مصطفى يعلى - امتـداد الحـكـاية: نـكـون أو لا نـكـون

لسنا في حاجة إلى مزيد من التأكيد على غنى الأدب الشعبي بالتجارب والعبر العميقة . فقد أضحى ذلك من قبيل المسلمات . لكن هل نتعلم فعلا من هذا الأدب؟ ألا يمنعنا من ذلك غرورنا وتعالينا ؟. في الحقيقة إننا يمكننا أن نستفيد الكثير والكثير من هذا الأدب إذا ما أحسنا الاقتراب منه والإصغاء إليه. دع عنك ما فيه من تقنيات بارعة وإشراقات ممتعة وما أشبه، فليس هنا مناسبتها . بل إن المرحلة الدقيقة التي نمر بها راهنا تدفعنا إلى التأمل فيما يزخر به هذا الأدب من مواقف دالة ذات مرجعيات واقعية، وحلول ذكية فاعلة، يمكن التزود بها وتحيينها حسب الظرفيات المتأزمة، خصوصا وأن هنالك أكثر من نقط التقاء بين الوقائع التخييلية الشعبية والوقائع العينية المعيشة . من ذلك ما تجسده هذه الحكاية الخرافية البليغة:
« في يوم صائف قائظ اشتد حره، أتى أسد وخنزير بري، نبعا صغيرا، في لحظة واحدة، ليشربا . ومن فورهما تشاجرا على من يشرب منهما قبل الأخر .

وسرعان ما حمي الوطيس وتهاجما أعتى هجوم . وحين توقفا ليستردا أنفاسهما، رأيا فوق صخرة عالية، بعض النسور.. من الواضح أن النسور كانت تترقب مقتل أحدهما، لتنقض وتأكل من جثته:
وأعادهما المرأى فورا إلى صوابهما . فكفا عما هما فيه، قائلين: لأن نكون صديقين، خير من أن نتقاتل وتأكلنا النسور» [1]

ويجب أن لا تخدعنا هذه الحكاية الخرافية ببساطتها، فهي على شدة قصرها ومحدودية أدواتها، استطاعت إلى جانب معالجة أعصى مشكل واجهه الإنسان منذ قابيل وهابيل، أي الاقتتال من أجل مكسب ما، أن تجعل من قضية أساسية أخرى في العلاقات البشرية محور ارتكازها، ونعني بها إيجابية التكتل في مواجهة الخطر المحقق . ذلك أنها قد شخصت موقفا متأزما يتميز بحدة الصراع بين الأسد والخنزير البري إلى حد الاقتتال، مع العلم أن سبب المواجهة حيوي وأساسي، وليس انفعالا بدويا ولا تيها مراهقا أو استئسادا غابويا، ثم انتهت الحكاية آخر المطاف ببلورة حكمتها التجاربية النفاذة، مع ملاحظة أن هذه الحكمة ليست وعظية مباشرة ولا ذيلية دخيلة على الحكاية، بل إنها تتموقع في صميم قوامها، مالئة فضاءها، مشتغلة داخل مدارها، متنامية مع حركيتها، حتى تثمر التأثير المتوخى فيمن يحسن تحسس مواقع القوة والضعف في الأمور .
وقد اعتمدت الحكاية في تلوين مناخها على توظيف بعض الوصف العضوي الخاطف ؛ فاليوم صائف وقائظ اشتد حره، وهو ما يضاعف ثمانة الماء مصدر التقاتل بين البطلين، والنبع صغير، أي أنه لا يفي بحاجتهما في لحظة واحدة، مما يمثل عامل تحفيز لتأزيم الموقف وتفاعله مع حركة الحدث، فيحمى الوطيس ويتهاجم الخصمان أعتى هجوم لا يشوبه أي أمل في عودتهما إلى رشدهما. ومع ذلك، فهذا النفخ في العدوانية العمياء، سيعقبه مباشرة الوعي بالفخ المنصوب لهما، بما يخفيه من تهديد بالهلاك المحقق إذا ما استمرا في تعنتهما داخل هذه المغامرة المحفوفة بالمخاطر المدمرة، فعادا إلى رشديهما متمسكين بحبل الخلاص: الصداقة.

ولعل الأسد والخنزير البري كانا في حاجة إلى من ينبههما إلى هذه الحقيقة، بعد أن كادا أن يدفعا الثمن غاليا، مما يشير إلى امتناع الحكاية عن التملص من تأكيد قيمة التجربة المقترنة بالوعي المصاحب . وقد قام في الحكاية طرف ثالث بدور المثير لهذا الوعي: النسور . وهي هنا بصيغة الجمع المضاعف لحجم القوة المتكتلة النموذجية . من غير أن يخلو الأمر من خطة ماكرة، إذ أنها ترقب المعركة من بعيد فوق صخرة عالية. وهي استراتيجية تنضفر مع عناصر قوتها الأخرى، منتظرة الهالك المتوقع في برود جائع، لتنقض عليه وتلتهمه، ومن يدري فقد يهلك الطرفان المقتتلان، أليسا هما معا خارج الصواب ؟ . وكما هو واضح، ليست العبرة هنا بالقوة الجسدية الصادمة فقط، بل بالقوة العقلية المخططة في الدرجة الأولى . ذلك أن النسور الأضعف من الأسد والخنزير البري تستطيع بحسن تخطيطها ونفسها الطويل أن تلتهمهما رغم أنهما من أعتى حيوانات الغابة . ولو لم ينقذهما تجاوبهما مع وعيهما حين أدركا حقيقة الموقف وتداركا في آخر لحظة سوء المصير الوشيك، فرجعا إلى صوابهما وصارا صديقين، لما استطاعا إفشال خطة النسور وفازا بالتالي بجلديهما.

والملاحظ أن الحكاية لم تسم شخوصها، فهي أجناس من السباع الضارية المفترسة لا غير (أسد وخنزير بري ونسور)، وذلك من أجل ترميزها وشحنها بالدلالات البعيدة. فهل تريد الحكاية الإيحاء بأننا كلنا معنيون بهذه التجربة، وعلينا أن نتحمل مسئولية اختيارنا ؟ . وإذا كان هذا صحيحا، ألا يكمن هنا البعد الإنساني للتجربة المعالجة، وبذلك يتحقق امتداد الحكاية إلى الواقع البشري بالملموس ؟ مع فارق أن أقواما استفادت وتستفيد منها ومن أمثالها، فتتكتل في اتحاد أوربي أو أسيوي أو في حلف أطلسي أو فدرالي روسي وما إلى ذلك، بينما أهدرتها أقوام أخر وتهدرها كما تهدر كل شيء في وقت أصبح الوقت من ذهب أصفر وأسود حقا .
وإذا تأكد لنا أن موضوعات الحكاية الخرافية رغم نوعية فضائها وشخوصها وأحداثها الغابوية، لا تبتعد عن موضوعات الحياة البشرية، وإنما تحيل عليها وتناظرها تنوعا ودرامية وواقعية، أمكننا أن نتساءل: ما هي امتدادات محصول حكاية (الأسد والخنزير البري) إلى واقعنا العربي في بؤس مرحلتنا الحالية؟

من شأن النظر المتريث إلى الخريطة العربية أن يملأ النفس بالحسرة المريرة على ما آلت إليه أمور العرب، وعلى تآكل زمنهم، خاصة بعد سقوط جدار برلين مباشرة: تشرذم كارثي لأمة العرب / اعتداء امبريالي غاشم على العراق بعد محاصرته تجويعا وإذلالا وتقزيما بصورة بشعة غير مسبوقة في التاريخ، حصار انتقامي مجاني على ليبيا / محاصرة ظالمة للسودان وضرب بربري لمصنع أدويته! عبث هوليودي فاضح متغطرس بالقضية الفلسطينية الخ .. والباقيات الآتيات ربما أفدح، ما دمنا قد قبلنا كل ذلك بما يشبه التواطؤ . إننا نفهم الآن جيدا كيف قتلت الحسرة القاصة الفلسطينية سميرة عزام إبان نكسة 1967، ولماذا انتحر الشاعر اللبناني خليل حاوي في عز الحرب الأهلية اللبنانية والعربدة الصهيونية في الجنوب، ولماذا ابتلي المسرحي السوري سعد الله ونوس بمرض السرطان زمن الحرب العالمية الخليجية ضد العراق.

ترى كيف كنا سنصير لو كان وضعنا العربي على غير الصورة القاتمة التي يوجد عليها راهنا ؟ . لو نسيت الدول العربية تناقضاتها كالأسد والخنزير البري، ولملمت أشتاتها وعبأت قواها وحشدت إمكاناتها الهائلة من أجل النهوض بهذه الأمة المقعدة المغبونة، متمسكة بالتضامن والتعاضد العربيين الحقيقيين، اقتناعا بوحدة المصير قبل وحدة الماضي ؟. هل كانت النسور القابعة لنا ستستأسد وتتنمر وتتغول بالصورة إياها ؟ هل كان العم سام سينفرد بكل ضحية عربية على حدة ليطوقها ويلقنها درسا متوحشا كان موعودا منذ الحرب الباردة ؟ أو كان يستطيع أن يدس خرطومه في الآبار العربية ليمتص خيراتها ؟ أم كان شيلوخ الصهيوني سيسدر في المكر والتحايل على الحق الفلسطيني، فيردمه بجرافاته العاتية ؟ أما كان العرب سيستردون هيبتهم الرادعة ؟
إن مأساتنا نحن العرب كون التذبذب هو الذي يحكم علاقاتنا، فنتحد يوما ونختلف أياما. لذا يسهل أن نتهاجم لأسباب انفعالية واهية غالبا، وأحيانا لأسباب افتعلتها النسور لنا لنتقاتل حولها كمشكل الحدود المزمن . وبدل أن ننتبه إلى أن النسور الجائعة الماكرة تتربص بنا لتنقض علينا، فنتبارى في المرونة ونبذ الخلافات، ونحل مشاكلنا بالتي هي أحسن وأرضى وبروح رياضية على شاكلة بطلي الحكاية، بدل ذلك ننفخ النار في ركام أحقادنا، ونصعد من أزماتنا على كل الجبهات متعنتين مستفزين، بل ونستعدي النسور المتلمظة من غير وعي بالنتائج المدمرة لكل الأطراف المتحاقدة المتناحرة، فنتيح لها الفرص الذهبية والبترولية والدولارية لتنشب مخالبها في جسمنا العربي نهشا وافتراسا لإضعاف أعضائه ثم التهامها واحدا واحدا، دون أن نستذكر حتى أقل دروسنا الأولية في القاموس القبلي: أنا وأخي على ابن عمي، وأنا وأخي وابن عمي على الغريب .

وكأنما فصلت حكاية (الأسد والخنزير البري) خصيصا لنا نحن العرب لتواجهنا بحقيقتنا . إذ نبدو في وضعنا الراهن من أبرز المعنيين بخطابها، حيث نجدها تقترح حلا كان مؤجلا عربيا منذ تفتت كيان الإمبراطورية العربية: التضامن هو طريق الخلاص أمام أي تهديد خارجي. لكنها في الآن نفسه ترسم خلال تجسيد هذه الحقيقة حدين مصيريين حصرا، ولا ثالث لهما: إما الموت في حالة الاختلاف، وإما الحياة في حالة الائتلاف. وقياسا على هذه الثنائية الجذرية، ينتصب أمامنا السؤال الدرامي الموالي: هل نكون أم لا نكون ؟. إن طريق كل اختيار واضح، والمستقبل كفيل بكشف أي متاهة سيسلكها العرب، وان كان العربون الفاجع قد ظهر من وقوف (الأشقاء) بلا تبرير منطقي أو غير منطقي، لا مبالين، أو متفرجين، أو مراوغين، أو متواطئين، مع استثناءات محتشمة، تجاه معاناة الشعب العراقي الذي حوصر مدة تطابقت مع زمن حصار طروادة، وتحاشيهم أي محاولة صلبة للسعي من أجل رفع الحصار الغاشم عنه، وكأن الأمر يتعلق بأحد الشعوب الغريبة في الحكاية العجيبة، وليس بموت أطفال ونساء وشيوخ شعب شقيق تاريخيا وواقعيا، تربطهم به أواصر دموية وقومية مصيرية ! بينما كنا نتمنى صادقين صدق حكاية (الأسد والخنزير البري)، أن تدب في الجسم العربي يقظة تعيد إليه الوعي بالفخ كما الأسد والخنزير البري في الحكاية، فيدرك كل أعضائه دون استثناء، أن من طبيعة النسور أن تقتات على الجيف، كل الجيف المتعفنة !
حواشي

[1] خرافات إيسوب، ج.1، تر. عبد الفتاح الجمل، دار الفتى العربي، بيروت د.ت.، ص.99 .



ا
مصطفى يعلى
 
أعلى