دراسة عبد الباقي قربوعه - ذاكرة المدينة في الشعر التونسي جميلة الماجري نموذجا .

عبدالباقي قربوعة

عبد الباقي قربوعه روائي وقاص جزائري.
سنفِر بالفكرة بعيدا عن أحلام أفلاطون في تأسيس سحر المدينة الفاضلة، وحتى نطرح نموذجا شعريا تونسيا، فلنستحدث بندا أو شرطا جديا لهذه الأحلام ونقول: قوة الشعرية في المدينة، غير أنها لا تكون فاضلة دائما من منظور أحلام الشاعر ومختلف طموحاته، فقد تكون الملاذ عندما تغشى العالم المتاهة والعنف والغموض، وقد تكون بمُجلها حلما فتغطي الشعرية كل عيوبها من وجهة نظر المدرسة الرومانسية، وقد تكون السجن والمنفى، وقد تكون القيد الذي يمنعه من قول الشعر، ونقصد الشعر الذي يتضمن موقفا سياسيا ما، وقد يبتغي الشاعر من وراء المدينة شيئا آخر فيلبسها بالمرأة أو بالأم أو بالأولاد وذويه ومعارفه وذكريات وتجارب معينة، فيتغنى بأية مدينة تحوي حبيبة القلب مثلا ولو كانت مدينة غير منتسب إليها بحكم مسقطه، ولا نستطيع أيضا أن نرغم الشاعر بمفهوم مفترض عام للمدينة، لأن للمفرطين في الرومانسية آراء أخرى، فقد يرفضها كي ينفتح على العالم من نافذة الخلود إلى الكون والطبيعة المفتوحة، فيخترق الحدود ليملك الفضاء كله حينئذ لا يكتفي بالمدينة حين يعتقد بأنها تخنقه وتحد من آفاق إبداعه.

للشاعر مدارات غير التي ترسمها الفلسفة بحكم الحنين الجغرافي النفعي وفي هذا مدارس شتى، وهناك من يعتبر المدينة من أبرز مظاهر الحداثة[1]، لكن الشاعر نفسه يختلف مع هذه النظرة إلاّ إذا كان شاعرا هندسيا متمسكا بالمصابيح الملونة اللاّعبة في قوافي قصائده، فأي حداثة تقترن بالمدينة في هذا المجال، فالتراث الشعري العربي وغير العربي زاخر بالرمزية، وربما قد يَرِد بمسميات أخرى، كأن يتغنى بالقبيلة مثلا لتغيب المدينة كمصطلح شعري حديث، ولكنها تحضر كمضمون فيما تعنيه المدينة من شعرية، فقصائد الأطلال شعر مفعم بالحنين إلى الظرفية المكانية والزمانية، وإلى العلاقات التي نسجت مواقف الحياة الاجتماعية في الجاهلية، بما نسميه نحن الآن بالمدينة أو الوطن، وربما الكون بمجله حين نتصور بأنه يشمل كل المخلوقات من بني جلدتنا على سبيل التآنس الإنساني، فلا يمكن عزل هذه الحالة وحبسها عن التواصل بين الغابر من الشعراء والحديث ومن الآتين عندما نغيب، فهي حالة حسّية لا دخل للمرء فيها، ولا تقتصر على محيط جغرافي محسوب بدقة، بالضبط كما هو ارتباطنا بالأرض إذا اضطرت الإنسانية –افتراضا- إلى العيش في المريخ.

يجب أن تحتل المدينة مكانتها كوطن وملاذ في ذاكرة النص الشعري والنص الروائي والقصصي، وفي أنواع الفنون المختلفة الأخرى، ويجب أيضا من الجهة الأخرى أن يبلغ المبدع مكانته المرموقة التي يستحقها في ذاكرة المدينة، تلكم الحياة المنبثقة من المصالح المتفتقة على المنافع، المفتوحة على المكاسب والاحتياجات، فلا بد من تزاوج بين المعنيين (ذاكرة المدينة في الكتابة)، والمعنى العكسي (الكتابة في ذاكرة المدينة)، وفاقد الشيء ليس – كما جرت العادة – لا يعطيه وحسب بل إن كل واحد يغيّب الآخر ويصيره عدما، وعندئذ ندخل في حالة أشبه بالموت تماما، أو ظاهرة غريبة تضاف إلى ما يشبه الاحتباس الحراري، والأجدر أن يكون العصر الحجري أكثر رقيا مما ندعيه اليوم بأنه حياة تنبض فيها القلوب وتتفاعل فيها الجوارح، ومقارنة برقي وازدهار فاعلية هذا التزاوج -ذاكرة المدينة/ ذاكرة الكتابة- في الجاهلية، فقد كانت تُقام الأعراس والولائم وتذبح الذبائح إذا ما ظهرت بوادر قرض الشعر في ذهنية مولود من المواليد، في حين كانت (القبيلة والأطلال) من أقوى المظاهر التي تقابل مفردات الأدب العربي الحديثة (الوطن، المدينة)، فكانت ذلك الوقت فاعلية مشتركة زاخرة باللذة والجمال والفائدة، فكانت الظاهرة بمثابة المقياس للاختلاف والأفضلية والتميز بين القبائل، ومن المؤسف أن نرى هذه الحالة راكدة في المدينة الحديثة، ثم نصطدم بمفردات مادية أخرى أكثر حضورا وإثارة، ولو لم تكن الحياة في الجاهلية تتعاطى المعرفة بنمط شفوي عفوي في الحياة، لوجدنا في التراث العربي مدرسة تسمى عنترة بن شداد، ومدرسة أبي حاتم الطائي، ومدرسة الفرزدق، ومدرسة فلان وفلان.. ولورثت المنظومة الثقافية العربية هذه الحالة الأدبية، ولكانت في معهد الأدب مجموعة من الشعراء كتخصصات لها امتداد بالموروث الشعري العربي دراسة وقولا.

لكن حالة ذاكرة المدينة حالة متقهقرة جدا في راهن الشعر العربي الحديث، ومتأخرة إن لم نقل غائبة أو غير واردة تماما، في حين الشعر لا تزال حالته متواصلة بقوة بفضل قرائح علا صيتها رغم غياب المدينة كنظام يعادل شيخ القبيلة من حيث مسئوليته اهتماما بالشاعر ورعايته كإنسان قبل أن يكون شاعرا، وضرورة النظر إلى احتياجاته بالقدر الذي ينهمك فيه في تشييد المدينة من حيث هي معنى أدبي مرتبط بالروح، فيفتح المجال لرجل الأعمال ليحتفل بها من حيث هي تجمع سياسي زاخر بالمصالح والامتيازات.

الأكيد أن الشاعر مقابل ذلك تولدت في ذهنه عدم الاكتفاء بالمدينة كرمزية شعرية وفقط، لأن له رغبة في العيش والرفاهية هو أيضا، ربما هذا هو سبب غياب المدينة في شعر هذا العصر، حين أزاحتها المادة عن ضائقة الشعراء، لذا صاروا نراهم مخيرين في ترك مدنهم والرحيل إلى مدن أخرى أكثر فهما للحالة، ولم يعد الأمر كالسابق ليفعل هذا من باب الاضطرار كأن يكون مجبرا على المغادرة بالقدر الذي أسهب فيه شعراء المنفى، لتأتي الاحتفالية بالمدينة حالة معاكسة تماما لهذه الظاهرة، فقد تحضر المدينة في قصيدة لشاعر يقطن في باريس – مثلا - أكثر مما تحضر في قصيدة صاحبها ينعم بالحرية في مدينته الأصلية، ومقاربته بتصوير المدينة فوتوغرافيا بعيدا عن الدلالات التي رمت إليها المعلقات فيما سبق، لذلك أسست لقيمتها في أدراج الثقافة العربية العالمية، فهل تراني أجد الآن الشاعرة جميلة الماجري نموذجا في درج المدينة (المؤسسة) الحديثة.؟ لأن القبيلة لم تكن مؤسسة بدليل مظاهرها التي اصطُلح عليها تاريخيا بالجاهلية، ولو أنها أقوى من حيث الشعرية لبداهة التصورات وعفويتها وانسيابية اللغة لديهم.

ها قد وصل أو توقف بنا المطاف عند الشاعرة جميلة الماجري، عندنا في الجزائر لاعب دولي اسمه ماجر، ولست أدري لماذا وأنا أحرر هذه المقالة تلاعب الاسمان في ذاكرتي، ربما لأن الماجري حققت أهدافها كما حقق ماجر أهدافه، ربما أيضا لو كان للشعر قاعة بسعة الملعب الهندي "سالت ليك"، وله جمهور يفوق 120 ألف متلق لكانت جميلة الماجري شاعرة دولية هي الأخرى، وبالتالي مدربة دولية في فن قرض الشعر وقراءته وفنون تلقيه وتلقينه، خصوصا ما يعني المدينة كحضور اجتماعي مفعم بالحميمية، لقد أسهبتُ في تكرار كلمة قرض، وقد أدفع الآلة المادية الكاسحة لتقتحم هذه القاعة المسالمة ظنا منها أنه احتفال لتأسيس بنك من بنوك القروض النشطة هذه الأيام.

رغم أنف هذه الآلة المادية الغاشمة سأُنصِّب جميلة الماجري مدربة دولية لفلسفة تلقي الشعر وقوله وترجمته، وهي قبل ذلك أستاذة أدب عربي ومترجمة، لسنا في هذا المقال بصدد نحت هذا المقام الإبداعي لنجعله كما نبتغي نحن، لكنه أمر لا دخل لنا فيه، إنها من البدء مجموعة من الورطات تماما كما الورطة التي جعلت جميلة الماجري شاعرة بهذه القوة، ورطة شراهة القراءة، وورطة فاعلية التلقي، وورطة أمانة الاستمتاع، لذلك الأمر ليس بيدنا، بالضبط كما هي نية أولئك المنقبين عن النفط، جئنا لننقب عن جمال اللغة وبراعة الصورة وتقنية الرمزية في الإبداع التونسي (جميلة الماجري) نموذجا.

فلنتوقف عند ديوان النساء أين تبرز المسحة اللطيفة في شعرها، فالقصيدة لامرأة وإن ادعاها رجل أملس أمرد وهذه هي البراعة فيما اصطلح عليه حديثا بالصوت الأنثوي، ولا نقصد الغريزي كما يحصر الحالة بعض النقاد المحتفلين بالجسد، بل نقصد الجانب المختلف عن الرجل، الاختلاف الذي يُطعّم الأدب بجينات مختلفة عن الذكورية، فلو كانت مهمة نوح عليه السلام أن يحمل من كل مبدعين زوجين اثنين لحمل جميلة الماجري يقابلها نزار قباني، ولحمل أحلام مستغانمي في الرواية يقابلها نجيب محفوظ، فلماذا المرأة تكون نصف الدين، وتكون نصف المجتمع، ثم لا تكون نصف الإبداع.؟ وهي التي في ديوان النساء تمنت أن تلتبس بالطين ثانية حتى تجدد الكون وتمنحه ثوبا أنيقا غير ذاك البالي الذي رفسته أقدام الأولين والآخرين.

حتّى إذا الـْـتَبَسَتْ بالطّين ثانيَة
و توَحَّدَتْ بالمَاء غارقـَة
في صَـفـْـو عُنصُـرهَا
و تمَعَّـجَ الصَّلصَالُ بالنّيرَان مُشتاقا
و مُـلـْـتَهـِـبا
ثمّ اسْتـوَتْ
نـُـورًا..​

هذه القصيدة الزاخرة برمزية مجموعة من مكونات المدينة، كوكتال من العمران المدني يغني عن البحث في كينونة الإنسان وبدء نشأته.

فالصلصال ينعم بالنار حتى إذا ما فحم اشتاق إلى الماء ليتفتق، وفي فن التصوير يرمزون إلى الجفاف بتشقق الطين كما كرست ذلك السينما العربية والغربية، فتظهر الصورة في دعاء رمزي صامت يشبه صلاة الاستسقاء، فأنا أجزم أن هذه القصيدة قيلت في صمت قبل أن تنتقل إلى الشفوية ومنها إلى الورقة، ثم يكون الطين بأكثر حاجة إلى النار حتى يزداد صلابة لتظل حاجته إلى الماء ممتدة سرمدية، وهذا هو التواصل الطبيعي الذي تفقهه الشاعرة وتتقن حبكته وتريد أن تكون إحدى مكوناته، وأحد عناصر تفاعله، (حتّى إذا الـْـتَبَسَتْ بالطّين ثانيَة) - وقالت ثانية حتى تكون نسخة قريبة من الأصل لحواء- أو تكون هي الخلطة الطبيعية من كل ذلك، فهي الطين الذي يحتاج إلى النار، وهي في ذات الوقت النار التي تحتاج إلى الطين بكل أشكال تجاويفه من البئر إلى القلة إلى القدرة في معان عميقة تحترفها المرأة، كما يفعل الطين بالضبط في فلسفة الاحتوائية والحفاظ على العناصر الحيوية للكون، وهي الصورة أيضا التي تكرسها كل الفنون العربية مجملة والتونسية تحديدا، فتجد القلة في اللوحات الفنية، وفي الأغاني التونسية القديمة والحديثة، وتجدها في أشعار الأولين والآخرين، بمعنى أن الشعر يلازم الفنون الأخرى من حيث الحضور في تثبيت ذاكرة المدينة وترسيخها، وهذا ما برعت فيه شاعرتنا جميلة الماجري، وفي حديث النبي محمد صلى الله عليه وسلم شُبّهت النساء بالجرار والقوارير، (حتى إذا البست بالطين ثانية)، فهي تطرح معنى دقيقا لمفهوم (الضلع الأعوج)، المعنى الذي يعبث به المؤولون في مناظرات حامية الوطيس ومستمرة مبارياتها إلى الآن، وفي التحليل الهندسي للمدينة ومكوناتها لا تجد في الطبيعة بئرا مستطيلا، ولا قلة مربعة ولا قدرة بمثل ذلك، والمصنفات من أروع القصور، والتحف العمرانية أغلبها يتشكل من انحناءات هندسية، وهو الجدل الدائر كما يعرف المهندسون حول فنون تشكلات قباب المساجد والحصون القديمة، كذلك السماء حين تنحني على البسيطة في كثافة أمنية غاية في الدقة، بالضبط كما نشعر بالأمان ونحن تحت سقوف بيوتنا، كذلك الأرض حين تمتد ثم تعوج بانبساطها، ثم الكون في اعوجاجه ليحتوينا بالإعجاز الذي يريده الله، وفي الرياضيات لا يمكن أن نصل إلى شكل هندسي إلا بالاعتماد على الاعوجاج، أو الانتقال من زاوية إلى أخرى في استكمال المحيط لأي موضوع هندسي، حتى نوفر مساحة احتوائية تدفع المحتوى إلى الشعور بالطمأنينة، لأنهم يعتبرون أن الخط المستقيم قد لا ينتهي، أو ربما يصل إلى نهاية مجهولة، جميلة الماجري في ديوان النساء كون بكل اعوجاجاته الهندسية الخلابة التي تدفع الرجل للشعور بمتعة الاحتواء، كما أنها قابلة للانصهار والتصلب لتكون بدورها محتوى داخل المحيط الذي وصلت إليه بذلك التماهي في الانصهار لدرجة تكون فيها نارا دافئة لذيذة، ثم التماهي أو التوحد مع الحياة لدرجة تكون فيها ماء عذبا صافيا، وطينا قابلا أيضا للتفتق ثم التشكل مجددا في إصرار كيميائي عجيب حتى تستمر الحياة لا بأس عليها، هذه الفكرة التي استلهمناها من الوظيفة المقدسة للطين في تشكل الإنسان نفسه كما يشير القرآن الكريم، وهي أيضا الفكرة ذاتها التي تجعلنا نقتنع بأن الشعرية لها ارتباط بالعلوم الأخرى وأحيانا مكملة لها، وأحيانا شارحة لدلالاتها، وأحيانا أخرى تتداخل بإعجازها وروائعها، وعامة كل منهما خدوم للآخر، بل وخدومة لنا كمتلقيين فيما لا نستطيع أن نستوعب شيء حين نكتفي بصنف واحد من العلوم المرافقة في عملية التنوير، وصفة التنافر بين الشعرية والعلوم الأخرى صفة يبدو عليها ضعف كبير في التناول من طرف الباحثين عيبا فيها.

فالطين يتحمل الحرارة ليقوم بعميلة التشكل، ثم يستقيم ليحافظ على الماء كما هو الإنسان يحتوي دمه وهو النموذج الأعلى للشكل الطيني، إذن الطين يتوحد بالماء ليحوي الحياة، أو أن جميلة الماجري تغرق في الماء لتتوحد به (توَحَّدَتْ بالمَاء غارقـَة)، ثم تصير صلصالا لا يتشكل إلا بالماء ولا تشتد صلابته إلا بالنار، رمزية الحنين والشوق إلى الديار وإلى من تحتويه من الأهل والأصحاب والأحباب، في حين تفضي برغبتها في التشكل لتصبح بدورها محيطا يحافظ على الماء (الحياة)، وفي نفس الوقت تعترف أنها هي النار التي تزيد من صلابة الطين وتماسكه في رمزية رهيبة لحاجة الرجل إليها وحاجتها إليه، هذه هي الرسالة الكامنة في سراديب ديوان النساء في بحثها عن طرف آخر يكافئها هذه الكونية، وهذه القدرة الهندسية في براعة التشكل لممارسة لعبة الاحتوائية الهندسية المتبادلة والمفاعلة الكيميائية العجيبة، لا شك أن جميلة الماجري لعبت في ديوان النساء دور المرشدة البارعة حتى تدل المرأة كيف تبحث عن نسخة قريبة من الأصل لآدم، حتى يتأتى لها أن تلعب لعبة كاملة غير منقوصة: (حتّى إذا الـْـتَبَسَتْ بالطّين ثانيَة)، على أن حواء هي التي التبست بالطين أول مرة ولذلك استوت نورا، فربما جميلة الماجري أيقنت أن الطرق اختلطت على المرأة.

إنها الغاية المطلقة من وراء هذا التفاعل وهذا التشكل، فلا تريدها أن تتفاعل خارج تلك الاحتوائية المقدسة، إنها رمزية فائقة الحبكة للمدينة، بل ويتعدى نسيجها إلى الوجودية بكل أبعادها الفلسفية.

ثم تغدو بعد استوائها من كل هذه التفاعلات نورا، فلا يكون الصلصال حبرا إلا بالماء، ثم يصطف أحرفا رصدا للعلم والمعرفة على مساحة اللوح المحفوظ، أو قصيدة صارمة الفكرة، مكتملة المعنى، وافية الصورة، زاخرة بالشعرية في قصيدة ديوان النساء، كما المدينة تتشكل من الطين والماء والنار لتصبح نورا، وهذه هي الرمزية التي يوحي بها المصور عندما ينقل لنا مشهد المدينة ليلا، فكأن كل امرأة سكن وماء ونار، وبالتالي تكون المرأة على رأي جميلة الماجري هي المدينة نفسها.. ثم الرمزية الجمالية التي يحصرها محيط الصورة، أو ما نقصد به عادة الجسد، جسد المدينة في تكريس المرأة مآلا حتميا لاستمرار الحياة سكنا وطمأنينة، في إصرار عجيب للشاعرة على أنها تصير مدينة مظلمة في قمر الغياب واعترافها بتمسكها المقدس لوظيفة الاحتوائية: (ألفا حملتك في الرحيل وما تعبت)، (والطريق إليك أقرب من يدي)، (.. من دمي)، (قمر مقيم فوق دمي)، ( إذا استضأت به احترقت..)، هذه هي الاحتوائية اللذيذة التي نقصدها والتي تتساوى فيها المرأة والمدينة في دلالات تشابه الوظيفة، لتصير الشاعرة الماجري كتلة من الطين وسحائب من الماء وشعلة من النار، ثم تمضي في تشكل رهيب لتصير هي بحّد ذاتها مدينة بكل رموزها وتفاصيلها، وهذه هي الحداثة في عمق خصائصها.

قمرُ الغياب ـــ جميلة الماجري

ألفاً حمَلْتُكَ في الرّحيل وما تعبْت‏

ألفاً على الأهداب محمولاً ظللْتْ‏

قمرٌ وألفٌ.. والطريقُ إليك أقربُ منْ يدي

لو كنتُ أقدر أن أمدّ يدي لأقطفكَ .. فعلت

قمرٌ وألفٌ .. والطريقُ إليكَ أقربُ من دمي

لَو كنتُ أقدر أن أجيء إلى دمي‏
فلم رحلتْ‏

قمرٌ مقيمٌ في دمي‏

وإذا استضأتُ به احترقتْ



[HR][/HR]
[1] الكاتبة سيدة بن علي في مجلة سطور.


عبد الباقي قربوعه
 

المرفقات

  • أحلام مستغانمي.jpg
    أحلام مستغانمي.jpg
    45.6 KB · المشاهدات: 356
التعديل الأخير:
أعلى