شاكر النابلسي - فاتحة الجنس والحضارة

نصرفتُ قبل أسابيع عدة، عن الشأن السياسي اليومي العربي، وكنت غارقاً في بحث عسير وطويل جديد، سينشر في الأشهر القادمة في أجزاء ثلاثة عن (الجنسانية العربية).
وكل جزء من هذه الأجزاء قائم بذاته، بعنوانه الرئيسي، ومقدمته، وأبوابه، ومصادره. وقد آثرت أن أبدأ في نشر بعض ما انتهيت إليه. وهذه بعض أجزاء من مقدمة الجزء الأول، الذي سيصدر قريباً في بيروت تحت عنوان: (الجنس والحضارة: الجزء الأول من الجنسانية العربية، أركيولوجيا ممارسات الجسد).

-1-
لماذا أكتب كثيراً؟
سؤال سألني إياه عدة قراء من أصدقائي وغير أصدقائي، وسألته لنفسي عدة مرات.
واحترتُ، ما هو جوابي؟
ثم اهتديتُ.
إنني أكتبُ كيف أعرف، كما قال الشاعر الفرنسي لويس أراغون حبيب "إليسا". وهو هنا شبيه بالمجنون العربي (قيس بن الملوّح، حبيب ليلى العامرية، وكان العاقل الأكبر كما وُصف.)
أكتب كثيراً، كي أعرف كثيراً. وأنقل إليكم ما قرأته، وتعلمته.
فهذا الكتاب الضخم بأجزائه الثلاثة (1200 صفحة) سيكون بعد أشهر، حصيلة قراءات متواصلة، ومتأنية في الجنس والحب، لسنوات طويلة.
ومن هنا، كانت الكتابة لدي شيئاً آخر، عكس ما هو لدى معظم الآخرين.
الكتابة لدي، تثبيت وتركيز على المعرفة، في أسلوب موجز، وجذاب.
الكتابة لدي، تحوي جميع الاحتمالات في داخلها، وهي مفتوحة للتفسير والتأويل، وليست نصاً مغلقاً. فلا تأويل بلا رمز. والتأويل شرح مصطلح بآخر، وإحالة تسمية على أخرى، كما يقول المفكر اللبناني علي حرب في كتابه (الحب والفناء، ص 135).
-2-
إن الجنسانية – بالتأكيد، وخلافاً لما قاله ميشيل فوكو – لم تُبتكر في القرن التاسع عشر، لكن تجنيدها تعمم إلى درجة غير مسبوقة، وأصبحت أكثر صراحة من ذي قبل في منظومات التمثيل الأوروبية السائدة. ولا سيما في سياق بناء الاختلاف. لذلك، من غير المفاجئ أن كتباً زائفة كثيرة حول الجنس في الشرق، قد نشرت في الغرب، في أواخر القرن التاسع عشر، وأوائل القرن العشرين بشكل خاص. كما يقول الباحث التركي الأصل، إرفن جميل شِك، في كتابه (الاستشراق جنسياً، ص 169). ويُلاحظ هنا، أن إرفن جميل شِك، يخلط في كتابه (الإستشراق جنسياً) بين الجنس والجنسانية. فالجنس فعل الجماع. والجنسانية هي تاريخ الجنس ودوافعه وأسبابه الاجتماعية، والدينية، والاقتصادية، والثقافية، والبيئية، والتاريخية، والجغرافية.. الخ.
-3-
دراسة الحب صعبة.
وأن من يجازف ويُقدم عليها، يتعرض للهجوم كما أدركت ايلين هاتفيلد ذلك عام 1982. فبعد أن حصلت هذه الباحثة على منحة من الحكومة الأمريكية من أجل القيام بدارسة عن الحب، تعرضت للتأنيب من قبل أحد أعضاء مجلس الشيوخ الأمريكي، الذي رأى أن الانكباب على موضوع تافه بهذا القدر، كان تبديداً لأموال المكلفين. وفقدت ايلين منحتها، كما ذكر لنا جوزيف فيل (أستاذ الفلسفة في جامعة بوكنيل)، في بحثه (تأملات فلسفية حول تقارير شير هايت، Shere Hite) في كتابها (النساء والحب ، ص 9.)

-4-
إن معرفة الجنس ضرورة تاريخية وأخلاقية. فنحن نجد أنفسنا في قلب معركة حيوية من أجل مراجعة تاريخ طويل من القمع، الذي خنق الحاجة الجنسية المميزة للكائن البشري عن التعبير عن رغباتها.
يؤكد معظم الباحثين وجود نظرية جنسية تقليدية سائدة ومتماسكة، تعود صياغتها إلى القرون الوسطى على أيدي العلماء المسلمين. وتلخّص فاطمة المرنيسي الباحثة المغربية في كتابها (ما وراء الحجاب) التصور الإسلامي التقليدي للجنس، وتشبهه إلى حد كبير بمفهوم فرويد للجنس، واعتبار الغريزة الخام هي مصدر الطاقة. وليس للغرائز الجنسية مضامين صالحة، أو شريرة إلا بقدر ما تخدم نظاماً اجتماعياً معيناً. وحيث أن الجنس في الشرق الأوسط، وأي مكان آخر من العالم، هو المركب الأساسي للهوية الشخصية، فإنه من المفيد أن نعرف كيف نظرت المرأة العربية إلى نفسها، وإلى دورها الجنسي على ضوء النظرية الجنسية السائدة.
-5-
كانت المسألة الجنسانية Sexuality في التاريخ، والثقافة الإنسانية، ركناً أساسياً من الأركان، التي تناولها العقل البشري، والقلم البشري كذلك، منذ فجر الحضارة الإغريقية، وحتى الآن. ويقول سارتر، أنه من المتعذر الإمساك بالتاريخ كتاريخ. وأن كل نظرية للتاريخ هي بالتحديد "دوكسولوجيا" (نظرية الشكر والحمد). وهي نظرية منتشرة بشل كبير في التاريخ العربي – الإسلامي.
وعلينا أن نلاحظ بدقة أن هناك فرقاً واختلافاً بين مفهوم الجنس والجنسانية.
الجنس يحيل إلى مجموع الخصائص البيولوجية – حسب المنظمة العالمية للصحة – التي تقسم البشر إلى أناث وذكور.
أما الجنسانية فتضم الخصائص البيولوجية المميزة بين الذكر والأنثى، والخصائص الاجتماعية المميزة بين الرجل والمرأة؛ أي الهوية الجنسية، والنوعية.
والجنسانية نتيجة تداخل بين النفسي والبيولوجي والاقتصادي والتاريخي والثقافي والأخلاقي والديني.. الخ.
والجنسانية بناء اجتماعي تاريخي، وقراءة للمعطى البيولوجي محدداً في نهاية التحليل.
والجنسانية في النهاية ظاهرة اجتماعية شمولية تدور حول مصالح معقدة ومتناقضة.
وبفعل كثرة القيان والجواري في التاريخ العربي الممتد (قبل الإسلام وبعد الإسلام)، أصبحت الجنسانية العربية الثانوية في الاقتصاد السياسي العربي – الإسلامي، والدونية في التدبير السياسي.
الجنسانية تتميز عن الجنس.
إن الجنس هو فعل الجنس مع الآخر.
أما الجنسانية فهي علم الجنس بما يؤثر عليه من عوامل غذائية، وصحية، وسياسية، واجتماعية، واقتصادية، وثقافية، وتاريخية، ومكانية، وزمانية. وهذه كلها عوامل تؤثر في الجنس – كمعطى مباشر - الذي ينتج الإنسان، أو الحيوان، أو الحشرات، أو الطيور، أو النباتات.
وينبغي تناول الجنس عبر الجنسانية، وليس منفصلاً عن هذه العوامل المؤثرة فيه. وبهذه الوسيلة تم انتقال الجنس وإشكالياته، من باب "الأخلاق" إلى باب "السلوك"، و"الممارسات السلوكية"، أو كما أُطلق عليه الإتيكا L’Ethique.
فنرى على سبيل المثال، انهمام وانهماك أشهر فلاسفة الإغريق كأفلاطون، وأرسطو، وسقراط، وكتّابهم المسرحيين، ومؤرخيهم، وشعرائهم، ومثقفيهم، بالمسألة الجنسانية، وتحليلها، وتقنينها، وتموضعها الفكري، والثقافي بشكل عام.
وقد حظيت الأمور الجنسية بالكثير من الرعاية والاهتمام، من قبل الفلاسفة، والمفكرين، والعلماء، والأطباء، على مدار التاريخ، لأنها طاقة أساسية في الحياة، لا تتجدد فقط في مجال التعبير الجنسي المباشر، وإنما يتسع التعبير عنها ليشمل مجالات واسعة وغير مباشرة، في حياة الإنسان. وهو ما يؤكد أن غريزتا الجنس والجوع أهم غريزتين لدى الإنسان، وتتحكمان بشؤون العالم. فالتاريخ والحضارة وما يشملهما يحمل طابع الجنس.
السلام عليكم.
 
أعلى