نقد جهاد فاضل - التجربة الأدبيّة لأبرز أدباء المغرب.. عبد الفتاح كيليطو باحث عميق له اهتمامات متنوعة

"١ - ٢"

كتب كافكا في يومياته: «أتكلم جميع اللغات، لكن باليدّيشية» واليديشية لهجة يهودية قديمة وشبه مندثرة. كان بإمكانه أن يختار أية واحدة من هذه اللغات، بالإضافة إلى الألمانية، فيما يتعلق بالكتابة. نقرأه اليوم باللغات جميعها، متلقين لمحات، كأنها إشارات بعيدة في البحر، من الأصل الألماني، وفيما وراء الألمانية عن اللغات الأخرى التي تكوّن المشهد الذهني لكافكا، بما فيها اليدّيشي كأرض معهودة.

يعكس عبدالفتاح كيليطو، الكاتب والباحث المغربي الكبير، صدى كافكا في أكثر من كتاب من كتبه. إنه يقرأ العديد من اللغات، بخلاف الآخرين، وهو، كما يعبّر بعض دارسيه، كائن برمائي يعيش بالرشاقة ذاتها في العربية وفي الفرنسية، يختار إحداهما وقتما يشاء في دراساته النقدية وفي كتاباته السردية.

ولد كيليطو سنة ١٩٤٥ وترعرع بالعاصمة المغربية الرباط. كانت الفرنسية هي لغة المستعمر، وبالنسبة إليه كانت الثقافة تحمل في تلك الأيام لونًا فرنسيًا. ولكنه سرعان ما أتقن العربية التي يدرّس بها الآن طلابه في جامعة محمد الخامس بالرباط. وكما هو الحال عند إدوارد سعيد الذي كتب عن ازدواجيته اللغوية، فإن كيليطو يلمس ويختبر تجربته اليومية الثنائية، وتفسيراته العميقة لكتّاب عرب ولحكايات عربية تقدم أفكارًا شديدة الخصوبة وغير مألوفة، عن ماذا يعني تبليغ اللسان بهذا الصوت أو ذاك.

يستشهد بإدوارد سعيد: بدأت أفكّر وأكتب طباقيًا، مستخدمًا نصفَي تجربتي المتباينَين، كعربي وكأمريكي، على نحو يعمل فيه واحدهما مع الآخر كما يعمل ضده». ثم يعلّق: «تجسير الهوّة: مدّ جسر يجعل من اللغة ترجمة، ومن الهُوية انتقالاً بين تراثين وثقافتين، ومن المثقف حمَّالًا يوصل ضفة بأخرى».

لعبد الفتاح كيليطو كتب بحثية وأدبية وسردية كثيرة أحدثها بعنوان «مسار» وفيه يروي جوانب من تجربته وآرائه وسيرة حياته الفكرية، عبر محاورات جرت مع صحفيين عرب وأجانب، وكذلك مع باحثين لفتهم عمق هذا الباحث وتنوع اهتماماته، فلا شك أن كيليطو هو من أبرز الباحثين المغاربة في وقتنا الراهن، إن لم يكن أبرزهم على الإطلاق.

«أنا ذو تكوين كلاسيكي» يقول كيليطو، ويعني بقوله: القدماء، جماعة القرون الوسطى، المؤلفين الفرنسيين. القراءة الشخصية مكملة، إلا أن المرتبة الأولى في الفرنسية بعيدة المنال والمنافسون خطرون. وباللغة العربية تتجه رغبة كيليطو نحو النصوص القديمة: ألف ليلة وليلة، السير الشعبية «حمزة البهلوان» سوفوكل في ترجمة طه حسين، كتب زهيدة الثمن للكراء عند الكتبيين ضمن منشورات شرقية، ثم الحكايات المصورة، كل هذا يحدّد طعم الحكاية والسرد والصورة والمتخيل والبطولة والصحراء والرغبة والماضي على وجه الخصوص. يقرأ كيليطو في اليوم نفسه بلزاك وتوفيق الحكيم، رُونار وعنترة، جبران، المنفلوطي، الجاحظ، المعري. والأخيران لهما أهمية بالغة عنده. هو أديب يراكم ويتمثل ويضع جسورًا متناغمة ويحلم بالإبداع.

«الكتابة في لغة أو في أخرى ليست الشيء نفسه تمامًا. لم يكن بالإمكان كتابة (خصومة الصور) وهو كتاب له بالفرنسية، بالعربية، وإلا كانت النتيجة شيئًا آخر. لكل لغة خصوصيتها. هل توفر الكتابة بالفرنسية حرية أكبر؟ ما الذي يتغير من لغة لأخرى؟ الإجابة صعبة. نستطيع بسهولة استخدام التكرار في العربية التي تفرض أو تبيح الحشو. الإكراهات الأسلوبية ليست هي نفسها في الفرنسية، وبإمكاننا ربما أن نلعب أكثر بالأصوات والإيقاعات الموروثة عن النثر الكلاسيكي. الزخارف من جهة، والحديقة على منوال اندريه لونوتر من جهة أخرى. هل نكون أكثر جفافًا وتحفظًا في الفرنسية؟ لا ينبغي التعميم.

مهما يكن، فإن كيليطو يكتب بما يكفي من الحرية واليسر في اللغتين، ما يجعله يبتهج عند الكتابة في الأدب المقارن والكتابة الشخصية، بما أن «الكتابة هي المحاكاة» محاكاة لأي شيء؟ بروست، دانتي، رامبو، هي تأثيرات غير محسوسة. تتمثل النماذج العربية في الجاحظ، ابن المقفع، المعري. خصص كيليطو كتابه (المقامات)، وهي أطروحة دكتوراه بجامعة بيروت الثالثة سنة ١٩٨٢ للهمذاني والحريري، وهما مؤلفا حكايات قصيرة قريبة من الرواية الشطارية ومغامرات الصعاليك. واقتضى العمل كشف السنن الثقافية المتضمنة في المحكي العربي.

كتابه: «الكتابة والتناسخ» بحث يُعنى بوضع ووظيفة المؤلف في العصر الكلاسيكي وبالجاحظ على الخصوص: «شيخ الانتحال، الوجه الخلفي للسرقة» أما كتابه الآخر: «العين والإبرة» فيُعنى بما يقال عن الكتّاب والكتابة في ألف ليلة وليلة.

أبحاث وحكايات بالعربية والفرنسية. لا يبدو على كيليطو أنه ينتقل من عالم لآخر من دون تروٍّ، لأن كل شيء في الواقع ما هو إلا رواية مقنعة: «الكتابة إما أن تكون لعبًا أو لا تكون». المتعة أولاً وليس العمل. تصفية رهيبة وعنيفة.

خمس سنوات من أجل إتمام قصة قصيرة! وما يبقى ليس إلا نصف ما تمّ إبداعه. فهو يمزّق دون رأفة، لكن بشيء من التحسّر. نسخ عديدة في اليد وسلسلة من المسودات ووفرة من المراحل في الآلة.

لكيليطو اهتمام بل ولع بقراءة الأدب العربي القديم ومنه الحريري والزمخشري والمعري. لا يخفي أنه شعر بالقلق حين بدأ يقرأهم. مع الوقت تبين له سرّ ذلك. تبين له أنه كان ينظر إلى الأدب القديم من خلال الأدب الحديث. أي أنه لم يبذل جهدًا لدراسته في حد ذاته داخل إطاره التاريخي ومنظومته الفكرية الخاصة، «أخذت من يومها أحدّد معنى الأدب وأدرس المقامات انطلاقًا من هذه النقطة. يبقى السؤال: ماذا نفعل بالمؤلفات الكلاسيكية؟. هل سنكتفي بردّها إلى التاريخ؟ أعتقد شخصيًا أن دراستها و«استغلالها» من شأنه أن يغني المفهوم الحالي للأدب، وبالتالي الإنتاج العربي الحديث.

ويُسأل عن عنوان كتابه الأول: «الأدب والغرابة»، ماذا عنى بالغرابة؟ غرابة النص؟ أي نص؟ هل عنى أن تراثنا غريب، أم نحن غرباء عنه؟

ويجيب: عبد القاهر الجرجاني يعرّف الشعر بالغرابة، والحكايات القديمة تعرض نفسها على أنها غريبة. مفهوم الغرابة عريق في القدم، ويبدو لي أنه قد يشكل مدخلاً مهمًا لدراسة مفهوم الأدب. من ناحية أخرى تعني الغرابة المسافة التي تفصلنا عن النصوص الكلاسيكية والتي لا يجوز تجاهلها. لكن هذا لا ينفي وجود علاقة تشدّنا إلى الأدب القديم. فمهما كان موقفنا منه، لا بد من تحديد علاقتنا به، ولا بد من رسم الحدود التي كان يتحرك داخلها، والأطر التي ليس بوسعنا اليوم تجاوزها.

والغرابة تتضّمن صفة التعجب بالطبع. إن مقياس العمل الأدبي الممتاز هو غرابته. أحيانًا يرفع القارئ عينيه ويقول لنفسه: عجيب، عجيب هذا الكتاب. إذ ذاك، وإذ ذاك فقط، يكون المؤلف قد حقق التواصل ووفّق إلى جذب القارئ إليه.

ألم تستوقف كيليطو «إبداعات» عربية حديثة؟ في الستينيات كنتُ متتبعًا لما يروج في السوق الأدبية العربية من روايات وقصص وأشعار. في تلك الفترة كان مرجعي هو الأدب الأوروبي، وبالمقارنة كنت أمتعض وأتأسف لكون العالم العربي لم ينتج كاتبًا في مستوى كافكا وجويس والروائيين الجدد. طبعًا كنت ومازلت هاويًا ومتفرجًا، والهواية دور مريح والمتفرج ليس كمن يدفع نفسه إلى مضايق الشعر والسرد. في نهاية الستينيات وبداية السبعينيات انجرفت مع موجة البنيويات واللسانيات واشتغلت بأعمال أكاديمية، فتلاشى اهتمامي بالأدب الحديث. أذكر أنني كنت معجبًا بشعر السياب، وأتمنى أن أكتب يومًا دراسة عنه. كما كنت معجبًا بقنديل أم هاشم ليحيى حقي.

يُلاحظ على كيليطو أنه طلع بهدوء شديد من داخل سور النقد العربي، ولكن عندما طلع كانت أسئلته هادمة ومستفزة. كيف يأخذه النص إليه؟ بماذا يبوحان لبعضهما وهما وحدهما؟ وماذا يدعوه إلى هذا النص ورفض غيره؟.

ثمة عشرون كتابًا من بينها «أسرار البلاغة» للجرجاني يقرأها باستمرار ويكتب عنها. لماذا؟ لأنه يشعر بأنها لا تبوح له بكل أسرارها دفعة واحدة، وأنها ضنينة بمعناها فلا تجود بقسط منه إلا لمن يواظب على الإمعان فيها. إلى جانب هذا، يقرأ كيليطو كثيرًا، وبلا نظام، ويخيل إليه أحيانًا أنه قرأ كل الكتب، وأحيانًا لم يقرأ شيئًا!.

يقول بورخيس إن الثقافة الغربية غير نقية فهل الثقافة العربية نقية؟.

يرى كيليطو أن الثقافة العربية ليست نقية. فقد استوعبت على مرّ التاريخ عناصر مختلفة من عدة ثقافات. يكفي التذكير هنا بتجربة ابن المقفع والتوحيدي.

قد لا تكون هناك ثقافة نقية وجدت في يوم من الأيام، ما عدا ربما عند مجموعات بدائية تعيش، أو عاشت، في عزلة تامة عن باقي البشر. قد يشتاق البعض إلى حياة على نمط تلك المجموعات، ولكنه سيحكم على نفسه بالهرب من الغير لا محالة.

ويرى أن ما يميز المغرب في المجال الثقافي هو التفتح غير المشروط على ما يروج في فرنسا من تجارب في شتى الميادين الفكرية والأدبية، يقرأ الناقد ويترجم ويستعمل أدوات فوكو، بارت، ديريرا، تودوروف.. ما أن يظهر كتاب فرنسي في النقد إلا ويتلقفه بعض المثقفين ويدرسونه. لهذا يغلب التأثير الفرنسي على الحركة النقدية بالمغرب، في حين أن المشارقة على العموم يعبّون من المعين الأنجلوسكسوني. بالفعل تتميز «المدرسة» المغربية، بل إن البعض يتحدث عن تفوقها. لكن ما هو رأي الغربيين؟ هنا يشعر الناقد المغربي بالتواضع، بل ربما بشيء من الخجل، لأنه يعرف أن ما يكتب لا يصلح أن يترجم إلى الفرنسية أو الإنجليزية. يشعر أنه يأخذ ولا يعطي، وأن في عنقه دينًا لا يستطيع في الوقت الحاضر تسديده. قد يقال: في هذا الكلام انبهار بالغرب، نتعلم منه ونستجدي القيمة منه!.

ولكن أين يتموضع كيليطو في علاقته بالنص الأدبي والثقافي، في موضع الناقد، أم في موضع الباحث الدارس؟.

يجيب بأنه يتموضع في موضع الباحث. ذلك أن النقد، بمعنى الحكم على الأعمال الأدبية وتمييز الغث من السمين وإنارة آفاق الكتابة، لا يمكن أن ينصبّ إلا على الأعمال المعاصرة للناقد، عند صدورها أو بعد صدورها بقليل، أي على الأعمال التي لم تفرض نفسها بعد. أما تلك التي تُدرس في المدارس والجامعات، فإنها تُعتبر مسبقًا جيدة وعظيمة، فهي لا تنتقد عادة وإنما تحلّل بالطرق المعهودة في التحليل. مَن يعنّ له أن ينتقد المتنبي أو المعرّي؟ أقصى ما يستطيعه الباحث أن يذكر الانتقادات التي وجهها القدماء لهذين الشاعرين وأن يضعها في سياقها الثقافي والتاريخي.

كل تحليل، بل وكل تأويل، ينطلق من العلامات والعلاقات، يعني أن المحلل والمؤول يقدر في النص بنيةً ما، أو «منطقًا» ضمنيًا تارةً، وصريحًا تارة أخرى.

هل نستطيع أن نعتبر كيليطو من جيل البنيويين أم بالتخصيص من روّاد التحليل البسيكو/ أدبي، أم مجرد باحث يترصّد «التيمات» العميقة للنصوص؟ أم نجازف فنقول إنه باحث في سيميائيات خاصة بالنص الحكائي والسردي؟.

ويجيب عن هذا السؤال: أغلب المؤلفات التي كتبت عنها، لم أقرأها بشغف في البداية، بل لم أتوجه إليها من تلقاء نفسي، وإنما مدفوعًا بموضوع ندوة أو محاضرة. إذا تحدّثت عن طريقتي في الكتابة، قلت إن همومي بعيدة كل البعد عن البنيوية والتحليل البسيكو/ أدبي وما شابه ذلك. عندما أشرع في دراسة كاتب قديم أمرّ بفترة حيرة ويأس لأنني لا أدري كيف ألج عالمه. فأُعيد قراءته مرات ومرات وأحاول أن أتقمص شخصيته وأن أفكر كما كان يفكر. ومع مرور الوقت يحدث نوع من التعاطف، ثم أشعر أنه يخفي عني شيئًا ويومئ لي بوجوده في الوقت نفسه. وبشعوري أن هناك سرّاً ما، فإن انتباهي يستيقظ، فأظل أُبحث إلى أن أعثر على علامة أنطلق منها، وبالتدريج أربطها بأخرى إلى أن تتسق شبكة العلامات وتنتظم تحت عنوان يرمز إليها. مثلاً: «الحيّة» عند الحريري، «الجوزة» عند ابن المقفع «هذه المرحلة تكون ممتعة جدًا؛ لأن فيها لذة الاكتشاف اكتشاف علاقات لا تظهر لأول وهلة. ثم بعد ذلك تأتي مرحلة الكتابة أو التحرير، وهي بالنسبة لي أصعب المراحل، فأصير لمدة شهور أو سنوات إنسانًا شقيًا، بسبب تركيب جملة أو حرف وصل أو وضع فاصلة!.

ماذا عن المؤلف في حضوره وغيابه؟ لا أتحدث إلا نادرًا عن المؤلفين رغم أنني ألفت "الكتابة والتناسخ" درست فيه بصفة جزئية مفهوم المؤلف في الثقافة الكلاسيكية. المؤلف غائب فيما يكتب كشخص، وحاضر كصورة. وهذه الصورة تكاد تكون بلا علاقة مع المؤلف الواقعي. ولذلك نجد من يعتبر المؤلف كالطائر المُعيدي، يجب أن يسمع به ولا يراه. ولذلك نجد أيضًا من يزعم أن هوميروس لم يمت، وأنه لم يؤلف الألياذة والأوديسة وحسب، وإنما أيضًا كل ما أنتجته البشرية من أدب بجميع اللغات. لنتصور أن نقرأ أشعار النابغة الذبياني وأبي العلاء المعري وكأنها من تأليف هوميروس!.

هل من الممكن أن نتحدث عن أدب «مغربي» كما نتحدث عن أدب مصري؟ لا أظن. فالأدب المصري له تاريخه وتقاليده ولغته وحضوره وكمّه وكيفه. أما الأدب المغربي فيبدو بالمقارنة هزيلاً منكمشًا، رغم تألق بعض الأسماء وبعض العناوين، الإبداع في المغرب، من ناحية الكمّ، قليل.

كم عدد الروايات المغربية؟ والمجموعات القصصية؟ ودواوين الشعر؟ وما هي الأسباب العميقة لهذه القلة؟ ألأن الجامعة حديثة العهد عندنا؟ ألأن عددًا من المبدعين يرجئون الكتابة إلى أن ينتهوا من أبحاثهم الجامعية، وعندما يتمّ لهم ذلك يكونون قد استنفدوا طاقاتهم ويكون الركب قد فاتهم فيصيرون عاجزين عن الإبداع؟، ثم هناك الأدب بالفرنسية والأدب بالعربية وكلاهما يدير ظهره للآخر. قرّاء الفرنسية يجهلون بصفة مطلقة ما يكتب بالعربي، وقرّاء العربية يتجاهلون ما يكتب بالفرنسية.

هل ينجذب عبدالفتاح كيليطو إلى اللسان العربي أكثر أم إلى اللسان الأجنبي؟ أللسانَين بالنسبة إليه نفس قوة الجذب؟، بما أن لي يدين، عندي إحساس أني أكتب العربية باليمين والفرنسية باليسار. هذا ما يُسمّى الأضبط (من يعمل بيديه كلتيهما).. شرعتُ في القراءة في سن الثالثة عشرة، كنت أستعير من المكتبة الأمريكية بالرباط روايات مترجمة إلى الفرنسية: إدغار ألن بو. أول اتصال لي بالأدب ثم هكذا بواسطة اللغة الفرنسية، المفتاح السحري الذي سمح لي بغزو أمريكا (يقال «لغزا في اللغة العربية «فَتَح». لم أقرأ إلا في وقت لاحق الكتاب الفرنسيين.

إذا كان اللسان الفرنسي عندي لسان متعة، فإن اللسان العربي كان بالأولى لسان واجب، على الأقل في البداية. كان تعلّم اللغة العربية، بالنسبة لرفقاء القسم ولي أنا نفسي، إعادة الارتباط من جديد بأقرباء استبعدوا، فقدنا رؤيتهم منذ زمن بعيد. أقرباء طاعنون في السن، طيبون للغاية، مثيرون أحيانًا للسخرية، لا نزورهم إلا في الأعياد. إذا كان لي أن أنعت بكلمة هذين اللسانين، سأقول إن اللسان العربي تاريخي واللسان الفرنسي جغرافي!.

ويعترف بأنه مدين لعدد من شخصيات التراث: هو معجب بالحريري، ميزة الإتقان عنده تخجل القارئ. أما سلفه الهمذاني فهو يغيظه لشدة ذكائه، إلا أنه «ابتدع» جنس المقامة. وهو مندهش من الجانب الارتجالي، ومن الطابع الذي يبدو غير مكتمل لمحكياته. كيف له أن ينسى ألف ليلة وليلة التي شرع في قراءتها منذ الطفولة؟ وأخيرًا يبقى الجاحظ والمعري الكاتبين العربيَين اللذين أؤثرهما. أعود مرارًا إلى آثارهما، وأندهش باستمرار للمدى الواسع لفضولهما، لخفة ذهنهما، لجرأتهما، وبالاضافة إلى ذلك، يجعلان المرء يبتسم. الدعابة أو الهزل شيء نادر وثمين.

ويدرك شهر زاد الصباح ولا تملّ عن الكلام المباح وغير المباح.

تجربة عبد الفتاح كيليطو تجربة في منتهى الأهمية في الأدب العربي اليوم، وحولها سنعقد مقالاً آخر.
 
أعلى