سليمان رشيد - المسألة الجنسية بمنظور ماركسي

لا تعدو المسألة الجنسية في التحليل الماركسي أن تكون اكثر من جزء من المسألة الاجتماعية ككل وهي نهاية قضية الصراع الطبقي الذي يميز المجتمع البرجوازي المتشيئ حيث تنشط التناحرات الطبقية بين مالكي وسائل الإنتاج و المعدمين الشيء الذي يؤدي إلى إفراز ثلة من المشاكل العامة للنظام البرجوازي تولد على هذه الأرضية غير السوية- الطبقية – فتؤدي بالعلاقات الإنسانية بشكل عام و العلاقات بين الجنسين بشكل خاص لأن تكون متناقضة و مستلبة استلابا برجوازيا صرفا، بالتالي فالمسألة الجنسية للمجتمع البرجوازي ليست سوى تعبير عن العلاقات البرجوازية المتشيئة ذات الأساس الاقتصادي و الاجتماعي و التي لا تحل سوى بحل البنية الأساسية للملكية الخاصة لوسائل الإنتاج. و هذا طبعا لا ينفي الخصوصية التي تتميز بها المسألة الجنسية عن باقي مسائل و مشاكل المجتمع البرجوازي الفردية و الجماعية.

1. ما المسألة الجنسية في المجتمع البرجوازي ؟

لماذا هناك مسألة جنسية بالمجتمع البرجوازي ؟ و ما هي هذه المسألة ؟ و كيف تشكلت ؟
إن مجرد ذكر المسألة الجنسية بالمجتمع البرجوازي كمسألة يعني أن هناك إطارا عاما غير سوي للعلاقات الجنسية داخل هذا المجتمع، فإذا كان الأصل أن تحدد و توجه الغريزة الجنسية بمعايير الرغبة المتبادلة العاقلة و المعقولة المجردة عن أي إكراه اقتصادي أو ثقافي أو أخلاقي. فالحقيقة ان العلاقات الجنسية بالمجتمع البرجوازي و في جزئها الأكبر تتحكم فيها و توجهها سلطة المال و الرأسمال و سلطة الانتماء الطبقي... فالدعارة مثلا تنمو و تترعرع في صفوف الفقيرات أبدا و أزلا و لا تتجاوزهن بأي حال من الأحوال و الشطط و الفجور الجنسي ينمو في صفوف أبناء و بنات البرجوازية، و الحب بين أبناء و بنات طبقات اجتماعية مختلفة محكوم عليه سلفا بالإعدام ما لم يكن استثناء و حتى الزواج و اختيار شريك الحياة تتحكم فيه الهواجس الاقتصادية بالأساس و لاشيء آخر، و الشبيبة عموما بالمجتمع البرجوازي مرغمة على تطبيق املاءات السلطة الرأسمالية في ميدان تحديد النسل أو عدم تحديده و في تحديد سن الزواج و عدد الزوجات و بنية الأسرة ونظامها و دور الرجل و دور المرأة... و ذلك تبعا لحاجة نمط الإنتاج لليد العاملة و حجم هذه الحاجة أو عدمها. إذن هذه هي المسألة و لهذا هي مسألة و في إطارها فقط يمكن فهم حقيقة ظواهر أخرى مرتبطة بها كالدعارة و الجريمة الجنسية و الشطط الجنسي و الإباحية و غير ذلك.

2. الدعارة: ظاهرة طبقية و خاصة المجتمع البرجوازي.

لا مراء بأن الدعارة أقدم مهنة في التاريخ – كما يقال – لكن الأكيد أن ظهورها ارتبط بتشكل المجتمع البشري و هو تكون لم يؤسس إلا على التفاوت الطبقي المحتاج إلى نظام لترتيب صراعه الاجتماعي عبر الحقب التاريخية، فالماركسية إذن لا تنطلق من الخواء لتصف الدعارة - أي المتعة الجنسية مقابل المال – بخاصة المجتمع البرجوازي الطبقية فإذا كانت الدعارة سابقة على مجتمع الرأسمال فإنها لم تتبلور كظاهرة منظمة و مؤثرة إلا باكتمال نمط الإنتاج الرأسمالي. الذي وجدت فيه فئات و شرائح اجتماعية واسعة نفسها قرابين يسفك دمها و لحمها و عرقها ليستمر و ينمو إنتاجه و منها النساء ضحايا الاستغلال الطبقي و الاضطهاد الجنسي معا و هن لا تسعفهن قواهن العضلية ليكونوا عبيد أجرة عاديين بل يجدن أنفسهن إما عاملات يدويات بأجور حقيرة أو ملحقات بجيش العطالة أو مرغمات على الدعارة من أجل العيش و لو بأقل من الحد الأدنى له. هكذا يكون العامل الاقتصادي – الفقر- هو أصل الدعارة، و التفاوت الاجتماعي بنيتها الأساسية و النظام البرجوازي بدرها و اكتمال نضجها. لهذا و له كله لا تحل عقدة بيع الجسد في سوق المتعة البرجوازي إلا بحل المنظومة البرجوازية و تفكيك بنيتها وفق الأصول الثورية للماركسية و ليس بمحاربة "الفساد الأخلاقي" و إقامة "الحدود" على "الزناة" كما يتصور ذلك بيادقة الشرطة الدينية المتخلفون و لا بورشات " الإصلاح التربوي " الفاشلة للفقراء و متمنيات "التنمية الاقتصادية" المزعومة لتلامذة البنك الدولي النجباء عفوا الأغبياء.

3. الماركسية و الإباحية، أية علاقة ؟!

كـان طبيعيـا جـدا ألا يروق التحليل المـاركسي - القائم على رصد العمـق الاجتمـاعي و الأسـاس الاقتصـادي - للمسألة الجنسية بالمجتمع البرجوازي مؤسسات الزهد و الامتناع بالذات و ذلك لعدة أسباب أهمها على الإطلاق هو كشف هذا التحليل للبعد الاقتصادي من وراء تقنين الجنس و تسييجه بسياج الخوف و الإثم و الرهبة سواء لصالح سلطة رأسمال أو لصالح تيارات الدرك الروحاني. لذا يبدو الطرح القائم على اتهام المنظومة الماركسية الثورية بالترويج للإباحية أو الجنسية الحرة واهيا للغاية و غير ذي أساس و الحق ان هذه التهمة مردودة و بعيدة كل البعد عن الماركسية. و هي تطلق عادة من طرف الأصولية الدينية الرجعية المسخرة من طرف البرجوازية كدرك روحاني يعمل على قمع الغريزة الجنسية و إعطائها بعدا يخدم متطلبات السلطة الاقتصادية و الاجتماعية و المؤسسية (الأسرة) القائمة بشكل يجعلها تتكيف مع هدف إعادة إنتاج قوة العمل الكافية لصيرورة الرأسمال دون إفراط و لا تفريط تحت راية المؤسسة الشرعية الوحيدة المقبولة أي الأسرة- و طبعا بطابعها البطريركي الأبوي- الذكوري- و الإباحية كما هو معروف دعوة للجنسية الحرة داخل و خارج مؤسسة الأسرة و هو شيء مرفوض في الماركسي, فماركس مثلا في مخطوطات 1844 يهاجم فكرة مشاع النساء بحيث اسماها " الشيوعية الأمية " مميزا الغريزة الجنسية عن باقي الحاجات على أساس ان موضوعها كائن إنساني يشعر و يتألم ( رجل أو امرأة )، و أكثر من ذلك اعتبر ماركس الإباحية تعبيرا عن فساد المجتمع البرجوازي المبني على المادة و ارجع ذلك إلى : " كون الفرد العاجز عن الإنعتاق من العبودية الاجتماعية – الاقتصادية يصبح عبدا لغريزته " فما يلبت " تمرده الفوضوي " على الزواج البرجوازي ان يتحول إلى " شيوعية جلفة " تدعو " لمشاع النساء " أو " إباحية معممة " تفضي باسم " حرية الحب " إلى " بغاء معمم منبوذ و مقزز." *
أما عند لينين فقد كاد الأمر- الإباحية – أن يكون جريمة ضد أخلاق البروليتاريا الثورية حيث يقول :" إن الشطط في الحياة الجنسية – الإباحية – علامة على الانحطاط البرجوازي و البروليتاريا طبقة صاعدة و هي ليست بحاجة لان تسكر أو تدوخ أو تثار، إنها لا تطلب لا الثمل و لا الجنس و لا الكحول، إنها لا تجرؤ و لا تريد ان تنسى دناءة الرأسمالية و وحلها و همجيتها.." ** فالأمر محسوم إذا و لا يحتاج إلى بيان.

4. الحب، الزواج و الأسرة: ثلاثية مرفوضة أم مصححة ؟ !

لما كانت الماركسية الثورية محط اتهام بالإباحية و هي تهمة مردودة كما أسلفنا. كان أن تطورت التهمة لدى مروجيها إلى درجة التشكيك في مدى استمرارية وقائع إنسانية أخرى مرتبطة بالموضوع و هي : الحب، الزواج و الأسرة و الحقيقة أن التصور الماركسي - كأطروحة إبيستمولوجية للمجتمع البرجوازي المتهالك و قيمه البالية- فضح حقيقة " الحب البرجوازي" باعتباره أكذوبة لتبرير نزوات الإنسان البرجوازي لا غير، "و الزواج البرجوازي " كمشروع لإعادة إنتاج مؤسسة الأسرة البطريركية أي نواة المجتمع الطبقي، و ذلك كنتيجة حتمية لخضوع الحب و الزواج بالمجتمع البرجوازي لسلطة الاكراهات الاقتصادية التي تفرضها الملكية الخاصة لوسائل الإنتاج و التي تتحكم في اختيار الشريك، لكن التصور الماركسي ليس عدميا ليتعامل مع وقائع اجتماعية و إنسانية فاضلة بمنطق النفي و هي أساس استمرار الوجود البشري بل عملت الماركسية على بناء تصور يصحح مسارها المنحرف و يشذبه من الزوائد البرجوازية الدنسة التي شوهته و أفسدته فسادا كليا لا يقل عن ذلك الذي ينخر الجسد البرجوازي برمته في الإدارة و الاقتصاد و الثقافة و العلاقات الإنسانية و كل شيء، و هكذا فالحب الذي تنشده الماركسية هو ذلك التفتح الرائع للإنسانية هو ثورة المضطهد ضد قيم المادة و الاستهلاك، هو الأمل في تنظيف النفس الإنسانية من تراكمات الرأسمالية الوسخة و تصحيح مجرى العلاقات الإنسانية و العلاقة بين الجنسين، و أساس كل ذلك هو الحرية و هي الشيء الذي يظل مهددا في المجتمع البرجوازي بخطرين: خطر نداءات الغريزة الوحشية المتماشية و المتوافقة مع طبيعة المجتمع البرجوازي الاستهلاكية- البضاعية ثم خطر العبودية الاجتماعية الناتجة عن علاقات الإنتاج أي التفاوت الطبقي، أما الزواج فقد دافعت الماركسية عنه و عن وحدانيته – اللاتعدد- كمبدأ وحيد كفيل بإعطائه بعده و مضمونه العادل و الطبيعي بين الجنسين من أجل بناء أسرة متوازنة و سوية لا تكون فيها المرأة عبدا لأحد بل سيدة لنفسها و جسدها و قراراتها. أما العلاقات الجنسية بين طرفيها فيجب ان تكون علاقات تشارك و تفاعل لا علاقات سيطرة و عبودية بأن تؤسس على المساواة الإنسانية الفعلية و تبنى على قاعدة الحب الحقيقي المجرد عن المادة و عن النزوة.

الماركسية الثورية إذن كنظرية و كفلسفة لنقد أسس البنية البرجوازية بهدف تغييرها بشكل جذري تنظر الى المسألة الجنسية من زاوية كونها جزءا من المسألة الاجتماعية بشكل عام، ثم باعتبارها تمظهرا من تمظهرات فساد المجتمع البرجوازي العام لدا فتقويم هذا الوضع غير السوي في العلاقات الإنسانية بين الجنسين رهين بإلغاء قيم المادة وثقافة الاستهلاك من المعاملات اليومية بين الناس و سطوة رأسمال الكليانية على الحياة الحميمية للأفراد، و هو الشيء اللامأمول إلا من خلال التغيير الثوري للمجتمع البرجوازي.


______________________________
المراجع المعتمدة قصد التوثيق الأدبي و التاريخي:
* " لينين و المسألة الجنسية" كلارا زتكين.
** " أصل الأسرة و الملكية الخاصة و الدولة" فريدريك انجلز.
- " الشيوعية و المرأة" جان فريفل .
- " حول تحرر المرأة" لينين .


Zeitgeist.jpg
 
أعلى