أليش شتيغير - فندق في البوسنة.. ت: رشيد بوطيب

أعيش بين أصوات أسمعها لوحدي. الآخرون لا يسمعونها، ومع ذلك لا يمكننا أن نقول بأنهم مصابون بالصمم. فمن يزعم ذلك، لا ريب مخطئ. لكن لماذا لا يقضي زوار هذا الفندق أكثر من ليلة هنا؟ تأتي الحافلات ممتلئة بالسياح، الذين نادراً ما يزورون مدينتنا، لكنهم يغادرون الفندق بعد ليلة واحدة، رغم أنهم قد حجزوا لليلتين وأحياناً لأكثر. وإذا ما دلف رجل أعمال أجنبي، أو ممثّل لمنظمة من المنظمات الأجنبية التي تحكم في بلدنا، العتبة المؤدية إلى بهو الاستقبال المضيء عادة، يرخي الظلام عليه سدوله.

ولقد عمد ساندر، المالك الهولندي للفندق، إلى تكليف شركتين للتسويق من سراييفو لوضع استراتيجية تسويقية جديدة للفندق، برامج ترفيهية إضافية للضيوف وتفاهات أخرى. لكني أعرف أن لا فائدة من ذلك. كما أعرف أن ساندر يدرك ذلك أيضاً. إنه يعرف ذلك، لكنه على النقيض مني، لا يحسن الإصغاء.

أيام الحرب، خدم هنا في صفوف القبعات الزرق. وعقب الحرب، سيعود كمدير للشركة الأجنبية إلى الفندق من جديد، والذي سيسكن فيه لفترة طويلة. هذا الفندق الذي يعود تاريخ بنائه إلى الحقبة القيصرية. لقد تم تجديد واجهة الفندق وفضائه الداخلي بشكل جميل جداً، بدعم من "الاتحاد الأوروبي"، على الرغم من أن الفندق ظلّ يعمل طيلة سنوات الحرب دون توقف، ودون أن يلحقه ضرر.

الحرب.. كانت تلك أزمنة ذهبية. هذا ما يقوله ماركو، الذي يعمل في الاستقبالات منذ زمن. لقد كان يعمل هنا، لما قضى الجنرال تيتو ليلة بالفندق نهاية الستينيات. يعرف ساندر لماذا احتفظ به، على الرغم من أن ماركو تقدّم في السّن وينقصه الود والفعالية. تدور شائعات كثيرة، في المدينة، حول ساندر وماركو والفندق. لربما يكون ذلك الشيء الوحيد الذي ظل لنا في البوسنة بعد الحرب: الشائعات.

لا يتعلق الأمر بمدى اعتقادنا بتلك الشائعات من عدمه. ففي البوسنة نعرف أن كل ما يقوله أحدهم أو لربما يفكر فيه فقط، حقيقي. ولهذا السبب، نصمت جميعاً. أن تصمت وتواصل الحياة.

لكن جدتي لم تركن إلى الصمت. فلما أخبرتها بأني سأعمل خادمة في فندق، غمرت الدموع خدّيها. لا تذهبي إلى هناك، طفلتي، قالت لي. ثم انقلبت إلى الجهة الأخرى فوق سريرها وأسلمت الروح شهراً بعد ذلك. كانت، كل ما أملكه. ربتني ومنحتني بيتاً في أزمنة مظلمة. أمي ماتت لحظة ولادتي.

جمعتني بجدتي صداقة كبيرة. وكل ما ظلّ لي اليوم، هو فندقي. وبُعيْد شروعي في العمل هناك، بدأت أصواته تتناهى إلى أذني. خافتة كانت في البداية، لتزداد وضوحاً مع مرور الوقت. وتوضح لي بعدها، بأن لا أحد كان يعرف بأننا نسمعها. أنا، فقط. أصوات نساء في الغرف الفارغة للفندق، وفي بعض الحجرات في الطابق الأول، صوت واحد، وفي أخرى أكثر من عشرة أصوات.

كيف أستطيع شرح ذلك؟ إنه نوع من الاستماع الذاتي، دون صوت ودون كلمات. إنها مجرد أصوات خرساء، كما لو أن أحدهم أغلق فم آخر كله، وظل هذا مع ذلك يحاول الدندنة بلحن أطفال. كما لو أنه محشور في الصمت. وسنة بعد أخرى ترتفع الأصوات في الغرف أكثر. يبدو أنها عبرت من مكان ما غير معروف إلى هنا. عائدة إلى البيت الذي كان حاسماً بالنسبة لمصيرها. نحن كلنا أسرة كبيرة من النساء.

وفي السنوات الثلاث منذ أن بدأت العمل هنا، أصبحنا لا نفترق عن بعضنا البعض. يغمرها الحزن، حين أتغيب عن الفندق. تنفجر باكية. ولهذا، فإني أظل، في أغلب الأحيان، بعد انقضاء فترة العمل في الفندق الفارغ أصغي إليها. حضوري يبعث فيها السكينة. لو أن أحدهم سمع ما أسمعه، لأطلق ساقيه للريح مباشرة.

لكني أدلف من غرفة إلى أخرى. وفي النهاية أمضي دائماً إلى الغرفة رقم 17. في تلك الغرفة يوجد صوت أمي. أقتعد الأرض بالقرب من السرير الجديد، أغمض عيني وأصغي. كما لو أن رعد نهاية وبداية العالم قد أخذ يلعلع. إنه أمر يسعدنا معاً ويريحنا. ومع انقضاء الوقت، اقتربت أكثر من صوت أمي، حتى صار بمقدوري أن أفهم المقاطع المنفردة.

إنها تريد أن تقول لي شيئاً. شيئاً عن الغرفة التي نتواجد فيها، عن نفسها وعني. لا أعرف إن كنت أعلّمها بحضوري وإصغائي الكلام، أو أنها من تعلّمني الإصغاء. وقت قصير، وبعدها سنستطيع أن نتحدث مع بعضنا، تماماً كما يفعل الآباء والأبناء.

* شاعر وكاتب سلوفيني.
 
أعلى