ابتسام تريسي - "الغيشا" اليابانية فن تجارة الجسد

يختلف مفهوم الاتجار بالجسد من مجتمع إلى آخر ومن ديانة لأخرى، فالبعض ينظر إليه على أنّه فن خالص، والبعض يحرّمه تحريماً كاملاً..
لكنّه في كلِّ الأحوال، وبعيداً عن المفاهيم التي يفرضها المجتمع بأطيافه الدينية، هو حالة امتهان للمرأة وتحقير لدورها في الحياة بحشرها في زاوية إمتاع الرجل عن طريق جسدها وفكرها.
الغيشا أو "غي شا" مسمى يعني فن الإنسان.. تتعلّم الفتيات الراغبات هذا الفن في سن مبكرة ويختلف من منطقة لأخرى، ففي "كيوتو" يبدآن بالتّعلم في سن الخامسة عشر، ويمكن أن تدخل الفتاة في سن الثالثة أو الخامسة وتبدأ بمرحلة الخادمة، ثمّ تتدرج لتصبح غيشا كاملة.
الفقر والظروف الاجتماعية القاسية هي التي تدفع الفتيات الجميلات للعمل في هذه المهنة تماماً كما في مجتمعاتنا العربية، فحين نقرأ عن حياة الراقصات والفنانات العربيات نجد أنّ معظمهن قد خرجن من بيئة فقيرة أو عانين من ظروف قاهرة جعلتهن يخترن هذا الدرب الذي شعرن أنّه لا خيار لهنّ غيره، وربّما كان قبول المجتمع لوجودهن وتعاطفه معهنّ سبباً في تشجع من لا يعانين من مثل تلك الظروف لامتهان الرقص وتحقيق شهرة منقطعة النظير بالإضافة للمال الذي يكون سبباً رئيساً في اختيار هذا العمل.
في مراحل تاريخية قديمة كان هناك في "طوكيو" حي مرخص للعاهرات باسم "يوشي وارا" تبيع بعض الفتيات فيه أجسادهن، والبعض الآخر ممن تلقين تعليماً أفضل عملن في الترفيه عن النخبة في مناسبات اجتماعية، وبانتقال البلاط الإمبراطوري إلى كيوتو تشكّلت الظروف التي ساعدت على انتشار فن "الغيشا". وبحسب "ديورانت" فإنّ ـ يوشي وارا معناها "حي الزهر" حي العاهرات في طوكيو، وأعلاهن ثقافة فتيات "الغيشا" اللواتي يمارسن في العلن فنون الرقص، والشعر وأدب الحديث، وقد مزجن فوضى الأخلاق بالشعر. وقد ظهرت فرق الغيشا تقريباً في بداية القرن الثامن عشر وكانت من الذكور فقط، لكنّ المشاهدين كانوا يتطلّعون إلى متعة أكبر بحضور فتيات الهوى، فتقدّمت فتيات اشتهرن بالرقص في بيوت الساموراي للعمل في الفرقة، وأول امرأة "بائعة هوى" أطلقت على نفسها لقب "غيشا" كانت من "فوكا غاوا" وكانت مغنية رائعة الصوت وعازفة ماهرة تسببت في شهرة فتيات الغيشا اللواتي عملن في الترفيه وليس "بائعات هوى" ونافسن رجال "الغيشا". مع ذلك صنّفهن المجتمع الياباني "كمومسات" وإن امتنعن عن بيع أجسادهن.
وقد بدأ نجمهن يأفل في بداية القرن العشرين، وبعد الحرب العالمية الثانية لاضطرار النساء للعمل في المصانع لنهضة اليابان. وقد فقدت المهنة أهميتها وشكلها وطقوسها المعروفة بسبب احتلال المومسات الواجهة وإقناع العسكر الأمريكان بأنّهنّ "غيشا". وقد أغلقت بيوت الشاي والحانات بالقوة وأحيل كلُّ من فيها للعمل بالمصانع عام 1944. وقد سمح لهن بالعودة لفتح البيوت بعد سنة وترك لهنّ أمر فرض الصورة المناسبة لفتيات الغيشا من جديد. فأعدن تنظيم المهنة ولم تعد الفتيات يرغمن على ممارسة البغاء وأصبحت الحياة الجنسية لفتاة الغيشا أمراً شخصياً لا تتدخل فيه إدارة البيت الذي تعمل به.
وكالعادة وبسبب الحرب على اليابان تأثر الأمريكان بتلك الظاهرة التي فتنت الكاتب الأمريكي آرثر غولدن فكتب روايته الشهيرة التي ترجمت إلى العربية أكثر من مرة بعنوان "مذكرات غيشا" أو اعترافات جيشا. وقد حوت الرواية دقة مبهرة في الوصف والتصنيف وتفاصيل حياة فتاة غيشا إلى درجة لا يمكن أن يصدّق القارئ أنّ من كتبها روائي أمريكي اعتمد على مراجع تاريخية بحكم دراسته وتواجده في اليابان لمدة قصيرة. وقد حوّلت الرواية إلى فيلم لم يكن بالمستوى الرائع التي ظهرت فيه الرواية، لكنّه قدّم بالتأكيد لهواة الثقافة البصرية الذين لا يصبرون على قراءة رواية من 742 صفحة فكرة وافية اعتمدت على تفاصيل الرواية بشكل أساسي. والمبهر في الرواية أنّها استطاعت من خلال شخصية "سايوري" الفتاة الصغيرة التي بيعت لإحدى بيوت الغيشا وهي في التاسعة من عمرها أن تقدّم عالماً غريباً بكلّ تفاصيله وصراعاته وخلفيته التاريخية والواقعية وسيطرة النساء وخداعهن للرجال من أجل سلب أموالهم، والصراعات بين الفتيات أنفسهن حول الطرائد والمال والوصول إلى المكانة الأعلى، فالمعروف أنّ لبيوت الغيشا نظام دقيق، تفرضه المرأة التي تدير البيت وتقوم بإقناع الفتيات للعمل في هذا المجال. وفي تلك البيوت وظائف محددة "المكياج، الملابس، تصفيف الشعر" وكلّ الموظفات من النساء ماعدا وظيفة مصمم تسريحات الشعر يمكن أن يقوم بها رجل. وبمقدار غموض ذلك العالم كانت طقوسه معقدة حتّى طقس ارتداء الملابس التي تتناسب مع الجوّ والمناسبة ومكانة الغيشا وترتيبها.
وفي الثلاثينات من القرن التاسع عشر أخذت بعض نساء الطبقة الراقية اليابانيات يرتدين أزياء مشابهة لأزياء فتيات الغيشا. الكيمونو الملون والمليء بالرسوم والوشاح الذي يربط على الخصر بأشكال مختلفة.
وما زالت فتيات الغيشا موجودات في زمننا هذا، لكن بشكل محدود جداً في منطقة "الهاناماشي" بلدات الزهور. لكنّ دورهن في المجتمع تقلّص وزالت سطوته.
ويرتبط انحسار دور فتيات الغيشا في المجتمع الياباني باعتقادي بالنهضة الاقتصادية العظيمة في اليابان والتطور التكنولوجي الهائل وإعطاء المرأة دوراً فاعلاً وحقيقياً في تلك النهضة وحصولها على كرامتها وحريتها.
 
أعلى