منى فياض - عبادة الجســــد

المرآة
تحمل المرآة خطرا مبهما عبرت عنه الكثير من الآساطير . هناك دور المرآة السحرية في حكاية بياض الثلج ، المرآة المسحورة التي تظهر وتقيس تفرد جمال مالكتها وتساعدها على احتكار هذا الجمال والاحتفاظ به إلى حد ارتكاب جريمة قتل . وسبق لتريزياس أن قال : " يعيش الطفل بشكل أفضل عندما لا ينظر إلى نفسه " تقول الأسطورة أيضا أن نرسيس في غفلته عن مدى حسنه تجاهل النساء والحوريات اللواتي أغواهن جماله فعشقنه ، حتى إن إحداهن ( إيكو ) أصابتها الأنوريكسيا وتضاءل جسمها حتى إضمحل ، وحده صوتها استطاع البقاء . تكفلت الفتيات الساخطات وآلهتهن عقاب نرسيس الذي قلب نظام الأشياء وهرميتها الضرورية ، فجعلنه يتمارى في نبع رقراق ، مما جعله يحب نفسه حتى الموت ، كان هذا قبل اختراع المرآة ربما والتي تجهد الأساطير في تبيان مخاطرها ، وتشير أسطورة إغريقية أخرى إلى خطر خداع المرآة بالتحديد محذرة من حيلة في مرآة ديونيسوس حيث الكائن الواحد يفقد وحدته عند تماريه بها ويتيه إعجابا بنفسه وينجذب إلى غواية انعكاس صورته التي " تدوبله " وتجعله اثنين ، وبينما يفحص مظهره الكاذب في انعكاس المرآة يسقط انعكاسه في غير نفسه ، ينقسم اثنين يتأمل نفسه لكن ليس حيث هو ومن حيث ينظر بل في مظهر كاذب لنفسه المتموضعة في غير الانعكاس الخادع للمرآة ، يؤدي ذهوله عن نفسه إلى تشظيه وتذرره فيجد نفسه متعددا حتى اللانهاية في الآف من الانعكاسات ، ما الذي تعلمنا إياه هذه الأساطير ؟ الكثير طبعا ، لكن ما يهمنا في هذا المقام أن النظر إلى الذات لم يكن متوفرا وشائعا وأنه قد يؤدي إلى التهلكة . تكتسب العناية بالجسد محورا مهما في الحياة الخاصة أو الحميمة التي تطبع حياتنا الراهنة ، ونبحث عبرها عن مكافآت متنوعة ومعقدة : لذة الاستحمام ، العناية بالنظافة التي تحمل لنا بعض الاشباع النرجسي وأن نتأمل أنفسنا في المرآة . تأمل صورة الذات لم يعد امتيازا خاصا وربما يتطلب الأمر دراسة مفصلة لكيفية انتشار استخدام المرآة والتي يرجح أنها لعبت دورا في تاريخ النظرة الملقاة على الذات . الحلاق وحده امتلك مرآة حقيقية في القرى في القرن التاسع عشرة مقتصرة على الاستخدام الذكوري . وسرعان ما ساهم الباعة المتجولون في انتشار المرآيا الصغيرة كي تستطيع انساء والفتيات تأمل وجوههن ، لكن ظل الريف والمدن الصغيرة والمساكن المتوسطة والفقيرة تجهل المرايا التي تظهر القامة بكاملها ، وظلت الهوية الجسدية تقرأ عند الفلاحين في أعين الآخرين وتستوحى عبر الانصات الداخلي ، يستدعي هذا السؤال التالي : كيف أمكن العيش في جسدلم نره في أصغر وأدق تفاصيله ؟ من هنا يمكن أيضا أن نفهم الممنوعات التي تثقل على استخدام المرآة في الأوساط الريفية : عدم السماح للطفل بالنظر إلى المرآة أو عدم ترك المرآة مكشوفة بعد وفاة . في الأوساط المرتاحة ظل ممنوعا على الفتاة الشابة أن تنظر إلى نفسها عارية في المرآة ، حتى ولو عبر انعكاسها في مياه البانيو . ومن هنا استخدم نوع من البودرة التي تجعل المياة عكرة ، وغير صالحة لمثل هذا الاستخدام الخطر ، إذ يتوجب ضبط الإثارة الايروسية التي تشكلها صورة الجسد مع إن هذا المنع كفيل بتهييجها . لذلك لجأ المجتمع الراقي الذي تسلطت عليه هذه الصورة إلى تكديس المرايا في مواخيره ، وذلك قبل أن تنتشر المرايا الكبيرة على باب خزانة ملابس العروسين بشكل متأخر نسبيا .

تستعمل النساء المرآة لبعث إشعاع جمالهن ولتأمل جاذبيتهن المتألقة وسحر نظراتهن . نستعمل المرآة كي نرى أنفسنا للتعرف إليها بالتحديق فيها . والتماري هو إسقاط صورتنا تجاه أنفسنا بشكل مباشر ، ازدواجنا في صورة نتأملها كما يفعل شخص آخر عالمين أننا نفعل ذلك . ليس من وسيلة أخرى تسمح لنا بالقبض على أنفسنا في تفرد هيئتنا سوى هذه المقابلة وجها لوجه أمام المرآة حيث ننظر إلى أنفسنا ناظرين إليها . إن رؤية الوجه في المرآة تسمح بمعرفة الذات كما يعرفها الآخرون : وجها لوجه ، متعاكسي النظرات ندخل أنفسنا بعكس أنفسنا هذه إلى خارجنا ، بجعلها غرضا وعلى شاكلة آخر .

أوجد انتشار هذه الأداة المسببة للتجاذب في نهاية القرن التاسع عشر تنظيما جديدا للهوية الجسدية ، واستحدث علم النفس مرحلة جديدة في تطور أعمار الطفل النفسية : مرحلة المرآة . فالصورة في المرآة جزء من الذات خارج الذات . هناك صلة بين صورتي في المرآة وبين أنا نفسي ، لكن البشر أشباهي الذين هم خارج نفسي أليسوا صورة عني أنا نفسي ؟

المرآة لم تعد جديدة أو مستحدثة بل على العكس صارت مبتذلة . لكنها بالمقابل سمحت لنا بأن ننظر إلى أنفسنا ليس فقط كما ينظر إلينا الآخرون وكي نرى مدى ملاءمة للقواعد المتبعة بل صرنا نرى أنفسنا كما لا نسمح للآخرين بالنظر إلينا : من دون ماكياج أو مساحيق أو عراة من دون ملابس . رسم الجمال لنفسه قامة جديدة في المرآة الكتومة . وسوف تسمح المرآة الكبيرة بانبعاث جمالية النحافة وترشد أنظمة الحمية في معابر جديدة


.
- عبادة الجسد ( من الفصل الثالث لكتاب " فخ الجسد " للدكتورة منى فياض ) دراسة مستفيضة وعميقة في أحوال الجسد .
 
أعلى