مقامات عمر هلسة - بديع الزمان الهمذاني

قلما تجود علينا الحضارة بمثل هذا الأديب المبدع الذي أسهم بتأسيس العديد من الفنون الأدبية المعاصرة، فهو بلاشك رائد المقامة وأول من أوجدها وهو إن صح التعبير الصحفي الأول فمن رسائله تعلم من لحقوه فنون كتابة المقالة وغاياتها.

ولد أبو الفضل أحمد بن الحسين بن يحي المعروف ببديع الزمان الهمذاني في همذان إحدى مدن بلاد فارس سنة 358 ه/969 م، وكان ظهوره في القرن الرابع الهجري أحد مقوّمات نبوغه وتميّزه حيث كان التفنن في الشعر والنثر يُطرِبُ السلاطين والأمراء كما يُطرب الرعية والعوام.

اتقن الهمذاني اللغتين العربية والفارسية وكان الهمذاني كثير الأسفار والترحال فلا يلبث أن يستقر بمدينة حتى يشد رحاله لأخرى، فتنقل في حياته القصيرة بين أصفهان وجرجان ونيسابور وسجستان وغنزة وقضى كذلك حتى صاهر أحد أعيان هرات واستقر فيها إلى أن توفاه الله سنة 398ه/1008م وهو في الأربعين من العمر.

يعد الهمذاني رائد المقامة العربية وواضع أُسسها ومكوناتها ومحسناتها البديعية ويعتبر كتاب المقامات من أشهر مؤلفاته وفيه جُمع ما يقارب الخمسين مقامة هو كل ما وصلنا من أكثر من أربعمئة مقامة ارتجلها في حياته وتدور أحداثها بين الفكاهة والعبرة والنقد مصورة أحداث عصره الاجتماعية بدقة بلاغيّة عالية وتفنن بالنثر والشعر واللغة.

ابتكر الهمذاني لمقاماته بطلاً وهمي أسماه أبو الفتح الإسكندري وجعله يمتهن التسول ويدخل في أحداثٍ غريبة تثير العجب والإعجاب وكان أن ابتكر شخصية أخرى أسماها عيسى بن هشام لتلعب دور الراوي لطرائف وعجائب ابو الفتح الإسكندري وكان يبدأ الهمذاني سرد أغلب مقاماته بعبارة: حدثنا عيسى بن هشام ... ويستكمل سرد المقامة حتى نهايتها فيتعجب السامعون منها تارة ويغلبهم الضحك منها تارة أخرى.

اكتملت في مقامات الهمذاني عناصر القصة وعناصر المسرحية فكانت حجر الأساس الذي مهد لهاذين الشكلين من فنون الأدب المعاصر وعلى غرار بعض مقاماته صيغ الكثير من المسرحيات الفكاهية العربية وغير العربية فتعد مقامته نوى ثمارٍ أفادت وأضافت على الحضارة الانسانية من بعده.

برع بديع الزمان الهمذاني بالشعر وكتابة الرسائل الإخوانية بالإضافة إلى ابتكاره فن المقامة وله قصائد كثيرة في المدح والوصف والحكمة ومن رسائله تعلم العرب والغرب فنون كتابة المقالة لما تضمنته من نقدٍ ووصفٍ لعيوب وسلبيات مجتمعه والتي عالجها بلغة فصيحة وضمنها أحسن البدائع وكان من كل رسالة له غرض فكتب المدح والهجاء والنصح والإرشاد والتهنئة والاعتذار ليستحق بذلك لقب الصحفي الأول وكان ما أن يفرغ من كتابة رسالةٍ حتى يتناقلها الناس في كافة أرجاء البلاد الإسلامية.

من أشهر مقامات الهمذاني المقامة المجاعية ويقول فيها: حَدَّثَنا عِيسَى بْنُ هِشَامٍ قَالَ: كُنْتُ بِبَغْدَادَ عَامَ مَجاعَةٍ فَمِلْتُ إِلى جَماعَةٍ، قَدْ ضَمَّهُمْ سِمْطُ الثُّرَيَّا، أَطْلُبُ مِنْهُمْ شَيَّا، وَفِيهمْ فَتىً ذُو لَثْغَةٍ بِلِسَانِهِ، وَفَلَجٍ بِأَسْنَانِهِ، فَقَالَ: مَا خَطْبُكَ، قُلْتُ: حَالاَنِ لا يُفْلِحُ صَاحِبُهُما فَقِيرٌ كَدَّهُ الجُوعُ وَغَرِيبٌ لايُمْكِنُهُ الرُّجُوعُ فَقَالَ الغُلامُ: أَيُّ الثُّلْمَتَينِ نُقَدِّمُ سَدَّها؟ قُلْتُ: الجُوعُ فَقَدْ بَلَغَ مِنِّي مَبْلَغاً! قَالَ: فَمَا تَقولُ فِي رَغيفٍ، عَلى خِوَانٍ نَظيفٍ، وَبَقْلٍ قَطِيف إِلى خَلٍّ ثَقِيفٍ، وَلَوْنٍ لَطِيفٍ، إِلَى خَرْدَلٍ حِرِّيفٍ، وَشِوَاءٍ صَفِيفٍ، إِلَى مِلْحٍ خَفِيفٍ، يُقَدِّمُهُ إِلَيْكَ الآنَ مَنْ لا يَمْطُلُكَ بِوَعْدٍ وَلا يُعَذِّبُكَ بِصَبْرٍ، ثُمَّ يَعُلكَ بَعْدَ ذَلِكَ بِأَقْداحٍ ذَهَبِيةٍ، مِنْ راحٍ عِنَبِيَّةٍ؟ أَذَاكَ أَحَبُّ إِلَيْكَ أَمْ أَوْسَاطٌ مَحْشُوَّةٌ، وَأَكْوابٌ مَمْلُوَّةٌ، وَأَنْقَالٌ مُعَدَّدَةٌ، وَفُرُشٌ مُنَضَّدَةٌ، وَأَنْوَارٌ مُجَوَّدَةٌ، وَمُطْرِبٌ مُجِيدٌ، لَهُ مِنَ الغَزَالِ عَيْنٌ وَجِيدٌ؟ فَإِنْ لَمْ تُرِدْ هذَا وَلا ذَاكَ، فَمَا قَوْلُكَ في لَحْمٍ طَرِيٍّ، وَسَمَكٍ نَهْرِيٍ، وَبَاذِنْجَانٍ مَقْليٍّ، وَرَاحٍ قُطْرُبُّليٍّ، وَتُفَّاحٍ جَنِيٍ، وَمَضْجَعٍ وَطِيٍّ، عَلَى مَكَانٍ عَليٍّ، حِذَاءَ نَهْرٍ جَرَّارٍ، وَحَوْضٍ ثَرْثَارٍ، وَجَنَّةٍ ذَاتِ أَنْهَارٍ؟ قَالَ عِيسَى بْنُ هِشَامٍ: فَقُلْتُ: أَنَا عَبْدُ الثَّلاَثَةِ، فَقَالَ الغُلاَمُ: وَأَنَا خَادِمُهَا لَوْ كَانَتْ، فَقُلْتُ: لا حَيَّاكَ اللهُ، أَحْيَيْتَ شَهَوَاتٍ قَدْ كَانَ اليَأَسُ أَمَاتَها، ثُمَّ قَبَضْتَ لَهَاتَهَا، فَمنْ أَيِّ الخَرَابَاتِ أَنْتَ؟ فَقالَ: أَنَا مِنْ ذَوِي الإِسْكَنْدَرِيَّةْ *** مِنْ نَبْعَةٍ فِيهِمْ زِكِيَّةْ سَخُفَ الزَّمَانُ وَأَهْلُهُ *** فَرَكِبْتُ مِنْ سُخْفيِ مَطِيَّهْ


المقامات.jpg
 
أعلى