مقابلة نبيل محمود.. الفن والأدب معرفة جمالية من نوع خاص لاقترانها بالمتعة واللذة الذهنية...

نبيل محمود.jpg

يسر موقع أنطولوجيا السرد العربي أن يرحب بالشاعر الأستاذ نبيل محمود القاص والناقد والفنان التشكيلي أيضا وأيضا، القادم من دار السلام الطاعنة في المجد، بغدان مدينة المنصور مركز حاضرة بني العباس، الزوراء عاصمة بلاد الرافدين حيث تتعانق الحضارات والاساطير والشخصيات الخالدة اور وام الربيعين والحدائق المعلقة، جلجامش وانكيدو وزهرة الخلود، الشاعرة بلبالة إنخيدوانا انانا شهرزاد الاميرة والسيدة السومربة، حمورابي وحكايات الف ليلة وليلة والسندباد والرحلات العجبية الى جزر اليابان، الوراقون المتنبي في شارع المتنبي، البخور ورعاة التاريخ العريق، مدارس النحو والحكمة والمنطق وايقاع الشعر على طرقات الحدادبن على الفضة..
كتب نبيل محمود قصيدة النثر واصدر اربعة دواوين شعرية، كما كتب القصة والنقد الأدبي وله تجارب في الفن التشكيلي، نلتقيه لنحاوره حول القصة ونستقصي صوت القاص في أعماقه وحول بعض الهموم الثقافية وأنماط الكتابة التي تشكل منجزه الابداعي وقدرته على استيعاب كل فنون التعبير التي تشكل بعضا من اهتماماته الفكرية والفنية والسياسية وعطائه الابداعي الجميل والرصين..


حاوره نقوس المهدي


***

* وقبل هذا كانت البدايات.. كيف تكونت علاقتك مع الكتابة ؟.. يقول هوراسيو كيروغا ضمن وصاياه في "دليل القاصّ للكمال": ( عليك أن تؤمن بأستاذية هؤلاء: إدغار آلان بو، غي دو موباسان، روديارد كبلينغ، أنطون تشيخوف، كما تؤمن بالله نفسه.) بمن يؤمن نبيل محمود؟

** البدايات محكومة بالصدفة، غالباً، كالولادة.. مثلما أن النهايات محكومة بالضرورة، قطعاً، كالموت..!
فمِن درْس (الإنشاء) في الدراسة المتوسطة.. مروراً بكشك صغير لبيع سلسلة روايات الهلال (روايات عالمية) المختصرة جداً.. ووصولاً إلى المكتبات الكبرى والمؤلفات الرصينة والثقيلة..! كانت رحلتي المعرفية. لم تقتصر البدايات على قراءة تلك المختصرات التي ألحقت ظلماً فادحاً بتلك الروائع الأدبية كما اكتشفت لاحقاً! حين مضيت في قراءتها بترجماتها الموسعة.. فقد تزامنت تلك القراءات مع قراءة القصص التي توصف عادة بـ (البوليسية).. مثل سلسلة شارلوك هولمز وأرسين لوبين واجاثا كريستي.. والتي كان لها الفضل بإحكام البنية المنطقية لذهني.
بعد ذلك جاءت القراءات الرصينة للمؤلفات الأدبية بنصوصها المترجمة المعروفة ورافقتها قراءات للتيارات الفكرية السائدة حينذاك.. الماركسية والوجودية والتحليل النفسي إضافة لتراثنا التقليدي. وكذلك الكتابات الفكرية والفلسفية بشكل لا يخلو من المكابرة! والعشوائية والارتباك بحكم كونها قراءات غير منهجية.. وما يُحسب لتلك القراءات هو تنمية الحس النقدي عندي بشكل جنّبني من الوثوقية والتقولب في إطار ضيق.. بحكم تضارب المبادئ والمناهج لتلك الأفكار.. إن الحديث عن قائمة نهائية أو مفضلة غير ممكن.. في زحمة الأسماء من كتّاب العربية المعاصرين، فضلاً عن القدامى، والأعمال المترجمة للمفكرين والكتّاب العالميين..
إن الكينونة الأدبية لكل كاتب-ة محكومة بجملة من العوامل الذاتية والموضوعية وتخضع لصيرورة معقدة لا تكف عن إنتاج وإعادة إنتاج الكاتب-ة وإبداعه-ا. وهذا نابع من خبرة الكاتب-ة الحياتية الواقعية والمعرفية (وهنا تشكّل الثقافة والمعارف أهم عناصر هذه الخبرة).. فليس على الكاتب-ة أن يمضي إلى البحر لكي يكتب عن البحر.. فالتحصيل المعرفي يجعلنا وكأننا نعيش في أكثر من مكان ونعاصر أكثر من زمان. وإن صحّ هذا فمن جناية الكاتب-ة على نفسه-ا الركون إلى مجموعة من الأعمال أو مجموعة من الكتّاب، فبالأضافة إلى التكوين الذهني يلعب المزاج دوراً لا يقل أهمية خاصة في طور الشباب. إن قوس اغلاق قائمة القراءات لا يأتي إلا عند نهاية الحياة التي من شأنها هي أن ترسم ذلك القوس الأخير!.. لذلك فقائمة قراءاتي ظلت وستظل مفتوحة..
ومن هنا تأتي نظرتي إلى فرادة النص الأدبي (وهنا طبعا أقصد النصوص الجيدة وليس أي نص)، وعدم قابلية تكراره، فالتحديد هنا يُشبه تماماً كمن يريد كتابة نص بحرف واحد، أو تشكيل لوحة بلون واحد، أو انتاج عمل موسيقي بنغمة واحدة!.. التنوع والتعدد من طبيعة الأشياء والإنسان، والاختزال والاقتصار على عدد محدود ليست مناقضاً للطبيعة البشرية فحسب، ولكنه خطِرٌ أيضاً! فهو يقف وراء كل تعصّبٍ وكل تمييزٍ للجزء على حساب الكل، والمدخل لإغفال غنى الوجود وتدفقه الثرّ.. واحتمالاته اللامتناهية.. وباختصار فأنا قارئ لكل شيء وفي أي حقل من الحقول المعرفية – طبعا بحدود طاقتي ووقتي- (ما أوسع البحر/ وما أصغر كأسي)!
أما الكتابة فأراها كمفارقةٍ كبرى! فهي من جهة عمل خاص جداً وفردي جداً والكاتب-ة (مثل الحِرَفي القديم) اثناء انتاجه-ا للنص، ومن جهة ثانية تحكمهما، لاحقاً، قوانين الانتاج الصناعي وما يُسمّى باقتصاد السوق، عند طبع ونشر وتوزيع العمل الأدبي.. حتى تكاد أحيانا آليات التسويق ودورة التبادل والرواج تتقدم على جودة العمل الأدبي وأهميته.. إضافة إلى الاعتبارات الأخرى.. السياسية والعلاقات المصلحية والسلطوية في عالم الثقافة والأدب.. إلخ.


* 2- (إن الأدب هو أفضل ما تم اختراعه للوقاية من التعاسة) كما يقول يوسا.. هل نستطيع الجزم بأن الأدب لايزال يكتسب نفس الدور في التأثير على المجتمع ؟

** لا أعلم من المقصود هنا، تعاسة الكاتب-ة أو القارئ-ة أو عموم الناس، والكثير منهم لا يقرأ، ونسبة ليست بالقليلة منهم مبتلون بالأمية.. فالتعاسة تحوم في سماء البشر ما دام الظلم ملازماً للأنظمة الاجتماعية بهذا القدر أو ذاك. فأية وقاية ممكنة في عالم تتكاثر فيه التعاسات حتى وإن لم تكن تعاستنا الخاصة؟
إن الحقيقة الفنية، الأدبية، الشعرية.. هي حقيقة فاتنة! لا ريب في ذلك.. ومثيرة بمحاولتها القبض على الكلي الخفي بدِلالة الجزئي المحسوس. فهي توسّع من دائرة الاحتمال والتأويل بمغامرتها الخيالية ونشاطها الحر والمنفلت من الاشتراطات الكمية العلمية للذهن البشري. وترغم الحقيقة العلمية – في أحيان كثيرة - على ارتياد مجالات ربما ما كان لها أن تجرؤ على مقاربتها بمعاييرها البرهانية الصارمة.. ويمكن الإشارة هنا إلى بعض ما ساهمت به قصص الخيال العلمي في هذا الشأن. فهذه الحقيقة (الفنية - الأدبية ـ الشعرية) كأنها تبتدع فردوساً أرضياً محتملاً بمزجها بين الواقعي والحلمي.. مقابل الفردوس الأخروي في الفكر الديني.. وبهذا المعنى فقط يمكنني أن أفهم مقولة يوسا حول (الوقاية من التعاسة).. أي تقديم جرعات من الأمل ضد الكابوس المقلق والعنف القاني الذي لا يزال يصبغ التاريخ البشري وهو يجتاز منعطفاته الحادة والمرعبة منتقلاً من حقبة إلى أخرى..
إن الفن والأدب معرفة جمالية من نوع خاص لاقترانها بالمتعة واللذة الذهنية، ترتقي بالوعي البشري ولكن ببطء شديد جداً.. عبر صياغة الوجدان الجمالي للإنسان. وهنا استحضر تساؤلات لغادامير من كتابه الحقيقة والمنهج (أفلا توجد معرفة في الفن؟ ألا تنطوي تجربة الفن على ادعاء الحقيقة التي تختلف بالتأكيد عن حقيقة العلم، ولكنها ليست دونها بالتأكيد؟ ألا تؤسس مهمة علم الجمال بدقة حقيقة أن تجربة الفن إنما هي نمط فريد من المعرفة، يختلف بالتأكيد عن تلك المعرفة الحسية التي تزوّد العلم بالمعطيات الأساسية التي يبني منها معرفة الطبيعة، ويختلف بالتأكيد عن المعرفة العقلانية الاخلاقية برمتها، وعن المعرفة التصورية كلها؟)
أما بخصوص التأثير فلن أبالغ بالقول أننا قد نحمّل الأدب أكثر من طاقته ونطلب منه بأن يلعب دوراً لا يمكن أن يؤدّيه بشكل مباشر.. فحسب الأدب أن يساهم بصياغة الوجدان الجمالي للأفراد-القراء.. وهذا ما أسمّيه بـ (الخلاص الجمالي).. اقتداءً بقول أحد أكثر الكتّاب أثراً في نفسي.. ديستويفسكي (إن الجمال سوف ينقذ العالم).. فالجمال الحقيقي ينهل من نبع لا يمكن أن تخالطه الشرور.. أما التاثير الحاسم والمباشر في تغيير المجتمع فلا يمكن أن يكون إلا عن طريق الأفراد الفاعلين والناشطين في مختلف مجالات الشأن العام.. وهؤلاء – أحزاب، نقابات، اتحادات، ناشطون سياسيون.. إلخ – تكون أدواتهم المعرفية في التأثير والتغيير مستقاة من العلوم الاجتماعية أكثر مما تستند إلى الأدب. ومع ذلك وإن كان تاثير الأدب المباشر محدوداً، لكنه ممتدٌّ وراسخٌ في الوجدان البشري ومتجاوزٌ لظرفه المكاني والزماني، فهكذا ظلت تلك الابداعات العريقة حيةً وماثلةً في النفوس، إنها الحقيقة الفاتنة العابرة للعصور..

* 3- اصدرت 3 دواوين وكتبت نصوصا يمتزج فيها الشعر بالقصة، وتهتم بالنقد الادبي والفكر الفلسفي وبالرسم ايضا، وكتبت عددا مهما من القصص القصيرة اين تجد نفسك بين كل هذه الاهتمامات؟

** وصدر الرابع مؤخراً، يحتوي بعض القصائد في قسم منه، وفي قسمه الآخر خضت فيه تجربة الكتابة الشذرية أو الومضية المكثفة.. التي تحاول القبض على تلك المفارقات المعبرة عن تناقضات الحياة الواقعية والنفسية والعاطفية, بصورة شعرية واحدة ومختزلة، وتعابير تقترب من شكل الحكمة لتلخيص تجربة حياتية معقدة.
قد يرى البعض في تعدّد الاهتمامات هذا تشتّتاً وتوّزعاً لكنني أرى فيه طموحاً ومحاولة ضد شتى الاستلابات، وتعبيراً عن توق عميق لاستعادة الفرد لتلك السلطات التي شتّتت فرديته وفتّتت كليته الإنسانية.. وربما كان تحقيقاً لرغبةٍ لم أنجزها في كتابة رواية، وهي الأقدر على التعبير عن هذا التنوع والتعدد للمعمار النفسي المعقد لوجودنا الاجتماعي في مدينة كبيرة.. فكتابة رواية يستلزم حداً أدنى من الاستقرار النسبي العام، وظرفاً هادئاً بعض الشيء، وهو ما لا يتوفر حالياً في هذه المرحلة من جو المنطقة الانفعالي المتسارع والمضطرب، في خضّم الاهتزازات والرجّات التي باتت تضرب مدن المشرق الكبرى بشدة وعنف. لذا يظل الشعر، بحكم كون انجاز نصه الواحد لا يتطلب وقتاً طويلاً ويتفق مع الجو الانفعالي السائد، هو الشكل الأنسب للتعبير في ظل هذه الظروف، وإن كان لا يغطّي كامل مساحة الوجدان والعواطف والأفكار المحتدمة في النفس. وما ذلك الحضور للسردي في العديد من قصائدي إلا وكأنه تعويضٌ عما لم أجرب خوض غماره (اقصد الرواية). لذلك يقال بشكل مجازي أن عدد الشعراء بالعراق بقدر عدد نخيله!.. ومع ذلك فقد ظهرت روايات هامة وبارزة وبشكل يتزايد باستمرار وبدأت بتغيير المشهد الأدبي لصالح السرد!.

4- في كتاباتك توظيف كبير لأسماء سومرية وآشورية ورموز رافدينية عديدة لماذا هذا الاهتمام المكثف بهذه الامور في الكتابة الادبية؟

لابد لي بداية أن أشكرك على طرح هذا السؤال، فهو يتيح لي الحديث عن مجال معرفي زاخر بالكثير من الاكتشافات في تاريخ الوعي البشري رغم أنه يكاد أن يكون مجهولاً لدى الكثيرين. إن هذا التوظيف لتلك الرموز ليس زخرفاً خارجياً للكتابة أو استعراضاً للمعارف بقدر ما هو محاولة للفت للانتباه لما في ذلك العالم المعرفي من غنىً وثراء لم يأخذ حقه من الاهتمام والبحث والرصد. فمنذ تعرفي مبكراً إلى ملحمة جلجامش، أسرني وفتنني ذلك العالم، ورحت أبحث عن المزيد من الكتب التي تضيء لي أحوال وطرق وانماط عيش وتفكير وتصورات تلك الأقوام البائدة واقعياً ولكن الحاضرة بأفكارها وتصوراتها التي تسللت بشكل أو بآخر في معارف العصر الحديث، كما سأوضح ببعض الأمثلة. فكم بهرتني، مثلاً، بداية تلك الملحمة عن أنكيدو وقصته مع البغي شمخات واستدراجه من قبلها إلى الدخول في عالم المدينة.. ففيها كل العناصر الأساسية لقصة السقوط، الخطيئة الأولى، في القصص الدينية عن حواء وآدم!.. (وإن كان الانتقال هنا أفقياً، في حين أنه في الرواية الدينية كان عموديا!).. حتى قصة ذلك الضلع نجده في قصة أخرى من قصص تلك الأقوام.. أنكيدو الذي أغوته البغي شمخات وأخرجته من دائرة الطبيعة إلى دائرة المدينة.. تنفيذاً لخطة موضوعة من جلجامش بحيث هجر عالمه القديم.. عالم البرية ونفرت منه الحيوانات التي كان يرافقها، فمضى إلى المدينة وصراعاتها حتى لقي حتفه فيها بعد مغامرات عجيبة وغريبة.. تلك النهاية التي جعلت جلجامش (الطاغية) يتحول ويطرح لأول مرة في أول نص أدبي مدون في التاريخ.. السؤال الأزلي عن المصير الفردي للإنسان.. سؤال الموت والخلود والسعي لنيله في رحلة غرائبية.. وليواجه هذه المرة بتلك الحكمة التي لا زالت سارية حتى يومنا على لسان سيدوري (صاحبة أقدم حانة في التاريخ)..: افرح بما لديك! فإن الخلود من نصيب الآلهة والموت قدر الإنسان المحتوم.. والكثير من الثيمات الأخرى كقصة الطوفان.. هي بذور للقصص الدينية المعروفة.. التى تفوق في كونيتها وسعة عوالمها وتغطيتها لكل ما واجه ويواجه الإنسان من قضايا وجودية كبرى..
في قصة الخليقة البابلية حينما في العلى.. نلاحظ اختباراً طريفاً لمردوك قبل أن تسلمه الآلهة القيادة في المعركة الضارية ضد تيامات، اختباراً لقدرته على الخلق بنطق (الكلمة)..! بحيث ينعمون عليه بالأسماء (الخمسين) في إشارة إلى قدراته الخارقة.. (ويتوجب أن لا يغيب عن ذهننا أن مفهوم الرقم 50 عندهم ليس كما هو في مفهومنا عنه بأنه نصف المائة، فالبابليون كانوا يعتمدون النظام الستيني).. وكذلك أصل قصة شطر الكون إلى نصفين كما جاءت في سفر التكوين حينما يقوم مردوك بشطر تيامات إلى نصفين الأرض والسماء.. وبصراع لم نشهد مثيلاً له في قسوته وعنفه ورعبه.. ومن ثم استكمال خلق بقية الموجودات.. يصف الأستاذ طه باقر هذا الصراع بأنه صراع بين الآلهة القديمة والآلهة الجديدة.. فيما هناك آراء تذهب إلى أن هذه القصة تمثّل صراعاً وانتقالاً من عصر إلى آخر، من حياة الصيد والرعي إلى حياة الزراعة، في زمن ضارب في القدم. قبل ترسّخ النظام البطرياركي وأفول نظام أقدم منه هو النظام الأمومي.. وقبل أن يتم اكتشاف وسيلة للتدوين – الكتابة – والتعبير عن ذلك أسطورياً بالصراع بين آلهة أنثوية وآلهة ذكورية، فكتب المنتصرون كالعادة تلك القصة وفقاً لمنظورهم، وطُمست آثار ومآثر المهزومين، لذلك جاءت تلك النعوت الشريرة والقاسية التي لحقت بتيامات!
ومَن لم تأسره تلك العبارة التي تغنّى بها الكثيرون في العهد القديم (في البّدء كان الكلمة).. فأعثر على هذا التعليق لأحد أكثر النابغين والنابهين الذين بحثوا ودرسوا الحضارات العراقية القديمة، وأقصد به (صمويل نوح كريمر)، أقتبسه من كتابه (من ألواح سومر): ((أما عن أساليب الخلق التي اتبعتها تلك الآلهة الخالقة فقد وضع الفلاسفة السومريون مبدأ صار عقيدة سائدة في جميع الشرق الأدنى – وهو مبدأ القوة الخالقة "للكلمة" الالهية. فبموجب هذا المبدأ كان كل ما ينبغي للإله الخالق أن يفعله هو أن يصمم الخطط ويقول "الكلمة" وينطق بالاسم (اسم الشيء المراد خلقه). والمرجح أن تكون هذه الفكرة الخاصة بالقوة الخالقة للكلمة الإلهية استنتاجا قياسيا مأخوذا من مشاهدة المجتمع البشري أيضا. فإذا استطاع مثلا الملك البشري أن ينجز كل ما يريده تقريبا بإصدار أوامره – أي لا شيء غير الكلمات الصادرة من فمه – فمن باب أولى يكون بمقدور الآلهة الخالدة، التي تسمو على البشر والموكلة بأجزاء الكون الأربعة الأساسية، أن تنجز أعظم من ذلك. بيد أن هذا الحل السهل لتلك القضايا المتعلقة بأصل الوجود والأشياء، حيث"الفكر" و "الكلمة" وحدهما أهم شيء، إنما هو صورة تعكس لنا ذلك الحافز البشري في تحقيق الأشياء بالركون إلى مجرد الرغبة في التحقيق، مما يميز جميع البشر تقريبا إبان الحاجة والشدائد.)).. ألا يستدعي هذا إلى أذهاننا عبارة (كن فيكون)؟!.. فلنتأمل بالتعليل والتفسير الذي يسوقه.. (والمرجح أن تكون هذه الفكرة الخاصة بالقوة الخالقة للكلمة الالهية استنتاجا قياسيا مأخوذا من مشاهدة المجتمع البشري أيضا.).. ألا يجرّنا هذا لمراجعة ما قرّ واستقرّ في أذهاننا من أفكار وقيم لها قداسة اليقين الراسخ!.. وافتتان الكثيرين بنشيد الانشاد بمزاميره والذي هناك من يرى فيه اقحاماً على المجال الديني لحسيته وشهوانيته، وما هو في حقيقته إلا تقليداً لأدب وأناشيد حب أقدم منه بكثير من أصول سومرية وبابلية.. جرى إقحامها في متن العهد القديم خلال مرحلتي السبي البابلي لليهود وفي فترة مكوثهم هناك لعقود وتشربهم وتمثلهم لتلك القصص والأساطير التي وجدوها أمامهم..
لو وضعنا كل هذا في اعتبارنا فلن يكون صعباً علينا تبيّن حقيقة استهداف المتحف العراقي وأسبابه بعد 2003 وكل الآثار العراقية، حتى غير المكتشفة، والجهات التي تقف خلفه!
إن تاريخ اكتشاف آثار تلك الحضارات وترجمة بعض نصوصها – بحدود منتصف القرن التاسع عشر – لو تسنى له أن يدخل التداول المعرفي قبل ذلك التاريخ لغيّر الكثير من صورة المعرفة الأوربية التي ترسخ أن رافديها الأساسيين هما الفكر الإغريقي والعهد القديم.. فها أن باحثاً آخر فرنسياً بالآشوريات، مؤلف كتاب (ولادة إله – التوراة والمؤرخ)، ومحاورات مطولة تحت عنوان (بابل والكتاب والمقدس).. يقول جان باتيرو في كتاب آخر له، (بلاد الرافدين/ الكتابة-العقل-الألهة).. ((إن "أعجوبة" مزدوجة أوقفت المؤرخين مدة طويلة في طريق عودتهم نحو أصولنا: صورة الكتاب المقدس، "أقدم كتاب في العالم"، كتبه الله وأعطاه البشر ليقدم جواباً نهائياً لجميع أسئلتهم، و "الأعجوبة اليونانية" الشهيرة التي كانت تفترض ضمناً، قبل مؤلفيها، كوناً من أشباه قردة لم تكد تنحدر عن أشجارها أو تخرج بخوف من مغاراتها. ولكن ليس ثمة مؤرخ جدير بهذا الاسم ويتمتع بكامل وعيه، يرى من الأن بدايات مطلقة، ليس في الكتاب المقدس ولا عند الإغريق. إنما يرى فيهما مرحلتين كبيرتين على طريق يمتد إلى أبعد بكثير وإلى أعلى بكثير، ولا يتوقف إلا بين دجلة والفرات، ويصل إلى مداخل عدم اليقين والظلال ثم إلى ظلمات ما قبل التاريخ المتكاثفة.))..! وعذراً للإطالة والتركيز على هذه المقتبسات فهي ليست محاولة معكوسة مني في مواجهة نزعة "مركزية الثقافة الأوربية"، بقدر ما هي محاولة لوصل خط التطور الإنساني والتراث المعرفي البشري بخيط متصل يكشف الحقيقة، ولا يغمط حق الحضارات البشرية المتعاقبة ولا يغفل دورها ومساهمتها في المعارف الحضارية والوعي البشري وبنية العقل الإنساني الكوني.. وأسمح لنفسي بشيء من اللجاجة! في إيراد مثل آخر حول موضوع تناوله هيجل في "جدلية السيد والعبد" الشهيرة في كتابه فينومينولوجيا الروح.. فأمضي بمقارنته بحوار بابلي قديم بين سيد وعبده.. وإن جاءت بشكل حوار أدبي طريف لكنها لا تخلو من بعد فلسفي مضمر لكنه يفتقر للصياغة المفهومية.. ففي حوار طويل بين سيد وعبده يجاري رغبات سيده وتقلبات مزاجه وأهوائه لينتهي بنهاية توجز الحكمة التي تكتنف هذه العلاقة المعقدة.. حيث ينهي العبد الحوار بمكرٍ لا يخلو من حقيقة بعدما ما كان يساير سيده طيلة مراحل الحوار مؤكداً وبتلميح ذكي إلى تبعية السيد للعبد! في حياته ووجوده.. :
(السيد: إذن، كلا، أيها العبد! سأقتلك وارسلك أمامي!
العبد: أجل، ولكن سيدي لن يعيش بعدي ثلاثة أيام!...)
(طبعاً لا يجب الظن بأنني أقلل من شأن الجهد الفلسفي لهيجل والذي جاء في سياق تطور فلسفي وتاريخي مختلف، ولكنني أتخيل كم كان هذا النص سيغني من عمل هيجل لو أتيح له أن يطلع عليه..)
وهناك حوار يوصف عادة بحوار المعذب أو المتشائم، ويعدّه الكثيرون الأصل القديم لقصة أيوب وصبره..
إن مجلدات كثيرة لن تستنفد الكلام عن تلك الحضارات الرافدينية في شقها الأدبي والملحمي والعقائدي والطقوسي.. وأضعافها لن تكون كافية لترجمة ألواح الطين التي ما زالت مخزونة في متاحف العالم المختلفة، حيث لم تحظَ بعد بالترجمة والبحث المناسبين لكونها تخص الجوانب الاقتصادية والتعاملات التجارية والمعاهدات والمراسلات في العالم القديم.. وربما الأكثر منها لا يزال مطموراً تحت الأرض.. هذه الحضارات التي تتعرض مكتشفاتها اليوم لأبشع حملة تدمير ودفن متعمدة هذه المرة! على يد الدواعش وقريناتها بحجة كونها شواهد تنتمي لحضارات "وثنية"! يجب طمرها ومحو ذكراها وإلى الأبد.. ولكن قصة هذه الحضارة المنقوشة على الطين لها ميزة تفوق تلك الشواهد المنحوتة على الصخر! فهي بأسلوبها المميز والمعروف بالتكرار، حيث الحوار يتم تكراره في أكثر من مكان وعلى لسان أكثر من شخصية، يمنح المتخصصين فرصة إعادة ترميم واستكمال نصوصها المهشمة أو المخرومة أو التالفة.. وصفتها العجيبة الأخرى بكونها منقوشة على الطين مما سهّل تدوين النص الواحد في أكثر من نسخة من الواح الطين جعلتها موجودة في أكثر من مكان واكثر من مدينة قديمة.. وهناك قصص مثيرة لاكمال النصوص الناقصة اعتماداً على هاتين الصفتين.. إنها ليست قصة حضارات ثرية فحسب، ولكنها قصص من الإثارة تشبه القصص البوليسية في تتبع النصوص واكتشاف آثارها!
وهكذا من يلج هذه العوالم المعرفية لا يملّ من غناها وطرافتها.. وهنا أختم الحديث عنها بلفت الانتباه إلى حقيقة أن تلك الحضارات لم تكن بالأزمنة الزاهية للبشر الكادحين.. أو كانت عصوراً ذهبيةً للإنسان السعيد.. ففي الكثير من أمثلتها التي وصلتنا، تظهر مدى قسوة وشظف العيش والكدح للفقراء المسخرين للعمل في قصور ومعابد تلك الأزمان، والآلام التي كابدتها تلك الأجيال لتشيّد تلك الصروح القديمة.. حالهم كحال فقراء كل العصور..!
مثل سومري : ((الفقراء هم الصامتون وحدهم في بلاد سومر.))
أو المثل : ((أولى بالفقير أن يموت، فانه إن حصل على الخبز عدم المأوى، وإذا كان عنده ملح عدم الخبز، وإذا كان له بيت عدم الفراش.))
وأعتذر عن الاسهاب بالحديث عن موضوع لا يمكن إلا أن يُغري المرء بالاسترسال وإلى المزيد من الحديث والحديث.. حيث سأرغم نفسي على التوقف، وحسبي أنني قد أوضحت أسباب اهتمامي وتعلقي وشغفي بهذا الموضوع الكبير والمتشعب والمثير والذي لم يُستنفد البحث فيه بعد!


* 5 - ما هي رؤيتك للعصر الذي قُدّر لك أن نكون أحد شهوده؟

** (أنت في المدينة
أنت متورّط في الشأن العام إذن..)
- من نصي، المدينة الحديثة
رؤيتي للعصر الذي قُدّر لي أن أكون أحد شهوده، وهو مما أعدّه من مسؤوليات أي كاتب أو مثقف في بيان موقفه وتسجيل شهادته عن عصره.. أنني ممن يرون أن الحاضر يفسر الماضي ويضيء آفاق المستقبل، ومعارف عصرنا لا تنير حاضرنا وتحاول التنبوء بالمستقبل فحسب، بل وكأنها مرايا عاكسة تنير ظلمات الماضي السحيق الذي قدمنا منه أيضاً، وهذا ما كان واضحاً في اجابتي عن السؤال السابق. في عصر لا يني يزداد عولمةً، أتبنى منهجاً يرى العالم كوحدة تحليل أساسية، فلا يمكن اليوم الحديث عن مكان أو جزء من العالم يحتفظ بخصوصيته بعيداً عن أحداث العالم كله وتأثيراتها.
لقد كان الانجاز الأبهر والأعظم للحضارة البرجوازية في العصر الحديث هو (الدولة-الأمة) عبر صراع طويل ضد عصور الاقطاع الأوربية وتقويضها للروابط القروسطية والهويات الدينية المذهبية المتنازعة والقبلية القديمة.. ونشوء وتطور المدن الحديثة الكبرى.. وملازمتها الضرورية (الليبرالية) ومنجزاتها الحضارية في كل المجالات. وهو ما يطلق عليه المؤرخ البارز إريك هوبسباوم (الثورة المزدوجة).. الثورة الصناعية الأنجليزية والثورة الفرنسية بتثبيها لقيم الحداثة وإعلانات حقوق الإنسان التي لا تزال تحظى بالاهتمام الكبير. وكان أوضح تحديد لجوهر أسس هذه الدولة من قبل ماكس فيبر حين جعل من أهم سماتها هو احتكار وسائل العنف وإدراتها من خلال أجهزتها البيروقراطية (والبيروقرطية هنا بمعناها الاداري والفني الايجابي) وسيادة القانون الذي يسري على الجميع دون استثناء، بدلاً عن الروابط المحلية والقرابية والشخصية القديمة. وقد كان قوام هذه الدول وسر ديمومتها هو التنظيم الضريبي لتمويلها للحفاظ على ما تقدمه من خدمات ورعاية لمواطنيها. هذه هي الصورة النموذج. فماذا يحدث اليوم على هذا الصعيد؟ إن أهم خطر يهدّد هذا الانجاز التاريخي هو بروز ظاهرة (خصخصة العنف) عبر شركات تبدأ من حماية الأفراد وتنتهي للانخراط في الحروب الكبرى تحت قيادة دولها أو من يدفع لها أجرها! وبذلك تلوح في الأفق بوادر تخلي هذه الدول عن أهم عناصرها الجوهرية – احتكار وسائل العنف–. ويترافق مع هذا ظاهرة الهجرة المزدوجة!.. هجرة الرساميل الكبرى بعيداً عن أوطانها الأم إلى الجنوب، عادة، أو إلى الملاذات الضريبية (أوف شور) والتخلي عن وظيفة إدامة التمويل المالي لهذه الدول كتهرب ضريبي مقنن!.. وهجرة قوة العمل من دول الجنوب المضطربة والمتهالكة شمالاً.. وإن كانت الدول الراسخة والعريقة لم تتأثر إلا بشكل طفيف عبر برامج تقليص الانفاق الحكومي للرعاية الاجتماعية بعد، لكنها دون شك ستعاني من ذلك على المدى البعيد. وما صعود التيارات اليمينية المتطرفة إلا التعبير السياسي عن الأزمة المقبلة والمحتملة مستقبلاً.
وماذا عن دول الجنوب، بعضها قد حظي بمكاسب من عمل تلك الرساميل المهاجرة فشهدت تطوراً وانتعاشاً ولكن رافقه تفاقم حاد في التفاوت الطبقي بين مداخيل المواطنين.
أما البعض الآخر من الدول فقد أصيب في الصميم، وهذا حال دول منطقتنا فقد بدأت هذه الدول بالانتقال الواحدة تلو الأخرى والتحوّل إلى ما بات يُعرف بـ (الدول الفاشلة).. فهي الحلقة الأضعف لنموذج (الدولة-الأمة). وأسباب ذلك عديدة ويمكن اجماله في سبب عام هو فشل الحداثة والتحديث في هذه المنطقة وبفعل عوامل ذاتية وخارجية عديدة. يمكن الرجوع بتاريخ بدء التحديث بشكل ما إلى عهد محمد علي بمصر.. فعلى مدى ما يقرب من قرنين من الزمان كانت الحداثة تسرع تارة وتبطئ تارة أخرى ولأسباب مختلفة. لكن المؤكد هو الفشل الذي نشهده اليوم، لما أسمّيه (الحداثة الهشة).. فقد كانت في طابعها العام حداثة نخبوية في مراكز المدن ولم تذهب بعيداً، إلى أعماق المجتمع والريف لتقويض الروابط التقليدية والبنية الثقافية القروسطية، ولإحداث تلك القطيعة المعرفية مع الماضي كما حدث بأوربا.. (من أبرز الأمثلة على ذلك هو فحص دساتير هذه البلدان وتلك الازدواجية الغريبة فيها.. ففي الوقت الذي تقر فيه بأن الشعب هو مصدر السلطات.. نلاحظ أنها تسارع وبخجل يشبه النفاق إلى إقرار أن الشريعة هي أحد أو أهم أو المصدر الرئيس للتشريع وهي بذلك تطعن بالصميم فكرة ومفهوم القانون في الدساتير الحديثة!). وبفعل التقسيم الدولي للعمل، فهنا دول تخصصت بتزويد السوق العالمية بالمواد الخام والطاقة وهناك دول تخصصت بالخدمات كالسياحة والوساطة والوكالة للشركات العالمية الكبرى.. إلخ، وكلها مستهلكة بمجملها. لقد تقوضت الاقتصادات الطبيعية، وازدحمت المدن بالمهاجرين من الريف ولكن دون تحويل المدن إلى مراكز حقيقية للإنتاج الصناعي المهيمن على كافة قطاعات الإنتاج، كما حدث بأوربا، لتستوعب تلك الافواج من الأيدي العاطلة عن العمل.. فكيف نستغرب اليوم من انخراط الأجيال الشابة المشحونة بالأيديولوجية القديمة في نشاطات مسلحة؟ وسرعة نكوص أفكار الحداثة وتقويض كل ما تم انجازه من مظاهر الحياة العصرية في المدن.. وهو ما يطلق عليه السوسيولوجيين، عادة، بترييف المدن.. والسرعة التي يستغرب منها البعض في تفتت وانهيار هذه الدول..
مشهد ذو مغزى: تحضيرات ولقاءات واجتماعات لموظفين ومسؤولين كبار لدول عظمى وكبار موظفي الأمم المتحدة ومنظمات إنسانية ومنظمات الإغاثة ومسؤولين وسياسيين لدول منكوبة بالصراعات المسلحة.. والهدف هو الاتفاق والتخطيط اللوجستي لتهيئة مستلزمات إيصال مئات أو آلاف الأطنان من المعونات الغذائية والطبية والإنسانية لسكان مدن محاصرة ومنكوبة ومبتلاة بالنزاعات المسلحة الدامية في منطقتنا.
والوجه الأخر والحقيقي للمأساة هو هذه الجماعات والأطراف المتقاتلة التي أحالت مدن بلدانها إلى خراب وسفكت الكثير من دماء مواطنيها... لم يعانوا مشكلة أو صعوبة في التمويل ولم يعدموا وسائل الحصول على أسلحتهم الفتاكة والثقيلة وبأضعاف قيمة وأوزان المساعدات الإنسانية بكل سهولة ويسر ودون ضجيج المؤتمرات واللقاءات الدولية أو التسهيلات اللوجستية! وكأنها هبطت عليهم من السماء بقدرة قادر!.. ما أشد بذاءتك وعهرك أيها العصر؟!
مشهد آخر: لم تكتف القوى المتصارعة بتدمير المدن وتهجير سكانها، بل ذهبت للمتاجرة بالملايين المشردة والهاربة من الحروب والمهاجرة وتوظيف هذه الماساة الإنسانية والتعاسة البشرية لعقد الصفقات وتحقيق المكاسب الاقتصادية والسياسية منها..! كما حدث مؤخراً من مفاوضات واتفاقات بين تركيا والاتحاد الأوربي.. وذلك عبر تسهيل وضبط إيقاع طرق الهجرة غير الشرعية أو تقييدها وفق المتطلبات السياسية..!
مشهد آخر: على خلفية تصريحات أحد جنرالات الجيش الإسرائيلي، مؤخراً، بالتعبير عن رأيه بأنه يرى في الأجواء ما يشبه الفترة التي سبقت بزوغ نجم هتلر! فيتم تغيير وزير الدفاع الإسرائيلي اليميني بآخر أكثر يمينية وتطرفاً في أكثر الحكومات يمينية منذ تأسيس هذه الدولة! هذه الدولة التي تراقب أحداث المنطقة الدامية عن كثب.. وكأنها تنتظر نفس الفرصة التي لعبتها الولايات المتحدة الأميركية في الحرب العالمية الثانية، حين دخلتها في اللحظة التي تيقنت من انهاك جميع الأطراف المشاركة فيها لتنقض في النهاية وتضع نهاية لها، ولترسم ترتيبات وخرائط العالم لعقود وتظل القوة المهيمنة في العالم.. ولكن الفارق هنا هو أن إسرائيل مسكونة بالأسطورة القديمة والخرائط الثيولوجية القديمة في رؤوس أصحاب القرار فيها، رغم كل ادعاءاتها بأنها دولة حديثة وديمقراطية، فالجنين الأسطوري يكاد أن يلد تلك الأحلام الغابرة ويحققها واقعاً سياسياً مفروضاً على منطقة ابتليت باستحضار كل أشباح وكوابيس الماضي..!
مشهد آخر: دول المشرق تستذكر هذه الأيام مرور قرن على اتفاقات سايكس-بيكو.. والبعض الذي كان يلعنها ليل نهار، بات اليوم ينظر بحسرة وأسف على تمزق وانهيار الدول التي تشكلت وفقها.. مهلاً ايها السادة ولا تحزنوا كثيراً فهناك من سيرسم لكم خرائط بديلة عنها، بعد أن تنتهوا من حروبكم العدمية وتستنزفوا قواكم وتبددوا ثرواتكم ومواردكم!!!
مشهد آخر: قبل عقود حدث أن منح البعض الولايات المتحدة الأميركية 99 بالمائة من أوراق اللعبة..! وها هي الولايات المتحدة الأميركية اليوم ترمي بهذه الأوراق أو معظمها بوجه أنظمة المنطقة المتهالكة.. ببراغماتيتها – والتي هي النسخة الأسوء من التجريبية الأنجليزية! – ولكي لا يبدو وكأنني أخلي مسؤوليتنا الكبرى عن مآسينا وألقي على عاتق الآخرين مآلات مصائرنا الحزينة وأبرر عدم قدرتنا على التصرف ولو بورقة واحدة من أوراق اللعبة الدولية!. فطيلة تاريخ تدخلات الولايات المتحدة الأميركية كانت تقدم الدرس تلو الاخر عما تتركه وراءها من خراب ودمار أينما حلّت. من أميركا اللاتينية وحتى شرق آسيا.. والجيل القديم يتذكر جيداً تلك الصورة المرعبة للجندي الأميركي وهو يثقب بسلاحه جمجمة الأسير الفيتنامي الأعزل بكل استخفاف.. والصورة الأخرى لمروحياتها وهي تخلي رعاياها مغادرة فيتنام تاركة عملاءها يحاولون التمسك بيأس بأذيالها!
مشهد آخر: وهي تبشر بالرخاء والديمقراطية كانت الولايات المتحدة أسوء من قام بدور (الرجل الأبيض)، بالمقارنة مع أدوار الدول التي سبقتها، كبريطانيا وفرنسا رغم فضائعهما في الهند وجنوب شرق آسيا والشرق الأوسط وأفريقيا.. فعلى الاقل تركا خلفهما نظماً للادارة والنظام.. فيما الولايات المتحدة الأميركية أينما حلت خلفت خراباً شاملاً وفوضى بلا حل.. وآخر الأمثلة هي (قاعدتها)! المشؤومة والممولة بريع النفط العربي.. وما تناسلت عنها من جماعات لم يشهد التاريخ مثيلا لها في وحشيتها.. وها هي اليوم تكاد أن تدير ظهرها لمشروعها الفضائحي (مشروع الشرق الوسط الكبير).. وما قد حذر منه جاك شيراك يحدث! من أنها تقوم بفتح صندوق باندورا لتنطلق منه كل الشرور وليظل الأمل حبيساً إلى أمد غير معلوم..
(العلم الأمريكي يحتكر النجومْ!
فأي نجم قد يهدينا إلى الضفافْ..)
من قصيدتي، فائض القهر.

إن النظام العالمي اليوم أكثر هشاشة مما يبدو عليه، وهو قابل للتداعي والانجراف في اية لحظة وبكل سرعة وسهولة إلى انهياره الشامل. وأكاد المح عالمنا المعاصر يدخل حقبة جديدة من التطرف والحروب الكبرى.. ومن أبرز مقدمات هذا هو صعود الأحزاب والتيارات الأكثر يمينية والأشد تطرفاً في الكثير من بلدان العالم..
ومع ذلك فإن التاريخ العام يخبرنا في الوقت ذاته بإمكانية وجود بديل أكثر رصانة وقوة مما يبدو للحفاظ على المكتسبات الحضارية. وإن كان الغموض يكتنف نوع وشكل هذا البديل.. فالتاريخ البشري، رغم مأساويته، محكوم بقانون غير خطي وغامض للتقدم!.. ولولا هذا لما برح الإنسان كهوفه القديمة وشاد ناطحات السحاب، ووثب تلك الوثبة العظمى ليطأ تراب القمر!.. ولما غادر الغابات والتوحش مبتكراً منها شكلاً نافعاً لحقوله العامرة وشكلاً مهذباً لحدائقه الجميلة!.. ولكن تظل هناك فرصة ولو ضئيلة لصدفة كونية كارثية تحيل كل هذه الكرة الأرضية العجيبة إلى سديم من عدم!
وأختم بما ختم الرائع مظفر النواب أحد أهم وأجمل قصائده الشعبية (أيام المزبن):
(موش انته صوچك يا شهم
دهرك وگع ناموسه)
= ليس ذنبك أيها الشهم،
فزمانك فقد شرفه..!



***


الإسم: نبيل محمود
تاريخ ومحل الولادة: بغداد 1953
التحصيل الدراسي: معهد النفط / دبلوم فني تخصص الاتصالات
موظف سابق ومتقاعد منذ العام 1996
دواويني المطبوعة:
1- رزايا الحكمة المتأخرة / 2013
2- المفارقات / 2014
3- تفاحات إيروس / 2015
4- حلوى الليل / 2016

* نصوص ومقالات متعددة فنية وأدبية وسياسية
- موقع الحوار المتمدن
نبيل محمود
روابط مدوناتي:
- شعر:
نبيل محمود - شعر Nabeel Mahmoud
- نقد وجماليات:
نبيل محمود - نقد وجماليات Nabeel Mahmouda
- مقالات:
نبيل محمود - مقالات Nabeel Mahmoud


.
 
هذا واحد من أعمق الحوارات التي قرأتها في النت، لا من جهة صياغة السؤال أو جهة تطويره و تعميقه.. و لا أقول الإجابة عليه، لأن المبدع القاص و الشاعر نبيل محمود كان معنيا في الحقيقة بطرح أسئلته التي تثقل فكره.. أكثر من اهتمامه بتقديم إجابات جاهزة و باردة...
أشعر بأنني ارتكبت خطأ كبيرا للأسف، بعدم التوقف بما يكفي عند أعمال الكاتب نبيل محمود، و التي أدهشتني أيما إدهاش قدرته الثقافية اللامحدودة على رسم ضفاف الإشكاليات و سبر إحداثياتها في زمن ولى فيه الشعر و السرد ظهرهما للقضية الفلسفية..
نحبك أيها الكاتب الكبير، و نفتخر بمصاحبتك هنا و في مطر...
 
أشكر مرورك أستاذ جبران الشداني.. وما جاد به قلمك من كلمات طيبة.. وأسعدتني كثيراً إشارتك، وبحق، إلى مسألة في غاية الأهمية (... في زمن ولى فيه الشعر والسرد ظهرهما للقضية الفلسفية..). فما أحوجنا إلى لحظة تأسيس معرفية تاريخية كبرى لتجاوز ما لابد من تجاوزه.. وهذا ما لا يمكن انجازه بغير روح البحث العميق والتمحيص النقدي والتحديق بجرأة في أسس وجودنا كلها.. وكما تفضلت هذا هو دور (القضية الفلسفية) بحكم قدرتها على مقاربة الأسئلة الجوهرية الكبرى.. أكرر شكري لحضرتك وللأستاذ والمبدع الموسوعي نقوس المهدي لسعة صدره ولإتاحته لي فرصة الحديث بإفاضة أرجو ألا تكون مملة للبعض.. وأتمنى لكما ولكل المشاركين والمتابعين لمنابركم الأدبية والثقافية والتنويرية الرصينة كل التوفيق والنجاح.. وتحياتي للجميع..
(أعتذر عن التأخر بالرد.. فقد كانت عندي مشكلة مع النت والتسجيل..)
 
ومع ذلك فإن التاريخ العام يخبرنا في الوقت ذاته بإمكانية وجود بديل أكثر رصانة وقوة مما يبدو للحفاظ على المكتسبات الحضارية. وإن كان الغموض يكتنف نوع وشكل هذا البديل.. فالتاريخ البشري، رغم مأساويته، محكوم بقانون غير خطي وغامض للتقدم!.. ولولا هذا لما برح الإنسان كهوفه القديمة وشاد ناطحات السحاب، ووثب تلك الوثبة العظمى ليطأ تراب القمر!.. ولما غادر الغابات والتوحش مبتكراً منها شكلاً نافعاً لحقوله العامرة وشكلاً مهذباً لحدائقه الجميلة!.. ولكن تظل هناك فرصة ولو ضئيلة لصدفة كونية كارثية تحيل كل هذه الكرة الأرضية العجيبة إلى سديم من عدم!
ألا تعتقد أخي نبيل أن مأساوية اللحظة التاريخية، تتجاوز في مسبباتها شطط القوى العظمى، و جرائمها التي لا تنكر.. ألا يمكن أن تكون الهزيمة طبيعة ثانية للإنسان العربي، بما هو مجبول عليه من حب للتمرد على السلطة و عصبيات.. تسلم عنانها للانفعال و الإيديولوجيات قبل العقل؟
أم أن ابن خلدون كان مخطئا في تقييمه للذات العربية؟
منذ متى لم تحكم بلاد العرب دمقراطية راشدة ذات فلسفة إنسانية عقلانية؟
هل تحقق هذا فعلا في العصور الأولى للدولة الإسلامية؟ أم أنه لم يتحقق على الإطلاق.. و لا يمكن أن يتحقق لعلة في تكوين الإنسان العربي و ثقافته؟
هل يمكننا بعد هذا .. أن نحمل أمريكا مأساة شرورنا؟
 
.... هذا حال دول منطقتنا فقد بدأت هذه الدول بالانتقال الواحدة تلو الأخرى والتحوّل إلى ما بات يُعرف بـ (الدول الفاشلة).. فهي الحلقة الأضعف لنموذج (الدولة-الأمة). وأسباب ذلك عديدة ويمكن اجماله في سبب عام هو فشل الحداثة والتحديث في هذه المنطقة وبفعل عوامل ذاتية وخارجية عديدة....... فعلى مدى ما يقرب من قرنين من الزمان كانت الحداثة تسرع تارة وتبطئ تارة أخرى ولأسباب مختلفة. لكن المؤكد هو الفشل الذي نشهده اليوم، لما أسمّيه (الحداثة الهشة).. فقد كانت في طابعها العام حداثة نخبوية في مراكز المدن ولم تذهب بعيداً، إلى أعماق المجتمع والريف لتقويض الروابط التقليدية والبنية الثقافية القروسطية، ولإحداث تلك القطيعة المعرفية مع الماضي كما حدث بأوربا.. (من أبرز الأمثلة على ذلك هو فحص دساتير هذه البلدان وتلك الازدواجية الغريبة فيها.. ففي الوقت الذي تقر فيه بأن الشعب هو مصدر السلطات.. نلاحظ أنها تسارع وبخجل يشبه النفاق إلى إقرار أن الشريعة هي أحد أو أهم أو المصدر الرئيس للتشريع وهي بذلك تطعن بالصميم فكرة ومفهوم القانون في الدساتير الحديثة!). ........................................... فكيف نستغرب اليوم من انخراط الأجيال الشابة المشحونة بالأيديولوجية القديمة في نشاطات مسلحة؟ وسرعة نكوص أفكار الحداثة وتقويض كل ما تم انجازه من مظاهر الحياة العصرية في المدن.. وهو ما يطلق عليه السوسيولوجيين، عادة، بترييف المدن.. والسرعة التي يستغرب منها البعض في تفتت وانهيار هذه الدول..
تحياتي أستاذ جبران.. قبل أن أحمّل القوى العظمى مسؤولية اللحظة التاريخية المأساوية للمنطقة أثنيت على بعض فوائدها وانجازاتها! وأوضحت أن سبباً عاماً ورئيساً كامناً في ظروف وهشاشة تشكيل البنية (الحديثة) لدولنا.. أي في حداثتنا النخبوية الهشة وعدم إحداث القطيعة المعرفية والحضارية الحقيقية مع ماضينا وتناوله بالنقد الجريء والاعتراف بعدم نجاعته لبناء حاضر يليق بالإنسان العصري.. وبعد الحديث عن هذا الخلل الذي نتحمل وزره جاء الحديث عن تدخل واستفادة القوى العظمى من هشاشة بنيتنا السياسية والثقافية... أي أن الخلل في المنهج والسياسات الذي اعتمدتها نخبنا السياسية والثقافية أولاً.. فلست ممن يرون في الآخر-على الرغم من مثالبه- السبب الأول والوحيد لمصائبنا، ولو أراد الآخر محاججتنا لسألنا بكل بساطة: ولماذا لا تتآمرون أنتم علينا وتستغلوننا كما نفعل نحن على حد زعمكم؟! سؤال منطقي، لن يجد من يلقي اللوم على الآخر في تردي حالنا، أي جواب مقنع له.. أما الحديث عن النظام العالمي الحالي فلا يمكن اغفال حقيقة اختلافه عن الحقبة التاريخية الاولى له وطوره التقدمي بأفكاره التنويرية العظيمة في فترة صعوده ووعوده الكبرى. فهو أيضا يمر في حالة أزمة - وهذا موضوع طويل ويستغرق الحديث فيه وقتاً طويلاً وقد خاض فيه الكثيرون- وأحد الدلائل الجلية لهذه الأزمة هو صعود التيارات اليمينية والمتطرفة في الغرب، وفي تناغم عجيب مع الردة الفكرية والظلامية في منطقتنا..!
وبالنسبة عن الذات الثابتة وطبيعتها غير القابلة للتطور وكجوهر (قدري) لا علاج له، فأُنسبه إلى الظروف العامة والبيئة غير المناسبة للتقدم لأنظمتنا على جميع الصعد.. وردي بسيط على زعم أن العلة في طبيعة وتكوين الفرد عندنا وهو: لماذا حين ينتقل هذا الفرد (المتخلف) نفسه إلى العيش في بلد متقدم - يحكمه القانون الذي يُطبّق طوال الوقت وعلى الجميع ودون استثناء - يتغير حاله نحو الأفضل ويكون من الأفراد الملتزمين بالقانون والساعين إلى التقدم والبروز؟.. ولا عبرة في ان يشذّ عن هذه القاعدة عدد ضئيل من الأفراد مقارنة بالملايين المهاجرة التي تكيفت مع الحياة الحديثة فالشاذون عن هذه القاعدة نسبة ضيئلة.. إذن فالعلة في النظام االقائم على فكرة القانون بمفهومه الحديث - أي تجاوز كل العصبيات والروابط القرابية والقبلية والدينية بين الرعايا.. إلى الرابطة السياسية والحقوقية بين المواطنين -. وليست فوضى الأفراد إلا من فوضى ولاعقلانية النظام الذي يعيشون تحت ظله.. نظام يطبق القانون نهاراً ويخرقه ليلاً! ويقهر الضعيف البعيد ويستثني منه القوي القريب..!
أستاذ جبران.. أمر جميل أن تثير هذه المواضيع وتطرح أسئلة لطالما تهربنا من مواجهتها بصدق وصراحة.. كل التقدير والاحترام..
 
أعلى