغلب عليه ، وتشرح المؤهلات التى رشحته للأزمة ولي العهد ابي مالك .

اغراض شعره :
رغم ان ابن المرحل ساهم التجديد الشعري فى عصره حين نظم فى الموشحات والاوزان الخفيفة الصالحة للغناء التي انتشرت فى عصره خاصة بالاندلس ، فان اغراض شعره لا تخرج عما عرفه عصر ازدهار الشعر العربي على العموم بالشرق والاندلس ، وعلى ذلك ستقسم شعره الى الاغراض الاتية : شعره فى المدح السياسي – الدعوة الى الجهاد الديني والقومي – المدح الديني – شعر الزهد – النسيب واخيرا الموشحات .

المدح السياسي :
شعر ابن المرحل فى هذا الموضوع لا يخرج عن الشعر العربي القديم فى مدح اولي الامر ونعتهم بحميد لخصال وثاقب الراي والغيرة على الدين والاناة والتبصر والحزن مما كان يلقي كامل الاستحسان من اولئك نظرا لحاجتهم فى ظروفهم تلك الى مثل هذا الاطراء ، وذا كان شعر اب المرحل فى هذا العرض اروع ما ترك فيما يبدو من حيث الاخيلة والسلاسة والعذوية فاننا مع الاسف لا نتوفر على ديوانه فى هذا الموضوع لانه مفقود ، وبين ايدينا قصيدة واحدة قالها يهنيء بها ولي العهد ابي مالك بفتح مراكش ، وهي قصيدة جميلة بما تضمنت من اخيلة واوصاف مشتقة من الطبيعة ودقة ملاحظة الشاعر فيما تناوله من جزئيات وتلميحات واشارات تاريخية الى جانب التشخيص الناطق المتحرك للصور التى خلقها وكونها . وابن المرحل كما سنرى فى هذه القصيدة يعود بنا الى شعراء عمالقة من شعراء العصر العباسي ويذكرنا بقصائد خالدة من قصائدهم ، فهو حين يمدح مهنئا بفتح مراكش بعد ان استخلصها المرينيون من الموحدين بقصيدته المدحية التى يقول فيها :

فتح تبسمت الاكوان عنه فما رايت املح منه مبسما وفما
فتح كما فتح البستان زهرته ورجع الطير فى فنانه نغما
فتح كما انشق صبح فى قميص دجا وطرز الطير فى اردانه علما
سرعان ما يذكرنا برائعة ابي تمام فى فتح عمورية والتي يقول فيها :
فتح الفتوح تعالى ان يجيط به نظم من الشعر او نثر من الخطب
فتح تفتح ابواب السماء له وتبرز الارض فى الثوابها القشب
وما اقوى التشابه بين القصيدتين ادبيا وتاريخيا ، فالمستوى الادبي متماثل قوي فى كليهما اسلوبا ومعنى وكلاهما اتخذ البسيط اطارا لقصيدته . وتاريخيا نجد كلاهما امام ملك وحول موضوع يتعلق بالفتح والانتصار على الخصم .
وابن المرحل يقدر فنه ونفسه فلا يحط من مكانتهما فى مدحه ولا يظهر فى حالة استحداد او تلهف على التقرب فهو قريب او الى المال فهو الفقيه المتدين مربي الامير وانما نحس فيه الشاعر الملتزم لما قتضيه عمله من طاعة وتبعية ولكن عن اقتناع شخصي وصدق يقويهما حبه لفنه كشاعر . كما انه لا يبتذل او يبالغ بل نجد وصفه فى متبوعه يتسم بالاعتدال والمعقولية لا ينجز وارء العوانف الجامحة ولا تجمح به المبالغات .
ملك يصير بأدواء الامور له راي نجيح وطب يذهب الالما
عدل الحكومة ماضي العزم معتدل كالريح يمضي بعدل كلما عزما
واذا كان تأثير الشعر العباسي يطل من خلال القصيدة كدليل على ثقافته العربية فان آفاقه لا تقتصر على ذلك وحده ، وانما تدل على انه كان بصيرا بالشعر والادب فى وطنه حين يطل علينا بثقافته وخبرته وسعة حفظه من خلال قوله :
مولاي يهنيك ما اعطيت من ظفر على عدى اصبحوا فى حيرة وعمى
وعن قريب الى يمناك مرجعهم فلا يجازي امرؤ الا بما جرما
ابن المفر وخيل الله تطلبهم لا يعصم الله منهم غير من رحما
الا يذكرنا الشطر الاول من البيت الاخير بشيء ؟ الا يذكرنا بقول الشريف الاصم من قصيدة امام عبد المومن يعارض هو بدوره بها ابا تمام :
ما للعدا جنة اوقى من الهرب اين المفر وخيل الله فى الطلب
الى جانب التاثير القرآني والحديث النبوي والثقافة الاسلامية عامة فى باقي القصيدة وكم يؤلمنا ان يضيع ديوان من هذا القبيل وفى مستوى هذه الشاعرية .

الدعوة الى الجهاد :
غرض آخر يدخل ضمن الشعر السياسي والقومي ارتأينا افراده بباب خاص نظرا لمكانته الوطنية والقومية على النطاق الديني والسياسي ، وهو صنف من الكفاح الذى يستعمل الكلمة اداة لاثارة الهمم واستنفار المواطن للدفاع عن وطنه فى حدوده الضيقة او الفسيحة والتضامن لنصرة المسلمين اينما وجدوا ، وفى هذا النوع من الشعر يبدو لنا ابن المرحل ذلك المسلم الغيور على عقيدته ووطنه المتألم لما يصيب المسلمين والاسلام من مهانة ، الامر الذى يدفعه الى المساهمة ، بما تفرضه عليه المرحلة ، من واجب استصرخ المسؤولين واستنفار المجاهدين فى الاسواق والمساجد لانقاذ الاندلس واهلها وهي تتعرض لعدوان المسيحيين المتعصبين وهم يقتادون السكان الى مصيرهم المرعب محاولا اثارة الغيرة الدينية والقومية فى نفوس المغاربة ، ومن غيرهم للتطوع وانقاذ البلاد ؟ بمثل هذه الصرخات :
استنصر الدين بكم فاستقدموا فانكم ان تسلموه يسلم
لا تسلموا الاسلام يا اخواننا واسرجوا لنصره والجموا
لاذت بكم اندلس ناشدة برحم الدين ونعم الرحم
وانظر الى هذا التاكيد التاريخي عن الوحدة الوطنية بين المغرب والاندلس وانظر الى هذا التقابل عند الشاعر يثير به الغيرة والحماس بعد ان :
استخلص الكفار منها مدنا لكل ذي دين عليها ندم
قرطبة هي التى تبكي لها مكة حزنا والصفا وزمزم
وحمص وهي اخت بغداد وما ايامها الا صبا والحلم
تم هذا التذكير بما اوجب الله للمجاهدين بهذا النداء :
يا اهل هذه الارض ما اخركم عنهم وانتم فى الامور احزم
تسابق الناس انى موطن الاجر فيها وافر والمغنم
باعوا من الله الكريم انفسا كريمة قفاض منها الحكم
دعاهم الله الى رحمته وحيهم بين يديه يخدم
ولا شك ان داعي الوطنية ايضا كان ينطق ابن المرحل ، انه الوطن الذى فتح عينيه فيه وعاش فيه صباه صحبة اهله . وما اقوى الشبه بين ظروف المسلمين فى الاندلس والشاعر يلهب حماس المسلمين لانقاذ اخوانهم من مكر العدو بهم ، وحال العرب اليوم فى فلسطين والشاعر العربي المعاصر يثير الحمية الدينية او القومية فى نفوس اهلها واشقائها للجهاد فى سبيل اعادة الحق المغصوب ، وان الثقافة الاسلامية لتكاد تنطق من ثنايا الابيات وهو يصف المجاهدين بقوله :
اخرجه من بيته ايمانه وحبه فى فعل ما يقدم
لم يثنه عن عزمه اهل ولا مال ولا خوف نعيم يعدم
والله راض عنه والخلق له يدعون مهما كبروا واحرموا
ثم وهو يشحذ عزيمتهم لملاقاة الموت بقوله :
حدوا لسلاح وانفروا وسارعوا الى الذي من ربكم وعدتم
ان الالتزام مع قضايا العصر تتجلى فى شعره بأجلى صورها ، وتـأبى الصورة الا ان تكتمل ، ويأبى التاريخ الا ان يعيد نفسه حين تتوجه الدعوة الى قومية المعركة من اجل فلسطين فتجد آذانا صاغية من المغرب وهو يمد يد المساعدة ، وهم يستجيبون نصرخة المستنجد ونصرته ، مع قصيدة شاعرنا وهو يلهب حماس مواطنيه بالمغرب لنجدة اخوانه بالاندلس ، وكان القصيدة لم يمر عليها سبعمائة سنة ، وهي خصيصة الادب الخالد الذى لا بموت بعد ان يستنفذ اغراضه ، ويتجلى ما ذكرنا فى قصيدته التى تدعو الى اجابة استنجاد ابن الاحمر صاحب غرناطة بيعقوب المنصور على عدوه الاسبان والتى يقول فيها اثر استجابة يعقوب للطلب :
شهد الاله وانت يا ارض اشهدي انا اجبنا صرخة المستنجد
لما دعا الداعي وردد فعلنا قمنا لنصرته ولم نتردد
الى قوله :
الله يعلم اننا لم نعتقد الا الجهاد ونصر دين محمد

المدح الديني :
يدخل ضمن هذا الغرض ما انشده ابن المرحل من قصائد فى مدح الرسول (ص) وذكر سيرته وشوق الى زيارة البقاع المقدسة التى تضم قبره الشريف وقد بلغ حب الشاعر فى هذا المضمار حدا دفعه الى تدبيج قصائد فى مدح مثال النعل النبوية ، والى وضع معشرات فى سيرته من يوم ولد الى يوم وفاته ، ولطابع الروحي الصوفي ، فى هذا الصنف من شعره جلي واضح ، وهو اغلب ما احتفظت لنا به الايام من شعره ، مما يؤكد ما ذهبنا اليه من انه ابن المرحلة الاخيرة من حياته ومن امثلثه فى ذلك وقد التزم روي الهمزة بدا وختاما هذه المعشرة التى يقول فيها :
حق البرايا بالثناء مضاعفا نبي له فى الوحي كل ثناء
امام هدى صلى النبيون خلفه وصلى عليه اهل كل سماء
ابا عنقاء المصطفى ان حقه عظيم فكونوا اكرم العنقاء
اما كنتم من قبله فى شقاوة فلولاه هل كنتم من السعداء
وفى معشرة اخرى يلتزم حرف التاء فى ميلاد الرسول (ص) فيقول :
تذكرت ميلاد الرسول محمد فأمللته لا بل دمعي املت
تناسى فؤادي كل حب بحبه كذاك تحيل الشمس ضوء الاهلة
تمنيت فى تلك المعالم خطوة تسكن قلبا لي وتبرد غلة
ويستمر فى صنعته وتدفق طبعه فى بقية شعره من هذا النوع دون ان نحس تكلفا ، ومن ذلك قوله وقد استاق الى زيارة قبر النبي (ص) بعد ان بلغ عتيا ، ولكن صحته تحول بينه وبين رغبته ، ونلاحظ الصنعة بملاحظة اوائل الابيات مع اواخرها
امالي الى قبر النبي مبلغ سلاما فقد افنى الزمان دمائي
اماني كانت لي زيارة قبره وارضي روض يانع وسمائي
امال قناتي بعد حسن اعتدالها زمان اراني النقص بعد نمائي
اماري مشيبي فى سني وقد رمى فؤادي على قوسي فكيف رمائي
ولعل فكرة اداء الفريضة لم تراوده الا فى سنه المتقدمة تلك ، ورغم الصنعة الصارخة التى نلمسها فى ثنايا كل بيت او مقطوعة من هذا الغرض ، فان السلاسة التى يتميز بها وتمكنه من لغته يبعد اتهامه بالتكلف ، وكما سبق فقد بلغ به الشوق والتفاني الى مدح النعل النبوية وتقبيلها وانشاد قصائد فى شأنها اوردها المقري فى فتح المتعال فى مدح النعال وابن عبد الملك فى الذيل والتكملة بقول فى بعضها :
مثال لنعلي من احب حويته وها انا فى بومي وليلي لائمة
اجر على راسي ووجهي اديمه والثمه طورا وطورا الازمه
صبلة مشتاق ولوعة هائم نعم انا مشتاق الفؤاد وهائمه
الا بأبي تمثال نعل محمد لقد طاب حاذيه وقدس خازمه
ورغم هذا التطرق فى التعلق بالنعل ، فالاكيد انه انعكاس لما ضاع عليه من فرصة الفريضة الى قبر النبي (ص) ، ويؤكد ذلك ايضا ما جاء فى طائيته المشهورة فى نفس الموضوع حيث يقول :
رأيت مثال النعل نعل محمد تملت ومالي غير ذلك اسفنط
الا بأبي ذاك المثال فانه خيال حبيب والخيال له قسط
فان لا تكنها او تكنه فانه اخوها اعتدالا مثل ما اعتدل المشط
ارى لثمه مثل التيمم مجزيا فالثمه حتى اقول سينغط
وما هي الا لوعة وصبابة بقلبي لها سقط وفى مدمعي سمط

لقد اصبح متيما مجنونا بهذا المثال كما ترى ولا اجد من اضعه مع شاعرنا فى هذا الميدان واقارنه به سوى الشاعر المصري البصيري صاحب البردة والهمزية فى المدح النبوي هذا الرجل الذى عاش نفس الفترة الزمنية التى عاشها شاعرنا.
هذا الاتجاه الروحي من ابن المرحل لا يخلو من باعث سياسي ، وهو يدخل ضمن الاتجاه الديني الاسلامي الذى نهجه المرينيون وتعصبوا له فى سياستهم الدفاعية عن الاسلام فى الاندلس والسير بحسب ما يأمر به القرآن والسنة فى اصولهما ، وهم بذلك يخالفون ويعارضون ما ذهب اليه سابقوهم الموحدون من اخذ بالراي واهتمام بالفروع ، كما يعود هذا الاتجاه ايضا من شاعرنا الى اهتمامات المرينيين فى احياء المراسم والاعياد والمناسبات الدينية الاسلامية واحتفائهم بها واستغلالهم لها كمناسبة لتشجيع الادباء على فنون القول ، وتتم سياسة بناء المساجد والمدارس التى انتشرت فى عصرهم ، كما يؤيدها ما كانوا يعقدونه من مباريات ومسابقات بين الطلبة والمثقفين فى مثل تلك المناسبات والتي كانوا يتراسونها مستمعين ، ويختمونها باجازة المتفوقين والمشاركين بمختلف الصلات التى كانوا يقدمونها لهم تشجيعا لهم وللثقافة فى ايامهم .
واذا كانت تنشئة ابن المرحل الدينية قد ساهمت بدورها فى طغيان هذا النهج الديني فى شعره فان اهتمامات السلاطين المرينيين وعنايتهم بمثل هذا الموضوع يقيمون له المهرجانات دفعت شاعرنا الى التمادي فى ذلك ترضية لسياسة الدولة من شاعر الدولة .
وفى الحلقة المقبلة بحول الله سنتحدث عن باقي الاغراض من شعر شاعرنا .

عن دعوة الحق

دعوة الحق

158 العدد
 
-5-

الزهد :
رغم اتصال هذا الغرض بالغرض الديني السابق، فإن ارتباطه بنفس قائله وعواطفه كاختيار ارتآه صاحبه لحياته تلك التي حاولت قطع كل اتصال لها بالشهوات بعد أن خدمت فيه فورة الحياة وأصبح منقادا لها عن ضعف جسمي بعد أن كان يقاومها بعنف الشباب وهكذا يأتي هذا الاتجاه عند ابن المرحل بعد أن أصبح يحس أواخر أيامه وبعد أن تجمعت عليه العلل، فنجد له قصائد الخوف من المصير الرهيب والأسى الذي يغمره بعد إحساسه بنهاية المطاف وذلك ما تترجمه هذه الأبيات التي يول فيها :
بأي دواء أم بأي طبيب
بدواي عذرا من بياض مشيب ؟
بياض كما لاحت كواكب سحرة
تريك طلوعا مؤذنا بغروب
وهول هذا الواقع يسيطر عليه ويعتبره نهاية تستدعي أن يطلب من ابنه البكاء عليه وعلى غروره بدنياه التي لم يتزود فيها بما يطعمه في النجاة.
بني ابك لي أن البكا يبعث البكا
وليس جوابي منك غير وجيب
بحارا ركبناها بغير سفائن
غرورا فإن نهلك فغير عجيب
ولعل تجربة قرن من حياة عاشها قد تركت خطوطها على حياته بمثل هذه السلبية الغريبة من رجل عاش بذخ القصور حين يردد :
بني الدهر ! إما الدهر فهو عدوكم
وإن لاح يوما في ثياب حبيب
إلى قوله :
بعيد من التوفيق من بات ساهرا
رجاء بعيد لا مخاف قريب
ولا يكتفي، بل أنه لا يجد غير البكاء على نفسه مخلصا له من آلامه في انطوائية وتفكر وتأمل الفلاسفة أو الزهاد السائلين عن جدوى الحياة، وكان لسان حال كل الناس يعبر عن أساهم بمثل هذه الأبيات :
جدير بأن يبكي على نفسه أسى
فتى كلما ترجى له ثوبة ترجا
جبان عن التقوى جرئ على الهوى
قريب من المهوى بعيد عن الملجا

جرى في مجال اللهو ملء عنانه
إلى الآن ما ألقى لجاما ولا سرجا
جنى ما جنى واستسهل الأمر في الصبا
فلما نهاه الشيب عن فعله لجا(1)
أبيات صادقة من نفس تحاسب نفسها بعد غفلة وتقف عند دقائق الأفعال وخفاياها تبرزها في صنعة صارخة متجلية في هذا التقابل وهذا الجناس وأطباق الذي لا يخلو منه بيت في كلمات الأسى والرجا والهوى والمهوى والريب والبعيد والجبان والجرئ والأبصار والبصائر وبرتني وبراءة وبلاكم وأبلاكم، مؤكدا بذلك شاعريته القوية في ضعفه الإنساني بعد شيخوخته.
ومن زهديات شاعرنا كذلك هذه المقطوعة التي يذكر فيها بالموت والحساب مندهشا من غفلة الغنسان بقوله يخاطبه :
تنام وهذا الدهر إما مصبح
بجيش الردى يوما وإما مبيت
تقوت بذكر الله تقو فإنه
حقيق بأن يقوى الذي يتقوت
تنافس في غير النفيس سفاهة
فقدك هوى أن السفاهة تمقت
وهو في كل هذه المقطعات يلتقي بأبي العتاهية في روحه الزهدية حين يردد :
أبت طرقات كل قرير عين
بها إلا اضطربا وانقلابا
كان محاسن الدنيا سراب
وأي يد تناولت الرابا
فيا عجبا تموت وأنت تبني
وتتخذ المصانع والقبابا
ألم تر أن كل صباح يوم
يزيدك من منيتك اقترابا
وفي حديثه عن الدنيا وغرورها :
ولقد أقام لي المشيب نعاته
يفضي إلي بمفرق وقذال
وإذا تناسبت الرجال فما أرى
نسبا يقاس بصالح الأعمال
كما يذكرنا بأبي نواس في لحظات توبته التي كانت تنتابه أواخر أيامه حين يردد أمثال هذه التأملات :
أفنيت عمرك والذنوب تزيد
والكاتب المحصي عليك شهيد
كم قلت لست بعائد في نورة
ونذرت فيها ثم صرت تعود
حتى متى لا ترعوي عن لذة
وحسابها يوم الحساب تعود

وكأنني وقد أتتك منية
لا شك أن سبيلها مورود
وقوله يخاطب نفسه :
يا نفس خاف الله واقتدي
واسعي لنفسك سعي متئد
منتك نفسك أن تثوب غدا
أو ما تخاف الموت دون غد
ما حجتي يوم الحساب إذا
شهدت علي بما جنت يدي

النسيب :
قد يكون مما يثير الاستغراب أن يصدر من ابن المرحل الفقيه المتدين الزاهد شعر في الغزل، ولكن لم لا ؟ أليس ابن المرحل ككل إنسان يكره ويحب ؟ ألم يقل الشاعر :
إن عشقنا فعذرنا إن في وجهنا نظر !؟
ورغم ذلك فإن مطوعات شاعرنا في النسيب تنم عن إنسانية في غير فحش أو إفراط، وتصدر في عبارات لا تخرج به عن وقاره الذي اشتهر به، مما يدل على شجاعة فيه وجرأة، وهو الفقيه القاضي المربي من أن يتحدث في مثل هذا الغرض، ومما يدل من جهة أخرى على غلو نقادنا الذين عمموا اتهام الفهاء بالتعصب والتطرف في الدين لحد الرجعية وكمثال على عفة غزله ونقاء عباراته، رائيته المشهورة التي يقول فيها :
طاف الخيال بوادينا فما زارا
إلا وواقع سرب النوم قد طارا
لا ذنب للنوم بل للعين تدفعه
بل للحشا بل لمن حشا الحثا نارا
لا آخذ الله أحبابي بما صنعوا
إن الحبيب لمحبوب وإن جارا
وما أجمل الصدق في تشريح النفس وتعريتها، إذ لم يمنعه وقاره من عرض نفسه على حقيقتها أو تمثلها كما تكون في مثل هذا الحال حين يحكيها على شكل قصة كما هو حاله في المقطوعة الغنائية التالية :
تملكتم عقلي وطرفي ومسمعي
وروحي وأحشائي وكلي بأجمعي
وتيهتموني في بديع جمالكم
فلم أدر في بحر الهوى ابن موضعي
وأوصيتموني لا أبوح بسركم
فباح بما أخفي تفيض أدمعي
فلما فنى صبري ول تجلدي
وفارقني نومي وحرمت مضجعي
شكوت لقاضي الحب قلت أحبتي
جفوني وقالوا أنت في الحب مدع
وعندي شهود بالصبابة والأسى
يزكون دعواي إذا جئت أدعي
سهادي وشوقي واكتآبي ولوعتي
ووجدي وسقمي واصفراري وأدمعي
ومن عجب أني أحن إليهم
وأسأل شوقا عنهم وهم معي
وتبكي دما عيني وهو في سوادها
ويشكو النوى قلبي وهم بين أضلعي
ولكن هذا الصدق لا يمنعه من توشيح شعره حتى ليظهر فيه نوع من التصنع وما هو بتصنع ولكنه الطبع الغالب في الرجل يلح عليه فاستمع إليه متغزلا في هذه المقطوعة لتلاحظ ذلك :
يا راحلين ولي في قربهم أمل
لو أغنت الحيلتان القول والعمل
سرتم وسار اشتياقي بعدكم أملا
من دوته السائران الشعر والمثل
وظل يعذلني في حبكم نفر
لا كانت المحنتان الحب والعذل
عطفا علينا ولا تبغوا بنا بدلا
فما استوى التابعان العطف والبدل
مذ ذقت فضلكم فضلا فلا وأبي
ما طاب لي الأحمران الخمر والعسل
وقد هرمت أسى من هجركم وجوى
وشب مني اثنان الحرص والأمل
غدرتم أو مللتم يا ذوي ثقتي
لبيست الخصلتان الغدر والملل (2)
وثقافة الشاعر اللغوية لا تخفى من خلال الأبيات في عدم استواء الجمع بين العطف والبدل وفي هذا الازدواج بين القول والعمل والشعر والمثل والحب والعذل والخمر والعسل، شاعرنا لا يتوان في استغلال ثقافته البلاغية في صناعة الكلام واللعب بالجمل والتقابل والتطابق حينا بعد حين كما هو الشأن في هذه المقطوعة الغزلية التي تمتزج فيها الصنعة بهذا المنطق المقنع :
لم يكن الحب وصلا كله
لم تكن غايته إلا الملل
أو يكون الحب هجرا كله
لم تكن غايته إلا الأجل
إنما الوصل كمثل الماء لا
يستطاب الماء إلا بالعلل
ومن شعره في هذا الموضوع قوله في قصيدة من عروض الدوبيت المجزوء وهو من اختراعه :
الصب إلى الجمال مائل
والحب لصدقه دلائل
والدمع لسائلي جواب
إن روجع سائل بسائل
والحسن على القلوب وال
والقلب إلى الحبيب وائل
لو ساعد من أحب سعد
ما حال عن الحبيب حائل
يا عاذلي ‘ليك عني
لا تقرب ساحتي العواذل
ذا نازل كمثل ظبي
يشقى بلحظه المنازل
ما بين جفون حام
مخارقه له حمائل (3)
إلى جانب هذا له مقطوعات في مواضع مختلفة في الطبيعة وأوصف والحكم في أوزان خفيفة رشيقة قصيرة غالبا ما تلحن للغناء فأشعاره سارت حديث الناس في المحافل ومادة للمغتين في شتى المناسبات والأفراح كما ذكر ذلك ابن الخطيب يرددها المتذوقون ففي الوصف نجد له أبياتا في وصف الليل تدل على مساجلات أدبية كانت تنشأ عن لقاءاته بالأدباء والشعراء في مناسبات مختلفة في أمسيات كهذه التي يول فيها :
وعشية سب الصباح عشاءها
قصرا فما أمسيت حتى أسفرا
مسكية لبست حلى ذهبية
وجلا تبسمها نقابا أحمرا
وكان شهب الرجم بعض حليها
عثرت به من سرعة فتكسرا (4)
كما يصف نهرا في نزهه جمعته بقربه مع هذا الصنف من الأصداء بقوله :
والأرض قد ضربت بمرهف نهرها
صفحا وأنقى في المكان فصاحا
فاسمع إلى غريبه في حصبائه
كألفين جر على العداة سلاحا (5)
وفي طائر القماري الذي كثيرا ما كان يصادفه في منتزهاته يستغل مطالع الجاهليين فيقول :
رب ربع وقفت فيه وعهد
لم أجاوزه والركائب تسري
أسأل الدار وهي قفر خلاء
عن حبيب قد حلها منذ دهر
حيث لا مسعد على الوجه إلا
عين حر تجود أو ساق حر (6)

قيمة شعره :
عن الممتعن في شعر ابن المرحل على العموم لا يفتا بلمس آثار الشعراء الإسلاميين عبر مختلف عصورهم في الأشطار المتشابهة في معانيها أو الإحالات التي ترمز إليها أو الأوزان الواضحة التي تذكر بها، وذلك لا يدل على تقليد بقدر ما يدل على فا الرجل الواسعة وثقافته الكبيرة، وقد وصف تلميذه القاضي ابن عبد الملك المراكشي سهولة نظم وجريان ذلك على لسانه فقال : كان مكثرا من النظم مجيدا مستغرقا لفكره في قرضه، لا يغيب عنه ليلا ولا نهارا، شاهدت ذلك وأخبرني أنه لا يقدر على صرفه من خاطره وإخلاء باله من الخوض فيه، واشتهر نظمه وذاع وكلفت به العامة والخاصة وصار رأسمال المستمعين والمغنين (7) وقال عنه ابن الخطيب السلماني : شاعر المغرب وأديب صقعه الجامع بين سهولة اللفظ وسلامة المغنى وإجادة التوليد وسلامة المريحة وأحكام الاختراع وانقياد القريحة واسترسال الطبع والنفاذ في الأغراض(8) إما كتاب الأدب المغربي فيعده خيره من يمثل هذا الادب بعد ميمون الخطابي في منتصف القرن السابع إلى نهايته(9).
وهل أعمال النظر في هذه الأحكام كاف لاستخلاص الحكم على أسلوبه الشعري وعلى شاعريته فسهولة النظم وجربانه على لسانه كافية للدلالة على قدرته ومهارته في هذا الميدان وحكم تلميذه ابن عبد الملك يجعلنا نحس أن الرجل وجد ليكون شاعرا لا لطبقة معينة لشدة وضوحه وسيلانه لدرجة أن يكلف به الناس ويغني شعره المغنون.
أما رأي ابن الخطيب فلا يحتاج إلى تعليق إذ يكفي أن يكون صاحب الحكم هو ابن الخطيب لمعرفة درة ابن المرحل على التنوع والتلاعب والتوليد والاختراع والنفاذ في الأغراض، ونختم كلامنا في الموضوع بما جاء لكتاب الأدب المغربي حين حديثه عن الأدب في العصر المريني إذ يقول نقلا عن كتاب الموجز لحنا فاخوري ص 152 : "ويكفي أن في هذا العصر نبغ ذلك الشاعر الذي يحق أن يقال عنه : أنه شاعر المغرب الأكبر ونعني به مالك بن المرحل الذي طبقت شهرته العالم العربي والذي طبقت شهرته العالم العربي والذي لم يسع ابن خلدون إلا أن يعترف بشاعريته على ما علم من تحفظه الشديد (10).
وإذا كان أثر الشر في شعر ابن المرحل لا مجال لنكرانه لأن الإقليمية في ميدان الأدب لم تكن نشأت بعد حتى يفر بين نوعين من الأدب، فأثر البلاد التي تلقفت جسمه حين ولادته بالأندلس والتي احتضنته بالمغرب لا يخفى في شتى مظاهر حياته وثقافته وصنعته ووظيفته.
لقد وهبت الطبيعة الفاتنة الأندلس والمغرب جمالا قل نظيره تجلى في بساتين جمعت من كل زوج بهيج، وامتازت بصورها ومنشآتها المختلفة التي تفنن المهرة من صناعها في نقشها ونحتها وترصيع حيطانها وأرضها بفاخر الزليج والفسيفساء والرخام على مختلف ألوانه وأشكاله، وبقييها ونافوراتها التي تلهب الحسن وتخطف الأبصار، وبأنواع الثقافات الأدبية والفنية العربية منها والإسبانية، فاشتهرت بكل جميل في الموسيقى والأذواق الرقيقة في اللباس والحدائق ومجاس الأنس والشراب التي يؤنس ورادها غزالات رشيقات متفننات في استقبال الضيوف والعناية بهم، أفلا يحق لكل هذا أن يؤثر في شاعرنا ؟ وكيف لا ود عاش بين هذا الجمال المتنوع بصور المرينيين.
لقد تأثر ابن المرحل بكثير من مظاهر هذه البيئة فجاء ذلك الإنسان المرغوب فيه لما امتاز به من أدب وظرف لا يستغنى عنه في مجالس الأنس والغناء التي تقدم فيها روائع شعره الغناء والسهر والتنكيت في نوادي الأدب ولياليها وصور الأمراء والرفقاء كما سنرى وألهمه هذا الجمال وهذا المحيط إلى جانب ما اشتهر به من مقطعات غنائية في موضوعات الطبيعة والوصف والغزل التي تتعاطف مع النفس ألهمته ذلك الفن الذي اختص به الأندلسيون من الموشحات.

الموشحات :
هذا فن اختصت به الأندلس رغم ما قد يقال من كلام في انتسابه إلى الشام أو العراق أو مصر، وكان بالأولى أن يشاركها في ذلك المغرب بصفتهما عاشا تحت لواء سياسي واحد أيام المرابطين والموحدين وتبادلا الهجرات منذ الفتح العربي للأندلس.
ولكننا للأسف لا نجد كثيرا يذكر في هذا الباب للمغاربة، والكلام في هذا الموضوع كثير، وإذا كان ما لا يذكر كله لا يترك جله فيجب أن نثير إلى إن ظاهرة انعدام أي تسجيل للموشحات المغربية أو ذكر لها في مختلف كتب تاريخ الأدب، هي تتمة لاتجاه عدائي شامل لمختلف أوجه الثقافة واجهه المغرب وبالخصوص بعد حادثة سجن المعتمد ابن عباد والتهم التي ألصقت على يد المؤرخين والمستشرقين، كقضية إحراق الكتب، واتهام يوسف ابن تاشفين بالخشونة، وعدم تذوق الشعر حين امتنع من الصفح عن المعتمد، والاحتفاظ برسالة أبي الوليد الشقندي في إظهار فضل الأندلس على المغرب دون رسالة ابن المعلم في فضل المغرب على الأندلس، وحتى نجد صاحب النفح يسجل موشحات المغاربة دون أن ينسبها لأصحابها خلاف ما يفعله مع موشحات الأندلسيين، وإذا أضفنا إهمال تسجيلها باعتبارها عملا لا يبلغ مرتبة الأعمال الأدبية المحترمة كما صرح بذلك عبد الواحد المراكشي في كتابه المعجب معتذرا عن ذلك، فقد أدى ذلك إلى ضياع كثير من أعمال الأدباء المغاربة في فن التوشيح وغيره، ومن ذلك نجد ابن المرحل يذكر من جملة الوشاحين في كتاب توشيح التوشيح للصفدي دون أن يذكر له موشحة واحدة، ولكن هذا لم يمنعنا من إثبات إحدى موشحاته كانت سجلها الأستاذ كنون في مجموعته الذكريات وهي في المدح النبوي وفيها يقول :
ميم ملائكة الإله تسلم
فوجا عليه إذا بدا وتعظم
ويمر جبريل بها يتقدم
فيضاعف التعظيم والتكريما
صلوا عليه وسلموا تسليما
نون نبي جاءنا ببيان
وبمعجزات أبرزت لعيان
وبحسبه إن جاء بالقرآن
يشفي قلوبا تشتكي وجسوما
صلوا عليه وسلموا تسليما(11)
لام لأجلك فاض دمعي جدولا
فاحضر آس أساك إذ يبس الكلا
يا خير من كلأ المكارم والعلا
وحمى الحمى ورمى فأعمى الروما
صلوا عليه وسلموا تسليما
وهي موشحة طويلة تجمع حروف المعجم كلها، وكل ما سبق يؤكد أن ابن المرحل كان وشاحا كبيرا ولكن إنتاجاته في هذا الموضوع ضاعت يدروها كما ضاع ديوان شعره للأسباب التي سبق الحديث عنها.

جانب الطرافة في ابن المرحل وشعره :
وهو يتجلى في نكته الأدبية والشعرية التي يقول ابن الخطيب عنها : كانت له قوة العارضة في ميدان المداعبة والمجانة المؤيد ذلك بخفة الروح وذكاء الطبع وحرارة النادرة (12)، من ذلك ما يروي صاحب النفح يقول : مر الدباغ (أبو عبد الله الدباغ المالقي المتطبب) علينا يوما بفاس، فدعاه الشيخ فلباه فقال حديثا بحديث اللطافة فقال نعم. حدثني أبو زكرياء ابن السراح الكاتب السجلماسي أن أبا إسحاق التلمساني صهره اصطحبا في مسير فآواهما الليل إلى مجشر فسالا عن صاحبه فدلا، فاسضافا فأضافهما فبسط قطيفة بيضاء ثم عطف عليهما بخبز ولبن وقال لهما استعملا من هذه اللظافة حتى يحضر عشاؤكما وانصرف، فتحاورا في اسم اللظافة لأي شيء منهما حتى ناما، فلم يرع أبا إسحاق إلا مالك يوقظه ويقول قد وجدت اللظافة، قال كيف، قال : أبعدت في طلبها بما لم يمر قط على مسمع هذا البدوي فضلا عن أن يراه، ثم رجعت القهقرى حتى وعت على قول النابغة :
بمخضب رخص البنان كأنه
عنم يكاد من اللطافة يعقد
فسنح لبالي أنه وجد اللطافة وعليها مكتوب بالخط الرقيق، اللبن، فجعل إحدى النقطتين للطاء فصارت اللطافة : اللظافة، واللين : اللبن، وإن كان د صحف غنم بغنم، وظن أن يعد جبن، فقد قوى عنده الوهم، فقال أبو إسحاق : ما خرجت عن صوابه، فلما جاء سألاه، فأخبر أنها اللبن واستشهد بالبيت كما قال مالك(13).
ومن طرائفه وظرفه قوله موريا وقد بلغ الثمانين.
يا أيها الشيخ الذي عمره
قد زاد عشرا بعد سبعينا
سكرت من أكواس خمر الصبا
فحدك الدهر ثمانينا
وخير ما يمثل دعابته قصيدته البديعة عن زواج له بامرأة شوهاء على سبيل المجانة وبأبيات منها نختم هذه الحلقة يول فيها :

الله أكبر في منار الجامع
من سبتة تأذين عبد خاشع
الحمد لله السلام عليكم
آمين لا تفتح لكل مخادع
إن النساء خدعتني ومكرن بي
وملأن من ذكر النساء مسامعي
حتى وقعت وما وقعت بجانب
لكن على رأسي لأمر واقع
فخطبن لي في بيت حسن قلن لي
وكذبن بل هو بيت قبح شائع
بكرا زعمن صغيرة في سنها
حسناء تسفر عن جمال بارع
خوذ لها شعر أثيث حالك
كاللين يجلو عن صباح ساطع
حوراء يرتاع الغزال إذا رنت
بجفون خشف في الخمائل راتع
أنفاسها كالراح فض ختامها
من بعد ما ختمت بمسك رائع
ووصفن لي من حسنها وجمالها
ما البعض منه يقيم عذر الخالع
وتركنني يوما وعدن وقلن لي
خذ في البناء ولا تكن بمدافع
ولزمنني حتى انفصلت بموعد
بعد اليمين إلى النهار الرابع
فنظرت في أمر البناء معجلا
وصنعت عرسا يا لها من صانع
وطمعت أن تجلى وأبصر وجهها
وتقر عيني بالهلال الطالع
فذكرن لي أن لبس عادة أهلها
جلو العروس وتلك خدعة خادع

وحملنني ليلا إلى دار لها
في موضع عن كل خير شاسع
ودخلن بي للبيت واستجلسنني
فجلست كالمقرور يوم زعازع
فنظرت نحو خليلتي متأملا
فوجدتها محجوبة ببراقع
وأتيتها وأردت نزع خمارها
فغدت تدافعني بجد وازع
فوجأتها في صدرها ونزعته
وكشفت هامتها بغيض صارع
فوجدتها قرعاء تحسب أنها
مقروعة في ٍرأسها بمقارع
حولاء تنظر قراها في ساقها
فتخالها مبهوتة في الشارع
فطساء تحجو أن روثة أنفها
قطعت فلا شلت يمين القاطع
صماء تدعى بالبريح وتارة
بالطبل أو يوتى لها بمقاطع
بكماء إن رمت كلاما صوتت
تصويت معزى نحو جدي راضع
عرجاء إن قامت تعالج مشيها
أبصرت مشية ضالع أو خامع
فلقيتها وجعلت أبصق نحوها
وافر نحو دجا وغيث هامع
حيران أعدو في الزقاق كأنني
لص أحس بطالب أو تابع
حتى إذا لاح الصباح وفتحوا
باب المدينة كنت أول كاسع(14)

1 الذخيرة السنية ص 108 – 109 والنبوع ج 3 ص 809.
2 جذوة الاقتباس ص 224
3 النبوغ المغربي ج 3 ص 725.
4 رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصور للشريف الغرناطي ص 55.
5 رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصور للشريف الغرناطي ص 90.
6 رفع الحجب المستورة عن محاسن المقصور للشريف الغرناطي ص 49.
7 مطبوعات كلية الآداب بالرباط سنة 1964.
8 مطبوعات كلية الآداب بالرباط نقلا عن الإحاطة المخطوطة.
9 الأدب المغربي للأستاذين بن تاويت وعفيفي ص 221.
10 الأدب المغربي للأستاذين بن تاويت وعفيفي ص 220.
11 أنظر في هذا الموضوع بالعدد 5 و6 من دعوة الحق السنة 15.
12 محاضرة في الأدب المغربي من مطبوعات كلية الآداب بالرباط سنة 1964 نقلا عن الإحاطة المخطوطة
13 نفح الطيب ج 7 ص 168.
14 جذوة الاتباس ص 225 – النبوغ ج 3 ص 914.

دعوة الحق

159 العدد
 
-6-

وهكذا نخرج من بحثنا عن ابن المرحل بصورة الرجل الذي صارع الحياة منذ صغره يحاول أن يتسلق درجات النجاة وفرض الذات، معتمدا على نفسه مستمدا من يتمه نتيجة ما حاق بأهله ودينه وموطن ولادته بالعدوة على يد النصارى، وبدأ حياته عدلا ممتازا يشهد لعلية القوم وبقصور العزفيين ولاة سبتة فيما بعد، ولكن نفسه الكبيرة لم تقنع بهذا الدور الذي لم يكن سوى مرحلة إعدادية، فعمل على تكوين نفسه وتثقيفها في مختلف عواصم العدوتين.
لقد أمل في المرينيين حكام المغرب الجدد تحقيق ما ضاع على يد أواخر الموحدين، من أجل ذلك اتصل بملوكهم، فكان كاتبهم وشاعرهم الذي خلد أعمالهم وجهادهم في سبيل نصرة الإسلام حتى كاد شعره يقتصر على ناحيتين أساسيتين كلتاهما عملت لخدمة الأخرى : الدعوة للجهاد ببقاع الأندلس، ومدح ساسة المغرب الذين بذلوا كل غال ونفيس في سبيل تحقيق ذلك الغرض يتنقل سفيرا بين عواصم العدوتين وولاتها، العزفيين بسبتة، وبني الأحمر بغرناطة، المرينيين بالمغرب. وقد عمل في خدمتهم جميعا في سبيل توحيد سياستهم الإسلامية ضد نصارى الأندلس، منشدا هنا وهناك قصائده الحماسية وسط حشود الأهالي بالأسواق، وبالمساجد أيام الجمع لإثارة الغيرة الدينية والوطنية فيهم. فهل استطاع ابن المرحل أن يصل غرضه من ذلك؟.
لقد حدس ابن المرحل إمكانية نجاحه حين فكر في الاتصال بالمرينيين، ولم يخطئ حدسه حين وجد قلوبا مؤمنة وأبطالا صناديد وسياسة هادفة، وإذا كان هدف شاعرنا الأساسي من اتصاله بالمرينيين، فإن جوانب أخرى بالمقابل وجهت الاهتمام إليه، وكان جانب الدعابة والسخرية البريئة واحدها كما تجلى في نكثه ومساجلاته الأدبية فيما حدث بينه وبين ابن رشيق التغلبي مع الكلب الرقاص، وفي قصة اللظافة في ضيافة البدوي ثم في زواجه المفتعل، وهي في نفس الوقت ظواهر اجتماعية توضح قدرة ابن المرحل على الخيال الواسع الذي كان ممكنا أن يحوله إلى قصاص بارع لو عرفت القصة في زمانه.
أما في الميدان الأدبي الصرف فقد عرف بنوع من الحوار العنيف والمشادات اللغوية التي كانت تبرز قدرته النقدية وسعته الفكرية كما تجلى ذلك في مساجلاته مع ابن أبي الربيع.
مثل هذه الجوانب وتلك هي التي بوأته مكانته المحترمة في الشارع والقصر فاختير لرفقة ولي عهد المملكة وتربيته، كما خص بكراسي العلم وندوات الإقناع ورغم كل ذلك فإن الإنسان في ابن المرحل لم يغب فيما بقي من أشعاره الغزلية على قلتها ولعلها التي أضاءت قليلا من شخصيته المهيبة كقاض وفقيه ولغوي، فأزالت من جهامتها، ورسمت عليها ابتسامة تفتح، فغنى لمظاهر الحياة، ومزج بين الحب والطبيعة، واستغل إحداها في تشخيص الأخرى.
وقد انتهى الأمر بابن المرحل أواخر أيامه أن أصبح رجلا واسع الصدر يجادل ويناقش في غير ما تحيز ولا تطرف في آرائه الدينية منها والدنيوية، مستغلا معارفه الواسعة مؤمنا أنه :
لا بد من ميل إلى جهة فلا
تنكر على الرجل الكريم تميلا
أن الفؤاد وأن توسط في الحثا
ليميل في جهة الشمال قليلا(1)
ويتخلى عن عنف الجلد الذي اشتهر به، فبعد أن كان يهاجم مخالفيه موريا بمن ينتحل شعره بقوله :
خالفني أشهب في مذهبي
ومالك وافقه أشهب
فمذهبي مخترع ناذر
وسرق الشعر له مذهب
نجده يتخلى عن عنف الجدل إلى سماحة الشيخ وهدوئه بقوله موريا: مذهبي تقبيل خد مذهبي
سيدي، ماذا ترى في مذهبي
لا تخالف مالكا في رأيه
فيه يأخذ أهل المغرب(2)
وأمثال هذه المقطوعات كان يضعها ربما قصدا أو بطلب من الملحنين للتغني بها بعد تلحينها حين تتوفر لها شروط ذلك من موضوعات غزلية وعابثة ومن ذلك قوله:
ضل المحبون إلا شاعرا غزلا
يطارد المدح بالتشيب أحيانا
لا يشتكي الحب إلا في مدائحه
دعوى ليصفى أسماعا أحيانا
ويؤكد علاقة الأبيات بذلك حين ينهي بقوله :
كضارب العود وشى فيه توشية
وبعد ذلك غنى فيه أشعارا(3)
وملاحة لصورة وأناقة الملبس مما اشتهر به واتصف أهل سبتة والأندلس وأخذها عنهم أهل فاس وتطوان وتلمسان بعد الهجرة إلى عدوة المغرب، وفي هذا المعنى يقول عن نفسه :
مررت عليها والخضاب لمائه
وبيض وريح المسك قد كاد يسطع
فقالت مليح ما أرى غير أنها
سحابة صيف عن قليل تقشع
ويبقى السؤال، هل ابن المرحل ابن البيئة المرينية وحدها؟
لا جدال في أن مرحلة الفتنة احتضنت كثيرا من الفقهاء والأدباء والعلماء .. والذي يجب أن يذكر هو أن نهاية الموحدين لم تكن تعني بالضرورة نهاية كل أثر لهم، إذ يقتضي أمر سنوات أخرى قبل أن يحدث ذلك وهو ما يسمى باستمرار الماضي في الحاضر. نحن لن نأخذ ابن المرحل من المرينيين وعصرهم ما دام قد نبغ وبرز في عصرهم، إلا أنه مما لا يجب نكرانه أن للموحدين حق الجو الثقافي الذي تربى فيه أثناء حكمهم. ولكن بإدراج الحق إلى نصابه نجد أنه لولا المرينيين وما قاموا به في سبيل ازدهار الحركة العلمية وإغنائها ما قدر لهذا العدد من العلماء أن يظهر، ولكنها حمايتهم وحريتهم لهؤلاء. فقد امتازت فترة المرينيين بخدمة العروبة والعربية خدمة صادقة، فرفعوا مكانها عاليا، وقضوا على الميز بين البربر والعرب، وأبطلوا الازدواجية اللغوية العربية والبربرية التي أحدثها الموحدون مما دفع بالحركة الثقافية إلى نهضتها الرائعة، ولعل لانتمائهم العربي الذي يؤكده شاعرهم عبد العزيز الملزوزي أصل في هذه العناية بالعربية، كما كان لتمتع المغاربة عامة والفقهاء خاصة بالحرية في المذهب ما شجع على تحريك النشاط العلمي وأعطى للفقهاء مكانة مرموقة محترمة بين الناس ولدى المسؤولين. وقد أعاد سلاطين المرينيين فيما يخص العادات الاجتماعية إلى أذهان الناس، بما تسرب إليهم من عادات سبتة والأندلس، ما كان من أبهة الخلافة الأموية بالأندلس، في قصورهم وأزيانهم وأعيادهم وحفلاتهم، فكان خروج السلطان لصلاة الجمعة والعيدين وغيرهما من المناسبات يقع في موكب عظيم فخم كما كان الاحتفال بالمولد النبوي يمر في مظهر ديني رائع كله جلال وجمال(4) ويعد ولاة سبتة العزفيون أول من احتفى به(5) وفي هذا العيد بقول ابن المرحل :
فحق لنا أن نعتني بولاده
ونجعل ذاك اليوم خير المواسم
وأن نصل الأرحام فيه تقريبا
ونغدو له من مفطرين وصائم
ونترك فيه الشغل إلا لطاعة
وما ليس فيه من ملام ملائم
ويتبع فيه الصالحين فإنهم
هدونا بأنوار الوجود السوائم
كما كان السلاطين يقيمون مراسم الخلافة فيقعدون المجالس للمناظرات والمحاضرات، ويطارحون الأدباء ويحاربون الشعراء حتى سميت بدولة العلم عند المؤرخين، وفي الحياة العمرانية ناصروا الفنون الجميلة وأخذوا بطبعها بما كان لهم من ذوق في جميل حتى نهضت نهضتها الكبرى، ولا سيما في فن العمارة والنقش والزخرفة التي لا زالت شواهدها ماثلة في مباني ملوكهم في مدارس العطارين والصفارين والبوعنانية وغيرها بمختلف المدن، وفي الزوايا والقناطر والمساجد وسقايات الماء فيها، ونستطيع أن نقول أن هذه الفترة من تاريخ المغرب كانت الفترة التي تجمعت فيها عناصر الحضارة المغربية متكاملة(6) .
ونعود لابن المرحل فنجد أنه استفاد من كل ذلك على النطاقين العام والخاص ورغم ذلك نقول : إذا كانت حياته بدأت غامضة فقد انتهت كذلك في صمت في سنيه الأخيرة، ولعلها السنوات التي قد يكون قد اختلى فيها إلى نفسه واعتكف في منزله ينشد وينظم أشعاره في الشوق إلى الرسول وزيارته، وفي زهدياته التي ناداه إليها نقل السنين إلى أن وافاه الأجل بمدينة فاس حيث دفن خارج باب الجيسة ولعل قبره هو الموجود حاليا على يمين الباب والمسند إلى صور زريبت الخشب حسب ما جاء في سلوة الأنفاس(7) وذلك في سابع عشر رجب سنة تسع وتسعين وستمائة وقد بلغ من العمر خمسا وتسعين سنة تاركا أبياتا حزينة يطلب فيها زيارة قبره والدعاء له يقول فيها :
زر غريبا بمغرب
نازحا ما له ولي
تركوه مؤيدا
بين ترب وجندل
ولتقل عند قبره
بلسان التذلل
رحم الله عبده
مالك بن المرحل
رحم الله ابن المرحل ووفقنا في العثور على المزيد من كنوز شعره حتى نزداد تعرفا عليه.



(1) - جذوة الاقتباس ج1 – 224.
(2) – سلوة الأنفاس ج 1- 224.
(3) – رفع الحجب المستوردة ج 1: 61.
(4) – يذكر الحسن الوزان (ليون الإفريقي) أن السلطان المريني كان يقيم بهذه المناسبة يستدعي له رجال العلم والأدب، وأن الشعراء كانوا يلقون القصائد أمامه، فينعم على الفائز الأول بمائة دينار وفرس ووصيف وحلته التي يكون لابسا في هذا اليوم ويمنح سائر الشعراء خمسين دينارا لكل واحد (نقلا عن القصيدة ص 537 للدكتور عباس الجراري نقلا عن كتاب الحسن الوزان "وصف إفريقيا").
(5) – مجلة دعوة الحق العدد 8 السنة 11- والعدد(1) السنة 12.
(6) – مظاهر الثقافة المغربية خ ق الثالث عشر محمد بنشقرون ص 139.
(7) – سلوة الأنفاس ج 3 ص 100.

دعوة الحق

160 العدد
 
أعلى