أحمد الشهاوي - تهمة اسمُها خدش الحياء العام

ولد الإنسان حييا بالفطرة، والحياء من الإيمان، وهو خُلقٌ يلازم صاحبه، والحياء عند الشارع أو المشرِّع كلمة غامضة، واسعة، ثوبها فضفاض، تتسم بالعمومية وعدم التحديد، حمَّالة أوجه، فما أستحى منه أنا، قد لا يستحى منه آخرون، والحياء نسبى، ويختلف من طبقةٍ إلى أخرى، ومن شعبٍ إلى آخر، ومن ثقافةٍ إلى أخرى، ومن دينٍ أو معتقدٍ إلى آخر، لكنه يظل سمةً تُميِّز المرء ولا تنقص منه، بل تضيف إليه، وما أكتبه أنا قد لا يعجب غيرى، وقد يرى فيه قلةَ حياءٍ، ومن ثم قلةَ دينٍ، وانعدامًا فى التربية والأخلاق، وأن كتابتى تخدش الحياء، أى حياء إذن هذا الذى يمكن الإمساك به، ويحدِّده الشارعُ فى قانونه أو دستوره.

مقالات متعلقة

سيف الحياء!

شوية خدش حياء من فضلك!

فـ«خدش الحياء» تهمة مقيدة لحرية التعبير والرأى، ومخالفة للمبادئ العامة التى جاء بها الدستور المصرى، كما أنها تهمة زئبقية ملتبسة، لا تجوز ولا تصح فى بلدٍ محمولٍ على دستور وقوانين، وليس على نوايا قُضاة ذوى أيديولوجيات واتجاهات فكرية ودينية سلفية متشدِّدة، وستظل تهمة غريبة ذات صياغة مرتبكة معنىً ومبنىً، ولو عدنا إلى الحياء دينيًّا «إسلاميا» ولغويا فى القواميس والمعاجم، وعند أئمة وثقات اللغة لرأينا ألف تعريفٍ للحياء، بدءًا من حديث النبى محمد عليه الصلاة السلام، وحتى الفقهاء على اختلاف مشاربهم ومذاهبهم، فأى مفهوم أو تعريف للحياء يمكن للشارع أن يعتمده فى الحكم على شاعرٍ أو كاتبٍ أو أى صاحب نصٍّ أدبى، أو مُصنَّفٍ فنى.

وما دامت العبارة تخضع للتقدير تبعًا لثقافة وبيئة ومزاج الشخص «المُشرِّع»، فينبغى إلغاؤها، والتخلُّص منها، وعدم الالتفات إليها، لأنها مَعِيبة، وتهمة «خدش الحياء العام» لا تستوجب السجن عامين لكاتبٍ «أحمد ناجى نموذجًا فى مصر »، إنما هو التشدُّد والتعسُّف من قِبَل الذى أصدر الحكم.

ولو أن فقهاء وأئمة عظامًا كابن حزم الأندلسى وجلال الدين السيوطى وابن داوود الأصبهانى يعيشون بيننا لتم سجنهم ألف عامٍ وليس عامين فقط، حسب الذائقة المُتشدِّدة لمن فى يدهم أمر الحبس والتقييد فى بلادنا.

وفى زماننا هناك من يفتى بحرمة بيع دواوين الشِّعر، وحرمة بيع كتب الفلسفة وعلم الكلام، وحرمة بيع كتب الحلاج ومحيى الدين بن عربى وابن سبعين وعمر بن الفارض وعفيف الدين التلمسانى، وأقرانهم من أقطاب التصوف، وأنه لابد من إتلاف كتبهم بالحرق أو الغسل بالماء (وتلك طريقة عربية قديمة كانت تستخدم فى إتلاف الكتب التى كانت تُخطُّ قبل ظهور المطبعة، فيسيل حبرها المكتوبة به، وتصير بيضاء من أى حرف).

وقد قرأت (كتابًا) غريبًا عجيبًا عنوانه: كتب حذَّر منها العلماء (لكن لم يعد فى زماننا ما يُحيِّر ويُذهِب العقل من فرط تكرار الأمر) وضعه أبوعبيدة مشهور بن حسن آل سلمان، وقدمه بكر عبدالله أبو زيد (تم تقديمه على أنه فضيلة الشيخ)، ومن الواضح أن واضع الكتاب ومقدمه لم يقرآ الكتب التى حذَّر منها علماؤهما، وهما سلفيان وهابيان عتيدان، يأخذان الناس بالشبهات، ويريان أن هذه الكتب تخدش حياء قارئها، وتجعله يتشكك فى دينه، معتمديْن بالأساس على ابن تيميه الذى هو «نبى» الوهابيين والسلفيين، حيث هو المرجع والمآل، وما ذكره مقدَّس، لا ينبغى مخالفته أو نقده أو الرد عليه، وأن أى كتبٍ تردُّ على ما جاء فى كتبه ورسائله مصيرها المصادرة، وسب مؤلفيها وإقصاؤهم، والنيل منهم.

ويتصور السلفيون- والوهابيون فى المقدمة منهم- أن من لم يسلكوا مسلكهم فهم ضالون ومُضلُّون، إذ هم- مثلا- يرفضون كتب طه حسين (الوعد الحق، مرآة الإسلام، الشيخان، الفتنة الكبرى، على وبنوه، حديث الأربعاء...)، ويحذرون الناس من قراءتها، ويرون أن مؤلفها كذَّاب ومخادع، يعمل على هدم القيم الإسلامية «كذب على الناس»، لأنه أعاد طباعة كتاب رسائل «إخوان الصفا»- وهى عندهم من المحرمات ومن دواعى الكفر- لمجرد أنه طه حسين كتب أن إخوان الصفا «قوم مُجدِّدون مصلحون»، بينما رأى ابن تيمية أنها كتب «ظاهرها الرفض، وباطنها الكفر المحض».

وفى كتاب «كتب حذَّر منها العلماء» – ويقع فى مجلدين، وهو كتاب فخم مدعوم السعر، أى يباع بسعر رمزى كعادة كتب السلفيين الفاخرة ورقا وتجليدا وعناية بالطباعة والنشر، سنجد تحذيرًا وتحريمًا ومصادرةً لكتب: رسائل إخوان الصفا، شمس المعارف للبونى، حيل اللصوص للجاحظ، كتب يوسف بن إسماعيل النبهانى، وهو صاحب الكتاب الأشهر والمحبب لى والقريب منى «جامع كرامات الأولياء – مجلدان» ويباع فى مصر، وله انتشار واسع، ولا غنى عنه لشاعر أو روائى أو صوفى أو أى بنى آدم أيا كانت ملته، ويحكى أن الروائى الكولومبى العالمى جارثيا ماركيث كان يعتمد هذا الكتاب مرجعا له ولا يفرقه أينما حلَّ.

ومن الكتب المحذَّر منها أيضا وهى كثيرة، وفى بعضها طامّات: بدائع الزهور فى وقائع الدهور لابن إياس، الأغانى للأصفهانى، العقد الفريد لابن عبده ربه الأندلسى، كتب الجاحظ، الدرة الفاخرة فى كشف علوم الآخرة، ألف ليلة وليلة، الكامل للمبرد، ومن كتب المعاصرين المصريين غير طه حسين، هناك فجر الإسلام، وضحى الإسلام، وهارون الرشيد لأحمد أمين، ومن مصادر التاريخ الإسلامى لإسماعيل أدهم، ومعاوية فى الميزان لعباس محمود العقاد، قرطبة حاضرة الخلافة الإسلامية فى الأندلس للدكتور عبد العزيز سالم، حياة محمد لمحمد حسين هيكل، رجال حول الرسول لخالد محمد خالد، وهموم داعية لمحمد الغزالى، وشرح كلمات الصوفية والرد على ابن تيمية لمحمود محمد غراب، وبالطبع أى كتب فيها طعن على «الإمام المجدد» محمد بن عبد الوهاب ودعوته السلفية، بل وصل الأمر ولا أريد أن أقول الفُجر أو الخطأ العلمى «إذ لا علم ولا منهج فى الكتاب الذى هو منذ عنوانه تحذير ومنع وتنبيه وأمر وتخويف وسب و...» أن حذر من كتاب مازال مخطوطا لم يحقق ولم ينشر، وما زال محبوسا فى أرفف دار الكتب والوثائق القومية فى مصر، هو «منهج المعارج لأخبار الخوارج».

ومن الكتب المحذَّر منها فى موضوع العشق كتاب «الواضح المبين فى ذكر من استشهد من المحبين» الحافظ مُغُلْطاى الحنفى (المولود بمصر سنة 689 هجرية – 1290 ميلادية – والمتوفَّى سنة ٧٦٢هـجرية).

أما الغريب فى أمر من وضع كتاب «كتب حذَّر منها العلماء» فتحذيره من كتاب «الكامل فى اللغة والأدب» للمبرد (ولد 10 من ذى الحجة 210 هـجرية /825 ميلادية، وتوفى عام 286 هـجرية /899 ميلادية) هو أحد العلماء الكبار فى علوم البلاغة والنحو والنقد، وقد عاش فى العصر العباسى فى القرن الثالث الهجرى (التاسع الميلادى).

وكان «أعلم الناس بالنحو بعد سيبويه»، وكان من كبار علماء عصره فى اللغة والشِّعر والنحو، ويعتبر رئيس النحويين بلا منازعٍ، وإمام عصره فى الأدب واللغة، وقد درستُ هذا الكتاب وأنا فى السنة الأولى بقسم الصحافة، ولأنه كان سِفرًا ضخمًا فلم يكن مقرَّرًا علينا كله، ولكننى أنهيته كاملا، وعدت إليه مرات بعد تخرجى فى قسم الصحافة، ولم أر فيه مرة واحدةً شيئًا يمكن تحذير العامة أو الخاصة مما جاء فيه «من سموم وضلال وفساد» أو أنه «عملٌ مُضلٌّ».
 
أعلى