دراسة جعفر كمال - حوارية المعنى والصورة في الأعمال الروائية والقصصية عند الأديب د. محمد عبدالرحمن يونس

مشاهدة المرفق 865
الفصل الأول:
لعلني وأنا اقرأ القاص الناقد د. محمد عبدالرحمن يونس تأخذني غرة صيف اللاذقية المنعكس بنسيمه على ملامح هذا الأديب السارد الثَر، كان ذلك في زمن بدء التسعينات حيث أشاء لي التحدي المادي والثقافي وبالتعاون مع الأستاذ القاص عبدالباقي شنان إصدار مجلة "النافذة" الثقافية الفصلية، والتي مولتها ماديا طيلة فترة اصدارها، فكانت المجلة أحد أهم الأسباب التي جمعتنا بحضرة الأديب الشمولي يونس، حيث وجدتَ أداء حرفه يستلهم هدوء محياه النبيل، المنعكس على علوِّ شأنه الاجتماعي بمقدار مبني نسبته الثقافية، وفي خطب ذلك الحال أخذني الرأي إلى التدور في جمانة صفحات حققت مُعْطى سريان يثاب فيها صيغ قصص مُحدِثَة، وملامح بلاغة تتفاوت في جناسها الأسلوبي، ليكون النص بحد ذاته يأسسُ لأبعادٍ تميزت بصيَّغه الطارفة، ومنذ ذلك الزمن لم التق به سواء أكان عن طريق المراسلة أو التلاقي على صفحة النت إلاَّ وعلم الكلام يفيض جوابات لغة تحاكي تفريع منتقى اللفظ لأصول أرسخ عرقاً في منظوم البلاغة. ولأني وجدته منساباً كنهر يجري بالصور القصصية المندلقة على ضفتي نهره الخصب يعالج التشذيب بمهارة الإعجاز، كان لابدَ لي من موقف إيجابي اتجاه أعماله المُنْتَجَة بدراية وامعان، وتلك اللطائف ضمته إلى أقرانه من القصاصين العرب، أمثال القاصة والروائية المعروفة سميرة المانع، والأديب عبد الباقي شنان "الذي سوف أتناوله بدراسة تحليلية متممة لدراستي السابقة عنه" والقاص المميز عبدالله طاهر، وعلي سرور، وجنان جاسم حلاوي، واحمد اسكندر، وعبدالوهاب البياتي.
فبدأ يونس ومازال يؤسس لطموح مغاير يرى أن المبدع الأكثر اقناعاً يجب أن يعاين قيمة التجلي المتمم لثقافة الكاتب الذي يحقق قناعة أن يكون الراوي محايدا وبعيدا عن نرجسة الذات الحاكية، لكي يجعل من المتلقي ناقدا لأعماله وليس قارئا وحسب، وبهذا يحقق أوجه تطورات تمدن النص الذي يُشبع قراءهُ بتورية اختلاف فاعلية نماذجه، وفي هذا نطالع الآمدي يرشدنا إلى أن:
"لا نسلم أوَّلاً أنَّ المناقدة مغايرة لقيام العلم بالذات، ولا المتحركية مغايرة لقيام الحركة بالذات، ولا الملازمة بين المنطوق والمفهوم يصاحب التمثيل*"
وهذا ما نسميه لزوم اللزوم أو التجريد الكامن في حقيقة المعنى، الذي يجعل الصورة المتفاعلة أكثر تلائماً وانسجاماً مع إبانة إضاءة إسناد الممتع واعطاه بعدا رمزيا خصبا، وهذا حكم نتبين خواصه تثري معطيات الكتابة باتجاه تجاوزها الموروث الذي استقام بعضه عند الكثير على ظاهرة المعاضلة، أو الأحاجي والحجب الريفية التي توهم المستمع على أن هناك من يخاطبه خلف الأستار، وبين الكاتب والآخر حجابان: المقدار، والتلقي، وكلاهما عاملان يعنيان خصائص البحث التقليدي، وسرعة إتيان النص وإثباته بالاقتراحات وتسمى "عين العقل"، تلك المقالات المتأثرة بالحجاوي الروحية التي يتساوى فيها قطبا الأدنى، والأقرب، خاصة عند أولئك الذين اتخذوا من أقوال: العربي الحاتمي، وبديع الزمان، والصخري وأبي الحسين السهيلي، ومحمد بن منصور الحوالي، وهذه المرئية استفاد منها الكثير بصور مختلفة جاءت على الشكل التالي في قراءات العيون الثلاثة:

"أولاً: عين الوجه وقيده بالجهة.
ثانياً: عين العقل وقيده بالفكر.
ثالثاً: عين القلب وقيده بالعاطفة.*"

فالقاص محمد عبدالرحمن وبكل جدارة تجاوز مسميات قواعد اطر التعريف في مدرسية السلف، بالمقدار الذي بنيَ نحوه الشخصي على قيَّم حددت واجازت جهة التوظيف، فاختلفت بها أفانين حاصله التوليدي الذي يعني التوكيد على إزالة الوهم والريبة والتقليد من دلالات مفاهيمه المُوضّحَة والمُبَيّنَة بوازع السياق الثابت في نصاب عيونه الثلاثة المختلفة وهي:

أولاً: جعل من محاسن جوازات اللغة العربية تشوقها المشاهدات بوصل أوائل الحكاية بأواخرها.
ثانياً: سهولة المطالع التي تتم فيها انزياحهُ إلى فصاحةِ البيان بتمام المعاني.
ثالثاً: اقصار الاسهاب بواسطة جودة الألفاظ وغاياتها واشراقها بالمحاور المؤدية إلى غنى التفاعل بين وحدات تتميم المجانسة.

ومن خلال هذه الرؤى التوليدية أصبحت أسلوبية يونس تنفذ إلى العام الثقافي بمقتضى الدقة من مبتدأ الصورة حتى اكمال سردها التجانسي، وبهذا نجده يجتاز تركيب الحاكي العام إلى دقة التركيز المنظوم وكأنك تتحسس خواتم انفعالاته الوجدانية، التي تصب ميزتها الطافحة بالتركيبية المعطاء التي تؤالف خلايا بواطنها، بقدرة هائلة على التعاطي التنويري المشرق بالاختلاف، واضعاً سياقه الأول على نبض المضمون من خلال تفاصيل الأحداث، بدءا من التحامه مع الشخصيات اليومية، وكأنه يرى ويسمع الآخر من ذاته، وحاله يتعامل مع الحقيقة بواقع تضمنته الأحداث الملموسة، بشكل يعالج التأثر المعيون في طرح قضايا الفرد في معتركه الحياتي.
وجدتُ في قراءتي المكثفة ومتابعتي لما يكتبه يونس أنَّهُ يحث اللحاق بركب الزمن الأدبي الثقافي ومراده يستنفد قواه لتأسيس انتصار على نجاحه، وخاصة عندما تناول المرأة وما أثارته من أبداع في روايته "ولادة بنت المستكفي" بعد أن أزاح الأحداث المحتجبة عن حياة المرأة الأندلسية في مجتمع ساقها إلى أن تكون مرتكز أعماله الكبيرة، وهو يرفد الرؤى الجامحة للشروق والتحرر إلى بنية فنية يعالج من خلالها الانكسار الذي أطاح بالإنسانية، فنجده يطلقها إلى رحابها المشرق لأن تعيش بلا وجع، وما الإرهاب الذي تمارسه بعض القوى المتنفذة "سلاطين وملوك وحكام" على امتداد عصور البداوة ليومنا هذا ممن عملوا على إلغاء وسحق مفهوم الحريات العامة والخاصة، فهو مثلٌ ساطع شارك في الكشف عن الظلم القسري الذي مورس على مكانة المرأة، فالقتل المجاني الذي تتعرض له طالبات العلم في المحافظات العراقية والسورية المحتلة من قبل الفصائل الإرهابية، ما هو إلا دليل واضح على هذا الاستهتار المعيب بمعاقبة المرأة التي هي الأم العظيمة، ومن أجل هذا نجده قد عالج توشيع أفكاره أنْ تنثال الماً على هذا الإتيان السلطوي الثقيل عند الإسلاميين الصهاينة، الطامح على أن يجعل من المرأة عبارة عن مسبية يلقها المتخلفون الغرباء.
ولهذا فقد جاءت روايته "بنت المستكفي" تعاصر ماضيا فتطرح ثقافة تعالج مصبات تلك الأفعال الدخيلة المشينة ودحضها بمساندة المتلقي الواعي، ايذانا بتفعيل تخصيب يعالج تعبيراً ثقافياً تنويرياً مستمداً من بلاغة الكاتب بدعوته إلى التحرر الاجتماعي من ممولي ومنفذي تلك الثقافات الدموية الدخيلة على ثقافتنا، ومن أجل هذا دلنا يونس إلى أنَّ سداد رأيه الغني بجديده الأدبي المغاير، إنما جاء يحاكي المختصر في حرية الرأي عند الفرد العربي، ليطلق الممكن لتشريع الحقوق الإنسانية لا الفقهية الدينية، ليكون التسارع الأخلاقي متمثلاً بحرية المرأة نصف المجتمع وربما أكثر. ومن أجل هذا أصبح من الغنى الأخلاقي الذي تطرحه المعرفة أنْ يُلْحِقَ ثقافة المرأة إلى تراثنا الأدبي على أنه تراث نافع ومؤثر بأعماله، وعليه يجب أن يُنظر إلى المرأة وإلى نتاجها الأدبي نظرة احترام، ويبدو ذلك واضحاً من خلال اهتمام بعض الأدباء القدامى بجمع ما قالته المرأة من شعر أو نثر، لتتناقله الأجيال من جيلٍ إلى جيل.
يتناسق الكاتب محمد عبدالرحمن يونس مع نصه ليمنح منظومة التنوير المعرفي بالابتعاد عن الآراء الكبيرة غير المفهومة، حيث يحكم منظومته بالثابت المعنوي، وذلك باستدراج الأحداث أن تتشكل ببوح أنسجة النص بكفاءةٍ في بنائها الداخلي بمفاهيم متداولة ومفهومة حتى لا يستاء منها المتلقي المستدرك لأمور وأحوال الأدب المحترف، حيث نجد يونس يمنحهُ القوة المثالية التي تحقق له المطلوبات النافعة والمؤثرة في تعاملها مع بنيات الحكاية، لأن السرد القصصي خرج ومنذ زمن ليس بالبعيد عن حكاية الجدات على يد محرريه ومعتقيه من ذلك الويل الكبير، أمثال القاص الكوني محمد خضير، ومحمود الجنداري، والأديب اللامع خالد القشطيني، والقاصة ليلى عثمان، هؤلاء الأدباء الذين عارضوا البناء المسهب بتقليديته غير الواضحة بمقدار نضوجها ووعيها، ولأجل هذا جاء المجددون لينتجوا شكلاً مكثفا بفكر سريعَ الدفقات في تلاقيات مضمون المشهد التخيلي، الذي يفتح صورة التشكيل الباطني بالإضافة إلى ضم القارئ إلى المكان الذي هم فيه، عبر سردية مكثفة تحاور اللغة والايماءات والدفق الفني المتتالي بنسقية تشابه الشعر.
وعلى أساس هذا التقدير جاء يونس يضع بصمته المجددة، في جوانية هذا البناء مع الاحتفاظ بملهى تراجيديا خصوبة المعاني وحكمة دلالاتها السريعة، بأسلوبٍ ساخرٍ حينا وواقعي في أحايين كثيرة، ملهما متلقيه حدثاً ذا ذائقة يستمر نشؤها إلى أبعد زمن ممكن في خياله، والنية هنا عند الكاتب تعني تسليم الرؤية على فتح قنوات جديدة بالمُرَكّبْ الفني التقني الذي يتصاحب مع تجانس الجمل القصية ببعضها، وكأن الحكاية تنهال من نظرة المثقف الثاقبة والفاحصة للأحداث على الزمكان، وبهذا الصنع يكاد الكاتب أن يشكل جيلاً متأثراً به لديباجته الجديدة الخالية تماما من التأليف السردي المكرر كما هو الحال عند بعض القصاصين، الذين غاب عن نظرهم ايجاز التنظيم السردي، بالسياق الذي يقتضي الحرفية الإبداعية بمعية بسط أثر مباهجة المشاعر الصادقة، المفترض أن تعالج حالة موضوعية في تناول الحدث الذي يعتمد مبدأ الوحدة العضوية الصغيرة لتشكيل تنوع النص في عمومه، وإطلاق فضاءاته الذكية من لدن توظيف بلاغات تحتكم الاحتمال المتمم بالفائدة. لأننا في كثير من الأحيان نجد بعض الكتاب وقد انصهروا كثيرا في الكلفانية الفضة، أو الايغال أكثر فأكثر في محاكاة التكرار للمفاهيم المنقولة التي لا تفيد القارئ بشئ، بقدر ما تدفعه إلى الملل من تلك المصطلحات السطحية الكبيرة المفخخة بالغيبية والغموض والرمزية الفجة، يداخلها الظلام ويتعبها التباهي.
وتحقيقاً لهذا الهدف صب يونس ثمرة إبداعه في قدح المتلقي فأنتجَ نصاً تلاقحيا بين اللغة والشجن، أي أنه ناغم الحالتين: فملكة العقل تساوت إبداعاً. وعاطفة الروح أنتجت الشجن، وهذه الإلهامية ندرت عند الكثير من الأدباء على مر العصور، لأنك أن تقرأ جملة خصبة، حلوة على السمع، شفيفة في تلقيها، مقبولة في تواصل نسيجها المفتوح على فضاءات تشد القارئ إلى سعة جواباتها الفنية، تجده يأنس المتعة في استمرارية القراءة والتجاوب معها، وفي هذا عامل مشجع يضع القاص محمد عبدالرحمن يونس يطرق باب الأهمية وتأثيرها على الحركة الأدبية السورية، بعنوان انفتاح الجديد الايجابي وتأثيره على اتساع الحركة الأدبية العربية والعالمية وخاصة على مستوى القارئ الذي يتواصل مع الحالات الإبداعية بالإضافة المجددة.
فقراءتي للأديب "الروائي، القاص، الناقد" يونس ليست استكشافية تختصر تناولي لمعطياته الخاصة نقدا متوجا بالحيادية الصارمة التي تعني هذا الغرض وحسب، إنمّا بدأت معايشتي اليومية في متابعة لنصوصه ومحاضراته منذ منتصف التسعينات عندما التقيتُ به في اللاذقية عروس المتوسط، وكان طموحي هو الإتيان في تحقيق المختلف أمام كل أديب التقي به، سواء أكان ذاتيا متمماً لإفادة، أو تحديا مكشوفاً تكون نتائجه سريعة وواضحة، ولهذا استمرت قراءتي لنصوصه تتفاعل عبر زوايا معينة قد تكون قاسية عليه، ومن أجل هذا أدعو القارئ الكريم أن يكون ناقداً روحياً بيني وبين القاص عبر إلمامه التمتعي بجوهر النص الذي نقرأه، بجواز أن يونس ناسب بطله بميزة القريب من المعقول في صفات الإنسان، كما قال الفارسي في ثقافات المعتزلة:

"أن حقيقة الإنسان هي أمر حاصل فيه*"

أمَّا أنا الناقد فعلاقتي القطعية مع النص لا غير، وهذا ما يجعلني قريبا من القارئ، عبر إبانة تناصف الناسك في حق التمييز على أن يكون التوظيف السردي للحكاية توظيفا ضديً بأحوال فطنة الكاتب.
وحسب ما ورد في قراءاتنا للإنتاج القصصي الحديث رأينا أن يونس استفاد كثيرا من الاسفار التي عايشها الراوي بذاتيته، خاصة اطلاعه على الثقافات العالمية عبر اطلالة على الحركة الأدبية الأوروبية والعربية، ولأهمية مثل هكذا ثقافة أجدني أنظر إليها بمنظورين دلاليين وهما:

أولاً: منظور المساجلة بين العربي والأوروبي، بمستوى بيان حقليْ التجديد والاختلاف.
ثانيا: نقل النص القصصي من سياقه المألوف الروتيني في كتابات القرن الماضي، إلى مواضع واضاءات اختلفت أحوالها بحسب التعريفات في الجملة القصيرة.

فكان ابتعاده عن منهج التقمص الذي يتبعه الكثير من كتاب القصة القصيرة المعاصرة لصوت السلف عبر محاولات استعادة التاريخ الشخصي وما نعنيه بالتقليد، ومن أجل هذا استنهض القاص يونس تخصيصه السردي عن سواه من الذين عاصروه بالاتجاه والمعاينة، محاولا أن لا يضع القارئ في حيرة الأسلوب المعقد، بل عمد دائما إلى استئناف التمايز بين الصورة الحسية ومحاكاة اختلاف ثقافات القارئ، متتبعاً الصورة الصوتية التي يتصورها القارئ على أنها مثار متخيلات سمعية مختلفة، ومع هذا يمكن للكاتب التنويري المجدد لأساليبه أن يعالج المقاربة الفنية بقرينها الآخر بين صيغه الخاصة ونتاجات أدباء الشعوب الأخرى، شرط أن لا يكون النص الشعري أو القصصي أو الروائي تقليداً للسلف أو حتى للمعاصرة، فالتقليد ليس له صفة إبداعية تميز الكاتب المقلد من حيث ثقافته ولون اشتقاق النص عنده، فهذان ضربان نذكر ما يتعلق بكل واحد منهما:

الأول: التناصب وهو باب من أبواب تلاقي الحضارات الأديبة بتكامل بعضها البعض كما فعل أبو فراس الحمداني مع أبو الطيب المتنبي*، وهذا لا عيب فيه ولا ملامة.
الثاني: التقليد وهو باب مذموم ومكروه، لأنه ماثل الآخر برؤيته وخلقه، كونه لم يُخلق من الذات خاصته على اعتبارها ذاتا غير منتجة للتقليد.

خاصة إذا كانت تلك المقاربة ندخلها من مسارها التاريخي الأدبي بين عصرين أدبيين مختلفين، أحدهما أوروبي حرك مجد الأزمان في كافة مناهج العوامل الثقافية اليومية، وآخر عربي عاش في زمن مثقل بويلات الحروب الداخلية منها والخارجية، فكانت تلك الحروب سببا من أسباب التردي والتخلف الثقافي المجتمعي والمعرفي المادي، فتولدت صراعات مستمرة بين طبقتين الغنى والفقر، والملحد والمؤمن، وبين مذهبين متخلفين كل منهما يدعي الحق بالقرب النبوي منه، وهذان الداعيان حركا التناحر والتقاتل فيما بينهما حتى احدثا هوة وجدانية تساعد على طمر الوعي عند الشعوب بالمخاصمة.
أمَّا في الجانب الإبداعي فالتقارب الفني ليس بالجديد على الاطلاق، فالمقاربات الأدبية كثيرة وأهمها: تلك المقاربة بين الشاعر العربي الجوال "قيس بن عامر النجدي"، الشاعر المجنون الذي عاش في زمن آخر ملوك غرناطة للدولة الإسلامية "أبي عبدالله"، الذي قضى حياته متجولا بين المدن والأرياف، وعودته الدائمة إلى غرناطة. يقرأ قصيدته الرائعة "مجنون إلزا"، التي عشقها واقتبس موضوعها الشاعر الفرنسي أراغون الذي عاش في القرن المنصرم في قصيدته "مجنون إلسا" 1939-1940 والذي منحها نفس الاسم، فالاقتباس هنا مبرر إذا كان يتناول نفس المعاناة الحبية باختلاف مباهج التعبير، حيث أخذ من الشكل عنوانا، دون التطرق إلى النقل النصي اللغوي، والمضمون الحرفي في جوابات التجريد، أي مناقلة بنية المشار إليه من غير تخصيص، أي إعادة خلق الصور، ومعاينة دفق الإحساس المنساب على المنوال الذي سابق ذات المضامين المنعكسة رؤيتها المطابقة، كما مال بقصيدته المقتبس عنوانها مبتعدا عن التكلف واخفاء خصوصية الحالة بقرينها، والحال هذا ينطبق على كل الاجناس الأدبية بكل أطيافها.
حيث أنَّ أراغون لم يعرج كثيراً على تداعيات التاريخ الأدبي وربطه بالمعالجات الزمنية التي عاشها الشاعر الأندلسي النجدي، ومدى تأثير تلك الظروف المعاشية والسياسية والدينية على حرية الشاعر، عندما نجد أنَّ صدى فارق التكامل الأدبي والحضاري بين الكاتبين يبعث الفارق الكبير بين اتحادهما في بيان عنوان القصيدة، الذي لا يشير إلى التشابه في العديد من مؤلفات آراغون خاصة في الجانب البنيوي فقصيدة قيس بن عامر النجدي عمودية، وقصيدة أراغون نثرية. وتكفينا الاشارة إلى أنَّ بعض تلك المؤلفات تبين كيف يشكل حضور ذلك الحب. في نشيد يتعاظم من الشباب إلى الشيخوخة، فيحسن جوهر العديد من وجوه التحولات في الشعر الفرنسي المعاصر، فصار الأول "قيس بن عامر النجدي" للمعاني مؤسساً، وصار الثاني "أراغون" بالتلقي مكملاً، كذلك نشير إلى الأقتباس الذي ورد في معالجتي عن حياة الشاعر المصري أمل دنقل في قصيدة " "الوصايا العشرة" الذي منحها نفس الأسم تيمناً بالشاعر العربي الخالد كليب وقصيدته الخالدة "لا تصالح"، التي ضمنها الوصايا العشرة. وتلك المقاربة أو الموازنة بين شعر امرؤ القيس وبين عمر بن ود العامري، وفيها مقاربات معروفة بدلالاتها ووعيها وصورها ومضامينها. وليس ذلك بمانع من أن يكون امرئ القيس أشعر من عمر فكلاهما شاعر من الطراز الأول، وذاك كُثَيّر قد أخذ من جميل وتتلمذ على مهارته وأستقى من معانيه. فما رأَينا أحداً أطلق على كُثَيّر أَن جميلاً أشعر منه، وما خلا أن أديباً أكمل بغيره نقصه. يدلنا يحيى بن حمزة إلى أنَّ: "فالاتمام يرفعُ الخطأ مما ليس ذماً، والإكمال يرفع الذم المتوهم*". إذن فالتقارب الأدبي ليس بعيبٍ أن تربط بين مضمونين قد تعارف عليهما منذ زمن مضى وبين معاصرة لهذا الكاتب أو ذاك، ومبرره كونه تداول في الزمن القديم.
أمَّا إذا أردنا وضع استثناءات الأديب يونس التاريخية المطلة بحوارها المعنوي التوليدي على المقروء النوعي نجد أنه صاحب التاريخ من أوسع أبوابه في روايته "ولادة بنت المستكفي" تلك المهارة المثالية التي تقودني إلى أنْ أدخل بقسوتي النقدية إلى تفاصيلها الفنية واللغوية والتاريخية ومرامي سهام بديعها، وفي الوقت ذاته تجدني أحاور الأسئلة الكبيرة التي تطرحها الرواية، وأجيب عليها، متخذا من قوة الالهام المعرفي المملوء بشهوة العقل الخلاق وقدرته على صناعة هذا المنجز من حيث موقعه وتأثيره على المتلقي العام، أمّا فيما يتعدى الجانب البنيوي فقد أحدثت هذه الرواية هزة نوعية في تلقيها من الناقد وما تقارب وتباعد من الصحافة العربية على اختلاف منجزها النوعي التعبيري في الفهم المعنوي لكل ما تلاقى مع الكاتب يونس.

رواية ولادة بنت المستكفي

دأب القاص يونس على منح القارئ الكريم متابعة استيعاب حركة شخصياته سواء أكانت في الرواية أو القصة القصيرة، المتمثلة بالرموز الداخلة في القياس انموذج سيرورة التدوَّار في منظور الحكائيين، بمصاحبة ازدياد الحضور التراكمي في توظيف دواعٍ تجزل رصد العطاء الروحاني، وما يتحقق بسرد مدركات الحدث المعنوي المعنى به، ثم يخرج الكاتب بسردية تقرب الصلة التاريخية بالموصول المعاصر حتى يبقيها على أصولها، بجواز ثبوتها، وكل ما كان مبنياً على قاعدة تبنت طباق حالة الزمان على جهة المقصود، فهو يقرر جهة التأكيد بما وقع بين العامة في الزمنين، وبتفصيل أخر نجده أي الكاتب يكشف عن الصورة المتحركة من واقع طبائعها الخاصة، ليكون البطل فيها مرتحلاً حينا بنياته، ومقيما فيها في أحايين أخرى بأحوال مقاصده الخاصة، التي تستنظر اِحتساب تبيان قدرته على اِتمام إكمال المدركات بوازع جواباتها المؤثرة على المتلقي، أي أن يكون البطل يتقمص مسرحة المكان التي تكشف عن التفريع بالأوْصَاف والتَّشْبِيهات الماسة بحقيقة المضمون المنكشف على مساحة كافية للتعبير، بجواز معطيات وإشارات الأداء الايعازي المولد من لدن عطاء مذهب خصوصية النفس المعطاء لفرائدها الشكلية الخارجة عن حركة التصانيف التي تحدد إظهار حالة الرفض أو القبول على جهة المبنيات السردية، فتكون الشخصيات متحركة في الواقع المعيون، كل يؤدي دوره المناط به، مع مُحدِثات اكتشاف الأثر الذي تعكسه أفعال الشخصية من تأثير ممارساتها بالجو المحيط بها ومدى استيعاب الحالتين ببعضها البعض، ولهذا نجد الكاتب يستكثر في وجهته السردية أن يوقع المبالغة لكي تُفتَحْ على صيغ تحقق بيان عطف انجاز ملقحة إحداها على الأخرى بجامع يجمعها، فنجده يجتهد وهو يَهمُ في طلب اِستَصوَاب التشبيه أن يفي بالأصلح تقنيا، وكأنه يقيس فاعلية الشكل على المضمون فتظهر مناخات المتخيل على أنها واقع مبصر، اِستحبَ جنون رومانسية الشاعرة الأندلسية ولادة بنت المستكفي "994 - 1091 م" ابنة الخليفة المستكفي بالله*"، من عصرها ليلبسها جنون عصرنا حيث تعتبر بنت المستكفي من أمهر شاعرات زمانها وهي تطمح لتغيير عالمها المحاط بسلطة والدها الدينية، خاصة في تغنيها بشاعرية الاباحة "الأيروتيك"، حيث كان مجلسها عامرا بالرجال من الشعراء والفقهاء والنقاد، وقد ذاع صيتها لجودة شعرها وبليغها اللغوي وجمالها الأخاذ، ومن أهم ما قالته:

"أنا ولله أصلح للمعالي - وأمشي مشيتي وأتيه تيهاً
أمكن عاشقي من صحن خدي - وأعطي قبلتي من يشتهيها"

تقصد الكاتب يونس أن يعاصر الماضي ويربطه ربطا درامياً، فيقرب المستبعد من أجل ما اختص به من الغرابة والإعجاب، فيبني الحكاية على جهة الاستطراد، على أنْ يؤتي غايته على وجهين:

أولاً: تطابق الشخصية بمثيلتها على أن يكون الأمر بينهما باعثاً على جواز التتميم.
ثانيا: يكون اِستطراف مواضيع السرد تُطرح على اساس اِعطاء المضمون المعني حقه من تفعيل يندرج تحت المنازلة الإباحية ذاتها.

فكانت ولاّدة الشاعرة الأميرة التي ارتبطت بعلاقة عاطفية بالشاعر القرطبي ابن زيدون 1003 – 1071 المنتمي لأسرة من فقهاء بني مخزوم، وقد تولى منصب القضاء والوزارة في عهد المستكفي، وذلك لإعجاب الخليفة الأندلسي بعلمه وأدبه رغم صغر سن ابن زيدون، كذلك كان مقربا وصديقا لابن جهور الذي أصبح فيما بعد خليفة للمسلمين في الأندلس وسمي عهده بالعهد الجهوري، ولكن الخلاف دب في ما بينهما خاصة بعد أن تكشفت العلاقة العاطفية بين ابن زيدون وولادة بنت المستكفي، " صاحب المعلقة النونية التي اشتهر بها "

"أضحى التنائي بديلا من تدانينا وناب عن طيب لقيانا تجافينا
بنتم وبنا فما ابتلت جوانحنا شوقا إليكم ولا جفت مآقينا
يكاد حين تناجيكم ضمائرنا يقضي علينا الأسى لولا تأسينا
حالت لبعدكم أيامنا فغدت سودا وكانت بكم بيضا ليلينا"

المدخل

حين فتح الكاتب محمد عبدالرحمن يونس بلاغات الشخصية النسوية، رصد حركة التاريخ من منظور توظيف الدلالة بجوازها الايحائي، فكانت: ولادة بنت المستكفي، التي تركت بصماتها في تنوعها وثقافتها وإبداعها وإنسانيتها واشواقها ومخاوفها، فأصبحت أسطورة تغنى بها الملحن والمغني والشاعر والناقد والروائي، وكأنه يوسم الشاعرة المستكفية بتلطيف المزاج للقارئ فقد اهدانا انجازهُ التاريخي الساحر المختلف بتميزه المتجانس بسياقات أجمعت البحث بالفن الروائي، الذي آذن بالظهور عن كشف الوعي المرتبط بالمكننة وهو يجمع الحكاية بالخيال التوازني، أي أنه سقى وعي منجزه المختلف بخصوصية أنَّهُ اِستنهضَ نصا معاصرا يحتاج منا الوقوف على مقدار ما تبوء به أهميته ووعيه، أي أن الروائي يونس بَسَطَ ملامح الوعي الانتقالي من حال كان في الماضي، إلى حال حاضر فآمن الارتقاء به إلى مستوى المنظور الذي يُبَرزُ ملامحه إعداد فن مبتكر يحتمل ايقاظ مزايا تلك الحكاية التي تركت بصمات لا تنسى في التاريخ الأندلسي، فقد وضعنا الكاتب يونس أمام عمل أفاض مضمونه مقارنة حداثة بالغة التمييز والمؤاربة والاقتراب، وفي الوقت ذاته أحال المعاصرة في شخصية البطلة بإحساسها الأنثوي الأساسي أن توائم صورتها التي بقيت مؤثرة في الحركة الأدبية الكونية.
لذلك نجده يحادث ما أنارت به أوضاع ولاَّدة السري للإعلان عن حلاوة الجمال في معانيها المغرية كما وصفها المؤرخون، وهنا تناص الكاتب وكأنه يريد أن يقول لنا، كل شيء مخلوق فيها بدراية ومعجزة، اِتسام مرسوم بإتقان دقيق، العينان فاحمتان تتألقان بالسعة، والبريق الأخاذ، والرموش مقوسة طويلة، وفوق ذلك يلمع جسدها باسقاً، أما تناسق صدرها المندفع المستثار، وطرفاها يلتاعان لمشته آت بمشتهاه، يعلن ذوو الصَّبَابة متَّيما، وحال الكاتب يلوحُ بإيماءاته ويتمنى لو أنَّه ابن زيدون أو حتى لو أنه العومري بصيغة الذات المشبهة بالفعل في قوله: "وتأمل ولادة وقد طفحت وجنتاها بقلاع ومراكب ، فودَّ لو أن يرتمي على صدرها، ويشق قفطانها من أعلى نحرها، ويرضع ثديها الأيمن، وينزف آخر مآسيه وشجونه" لذا فالكاتب البطل يأتي بتاليه فيومئُ كونه حبيبها، إذن فجمال ولادة يرتبط باسمها الذي ذاع صيته في كل الأندلس والأمصار، وهذا مرتبط بعموم ما اختص بسيكولوجية الفتاة بتصرفاتها واندفاعاتها الفنية الأنثوية في طبعها المدلل، ولم يدم حبها مع ابن زيدون طويلا، حتى استقلت بمجازها الذي انعكس فيضه على جمال براعتها، فأصبحت هي الاعجاز بشخصيتين مختلفتين، ولادة الأولى نبيلة وشجاعة وذات قدرة هائلة على القيادة في مجلسها وعلى حاشيتها بما فيهم عاشقها، الذي خلعته بعد أن وقع معجبا ومغرما بخادمتها بارعة القد والغناء وملاحة الأغراء فقالت فيه:

لو كنت تنصفُ في الهوى ما بيننا - لم تأت جاريتي ولم تتخيّر
وتركت غصنا مثمرا بجماله- وجنحت للغصن الذي لم يثمر
ولقد علمت بأنني بدر السماء – لكن دهيت لشقوتي بالمشترى

إذن لابد من التعريض إلى اِستصواب الاستدعاء الذي استخرجه يونس من بواطن التاريخ، حين اِستحبَ إغداق انفراده بالموازنة بعد أنْ لاءم التشبيه بالشيء مع فارق التطبيق بجانبه المعنوي المكاني، مع فارق البعد الزمني، ولأني وجدتُ الأمر لا يتعارض فيه الكاتب في تظهير أحكام المقابلة، كونه أشار إلى منطق التحول في مراتب المحاكاة التراكمية في ملقحة جسد ولادة وهو ينضح بالعرق البارد والسوائل الدافئة، سيقا بزينب الفاسيَّةَ عندما خرجت من الحمام تقطر شهداً، جعلنا نعتقد بقوة الإيماءة على أن زنوبة الفاسيَّةَ هي ولاَّدة، وتلك قدرة أنه جعل من الموازنة تأخذ مساقات مختلفة بالجوانب التي تساوى فيها الحُسن بدال نقيضه، ليجعلنا نفهم الغرض من أنه يقدم أو يؤخر ما يستفاد منه الوعي التطوري، وبهذا نحصل على ما توصل إليه الكاتب من محاباته الوصفية من جهة التقاط الاشارات القصدية بواسطة الاستطراد، لما يؤرخ الكاتب فعل الحريريات باحكام القيم التاريخية بين البطلة الحقيقية "ولاّدة بنت المستكفي، والنسخة المعاصرة التي نقرأ ضعفها المعنوي وتخلف انتمائها العائلي بقوله:
"عند مدخل حارة الصباغين شاهد الشيخ العومري ابن زيدون وقد تأبط ولادة بنت المستكفي، كانت تبدو أميرة يقطر منها وجد قديم، وصبابات عشق، وبوح وأماني ترفرف باسطة جناحيها فوق الأزقة وبيوت القصدير التي أخذت تتململ تحت وطأة قيظ جوان. تقدم منهما.. حياهما بأدب، عَرَّفَهما بنفسه، ودعاهما إلى عربة كان يدفعها صاحبها مردداً: تين.. صبّار يا شوكي يا صبّار.. تطواني يا صبار، أخذ العموري موسا وبدأ يزيل قشور الصبار، ويقدم التينة شهية، وجميلة عارية إلى ولادة وصاحبها. سأله البائع عن هذه المرأة التي بدت سروة شامخة بقطفانها الأخضر الطويل.. هل هي من طنجة أم من خنيفره أو من الصويرة؟ وأكدّ العومري أنها أميرة قادمة من غرناطة، في زيارة سياحية قصيرة، لكنَّ البائع أصرَّ وزمجر أنها من خنيفره.*"
وبما ينتهي الكاتب إلى المُبصر في الغاية وكأن البطل يوبخ البائع بحال قوله، ويحك أتُغالطنا؟ فيكون السياق موصولا على أنه صورة لا تخرج عن صورة أخرى خاصة في مَوضَعَ المكان الذي اِشتُقَّ منه الحال أن لا ينطق بزمان ولاّدة، وبهذا يعترف في إثبات حقيقة معاصرة بالمجاز وليس للحقيقة أصل، وهنا حدد الكاتب مصدر الاختصار على أنّ الوعي المطلوب اثباته يتحدد في التشبيه، من حيث لم يكن ائتلاف ضرورة الإخفاء لأنه يعني المقصود من النحو لدعوى الاطراد لا غير، حتى كون الحوار الذي دار بين سي العومري والبائع أختلف بالفارق المعرفي التاريخي والمستوى الثقافي، وما حصل في مراتب العلم والانتماء إلى الأصل بين الرجلين، لا سيما وأنَّ المعنى جاز به الكاتب أنْ ينطقه باِستحضار قدرة المجاز على التصوير في احياء الرمز "ولادة"، مع أنه ساق الإيهام إلى أنْ الأثَرَ في حدوثه وحصوله مقاربة الصورة "ولاّدة" وتطريز صورتها في بنات الحاضر، أي أنه يجعل من الحقيقة تساوي واقعها، لذلك جعل من الاستدعاء وسيلة تفرض خصوبة الاعجاز بمبنيات تشابه الحقيقة بدال المجاز في قوله: " لم يصدق بائع الصبار أنَّ هذه الواقفة أمامه ولاّدة بنت المستكفي"
إذن هي القدرة الهائلة على ملامسة توليد الوعي المنتج للحكم بأنَّ الفعل السردي أصبح دالا على وعي الفن الروائي بالقرينة كونه لا يخالف الاستعارة بشيء، فالخبر التصويري يصاحب واقع أسس على أنَّ الاستسقاء التوليدي للحدث أصبح مطردا عند بائع الصبار وإن كان الشك يراوده، باعتبار أن تفسير موضعية التماس في الرؤية بدت واضحة بعد أن تحدثت ولاّدة في ما سمعت عن اسم المكان قائلة:
"ابتسمت ولادة قائلة: ماذا تعني خنيفره يا شيخ؟ قال العومري: إنها البؤبؤ الذي يضئ ليل المراكشيين المظلم*".
بهذه الحالة فضل الكاتب أن يجئ بتزاوج أمرين، حتى يفرق مضمونه المحسوس باستعارته بين حالتين اختلفتا في الزمان والمكان ليجعل الحال مصوراً من أصله كحقيقة من حيث هو منظور الحكواتي الذي يحاكي المجاز على أنه واقع، وفي هذه الحالة يكون تناص الحالتين يؤرخ ذات قيمة واحدة، أحدهما مشتق من المتخيل النوعي الذي يبسطه الكاتب على أساس الواقعية، والآخر غير مشتق وهو زمن الحياة التي عاشتها ولادة، ونحن هنا في صدد توثيق المشتق من المجاز بصيغة استدلال التوليد الذي نُقلَ من واقعه الأصلي، حتى يُبيَّن فائدة جهته، وهذا ينتج لنا في أمر التشبيه فيقضي حالتين مشبَّهاً ومشبَّهاً به، على أن يزيل حالة الالتباس، وبالتالي يأخذنا المعنى لشيئين الصريح المباشر، وغير الصريح، وكأنك سمعت عن ولادة بنت المستكفي وأنت تعرف هويتها الصادمة، فتكون لغة الكاتب قد تجاوزت العقدة التصويرية مما أحيا وأجاد في التقدير في ثبوت الشيء بسياق الإسناد إلى توظيف الحكاية على أنها أمر تشبه به، وحال الكاتب أراد أن يُعِيرَ ولادة مكانة حية في الوجدان الأدبي خالية من المبالغة والإيهام، وتقديره يكون أنه زاد الإبانة وضوحاً على ترتيب صحيح ونسق مقبول.
أمّا الفارق البياني المندرج تحت جنس أدبي مركب نتبين أنّه يقعُ في انسجام واختلاف المحاكاة على جهة الإضافة، أي أن الكاتب جعل من أمر ولادة اشبه بدفتر مذكرات يسجل عليه تأويلات سياقيه على ما يريد وضعه تلبيساً وتحميلا للأحداث العاطفية، حتى أنه أخذ التوظيف التاريخي وجعله يدل على حالة ممكنة تتسامى بمهارة المجاز على أنه وقع بدلالته من وعي ناتج استثمره الروائي، لذا فهو يدرجه تحت مؤثرات حكم يحاكي خصال البطلة الافتراضية بواقع شخصية زينب فيكون الجمع موفقا، خاصة وأن المكان الممكن قربه من الأندلس تمثل بالاحتمال وتناصه، وأن البطل العومري نديماً لابن زيدون ومترجما مجازيا لولادة بنت المستكفي، لأن فارق الزمن جعل من اللغة العربية تحذف بعض مفاهيمها ومعانيها وتبديل كلماتها كما يحدث بين لغة شكسبير ولغة كيتس، وفي الصورة يبدو أنَّ ابن زيدون مازال شابا قويا له الدراية بأمور القتال خاصة بالاستعارة "السيف" غير المثلم، والمصاحبة التي حررها الكاتب هي تسليط الضوء على جمال بنات فاس المستوحى من ولادة.
وكما عهدنا ابن زيدون ما فتئ في مبتغاه السلوكي العام يتمثل القوة المؤرخة في قيادة شأنه، لكنه بدا في تصرفاته أنه غير واع في مطالبه الخاصة، لأنه واقع في التتميم من الوجه المبالغ فيه، وبهذا التجريد أثبت يونس موضعية التشبيه المُتَخَيل لما يوازي الرد إلى ما لا يستحق المستحق في إثبات الأصل في وضوح المستعار المجازي ببنيته، لذلك قارب الزمن الافتراضي من واقع بوابة قرينه المكاني، لعله يخيط اللحمة بين الواقعي والمجازي بأسلوبية حال دون تفككها بالجمع بين حالتين، خاصة وأن المكان غير خارج عن التصور بين شيئين عن طريق التشبيه والتأويل في مقاربة الشخصية الروحية الذي يؤكد عليها يونس في محاكات الواقع الجنسي المبادل بالمال، فالعائلة المعادلة للأندلس تتطابق والمفهوم الفلسفي القائل "أن الأصل في فصل المادة يعود إلى الانفجارات الذاتية*" ونعني العائلة التي في أغلبها التي تجعل من البغاء سدادا لعيشها، وقد تعمد الكاتب أن يجعل الذكر متفرجا على الجسد الأنثوي عاريا لغرض أوضاعه الشاذة.
يستمر الكاتب في ملاحقة ولادة عبر تصوراته لكي يثبت المثبت على أنه محسوس في الذاكرة وليس في الواقع الذي قد يتصور القارئ العادي حقيقة من حيث وجوده في مضمون المساق، ولكن السياق الروائي يتطلب هذه الحبكة الذكية من الكاتب، على أساس أنه يرجع في المستعار إلى مطلقه، أي الحكم القادر على أن يجمع بين الماضي والحاضر، وتغليب الخلق السردي والسمو بالحكاية على أنها تُنسب إلى الفعل المنظور، القادر على فتح التأويل بالقرينة التي يلتمسها القارئ المجتهد أو الذكي، بمقدار ما أوضحه الروائي وحدد نظامه في ثلاثة عوامل مهمة جدا:
أولاً: أوضحَ بأسلوبه الأيروتيكي المفتوح على اطلاق التحدي لعوامل مجتمعية عدة مستغلاً المكان والتاريخ والنسب والمادة، ليكون تأثيره منصباً على ايثار قناعة المعنى.
ثانياً: إثبات الفعل في سياق الطموح الجنسي على أنه يتضمن نوايا رغبة الجسد، دون أن يتحدد في القوانين المورثة في العادات والتقاليد.
ثالثاً: جعل الحالة الجنسية تتسم بالمتماشي بين الروح والجسد على احقاق إثبات جنوح الفعل نحو عدم اللامبالاة في تحقيق رغبة العاطفة، وتطبيقها مهما وضع لها من الممنوعات والتقاليد بطريق ممارستها، حتى تجعل من تحقيق خيانتها واقعا مقنعا لا يتصور من الزوج أو الحبيب دون تصورها هي.
يستمر الكاتب وهو يدخل إلى المساحة المستعارة في الفصل الثاني من خلال المدخل ذاته في الفصل الأول، وذلك في نغمية لعب الكاتب على مراعاة اتجاه بسط تحفيز الوعي الادراكي بواسطة استدعاء الشخصيات التاريخية، تلك التي تركت أثراً بارعاً سواء أكان في بلاغاتها الشعرية أو العلمية أو التنويرية، وما كان عندهم من سعة الإتيان بموضوعات قل تكرارها في عصرنا، تجلت بسيرورة ظاهرة الحيِّز والانفصام في حالة التوحد الإبداعي، ابتداءً من منشئ ما سيولده الإلهام من تحرير الوعي التوليدي إلى ما تصح عليه النقلة الفنية بحالتيها: التمكن والسكون، وما يتواصل شغفها التوليدي بالاتصال المعني بمزاوجة جعلت من تفريق التاريخ لا يصحُّ بالنوايا البريئة إنما بالأنس والمسرة الخاصة في المعيون السردي، حيث جعل من التورية كمنظور فاعل لتلك الحياة، بما يستشعر الكاتب باتصاله الموحد بالوحي، وفي تلك اللحظة يسقيه حالة الانفصام الذاتي عن محيطه، وقول القرآن: " آتيك من حيث لا تشعر*"
القصة القصيرة:
الأم..
" ظلّت تدعو الله سنين كثيرة.. ولم تترك ولياً من الأولياء الصالحين إلاّ وزارته , وقدّمت له البخور والمجامر والكبريت. وعندما عدت من بلد ناء خلف البحر، قالت: جلبتك صلواتي يا جاحد، يا ناكر ، يا ناسي الحليب واللبن.. ومع الأيام سرعان ما تشكّلت غيمة، وجبل من نار بيننا. وتذكّرت أنّها أرضعتني مازوتاً وكيروسيناً. أهو الحليب أم الدفلى؟.. نسيت الحليب والثدي، ولا زالت بقايا أشواك الصبّار.
كانت تقول لي مرّات كثيرة: يا ليتني لم ألدك.. ليتني متّ يوم ولدتك.. أنت عاق. توقّعتها يوم كنت طافشاً في بلاد الأعراب والأغراب الموحشة الضيقة قادرة على صنع الأشرعة, فأرسلت لها قماشاً أبيض من أمستردام, وثوباً من الشانزي ليزيه، لكنّها مزّقتهما, لأنّهما من صناعة بلاد الكفار، البلاد التي حاربت المسلمين وفتكت بهم ولا تزال تفتك."
يبدأ البطل الذي لا يحمل اسماً في قصة "الأم" يستعرض طبائع وعادات أمه نازك التقيَّة المؤمنة بلله واليوم الآخرة، بعد عودته من بلاد ما وراء البحر التي عاش فيها فتأثر بعادات وتقاليد تلك "البلدان الفاجرة" كما تسميها الأم، لكن ولدها يحاول جاهدا أن يستعطف حبها له وتقديرها بما يفعل ويتمنى لها الخير، وقد جلب لها معه بعض المشتريات من أرقى الأسواق واشهرها في العالم، لكن الأم بقيت تندب سوء حظها على ما أنجبت من ولد عاق، لم تسامحه على ما فعل بها حين تركها وهاجر صوب تلك البلدان حيث المتعة والخمر والنساء والرقص واللهو، فالأم تعتقد أن ابنها فاقد لمعاينة الصح من الخطأ، ومتعديا على معنى الغيرة المصانة لقيمهِ وشرفه، وهنا فهو يمارس الجنس الحرام برغبة خاطر تجول في نفسه، مع علمه بخطأ هذا السلوك الوقح، وذلك أن الإثبات الأخلاقي الذي تلتزم به الأم اتجاه ابنها، يدخله الكاتب من طرفين: الأم والأبن، ويُحَيْد الأب، حيث نجده يستثمر شخصيات العائلة بأحداثها بواسطة التمعن الرمزي لمُسقيات جواز تعليل الحكم المعنوي الذي تطبع عليه الفرد المسلم، عبر تلقين أمتد منذ 1400 سنة، ورأي الكاتب دالاً على وصف مدلول شائع على جناس غير المتصوَّر في جنس واحد، أي أنه يُشَبهُ صفة مجردة بصفة تستحب الإثبات على الشيء، وكأنه اقتصر على الحالتين في ثوابت الحكاية من بدايتها حتى نهايتها في معتنى الصورة والشكل واللون، على مبدأ العودة إلى التزام الأبناء بتربية الوالدين التزاما يحكم القصاص المطلق بأصول النواحي بجوازها الأخلاقي، والقرآن يقول: "واطيعوا الله وبالوالدين احسانا*".
يعتقد الولد أن الإثبات التعليمي الذي تحاول الأم أنْ تتلمذ ابنها على أساسه هو وصفةٌ جاهزة عند الأمهات، ونسميه المطلق والمُقَيَّد والشرط والصرف في لغتهما، لأن المسند التربوي أختلف في لزوم الحُكم في صورته، لأن الأم آمر، والابن منهي، سواء أتحد سببهما بالنية أو أختلف بالرأي، وهذا لا ينفي أنَّ الولد لا يعرف عقل الأم المتحول بعواطفه العرفانية، باعتباره الضمير المُقيَّد العاكس لهمومها وخوفها، خاصة عندما تجد وليدها وقد انحرف عن السلوك المبدئي لتربيتها له، بمدلول تثبيت الأفعال المشينة بتصرفاته، وهذا الإثبات العقلي في نوايا الأم يساوي مقدار تأثيره عليها، حيث نجد خوفها على ابنها واضحاً في ايمانها المرابط الصابر على المقاصد المنحرفة عند من أخلَ بتربيتها مطلقة النيَّات، وهو ما يصح الالتزام به فيكون في رأي الله أنه تعدى على جواز آياته، أي يفترض من الولد أن لا يجعل الوالدين ينفران منه فيحل غضب الرب عليه يوم الحساب، أمَّا ما نراه في الرأي الفلسفي في العلاقات الروحية، أن عند كل واحد منا حاصل الإثبات والمثبت بقرين النوايا الباطنة بيقينها، حتى لو أصبح هذا الفعل كما هو في حال التوريث لأن يكون طبعاً يتطبع به الفكر وهو يساقي التنافر بين أفراد الأسرة. وهنا تكمن فصاحة الكاتب في رسم مساحة التقدير في مثبته اللغوي، أي وقوع وظائف نظامه السردي بحال موقع النقيض لأنه يلقح جمع وصفين على وجه واحد، من خلال مراعاة الفهم في ملموس تناظر الحكاية، ودلقها في مخيلة ما يرتضيه المتلقي العقلي العاطفي، خاصة إذا كان الكاتب متفاعلا نشطا في محاكاة الواقع الذي طرق بابه بتأملاته النافعة، إذن لنقرأ قدرته على هذا التوظيف حيث يقول:
"كان أشد ما يزعجها الحديث عن المرأة والجنس"
وهنا أراد يونس أن يفصل الأم عن الجنس فتصبح آلة تتحرك بفعل روحاني خال من الرغبات والشهوات، ولأن هذه الحالة يحكمها الشرط عن كونه موفياً لبسط أدَّاهُ النثري المُقَرَب من النفس الشعري، بمعنى لا يحصل أن يستشعر الراوي أن المشاعر العاطفية غير مُتفَاوِتة على اعتبار أنَّ المرأة إذا شاخت أصبحت مجردة من الشهوة، حتى لو أنها تتمني أن تلك الحالة العاطفية تأتيها برغبة منها أو لمسة ذكر من هنا أو هناك، إذن فالرؤيا التنظيمية عند الكاتب تعثرت قليلا لأنه لم ينفتح على أدوات تطورية تبين التحولات الحسيَّة من ملموس مصباتها العاطفية النفسية عند الأم، من منظور أن الاستحقاق الفسيولوجي العاطفي عند كل امرأة مزدوج الحكم والتثبيت، أي أنه يقوم على نظرية ردة الفعل الجانبية الجاهزة لأن تُنقض وتُبرم وتنفى حصول الرغبة الشهوانية ولو لزمن قصير يعوضها أيام وربما شهور تساعد على تأويل حالتها النفسية وصرف رغبتها عن حقيقتها المجازية، على اعتبار أن الإنسان أكثره مجازي، وهذا يرجع إلى القناعة في ما ترضيه الذات قضاءً للحاجة، وهو استجابة لإثبات العودة للرغبة العاطفية إذا لزم الأمر، على شرط أن لا يدوم اللزوم حتى يتكرر ظهور الحالة ثانية بين زمن وآخر.
"كانت تتهمني بالفجور والفساد، وتتهم صديقاتي القليلات بالعهر والدناءة.. وكانت تسألني دائماً عن أحوال الدنيا والعباد، فأحدّثها عن علاقاتي مع بعض نساء البلدان التي أزورها, وعن جوعي وفقري ونومي على أرصفة الشوارع, وتحت أقبية المترو، وعن غربتي الكلبيّة, وعن وطني الذي يتّمني, فتحترق أعصابها وتصيح: يا كافر .. يا زنديق.. أبوك قديس ، وجدك ولي من أولياء الله, وجدّ جدك بنوا له قبّة ومنارة, وقريباتك من أطهر نساء المعمورة , وأعرقهنّ حسباً ونسباً. وكنت أتأملهن جيدا , فلا أرى إلا طبولا جوفاء, وسنين عجافا, وقحطاً وبواراً , وغرورا كاذباً, وطهارة روح زائفة, وعنجهية ترتع في أسمالها البدوية والقبليّة والطائفيّة والعشائريّة".
إذا كان الوصف الذي قدمه الابن عن حال لسان أمه على أنه يتلصص على النساء بهذه الفضاحة، سيكون ردة الفعل عند الأم الغضب والشتيمة والعصبية والرجف لا من خوفها عليه وحسب، إنما وكأنها من خلال ردة الفعل المتشنجة تتمنى أن تكون هي من يتلصص عليها الرجال، بينما هي تود لو أن ذلك يحدث لها بصدق في سرها، وأن يكون تكذيباً في العلن، وهي في الوقت ذاته توبخ ابنها وتذكره بقريباته القديسات الطاهرات في الحسب والنسب، ولكن هذا الأمر يخضع للتظاهر لا غير، لأن المرأة لها وجهان أو حتى ثلاثة أوجه عند البعض منهن خاصة في الغاية الجنسية، وفي كل وجه حياة مستقرة ومستقلة ومقدسة في نظرها بدون اعتراف أو إنكار بينها وبين نفسها وهذا ممَّا لا انكار فيه، إذن فالصيغة السردية ربما مكررة عند الكثير من الكتاب ومنهم يونس لأن المجتمع العربي واحد تحت لواء اسمه الدين الاسلامي بواقع اشتراط التنصيص القائم بالنفس، على اعتبار أن نوايا العاطفة مسيرة بإيعازات العقل فهو الأساس الذي يمول قواعد التصرف بالنية والهوى، فالمرجع واحد هو "الدين" والأيمان تحكمه العصبية التي اشتغلت عليها الأديان، وهذه التعليمات تعتمد إفساد العقل التمثيلي بأسس يبنى عليها تطرف مختلفات الأصول التي يُرَدّ فعل باطنها على شكلها، مع أن جواز ثبات النيَّة عند الأم يكون له تأثير برئ على ولدها، وبصمت لا يريد أن يثير شهوة أمه لرغبتها غير المعلنة في نفسها، فتدعي البرود بفاعل القصد والاحساس.
"كانت باردة كالعجين , وتكره جميع الرجال, باعتبارهم خنازير بريّة، ومتوحشين جنسياً, ولا يكتفون بامرأة أو جارية مهما كانت جميلة وشهيّة, ولا تشبعهم كل نساء الأرض ـ على حدّ تعبيرهاـ وعلى الرغم من أنّها تبجّل والدي تبجيلا منقطع النظير, إلاّ أنها لم تكن على وفاق جسدي معه, وكانت في أحيان كثيرة تفتعل الخصومات , محتجة بأنّها ضلع أعوج, ولا تعطى المكانة اللائقة بأجدادها الغرّ الميامين."
مما يجب ضبطه في سياق السرد القصصي يجب أن يكون تثبيت الملقحة التراكمية وجوبا بين الجمل الحاكية للمعاني، وبين فكّ الغرائز بعد استغلاقها واستبهامها العفوي، حتى يتم تسلسل مسقاها من الوحدة الباطنة للموضوع إلى جانب حصر المشكلات باحترام المشاعر، لا أن تتشتت وتعاد المفاهيم الغرائبية الجامدة على مغز واحد، فيكون الوصول إلى المعنى مرتبكا وغير قابل للمتابعة فيما يود طرح المشكلات على أساس حلها، ومثال ذلك التكرار في أسلوبية الألفاظ بدلالة اللغة، وجعلها بنية غير مشروطة للتسامي في الإبانة النوعية ونحوها، فالإعادة في موضوع ما عند الكثير من الكتاب والشعراء لا يختلف بشيء سوى التلاعب في اللغة ومضامينها وقدرتها على الخلق والتمييز، فنقول هذا النص إنما أنشأ اليوم، لكن بحقيقته أنشأ بالأمس البعيد، خاصة في المكان الذي يتم تناول العائلة فيه، التي هي الخاص للعام كما عبر عن هذا كارل ماركس، ومع هذا ومن خلال قراءاتي لكثير من الكتب: الرواية، القصة القصيرة والقصيرة جدا، والشعر، والنقد في كل أجناسه، والبحوث التاريخية وغيرها" وجدتُ تناص مضمون الموضوعات "قائم على قدم وساق" مع تلاعب وحيلة أو دراية من البعض في حكمة تطفو على المادة فتغير ما في شكلها، لكن ليس في مضمونها، فلو أخذنا رواية الأم عند مكسيم غوركي، ورواية بين القصرين لنجيب محفوظ لا نجد سوى تغيير في المبنى والشكل إلاَّ ما تعدى اسماء الأماكن التي يحكم السرد تناول العادات والتقاليد في بنية هذا المجتمع أو ذاك، لأن الناس تختلف باختلاف بيئتها، ولذا فالمجتمعات اختلفت بسلوكيات المنشأ، خاصة في المكانة الشعبية التي اشتغل عليها الروائي المصري بتناوله الفئة الشعبية، على أسس تحتاج إلى تضمين الدلالة باختصاص لغوي معين.
"لا تزال بقايا الطفولة البعيدة تهبّ كالسنبلة في ذاكرتي. وكانت تصرّح سراً وعلناً: بالناقص من الرجال، ليذهبوا إلى الجحيم, لولا أنهم يزرعون الأطفال الوسيمين في أرحام النساء لكانت الخنازير أفضل منهم.
وقال لي والدي: إنّ طاقاتها الجنسيّة قد ماتت منذ عشر سنوات، بعد أن أجرى لها طبيب جرّاح فاشل ، تخرّج في جامعات المعسكر الاشتراكي, عمليّة جراحيّة خاصّة.
أذكر مرّة أصحبتها لزيارة أصدقاء لنا، وعندما وضعوا شريط فيديو لفلم أمريكي ، ملأ صيته الدنيا، وأقامها ولم يقعدها بعد, بدت بطلة الفلم شبه عارية، فجنّ جنونها، وشتمت أعداء الله والكفار في أمريكا وروسيا وجميع أصقاع الدنيا. وعندئذ اعتذر صاحب المنزل، واضطرّ إلى حرماننا من متعة أمريكا وعظمتها الأثيرة, وسحر نسائها اللواتي يعشقن الصحراء العربية الكريمة, وجلابيبها , وجبروت رجالها, وأنهار بترولها الدافقة عزّا وأبّهة وكبرياء هامة ونفس أبيّة."
لاشك أن النفس التي انضبطت تلقائيا تحتاج إلى تضمين رغبات الجسد من حيث مكون الانسجام الروحي المتشكّلْ عضوياً من فلسفة جنسية قاهرة، خاصة وأن الأنوثة من الاستحالة في مكان ما أن تقاوم الذكورة المكون الحقيقي لخصوبتها وتوليد شهوتها حتى تروم ناحيتها، وكأن الإباحة تولد جهة القصاص بالتمني لا بالشح، لأن العقل يطلق مناداة الرغبة المحركة للخلايا الشهوانية، فهو ينتج الاحساس بالرغبة والجسد يلبي من وازع أن يقع بشيء ليس له صفة القادر على رفضه، لأن الحاجة الجنسية مستحقة حتى يكون واقعا بنفسها، وبهذا يبطلُ الإبهامُ، ولأن الكاتب أصر على أن الأم تمتنع عن التصرفات المكشوفة، لكنها وربما لا ترفض الممارسات الشهوانية السرية، بالمعدل الفني في معنى المجمل النفسي المتحول في محصلاته الثابتة، الذي لم يلتفت له الكاتب تبعا لثقافته التعليمية، فنقول إنْ أجاد ووفق في ملائمة علم التصريف وربط المزايا بحاصل العقدة والوضوح فهذا نجاح، وإنْ أخل في استحقاق التخييل ونظيره خاصة في تناول موضوعة علمية كالتي بين متناولنا النقدي، وهكذا علل قد لا يلتفت لها الكاتب غير الشمولي، وقد تؤول بالسروح إلى غير ذي فائدة، وربما تكون مفيدة إذا اجتهد الكاتب بتجاوز الشقوق والانصداع، وجامعَ المقادير الفنية واللغوية بنفسها من حيث أن تكون الحكاية ذات نفع ودراية وقبول واسعاد، فمن إيجابيات الكاتب يفترض أن يكون ملما بقوانين تنوعت بالدقة التقنية، إلى جانب الإلمام بالعلوم الشاملة في ترتيب المضامين اللائقة بمنزلة المقصود بحكم الشيء وبديله، وإن لم يكن في غير هذا فالكاتب يُعتبر غير ملمٍ في جناس التناقض والمقابلة والجواز، بمعطى رصف المعلومات بضروبها بما يحسن بناءه الفني، الذي يجب أن يجعل قارئ نصه قادراً على الإلمام بمتابعة دقيقة بين الشخوص وما يُحسن بأفعالهم، وما يكون مخالفا ومن ثم ناقدا لها، هذا لأنَّ من تثقف على أساليب التجنيس الشامل بنظمه يكون ملماً في تحريك أدواته اللغوية خاصة في النحو والصرف إلى اتمام الدلالة بما هو مجمل من وجهٍ، ومبيّن من وجهٍ آخر، خاصة إذا كان خياله يتمتع بالخصوبة والنضوج، وهنا لابد من ثبوت فاعلية القاص على إبانة التحريض على الدهشة اللائقة، لذلك فالحوار التقني بين العلوم اللغوية والفنية تشكل بنيوية تجعل من المضامين الحسيَّة تفيض مجانسةً وتحريضاً على التلقي النافع، فتكون الملقحة تلك قد شكلت مصدرا باعثا للشروع المقصود الذي يعتني بثلاثة شروط وهي:
أولاً: كونها جمعت الحكاية بالتصوير البيني المعتمد على جمع جهة السياق بخطاب واحد.
ثانياً: حتى لا يقع القياس في الضعف الباعث للشرط المقنع، لذا يجب أن يكون النص مناسبا وضابطاً لكلا الحكمين بالتصرف الدلالي يقيناً.
ثالثاً: كذلك المطلوب من الأديب أن يكون جامعاً لمتطلبات المعلومة الحاكية التي تتشكل بالوعي الجمعي في لغتنا التي قرأنا أصولها الفقهية، والكنايات البلاغية واسرار احكامها.
ومع هذا فقد أستطاع يونس أن يقنع القارئ والناقد على الاستمتاع بقصته المُحوَّلة بوجهتها وتفردها المخصوص بالشَرْحَ والمعاينة التي وجدناها تشابه المحكيات المجتمعية الكثيرة عن حقيقة أن الأبن على علم مسبق بأن الأم تكون طاقتها الجنسية قد ماتت وهذا علميا غير صحيح، فالطاقة الجنسية عند الإنسان تموت بموت الجسد لا غير، ربما تخف نوعا ما لكنها لم تمت، فالأَمرُ اليقين أن الابن أخذ يبحث عن طرق سرية شاذة تعينه على التفرج على فتنة الفتيات العاريات أو شبه عاريات، وتلك الممارسة تستوفي حالاته الجنسية مع بعضهن، بينما هو يمارس عادته السرية برغبة الذات وشهوتها. وهذا يعتبر استحضاراً للجسد الأنثوي بمشتهى منه، لكي يمتع نفسه الشاذة بالممارسة المفرطة. ولكن على ما يبدو يوماً بعد يوم وغسلا للخطيئة، بل لعلها استجابة لطلاق تلك التصرفات، وجدنا البطل ينشد السياق التحولي نادما على تصرفاته في كلَّ مأخذٍ، وقد أبان ندمه بجلد ذاته على أن يحرك النور الأخلاقي في داخله، ولم يعد إلى تلك المشاعر باهظة السمعة، وفعلا أخذ يلتمس تلك النجوى الروحانية تتحرك خيرا في ضميره وتتكشف له عن سيرورة تشع املا في ذاته، وبهذا التحول المعرفي عند القاص الذي جعل من مضمون قصته تدور بتلاقح ضمني في دلالاتها بإيضاح الصورة المولدة لتوظيفها، وهو ما أتفق عليه بالموروث الشعبي برد الخطايا إلى موطن ترك المجال لأبنيةٍ تسر القارئ، خاصة بعد أن أقام الكاتب استعاراته الفكرية المحتشدة معرفة بذكائه اللامع، حين أراد أن يزق التجلي بواسطة رمزية كدليل للتحول المعيون وهو يزق في حقل المعنى خصوبة تشوق الحالة السردية للحكاية، فيقوم بتثبيت النهايات بجديد خلقه الفني المفاجئ، على أساس الإنابة عن الأطر العامة، ليجانس بعضها مقام بعض.

"في الآونة الأخيرة لاحت لها خاطرة.. بدا لها زواجي هاجساً وهمّا، لكني أصررت على أن من أتزوجها لا بدّ أن تكون دافئة العينين, وتكون صديقة, وتحبّ الشعر والموسيقى, و لها صداقات وعلاقات إنسانية كريمة, وصادقة قولا وعملاً, وليس شرطاً أن يكون لها غشاء بكارة, فالماضي ملك لأصحابه, وما يهمني حاضرها النظيف, فصاحت مفجوعة: يا ويلي .. يا مصيبتي.. حفيد المشايخ والقبب والأولياء والقديسين يريد مطلقة! لكني لم أستطع الزواج لأن نساء بلدتي شرانق جميلة محصّنة باللؤلؤ والمرجان, وضفادع لا تفتح فخذيها إلا للمستبدين والطغاة، وأصحاب المكاتب العقارية ، والأحذية الجميلة التي تقود سيارات " البويك الأمريكية " ، و " ميتسوبيشي اليابانيّة"، وسرطانات يتركّز شرفها المقدّس المنيع في نصفها الأسفل, وأكفالها الجميلة, والمصيبة إني لا أريد إلا مطلقة كما تقول أمي" .
نتابع الأحداث المحكية من قبل الراوي وكأننا نقرأ استقامة المفهوم المعنوي للبطل، مع استمرار علاقته المتوترة مع والدته، بينما نجد تلك العلاقة مع والده سلمية أخوية، وهنا نجد البطل يشرح لنا أحوال العائلة التي تُسِّيْر أمورها الأم، خاصة في مواقفها المتشددة مع ابنها، وفي نهاية الحكاية التي التزمت بالقواعد ذات الصيَّغ الفنية للقصة القصيرة تنتهي وننتهي معها دون أن نعرف على أي رأي استقر الموقف لكل من الأم وابنها هل يتزوج الولد من فتاة لها بكارة، أم يتزوج من امرأة فقدت بكارتها في الماضي لمن هب ودب وهذا مقروء في مفهوم الحريات الجنسية، وهو ما لا يفهم منه شيء في المثبَّت الإنساني الدال على النيَّة.


يتبع في الفصل الثاني...


* عن موقع الحوار المتمدن
 
جعفر كمال - حوارية المعنى والصورة

الفصل الثاني

المعيون في مراتب النسق:
الذي يثير القارئ في نصوص يونس هو تمعنه في تحديث السرد المقارن، بواسطة بيان ضبط الصورة التي تعكس تأثيرها الواضح على سقاء جمانة تخيلّها، حيث يتفق المجاز والتشبيه في بنية تلامس تقنية تعلي من شأن تراتبية منزلتها، كما نتبين الفارق بين التشبيه والاستعارة في أغلب أعماله، وبهذا الخلق الجديد يضمن بعدا مؤثرا في ذاكرة زمن التلقي، وفي تحقيق ذلك يكون خليقاً بتوجهه بالإفادة من الفصاحة المعنوية المولدة لعلم المعاني، المتضمنة الحوارية اللفظية بتفاوت جناسي لا ينكس مزايا ومراتب المذهب الذي اعتمده، لأن كل الفروع تنتمي إلى الأصل وإن اختلفت في السبك، فقد جعل نصه واردا على حوارية تؤسس لضبط أحكامه، التي تمد خيوط المبنى بينهُ وبينَ أبطاله سواء أكان المُصلح، أو المُعذب، أو المنبوذ، وبهذه المعالجات نجده يعيد تقويم العلاقة من وارد تسلسلها المعنوي إلى بنيتها المتقدمة على سائر الكثير من النصوص القصصية عند البعض الآخر، وهذا ما يمهد لتميّز بلاغة الكلام عنده في نظامٍ يجعل من الحكاية القصصية أو الروائية يساق الاعجاز بمضمونها على قدر كبير من المقبولية، بحكم تسلسل مفاهيم المنصوص عليه في أعماله، تلك الأعمال القابلة لشرطين مؤثرين في البنية الباطنة للحكاية بمعطي الخلاف:

أحدهما: أمَّا أنْ تكون الحكاية حلوةَ المذاق، وصافية من حيث جودة تركيب الإيماء والإيجاز، بشروط تثبت تصرف واقع الكاتب بقدرته على أن لا يمس نظامهُ الغث والرداءة والاستبهام.
الوجه الثاني: وأمَّا ما قد يكون في التفصيل الآخر- أن لا يكون النظم مشوها ومموها، فيقبح حاله لِمَا فيه من التكلف المستنكر لركته، بصيغ ليس لها منظومة فكرية أو أدبية أو فنية عالية الدقة بحاستها الملبية لتقنية ما.

ومن أجل هذا نجده وعبر مرتكزاته التشخيصية حدد مواطن جمالية تشذيب النظم من حيث التجلي والمشاهدة، وفي الوقت ذاته أبان مكامن القبح فتجاوزه. وفي ذات السياق أعلى من المكننة الذكية في مضمونة السرد التي تتلاءم فرضياتها بمنزلة تنسجم فيها الأوجه كلٍ بتأويلها، بالشرط الذي يداني من تغليب ناظم مساق الكلام على بعضه البعض، وذلك بالتركيز على أداء علم المعاني بوارد تناسقها المعنوي، فكل علم من هذه العلوم قياس تستسقي منه منزلة الأحداث مقدار جموح المؤالفة بما تَتَزيَّدْ به الأخيلة الروائية حاجتها من رتب بالغة الأهمية، بالتساوي في منشدها الذي لا يختلف في جوهره، حتى تُبَرِز الغرض المقصود من طبيعة الحكاية بإظهار غايات الصورة على أنها تداعيات تبدأ بمعالجة العقد المجتمعية على الحد الذي يؤهل الكاتب المثقف أن يضع بصماته الناظرة على ضبط المقصود من تحرير ما كان دالاً على وصف مدلوله، وهذا يساعد الكاتب على أن يقوم بدوره المعرفي الذي يؤهله على حل تلك المشكلات الحيوية بتقديم نصوص مثمرة غاياتها.
وعلاوة على ما تقدم يمكن اعتبار الممكنات الموصوفة بالمجد والعظمة منافاة لواقعية أظهرت أعيانها، وفي هذا الخصوص ينشط دور الكاتب بالكشف عن غايات أوجه حقيقية المكايدة من غرضها ونزاهتها، حتى تتشكل عنده مادة خصبة تتزود بها أعماله السردية، الروائية منها والقصصية، خاصة تلك الأفعال التي تؤسس لأسباب مباشرة في إثارة النعرات الغيبية بواسطة الدين، أو تلك الإيماءات المتمثلة بمعطى ما تقع به "المعرفة" بين الله والإنسان"، إذ نجدها تظهر على السطح وهي تحرض على صراعات الإيمان غير المبنية على مبدأ اعتباري علمي، وهذا الالتباس في المدارك العلمية يشكل ظاهرة مرة تمثل انحطاطا واضحا يقوم على عدوانية همها الوحيد قتل الإنسان بواسطة الذبح المستورد، فبدلاً من أن يتفرغ الإنسان العربي ويجتهد بتوليد الاختراعات العلمية لصناعة مجتمع تنويري في جميع حالاته، وايجاد خلق تسابقي يتبارى على أسسه الإبداع التفاعلي على مستوى صناعة حياة تفيض تزدهر بالمودة والاحترام بين الشعوب، باتجاه اقامة حالة تطورية تضاهي إنتاج بقية شعوب العالم. لكن وللأسف نجد الإنسان العربي مع مرور الزمن يغرق حتى هامته في عيوب ومتاهات ومستكرهات قل نظيرها على امتداد أحداث التاريخ.
الجانب الآخر الذي أود أن أبينه في أدب يونس أنه قضى برفع النكرات من أعماله، فأجاد توصيل قوة محاكاة العوامل البلاغية الظاهرة في اللفظ، بواسطة المرتكز الايجابي في إقناع المتلقي فيما يفيد من المعاني الراجحة لمتطلباته، خاصةعندما أسلم القارئ العام نصا فرض وقوعه الايجابي في النفس، فالنص العلمي في هذه الحلقة الإبداعية لا يضمر لأن الإضمار على خلاف المنصوص المُجَمَلْ بإيعازات تعلي من شأن المجاز التثويري المتضمن الدالة في حكايته، مع أن التوليف الفني ليس إجمالاً لأن الإجمال مطلق، ونصوص الكاتب أي كان لا يمكن أن تكون على حال واحدة، ففيها القمة، والوسط، والمتدني، والإشارة هنا مردها أن يونس تصالح مع هكذا مفهوم، فملقح الرؤية المتخيلة بناتج فضاءات امتلأت عطاءً، لأنه منح الكلام مساقات تجمح التقييد والمشاكلة في الوضع اللغوي المحقق للزوم الذي يتضح بمذياع كتاباته، وفي الوقت ذاته حذف العوامل الشاذة من منظومته الفكرية، التي اختلفت بصورتها على بعض النصوص في الكتابات الأدبية عند الآخرين، ولأجل هذا زاد إلى فنيته السردية الاختصار والإيجاز في مراتب الجمل الحاكية لصورتها، فضخ في تراكبيها المكثفة مضمونا تناسق مع طبائع النحو والتصريف بما تستوفيه كتاباته.
ولهذا نجد فصاحة نصوصه قد تميزت بوعيها لما فيها من الألفة الناظرة بوازع محسوستها التقنية الواضحة، لأن القصة القصيرة هي ابنة الروايةبتناصب دلالي معين، بمعنى أن تكون الحكاية القصصية الأقصر مضغوطة أكثر مما هي عليه في السرد الروائي، أمّا في جانبها التخيّلي نجد أن سياقها المعنوي يقترب بتوليفته من تصريف الجمل قربها من القصيدة الشعرية، لكن لا خلاف في مغالبة تعاين درجة الوعي بين الشاعر والقاص من الناحية الثقافية في القدرات الجامعة للمعرفة، لأنه يمكن أن يكون القاص أو الروائي أكثر اجتهادا في علوم اللغة ونصابها النحوي من الشاعر، والعكس صحيح، وما عداها فهو مباح بينهما في تلاقي الآراء واختلاف المبادئ، لذا نجد يونس أخذ هذا المأخذ وتعامل معه من مبتغى التراكيب اللغوية والبنيوية الفنية في أعماله، وفي المخصوص منها شد من أزر الجملة الملبية لأسرار المناقحة الفنية في الصورة المحكية، فجعل القارئ هو المفتاح المبصر للمعاني ومدى قوة تأثيرها عليه، مع أنَّ القراءة بعمومها تفضل استواء النص المتطبع بسهولة المصبات المندلقة مفاهيمه من الأصل الذي يصاحب مسجوع الكلام الملبي للفهم من مقدار مقروء قيمته، ومثال ذلك وأنت تقرأ تجد أنك إذا تصوّرت في نفسك صيغاً معقدة وأبعاداً ليس لها أول ولا آخر، تتمنى لو أنَّ النص لا يستغفلك بأسلوبيته المشتتة، ولذا نقول ان الكاتب يونس ابتعد عن التشويه والتمويه والركاكة والإسهاب، واحتفظ بأن تكون الألفاظ واردة على قياسات القوة والمناعة والمشاهدة، فتكون تابعة بالمقدارية اللغوية لمفهومها الحسي، وليس العكس، عندها ستكون الصورة أمَّا مراعية لبلاغتها من مسار توليفها عند المبدع، أو مشوهة بجانبها النحوي عند المقلد. خاصة بحساب النص الشرعي المحمول على التغيير الانفصامي لحظة دخوله زمن الإبداع.
من خلال هذه النظرة التي أساقت مرتكزي النقدي إلى حقيقة محايدة، أدرت مقود المفعولات الادراكية الواضحة في أعمال د. محمد عبدالرحمن يونس أْن تتيح لي إبانة تضئ مقدمتي للفصل الثاني من تناولي لهذه الشخصية العربية الساردة والمؤثرة بوعيها الأكاديمي والفني الأدبي، وقد بينت في الفصل الأول أنني أطلعت على كل مؤلفاته الروائية والقصصية والنقدية وكنت في حومة صراع نشب في نفسي بما أحدثته تلك المؤلفات الوجدانية من وعي مختلف في توازني النقدي، فلم أزل أسائل قلمي هل نستطيع العبور إلى الطرف الأغر من مصوغات يونس الأدبية، أم يا ترى سنتعثر؟

القصة القصيرة، والقصيرة جداً:
أحلام مليكة بنت الأخضر في وهران
"على أشرعة الموجة أحزم حقائبي، وأقطع ضوء الأفق . تشدّني الآمال البعيدة وأضواء النجوم الشاحبة ومنارات الميناء. لم أسافر منذ مدة.. بدأت تضعف عزيمتي . وحده شاطئ الأمان بعيد مهجور. أيها الشاطئ الحلم متى تقترب ؟
سماء مارس شاحبة صامتة.. أبواق سيارات أمريكا الفاخرة تدغدغ أحلام نساء مدينتي، الشارع طويل ضيق ، قلب المدينة أسود يتخبّط ملدوغاً بدمائه المسمومة . يأتي مارس محتضناً ضبابه وسماءه السوداء المطيرة.. صوت مطربة شابة تغني وهي منفوشة من جميع أطرافها : "حبينا وتحبينا"، يمزّق الصوت وحشة المساء تزداد وحدانية. تتأمل مليكة ضباب المدينة، تصرخ في وجهها : أوقفي عربدتك أيتها الماجنة ، فأنا بحاجة ماسة إلى حذاء فرنسي وعطور وفساتين، ولا بدّ من أن أحتفل بالأعياد القوميّة والوطنية" .
في البدء نجد القاص أهتم بأسلوبية التعريض المثالي، حيث نجده يحاكي استراقا يبصر في أرض تطلها قدمه فتلك تلمسان، يصفها بالرفعة والشرف والشهرة، وفي معالجة أخرى يظهر أنه أسند عنوان قصته باسم مدينة وهران، مع أن تلمسان أخذت حصة الأسد في المكان، فجعل من ميزتها متحولة تصطاد حقب التاريخ بتوظيف استمرارية أحداثها المؤثرة ايجابا على تطورات الحياة نحو الأفضل. فأفاض بمعلومات عدة حيث أعطيت تلمسان اسماء عديدة ومنها "غرناطة " هكذا بدت المدينة لزائرها من الوهلة الأولى بأثر موقعها الجمالي، بما يحيط بها من أشجار الكروم والزيتون واشجار السنديان، والرمان، والأعناب، تتوسط شوارعها الداخلية، وهي بهذا الوصف وكأنها تشابه مدينة لندن، فتلمسان مرئية باختلاف آراء المؤرخين في تسميتها. ومن هذه الآراء رأي المؤرخ "يحيى بو عزيز" حيث يقول: "يتكون اسم المدينة من كلمتين: "تلم" ومعناها تجمع، و"سان" ومعناها أثنان". أمَّا المؤرخ جورج مارصي يقول: "يعود الاسم إلى الأمازيغية: "تالا" ومعناها المنبع، و "يمسان" ومعناها الجاف، فتكون الكلمة: المنبع الجاف. والرأي الثالث غير معروف حيث وجدنا وثائقه تفتقر إلى السند العلمي والتاريخي، يقول ان اسم المدينة الحقيقي هو "تلمسين" وقد يكون المعنى "جيب منبع".
ولأهمية تلمسان نجد عشرات من أعلام الأدب والفن من المؤرخين والشعراء والكتاب والمغنين والفلاسفة والرسامين استوطنوا هذه المدينة ومنهم:
المغني الفرنسي أوجيني بوفيه، والمؤرخ والأديب الفرنسي بول بن يشو، وتشارلز تواني فيلسوف فرنسي، وواسني الأعرج الكاتب الجزائري، وباتريك بريال مغني وممثل فرنسي، ومسلي شكري رسام جزائري، وعبد العزيز زناقوي أديب شمولي، معروف وهو أستاذ اللغة العربية بجامعة السربون، ومحمد ديب كاتب معروف كل مؤلفاته كتبها باللغة الفرنسية، ومصالح الحاج أحد أهم قادة الثورة الجزائرية، وآخرين.
توسع القاص باستعراض مراتب شرائع الملَّة الخمسة في المدينة بقصد أو بدون قصد، فإن كان قد أشار لها بمعرفته فتلك ثقافة فيها الكثير من العطاء الايجابي، وإن لم يكن هكذا فذاك يعود إلى تجليات الكاتب التي تنده الذات المبدعة أن يساق وعيَّها من منشأ الإحساس الإبداعي في الرؤية المثقفة، وتلك الشرائع هي.. "العقل، الدين، المال، السلطة، والجنس". لذلك نجده وقد أحاط الحكاية بمعطيات تاريخية باقية بقاء الزمن، بطبعها الجاري على أصلها المتوارث من حصاد واقعها المألوف، مع أنه خالط الواقع بالمجاز للضرورة السردية، معتمدا على أن وصف المدينة حاصل على اعتبار الإنجاز الملموس، فيصبح المكان إبداعاً وليس الغاءً للحضارة المتجددة، وعلى أسس هذا الوصف لاقح الكاتب فنيته لتختزل طبائع توالف إضاءات المجاز المحاكي باختلاف المقاصد ذاتية الحكمة بمسعيَّها: الوصفي و جذر المدينة التاريخي، وفي هذا الانجاز نجد الكاتب قد ضخ مسار "الميلو درامي" من مبنى محتواها بقوله: "على أشرعة الموجة أحزم حقائبي" وجملة أخرى: "أقطع ضوء الأفق"، وجمل تتوالى تصب في معالجات المتخيل النوعي بقوله: " تشدني الآمال البعيدة" إذن فاللغة رُسِمَتْ بسياق يوثق تُمَحور ضرورة مستند فعل السرد الفصيح المكثر لغاياته المبلغة للمفاهيم الجامعة للتكميل والتتميم لرغبات يودها القارئ، بقوله: "على أشرعة الموجة".
ولم يقل أشرعة الموج، أي أنه أعتمد المفرد "الموجة" والجمع في الأشرعة على الموجة الواحدة، وهو ما نسميه بالاطّراد كون السبك لا تعسف أو ضعف فيه، فالحقائب تستدعي المشبهة بالسفر، ولهذا فقد حقق تلاقي جناس الرحلة بعاملين هما: الموجة وتعني السفر، والحقائب ترمز إلى الرحيل، وعلى أساس قيمة هذا الترميز أعطى له مكانة تحقق سلطة المجاز على الايضاح والتثبيت. على اعتبار أن سياق اللغة بهذا الخصوص معني بعصامية أدوات القاص، بالقياس الحاصل في ماهية الوصف التعبيري الناتج عن خصوبة الرؤيا الحاكية، التي هي أشبه بجمهرة موضوعات تتفاوت في فنيتها تفاوتا ارشاديا يخصب من قيمة الهجين النوعي المعني بفعل الوصف، خاصة إذا كانت فلسفة الكاتب تخلق إضاءة تستثير تجليات الذات بتفعيل مسرحة الصورة، على أنْ تمنح القارئ مقدارية تستوعب المعاني من وارد مبغاها ومنشدها، بواسطة التحولات النظمية التي أسندت تداعيات المجاز، بما يصح أن يكون الكلام مولداً للذوق، وبهذا يحتسب المجاز نافعا من جهة توليفات ذاتية الكاتب، لا من جهة التأليف، فالجواب يخضع إلى ما بينهما من فرق محسوس بمعية الاستحقاق والاختصاص، ولولا قدرة الكاتب البلاغية على توظيف الصورة الصوتية توظيفا حسياً لمّا تصورنا بالمعيون الملموس أن يكون هذا السبق موفقا بمقدار الحبكة واللغة والمساق، لماذا؟ لأن الاستحقاق القادر على صناعة مصوغات الكلام، هو من يحقق التراكيب الجمالية التي تثبت النقلات الفنية إلى حوارية أكثر مذاقا، عندما يجري الوصف على شيء توضع له المستحقات الملموسة أن لا تخرج عن الأصول الموضوعة لأجلها.

"ردت مليكة أحلامها العريضة وتأملت مدينتها الأثرية العريقة التي مرّ عليها الغزاة فرادى وجماعات هي ذي تلمسان التي تحبّها وتخبئها في شغاف القلب والروح. تلمسان الحصن التي يمرّ عليها الزمان شامخا بهامته ممتطىً ألف جواد لا تعرف كبوة، وعندما يصل إلى ضريح سيدي مسعود يرخي لجياده أعنّتها لتغفو قليلا على وقع انتصاراتها, ولينحني إجلالا وتقديرا لزعيم تلمسان الروحي الولي سيدي مسعود الذي يؤكّد التلمسانيون أنّ الملائكة تزوره مساء كل جمعة وفي جميع الأعياد والمناسبات الدينية المقدّسة. وتلمسان تنزع عظمتها الأسطورية وأبهتها المكللة بنياشين الزمن وأوسمته لتتسربل بباذلات الدرك الوطني السوداء الداكنة، وعصي رجال الشرطة الغليظة المدببة".

مليكة بنت الأخضر البطلة في حكاية يونس، هي سيدة عنوان القصة التي نحن نتواصل في تناولها بالنقد والتحليل والمعاينة، وهي ابنة تلمسان المدينة الساحرة بمناخها وأجوائها التاريخية مازالت تتمثل بالعادات والتقاليد المتأصلة في روحانيتها، مع أن الموروثات الظنية مازالت بغالبها تصورات وتخاريف بالية كقول القاص: "يؤكّد التلمساني أنّ الملائكة تزوره مساء كل جمعة وفي جميع الأعياد والمناسبات الدينية المقدّسة." والمقصود هنا في هذه المعالجة "ضريح سيدي مسعود" وهذا يأتي من قناعة راسخة في عقول توارثت بالإيمان بأن الوالي أو الشيخ أو السيد، سواء كانوا في الحياة أو الممات، والتقدير أن هؤلاء قوم معصومون من الخطأ والرذيلة، لذا فهم محروسون من الملائكة تقيهم شر الشيطان أن لا يوسوس لهم، تجنبا من الأعداء الذين يطمعون بالسيطرة على سلطتهم، وبالتالي فهذه أساطير تداول على تناولها الكثير من الكتاب والقصاصين وحتى الشعراء، ومع هذا تبقى في زوايا الرؤية حجج واختلافات تضيق وتتسع في مقدارية مثل هكذا تصوّرات، وفي المعاينة الايجابية نجد أن بعض نصوصهم أخذت تنشد التباين في سياق الحكاية الموروثة، فما كان طريقا يختلف عليه النص الأدبي إلاَّ في اختلاف تلك التصورات في مفهوم المعالجة، حتى لا تكون محاكاة السلف حاضرة على الدوام في أدواتهم، وعليه وجب وضع منفذ يمهد لاختيار نمط يعزز من أصل النص مع اختلاف التجاذب في مكانة التصور للمرامي التحررية التي تبتعد بأدواتها نحو استقلالية منيعة، ولأنني كنت وما زلت حريصا على أن اتبنى حكم المعاينة والمخالفة والتبيين من أجل الغاية التي نودها من القاص أياً كان في حال تناوله الموروث الأسطوري، وهو أن يجعل من المضمون نبعا يزرعه هو ويسقيه بوعيّه المشبع بالعلوم اللغوية التي توجب أن تحتل المكانة الأهم بكونها الطعم الجاذب للتلقي.

"وسرحت في الفضاء البعيد وفردت أحلامها الشفيفة. وهمست : يا سيدي مسعود، أيها الولي العظيم أستحلفك بمنزلتك عند مولاك العظيم. أستحلفك بأحلام البسطاء والشرفاء وبصلوات الثكالى والمقهورين أن تطلق سراح عبد الله العمروش من قبضة فقيه عسكر الرباط وواليها وزعيم الحشاشين فيها."

لقد أكدتُ في مناسبات عديدة أن سياق النص الفني يكمن في وضوح بيان أصل جذره الجمالي، المُنصَب بمقدار تَمَيّزْ ابانتهُ النحوية ورؤية معالمه الواضحة، والعمل على إقامة الدلالة على المناسب بالقياس المفيد بتفضيل المجاز العقلي على المجاز اللغوي، لأن العقل له السبق في وضع البيان من مبدأ تناول العلوم والأحكام العلمية على اختلاف سياقاتها، لذلك يستدير العقل على ما حوله دلالياً فيعالج المغلق من الأمور المستعصية على المتلقي، ليضع التصورات القابلة لفتح التأويلات والظنون، ومن أجل هذا فالسبق يعود لمَلَكَة الكاتب التحليلية، إذا ما تكلمنا بدواع خلق الإبداع وتفاعله مع اللغة واستنطاق مفاتيحها، وعليه فمن مبدأ هذه الخصوصية نجد يونس قد ألحَ على أن يجعل بطله مجازيا بأحكامه المفيدة للتلقي، عندما منحه تفرده ببديهية تجمع الشواهد البحثية في سلته، فتكون لازمة الحكمة والبأس والبسالة، باعتبارها منفتحة على الوعي المنتج للبنى الأدبية بالمعاينة والتحليل. إذن من مبدأ هذا التشريع جعل البطل شاهدا على أن يستبدلَ صورته الواقعية بالصورة التي عَيّنها الكاتب، وهو أن يجعل من بطله يوصف بالإنسان المجازي لقدرته على نقل المعنى من صورته التي كان بها، إلى حكم ليس بحقيقته. لأن أسلوب مليكة بنت الأخضر تَمَيّزَ بعقلها أولاً على مساقها اللغوي، فكان لابد لها من أنْ تنحو نحو ملاينة أشبه بأطروفة، لعلها تخفف من تسلط "فقيه عسكر الرباط" ربما يفيد في طلبها، وهو أن يطلق سراح "عبدالله عمروش"، وكأن لها فيه مقام يصون قضيته وهي تحاكي الذات من منظور مرآتها في قولها: " وسرحت في الفضاء البعيد وفردت أحلامها الشفيفة. وهمست : يا سيدي مسعود، أيها الولي العظيم أستحلفك بمنزلتك عند مولاك العظيم. أستحلفك بأحلام البسطاء والشرفاء وبصلوات الثكالى والمقهورين أن تطلق سراح عبد الله العمروش من قبضة فقيه عسكر الرباط وواليها وزعيم الحشاشين فيها." إذن من هو عبدالله عمروش؟ سنأتي لاحقا على تبيان هذه الشخصية المهمة عند مليكة.

"تحسست مليكة تذكرة السفر صفراء ملتوية تتأهب لقطار العاشرة. فتحت مجلة "باري ماتش" أخبار سيدات المجتمع المخملي وفضائحهنّ تتصدر الصفحات الأمامية بخطوط عريضة برّاقة. فجأة هبطت ذكرى خطيبها عبد الله العمروش الذي اختطفه جلاوزة مولانا الباشا أعزّه الله وأطال عمره ؛ فعانقتها بصمت وأنشدت لها عشرين موشحا وتوسلت : فرّج الله كربتك أيها الحبيب.
بدا حذاؤها قذرا وكأنَ وسخ العالم وفئرانه وبعوضه وطينه توطن فيه، وأخرجت منديلا من "هاي فاين " ومسحت الحذاء وشكرت الشركة الوطنية الجزائرية للنسيج والملبوسات القطنية لأنها لم تزد بعد في أسعار مناديلها.. ثمّة بقع بيضاء عليه . وفكّرت : كيف يمكن تلميع الحذاء جيدا ؟ فوهران الحلم بعيدة ، ولا بدّ أن يبدو حذاؤها أحمر مقبولا حتى يليق بوجوه نساء وهران المشعّات ألقا وشبابا، اللواتي يجبن شوارع العربي بن مهيدي, وديدوش مراد، وجميلة بوحريد، ليل نهار، ولا تهدأ لقاماتهنّ الممشوقة صارية ولا سفينة ولا ريح. وأخرجت أحمر شفتيها، قرّرت أن تطلي بقاع البياض في وجهه."

تعددت المدن وتداخلت على ما جرى عليه الوصف إمَّا تشبيهاً، وإمَّا لصلة البطلة مليكة بالانتماء المعنوي لمّا للمدن فيها من معنى معنوي، أو لمّا لمليكة في المدن من ذكريات، هذا لأن وصف المدن من حيث هي لا يصحُّ رَدُّها إلى التقنية المبهرة الهادفة لموقعها، فهي مدن قصية بأمكنتها باعتبار بعدها عن قانونية السرد، فيكون الربط المكاني ليس له علاقة في سبك المضمون للحكاية، والمدن هي: "الرباط، مراكش، وفاس" وهذا قد يؤدي إلى الركاكة باعتبار أن الكاتب ذكر الحكم ولم يبنه، ولكنه وفي اتجاه مغاير للصورة حيث جعل من القطار الثيمته الأكثر تجانسا بتداولها المكاني بين الكتاب من وارد مفهومها الدلالي في الشعر والقصة القصيرة والرواية. ومليكة في مقعدها في القطار أحتل تفكيرها موضوعة خطيبها المسجون عبدالله عمروش، وكأي مسافرة تحسست وجود التذكرة الصفراء "الملتوية"، وذلك لو أن التذكرة ملتوية بشكلها العادي لأصبح لدينا يقينا أن القاص يونس أخل في تحديث البنية السردية التي حماها من الخلل المكروه، أمَّا إذا كان القصد إكثار الثرثرة عند المرأة بإشارة إلى كونها ترمز إلى اتجاه أسلوب النظام الملتوي بسياسته مع شعبه، فأصبح لدينا المشار إليه ان سياق البنية في حديث مليكة، باعتبارها ذات شأن تميزت به فردانيتها بالحكمة والتعقل وكشف المستور الذي تتمناه أن يكون معيوناً، نحو أن تجعل حكمتها منظورة دائما في تصوراتها المجازية، وكأنما أصبح لزوما عليها أن تعول بطريقة أو بأخرى على أن لا تكثر من المبالغة في نظرتها للأشياء المحيطة بها، لأن التكثّر في حولها يفسد من حلاوة الرأي.
وهنا يُبَرزُ الكاتب إثبات أمرٌ يحصلُ بقصد المتكلم "مليكة" تأويل معنى الملتوي بمصطلحٍ يعتني بالتفاصيل وغاياتها الخبيثة، وعليه من الناحية السياسية أصبح معلوما قصد الذات الراوية في صورة مليكة، بقي أنْ نقول إنَّ الدلالة اللغوية حصنت تطور نضوج الرؤية الفنية المعبرة عن ذكاء ملحوظ، فالقاص أَوْمَأَ إلى البطلة أنْ تحاكي الطبائع المذمومة في رباط قولهِ: "بدا حذاؤها قذراً وكأن وسخ العالم وفئرانه وبعوضه وطينه توطن فيه" إذا سلمنا جدلا أن معلومة الحذاء تؤل الاستعارة بدلا من المجاز فهذا يجوز من حيث المعقول لا من حيث اللغة، لأن اللغة مطردة هنا في هذه الصيغة، على اعتبار أن النقد الذاتي المتحول خاطب المجاز من وازع تعبيره الذاتي، ولهذا فهو مجاز عقلي ساخر، خاصة وأنه جانس الحذاء الوسخ بالمكروهات من الحشرات وقذارة الطرق، فأدى ذلك بوازع مفهوم الكاتب أن يحرر مرامي سهام القصد من المعنى، فظاهرهُ يكون مقبولا، وباطنه يذم، فيعد هذا على اعتباره مصدرا من مصادر الحقيقة الظاهرة بالدال عليه في البنية الضامنة للسياق، مع أن مليكة والراوي ابتعدا أو تعمدا إخفاء اشتقاق الكنى المعروفة عند العرب على اعتبارها يتوالف الاعتقاد بها مع مضمون البنية الاجتماعية العربية، لأن الشأن المكاني تحدد مفخرته وسلطته ببسط قوة سعة هيبة النَّسب، لذا فالمشبه به في هذه اللازمة هو الرمز الذي يحاكي منشد الاستعارة بلون التذكرة "صفراء ملتوية" ومن ثم " الحذاء الوسخ" و "الحشرات" والفارق العيني المنقوص في حالة التشبيه هو المرسل بواسطة الذات الحاكية، خاصة في حالات السفر، أي أن كل الأمور واردة، فالنشال موجود باحترافية كبيرة، والتائه الذي يبحث عن أنيس، خاصة في المغرب العربي كونها بلدان فقيرة وإن كثرت مواردها النفطية وغيرها.

"يا لله كيف يهبط مارس كل عام ضبابيا غولا يفترس شغاف القلب ، ويلدغ الأماني , ويسمّمها بالأفيون والكوكائين ورمال الصحراء! . وشدّت حزام معطفها الذي بدأ يرتجف لوقع صقيع مارس، لو أنّ مولانا الباشا يطلق سراح خطيبها عبد الله العمروش لأسرعت وطلبت منه أن يشتري لها معطفا وواقيات مطرية تقيها من أمطار مارس الطينية . آه .. أين أنت يا ( العمروش ) .. تركت قلبي يمامة مذبوحة على أرصفة تلمسان وأزقتها الضيقة ، وها أنت تستلذّ سجنك , وتعاقر الشمّا والأفيون , وتلعب الدومينو، وتراهن على أحصنة الأحزاب النافقة.. كم قلت لك إنّ هذه الأحصنة لا خيار فيها ولن تصحو من كبوتها أبدا، لكنّك لم تصدّقني ، وها أنت ترقد وحيدا ثملا بالفاجعة القاتمة، و رفاقك الأشاوس في الأحزاب يبنون الفيلات، ويستوردون الكاديلاك، ويبتنون الإماء والسراري، ويصنعون الدفوف والمفرقعات الملوّنة . تبا للبوليتيكا الخامجة (1) فما أورثتنا إلاّ الفقر وذلّ الحاجة وسيوف السجانين."

تستمر البطلة مليكة تواصل روحانيتها المجروحة بالتمني الموهم للحقيقة، الذي بدى لها واقعا مؤلماً غير ملب لقرارات كثيرة تمنت لو أنها تحققشيئاً منها بقولها: "لو أن مولانا الباشا يطلق سرا خطيبها عبدالله العمروش لأسرعت وطلبت منه أن يشتري لها معطفا وواقيات مطرية تقييها من الأمطار" فلم تزل مليكة تنعي أفعال العمروش ما جنت يداه من النواهي، فشهادتها مجروحة من جهة معصيته قوانين الباشا الباطلة، ومن جهة إلهاب قلبها عليه وتمنياتها ان يطلق سراحه من السجن لعرت له عاطفتها كما يشتهي، لكنه ما زال هناك يعاقر المخدرات، منشغلا بالمعاصي المهلكات وهي "مذبوحة" على أرصفة تلمسان، إذا أردنا الرجوع إلى رأي يحيى بن حمزة حول "مرامي البلاغة المسددة" نجد أن كلمة "مذبوحة" التي تذكر القارئ بالذبح أو التهييج القبيح للموت ودواعيه المؤذية خاصة في عصرنا، كون الكلمة "مذبوح" قد تجوز بالشيء في موضعه وأصله، لكن لا تأتي بالمخلص المنقول لها من أصلها، إنما نجدها تعمل على خلخلة الجناس الملبي لتسهيل النحو الشائق بوصفه، فأجدني لا أتفق مع القاص في اختيار بعض الألفاظ الضعيفة غير القابلة لتوصيل مقاصد مباهجها، فيكون اللفظ فيها مؤذيا سماعه أو تلقيه، فلو اختار بدلا من ثيمة "مذبوحة" من بعض ثيم دالة بجناس معناها مثل: ضائعة، أو منسية، أو مُهمَلَةٌ، لأصبح اللفظ تستوي قراراته المعنوية بيسر وإقناع، كونه الأصح في إبانة النظائر وهي تتلاقى في تأدية القول الحكيم.
فالكاتب العليم يفترض أن يرد الكلام إلى فصيحه وبليغه، خاصة في قرارات نظمه أي أنْ لا يروم موقع التعريف على جهة التصوير، فيقوم بتسليط وعيه الخاص في إثبات الاعجاز حتى يستمر الكلام نافعا على جهة الاستقامة، لا يفتر عن نظمه قارئ، ولا يتصوره ناقد في خلاف، لأن ورود الفصاحة تعتمد إبانة السجال المرن فيما سيق في الحديث، فتكون دلالة المفاهيم واضحة وقد حازت على المواصلة، فأستقر فهمها على جهة المقبولية الخارجة عن المبالغة والاطناب، هذا لأن سلوك البطلة دال على ذاتها العرفانية المتحولة بسجالها الباطني وما تكنه لحبيبها بالمقرر العاطفي دون إنكار، فأصل المشاعر تعنيها ولا تعني غيرها حتى وإنْ أظهرت الخديعة والمكر للحاكم الباشا، ولذا فهي تستطرد احتساب المعنى المحتسب بجواز استمرارية ملامة حظها الكؤود، أمّا ما نود أن نؤكده أنَّ اللفظ البليغ ينتج المعنى الفصيح، كما عبر عن هذا يحيى بن حمزة العلوي، لأن البرهان المقصود يقوم على أساس تأويل الظواهر القائمة على بيان الاحتمال، وليس للتأكيد على بيان دلالة غير ملموسة كما هو الحال عندما يكون الحبيب مُغِّيّباً، ومع هذا فهي تستذكر نصائحها له وهي، وجوب الانكفاف عن السياسة ومضمراتها الخبيثة، والنتيجة القائمة بواقعها هو في السجن، وهي تطاردها الأوهام والعوز والملامة.

"وهران الجميلة بعيدة، يقابلها البحر وحمامات السونا ومقصورات نساء العسكر العظماء، وشاطئ السانية يفترش الرمال مراقباً السماء، ونوارس البحر، وفي الطرف الآخر تشعّ منائر "أليكانت" الإسبانية البيضاء التي اغتصبها الجنود الأسبان يوم كان وزراء الطوائف يتعاركون على غنائم الحروب وسباياها الحسان. قالت مليكة- خذني أيها النورس إلى ( أليكانت )، خذني أيها النورس أغني لك أجمل ما قالته العرب، وأجمل ما لحّنه الأجداد، وأبدع ما غنّته جواريهم الحسان .
لكنّ النورس تأمّلها جيدا، وقال : أيتها الفاتنة الحسناء ، أنا أكره الأحزاب السياسية.
وهمست مليكة- يا للغبي من قال له أني أحبّ الأحزاب السياسية .
ــ أيها النورس ها هي جدائلي وقلبي.. اربطني بجناحيك.. أشعلني وجدي وتوقي، ومسامات قلبي امتلأت بأضرحة الأجداد، ونخيلهم، وهاماتهم السمر.
فقال النورس- خذي نصف هذه السمكة ولا تثرثري.. ألا تعرفن إلاّ الثرثرة ، وتهريب الحشيش يا نسوة تلمسان ؟
وأقسمت مليكة برأس والدها , وضريح سيدي مسعود أنّها لم تهرّب جرعة حشيش طوال حياتها. وهزّ النورس رأسه ممتعضا : هل تعتقدين أني مغفّل حتى أصدّقك، تموتين شريدة في تلمسان، تنبح عليك الكلاب، تتعفّن عظامك، لا كفن ولا سرو تظللك.. مليكة بنت الأخضر.. هنا نور الشمس والمقبرة ، وقاذورات المدينة، وصفصاف تلمسان، تخرجين من رحم الأرض مرتين: يوم ولدتك أمك ويوم تدخلين المقبرة .
ــ أيها النورس ...
ــ أنت تسببين لي صداعا، اسكتي أو كلي نصف هذه السمكة .
ــ أيها النورس.. خذ رسالة إلى حبيبي ( العمروش ) ، بحقّ الأسماء الحسنى, وبجميع نقوش خاتم سيدنا سليمان وطلاسمه، وبالعرش وأسماء العرش، وحملة العرش .
ــ وأين هذا العمروش الأحمق ؟
ـ في سجن سيدي يعقوب المنصور .
ــ أيتها الحمقاء .. من قال لك إني أتدخل في سياسة مولانا ؟
ــ ومن قال لك أيها الجاهل أن تتدخل في سياسة مولانا ؟ مجرد رسالة عادية , ولن تضيرك في شيء .
أنهى النورس نصف السمكة , وطلب من مليكة أن تأكل النصف الآخر , وما إن شمّتها حتى قذفتها إلى قاع الموجة .
وقال النورس ممتعضا : نساء تلمسان يجحدن نعمة ربي . لماذا هذه المدينة جاحدة بطرة ؟ أطعمها سمكة .. تقذفها في وجه الموجة . مليكة أيتها الجاحدة الفاتنة ، هنا مقبرتك ومنفاك , وأرضك الطامثة أبدا . وطفق النورس يمتطي ظهر الموجة آخذاً في الابتعاد".

في هذا المكان بالذات من قصة "أحلام مليكة بنت الأخضر" نجد أنَّ الراوي يحسس انفتاح المجاز على ما أراد تناوله من تغيير في أسلوبية مقادير نسق الكلام، فجاء بحوار يظهر الدلالة على الإعجاب من قلب الحكاية، وكأنه يؤاخي المعقول بغير المعقول بتفعيل قرار مؤثرات المجاز،بعد أن جعل من مشهد المحادثة بين مليكة والنورس يستدعي الحوار بإطلاق آراء تعالج الصورة الخيالية، خاصة ما يتطلب التمثيل انفتاح على ما يوقع تصوير مبنيات الفنتازيا، ليعلي من شأن المستحسن المعيون بمعية الإثبات القائم على التأملات الحاصلة بصيغ الحديث، المُقاربْ من توليف السرد لكن باتجاه تسجيلي، أي أنه حَمّلَ الكلام مجرى خاصا باستخدامه علماً مهماً من العلوم اللغوية، الذي يتبنى تثبيت مجرى الحديث أن يكون أقرب للتصديق، فالمجاز هنا واقع في مناقشةظريفة بين حالتين: العاقل، وغير العاقل. لكن بدون إثبات علمي لأن التطبيق خارج عن قدرات الطير، لكن ذكاء الكاتب تناص مع من سبقوه في هذا الموضوع، لأن العلم يثبت أن هكذا حوار يقترب من التشبيه بالشيء بين العاقل وغير العاقل، وقد يندرج هذا في مفهوم الكناية كونها تجمع الحقيقة بالمجاز، خاصة في مخاوف الطير من "مولانا" ومن الحديث في السياسة، وفي الوقت ذاته فهو بعيد عن الواقع للسلطنة الحاصلة بالإنابة، لأن الطير ينطق بحال لسان مليكة على أساس المستعار من النطق، ومع هذه المثالية في أخلاق الطير الذي حافظ على استقلالية رأيه، إلاَّ أنه لَمَحَ وبخبث شديد على أنه لا يفهم في السياسة في قوله: " أيتها الفاتنة الحسناء، أنا أكره الأحزاب السياسية". وكأن النورس يقول: السياسة لستُ منها وليس مني. وأن الأمر في مفهوم تثبيت الآراء بلغ مبتغاه المجازي على نحو تقديري ناجح، بعد أنْ أقام الطير الحجَّة على نفسه، وهو يصرف خوفه من رجالات الدولة أن يجنب نفسه العلة، حتى لا يقام عليه الدليل فتصبح دعوى، ورد هذه المساجلة ان الكاتب بذكائه فَعَلَ المتخيل النوعي على اعتباره تميَّزَ بعد ان أصبح جارٍيا على مجانسة التخييل بتناوله الأقرب إلى مساجلة المجاز الدال على الواقع، لأن مفهوم المحادثة دال على ما وضع عليه بالنية على لسان مليكة الباحثة عن مخلوق تشاركه الحديث لتفريغ وجعها الذاتي بأحزانها، وليكن النورس.
نجد أن غرض الكاتب يريد مواجهة القارئ بأن لا شك ولا مريّة في الحوار الذي أجراه بين مليكة والنورس، على اعتبار أن فن التطريز يحتاج إلى تعيين المجاز قبل الحقيقة، بينما نجد السرد واقعاً في المتداول القصصي على أساس الكناية الدالة على حقيقة الكلام ومحتواه، وهو وارد على اتم انسجام مع تقنية البنية التصويرية بإظهار الإنابة بكونها تلبي إثبات المعاينة على منظور التعجب بدال دلالاته، والقصد هو أن يحدث هزة في سياق نسق الحديث بين الذات الحاكية والذات المبدعة، وبهذا يكون قد نأى بتأويلاته المخالفة للمجرى التأويلي في قصص كثيرة في أدب الجاحظ، والمقاربات هنا في مجاز هذه الأسلوبية كما بينَ لنا التاريخ ما حصل من حديث بين النبي سليمان والهدهد، وذا مجاز موحي يشابه الحقيقة كما صورته الأديان، مع أنه غير ذلك، وإذا تمعنا جيدا في المطلوب اثباته في أحاديث النبي هو قولهم للإنسان أننا نمنحك الحكمة والقوة والاثبات. كذلك ما تطرق إليه جرجي زيدان في محادثة النمل، وما بين بوذا والكلب الحارس الأمين له وللفيل، وما بين أبي فراس الحمداني والحمامة. وما بين امرئ القيس والبوادي، أمّا القواعد والأسس المتينة في الاحتمال والاستحالة في أداء المجاز أنه يوهم المتعة على جهة الأمر الوارد في شكله، ولا يمنح الحقيقة من مصب واقعها، وبالتأكيد فالمرجع يعود للكاتب نفسه بقدرته على صناعة قوة تقرير الدِّلالة، ومع هذا فالمجاز أشبه برشة الملح على الطعام كما هو عليه في الشعر خاصة وفي السرد عامة. وبقيَ النورس يلاحق مليكة أن تأخذه معها بعد أن دخل عليها من شباك القطار.

"لكنّ النورس أغطس منقاره في صفحة الماء وأخذ سمكة ملوّنة شهيّة وابتسم بصفاء وبهجة وأخذ يغني الموشح الأندلسي : "أيها الساقي إليك المشتكى... قد دعوناك وإن لم تسمع".

أمَّا أين الخلل التنظيمي في سياق أختلف سلَّمهُ السردي الذي يقتضي لزوم الرصف في سياق النحو المفترض أن يضمن جمالية النسق لكي لا يكون الكلام فاتراً، وخاليَّاً من الحكمة التي تراعي وحدة النحو بالقدرة التي يتشكل على أساسها المستقر في المعنى الثابت بقربه من الواقع، حتى نبتعد عن العثرة في ظلام الطلاسم غير المفيدة في لفظ لا ينبئ عن ملقحة لغوية تعلو من شأن النحو، مع أني أجزم أن لولا هذا الخلل لكان يونس في هذا النص أبدع أيما إبداع، ولكي لا نظل عن فهم الفسيولوجيا نحتفظ بحق الإقناع بأنه لا يمكن أن نصفق بكفينا وهما منشغلان. إذن أين الأريحية اللغوية هنا؟ لا شيء، لا هو مفيد في المجاز ولا مقنع في التوظيف العلمي، ولم يعط النحو حقه في الكلام، خاصة الذي نخصه بالشرح هو حيوان، نقرأ في الإعادة:
" لكنّ النورس أغطس منقاره في صفحة الماء وأصطاد سمكة ملوّنة شهيّة وابتسم بصفاء وبهجة، وأخذ يغني الموشح الأندلسي: "أيها الساقي إليك المشتكى... قد دعوناك وإن لم تسمع"
لو تمعنا جيدا بقراءة دقيقة في هذا المقطع وتتبعنا مسار ملقحة ترتيب المصاغ النحوي، فالطير اصطاد سمكة ملونة بعد أن أخترق منقاره صفحة الماء، أي أن فم النورس بما يقضي الواقع العلمي الفسيولوجي أصبح مشغولا بالتقاطه للسمكة، إذن كيف يبتسم ويغني؟ إذا ارتأينا أنَّ الابتسامة قد نفذتها العيون أو تقاسيم الوجه المعبرة عنها، دون أنْ تؤثر على حركة الفم، لكننا كيف نجد مبررا للغناء والسمكة في فم النورس والمنقار الشرس يمسك بها، إذن لابد من قراءة النص خمسين مرة لكي نتبين علاقة النحو ببيان السرد والصورة من مبعث سياقها الفني وسلامة بلاغة الحبكة من وارد محاسنها، مع أننا أولينا اهتماما خاصا في البلاغة النظمية واللغوية عند يونس، لأنك وفي هذا المقطع بالذات فأنت لا يمكن أن تتخيل الأمر على ما هو ليس عليه، فلا له نصيب في المعنى، ولا هو ظنٌ، ولا هو طراز، بل هو تصوير فاتر لا ينزل على إظهار لغوي مفيد يلامس حقيقة ملقحة الكلام ببعضه البعض .

"صباح وردي.. ترفل وهران بثياب الأميرة ((الكاهنة ))، هذه المدينة الحلم العابرة فوق أسوار التاريخ والبحر, يضمّخها ((ماسينا)) بالطيب والسيوف ، ورقصات الفلامينكو. يعلن القطار وصوله .. هنا نهاية الرحلات.. هنا محطّة عباد الله الأخيرة .. هنا يبني التاريخ آخر قلاعه وحصونه وقصوره ، ويعقد العزم على نقل ( أليكانت) على متن الباخرة (( ليبرتي)) لينصبها منارة وشطا ومرفأ فوق رمال السانية الذهبيّة ، بعدها سيرتاح إلى الأبد.
ــ ها قد وصلنا يا عزيزي استيقظ.. أنتِ يا مليكة في وهران.. كلّ دروب العالم مرّت من هنا.. كلّ قادة العالم استراحوا هنا، ولعنوا الصراعات والحروب.. هيّا انهض يا عزيزي .
وهزّت مليكة رأس النورس, لكنّه أغمض عينيه الماسيتين, ونام على صدرها مستسلماً لخلجة الموت الأخيرة .
آه يا الله.. يا أمي.. يا أبي.. لماذا تموت الآن بعد أن وصلنا ؟
وانتحبت.. علا صوتها.. هزّ محطة القطار المركزيّة في وسط وهران، بينما كانت سماء مارس القاتمة تمطر طينا وأسيدا، وأرض وهران تغصّ بقايا قتلى ومنفيين ومدمني سياسة".

تعددت المفاجئات وتداخلت الأحداث والتصورات التي انشأت حالة تبعد مليكة عن محيطها بنقيض روحي جعلها لا يحلو لها وقت ولا شجن، وكأنها ابغضت نفسها من داعٍ في نفسها، وأبعدت شر الآخرين عنها بعد أن وجدت ضمائرهم فاسدة، وما بقيَّ معها سوى الطير يخفف من وحدتها والطير نام، وما بقي من حولها سوى عالمها النفسي المنهار، وبهذا فالتدبير العقلي يعمل على ادراك مطلب النفس الذاتي لتحديد الغاية بالإثبات، وكأن حالها أصبح يلفهُ الغموض والخمول بعد أن تلاحقت الأحداث لتجعل منها امرأة وحيدة تائهة وفاقدة لحيوية مشاعرها، وها هي الحياة بدت لها عبارة عن تقدير وتشبيه وتمثيل، خاصة عندما فوجئت بموت صديقها طير النورس على صدرها، وهنا انتحبت وأعلت من صرختها حتى هزت محطة قطار وهران التي وصلتها للتو، لعلها تستعيد بعض أمل فقدته في تلمسان، ولكن كأن "سماء وهران أخذت تمطر طينا وأسيدا" يا لسوء الحظ أن مليكة أخذت تنعي حياتها بأثر هذه الوطأة الثقيلة فعبرت عن احتجاجها بالرفض المعنون بتزايد مأساتها وخيبتها، وبهذا يعلو الندب والعويل على صديقها الذي شاركها السفر وهو يتدفأ على صدرها العامر بالتنهدات وكأن موته ضاعف ألمها وزاد من وحدتها التي أصبحت كالظلماء يعيشها القلق على دوام محيَّر يُفَعلُ عندها الألم والقنوط.

"غادرت محطة القطار.. قطعت شارع ديدوش مراد، وانعطفعت يميناً, ودخلت زنقة ( عمر المختار) ، وفي آخر الزنقة دّقت باب خالتها.. فُتح الباب.. ودهشت.. هو ذا عبد الله العمروش , خطيبها وابن خالتها يستقبلها واجماً منكسرا، وقد بدت على ملامحه بقايا أزمنة سوداء موشومة بسياط جلادين، ورطوبة زنزانات مظلمة. وتأكّدت أن سنوات السجن الطويلة كانت كافية لأن تمحو ملامحها الخارجية من ذاكرته المتعبة. تأمّلته جيدا.. بدا أشلاء محطّمة وقد تقوّس ظهره.. صفرة الموت علت تضاريس وجهه. وأذهلتها المفاجأة المرّة.. خطيبها عبد الله العمروش، أجمل شباب المدينة، الشاب الظريف الذي حسدتها عليه جميع صديقاتها، هو ذا يقترب من حافة الهاوية.
أسند رأسه على صدرها.. وبكى.. تداعت أمامه سياط السجانين وجلسات التعذيب الكهربائيّة، والأحلام المنكسرة، وخيانة الأصدقاء، وزعماء الأحزاب السياسية الغارقة حتى هاماتها.. آه أيتها الجميلة الحبيبة، لقد سرقوا روحي وجسدي وأحلامي.. أنا الغريب المنفي، وأنت سكني ووطني وجميع أحلامي الباقية".

لكن كما يبدو أن تغيرات أحوالها أخذت قليلا فقليلا تتحسن بعد أن وصلت مدينة وهران حيث أصبح للحياة معنى تحسه ينبض داخل صدرها، وما أن ترجلت من القطار حتى فاجأها بعض شعور وجدته مختلفا فأخذت تتمتم في ذاتها: " هنا نهاية الرحلات.. هنا محطّة عباد الله الأخيرة .. هنا يبني التاريخ آخر قلاعه وحصونه وقصوره." وفجأة أحالت هذا الشعور أن يُعَوَضْ بأثر من جمالية المدينة وتاريخها العريق الممتد جذره في ماض وحاضر الزمن، لكنها ربما لم تتحس في جوانبها ما يخبأه لها البخت من مفاجأة مذهلة، وما أن دقت باب منزل خالتها حتى أنفتح فبان منه عبدالله العمروش وكأنه شبح أذاقه زمن الهوان والجوع مذلة. كادت المفاجأة أن تلقيها على الأرض لكن شوقها إليه أبقاها واجمة متحيرة في نفسها وحال قل بها يردد جعلت نفسي فداك يا مبسمي، فما طبتُ نفسا في زمن الفراق بعدك.
الأشاوس
"أرجلهم طويلة تضرب الأرض بقوة، لا يسافرون، يحبّون النوم كثيرا، عيونهم زرقاء فارغة، جباههم مفلطحة عريضة، يتاجرون بالسكر والويسكي المغشوش، قلّما يبتسمون، يمارسون الحبّ مع البحر والإسفلت والقار والصحراء. لهم نساء يبتسمن من مؤخراتهنّ وأكفالهنّ، قلّما يجتمعون مع بعضهم إلاّ عندما يلعبون الكارت والدومينو، يعشقون الركوع كثيرا، لكن ليس لوجه الله تعالى، لا يقرؤون القرآن إلاّ ساعات الشدة، يشربون البحر والنهر، يبيعون السور القرآنية، يبتسمون أيام السبت والأحد، ويمارسون الحبّ فيهما، داخل فيلاتهم الفاخرة، على شكل طقوس جماعيّة طوطمية، يحبّون الرياضة كثيرا ويشجّعونها، يضربون الطبل ويكرهون موسيقى الغيتار والعود، يتاجرون بمحارم الكلينكس وعلب التبغ المهربة، ويبولون على النخيل والآس، يحتقرون السفن والموانئ والنوارس، يكرهون الزراعة والأرض ويمجدّون التجارة، ينامون الثامنة مساء، يبدّلون أسرّتهم ونساءهم وأحذيتهم في أكثر الأحيان".
تعيدني هذه القصة القصيرة جدا بالذاكرة إلى زمن 1980 حينها كنتُ أقيمُ في بيروت، وقتها عرضت سينما "البيك ادلي" الفيلم الإيطالي الشهير " قذرون بشعون وأشرار" لا أقصد في هذه الاشارة إلى تناص معنوي في حركة المضمون الأدبي عند يونس، بقدر ما أجده تداخل التأثير في تصوير الشبه بين مختلفين في الجنس، الذي تعيشه بعض المجتمعات الموغلة في الرذيلة والانحطاط، حيث لا قيَّمْ ولا نظم إنسانية تحدد السلوكيات الحسنة والمواهب التي تطوَّر المثاليات المتقدمة في علاقتها العرفانية، وقد اخترتُ هذه القصة القصيرة جدا وقصصا أخرى لأهميتها، كونها تطرح رؤية مركبة للأشياء المُحركة لعوامل الأفعال وجعلها تضع كل ذات ما حملت، عبر حوار الذات الجمعية بواسطة تفعيل قصد الإساءة، فربما هي شهوة لتغيير سلوكيات اختلفت أنظمتها باختلاف قوانين فسلجه العقل، التي هي كثيرا ما تعبر عن افتقارهم للعلوم وفهم مدارك المعرفة. وكأن هؤلاء الناس أرادوا أن يتطبعوا على نظام الاستهانة بالموروثات الإنسانية، فنجدهم يصدون عن الطرق المؤدية لمحاسن الحياة، من حيث أرادوا الضُّرَ بموجب الذم، وعلى ذلك استحسنوا شرورهم الطاغية على أمثالهم لأنهم يتمثلون بالكراهة.
ومن الأمثال لأمثال هؤلاء كثيرة ومنهم "قوم لوط" وهنا مثال معاصر نعيش أيامه بما يسمى: "الدولة الإسلامية" في قول القاص: " يبدّلون نساءهم" أو ربما يبادلون أسرهم، إذا اعتنينا بالمفهوم الذي يتبناه السرد على أساس النحو المدوَّر للمعنى، والقصد هو إفساد الأخلاق المتوارثة لصحبة المحتقر والمذُل، تلك التي تنفي الزكي وطبائع الفخر والعِزَّ، ففيهم الذليل المخصوص بطبعه الذي تجده كالمريض، لأنه فقد الفطنة على التصرف الذي يُحَسن من وجوده بين الناس، فواحدهم يُكره المُحَدَّث المُلْهم المقتدى الذي يحترف الابتكار نحو تطويع المبنى الصحيح والمعقول، خاصة في المجتمعات المسحوقة حيث نتبين هؤلاء القوم يعيشون بمستوى ما تَساوَوْا فإذا تشابهوا تباينوا في تنزيل الوجود منزلة العدم، لأنهم يتمثلون بظاهر الأمر المشين على أنه مقنع، ويتصفون بذات المحمل الوضيع، على اعتبار ايمانهم الضديد الذي ينافي مقدار القيمة الأخلاقية المتشابهة بجوهرها، مع التقريض المنتج للسقوط، وهذا يذكرنا بالاختلاف في مفاهيم كتب الأزهر غير الشريف، خاصة في كتاب "شرح التلخيص" للبرقوقي. وقد احتج عليه محمد عبده في متبناته التي احاطها العلمانيون بالرضا، وبهذا المتناول نجح يونس في الكشف عن هذه الملة المؤسسة لحياة تؤيس بتطبعها على الكراهة المرة، أن تحدث إسقاطاً يتداول بأفعالهم المتجذرة في نفوسهم.

بحر المدينة
"شاطئان يحتضنانه، الغربة والمساء، الموجة وبرميل الزبالة، شاطئ خلفي يعكس قاع المدينة، وأمامي يعشعش بأفراح البحّارة وطقوسهم، للرجل شاطئان ساعد زوجته ورأس صديقته، ينجذب بطن النورس صور المرأة، وصوب بطن السفن المهرّبة إلى قبرص وأثينا. لا شيء في هذا البحر إلاّ زجاجات الفانتا والكوكا كولا ومايو هات النساء "الخرومة"، وأشعة غريبة من الصعب تحديد ماهيتها".
لا شك أنَّ تقنية الحبكة في القصة القصيرة جدا تعود إلى موهبة يمتلكها الكاتب المقتدر، ونظير هذا فأن التفريع البلاغي هو استظهار لمبنى أدوات المعاينة لتتميم أنسجة السبك، على اعتبار أنّ التكثيف يعني صلة التفعيل الذي يؤتي بالأحداث على جهة تقرب التفضيل من إثبات التركيز على المعنى، لذا فالقاص يحتاج إلى دراية ووعي في استخراج سياق مكثف في جمل مفتوحة على بعضها بنسيج محاك بدقة تحكم على جهة العلاقات ونظم الغايات والوسائل، التي تعرض حسن التأليف بموضوعية أكثر فهما وقبولا من القصة القصيرة، خاصة إذا أبصرت تلك الحكاية تأثير المجاز في بنيتها في تطبيق المفصل بالتأملات لإعطاء تراتبية المدى التخيلي قوته بتقريب المشاهدة باليقين، على اعتبار أن دخول المجاز في النص القصير المكثف يسهم في إحاطة التراكيب اللغوية المركبة مبعثا حسياً، فيجعلها مقربة من الشعر أكثر مما هو إلى السرد، حتى تنصرف تنزيل مؤثرات النص على قارئه كنسخة قيم عابرة للخمول والملل، والعكس صحيح تكون أدوات التعبير أكثر مرونة وأجلى إبانة للكشف عما يُمثَّل وما يُخيَّل، وفي النهاية يحتسب تضافر النص غير مكروه بتفاعل وعيه المحسوم لصالح يندرج تأثيره تحت حكم يخلوا حاله من الشتات، إذن هذا هو النتاج الصحي للكاتب عندما يتبنى مفهوم أن يشبه الشيء بالشيء في المفعولات اليومية، فيقسم الأدوات ثم يجمع مضامينها، ثم يعود يجمع المعاني ويقسم الصوَّر، وبهذا نستطيع القول أنَّ يونس جمع بين الصورة الحاكية بتعيين صوتها المحسوس، وبين الخلق في التشبيه ضمن الوجود المحسوس، وبهذا يكون قد لاءم ائتلاف المحكيات بطابع تصويري يلطف الممنوح المكاني جماليته .

جانيت
"يأخذها الشعر المجدول , وتتهادى في شورا ع سوسة .. ركبت البحر ذات ليلة وسافرت مالطا ولم تعد .. بكتها الشوارع والممرّات الهوائية وأزقة سوسة ، وطواحينها العتيقة .
تعرّفت عليها في ملهى الفهد الليلي , كانت طاولتها محاطة بالفراشات والرؤوس والقبّعات والمواعظ،
وفي مساء اليوم التالي دعوتها إلى العشاء في نزل حضرموت بسوسة , كانت شفيفة تغوص بأحزان الرجال وخيباتهم وغدرهم , ولأول مرة في حياتي اكتشف امرأة بهذه الجرأة . قالت : إنها أجرت أربع عمليات كورتاج بفضل خسة الرجال ودونية أصولهم, وأكّدت : أنّ جميع الشباب الذين عرفوها كانوا معجبين بها, وكانوا يلهثون مسعورين وراء مرافئها كسفينة تائهة .
ما أبعد المرافئ القديمة يا جانيت .. وما أصعب السفر إليها ! فبطاقات الطائرة نار وجرائد وأحلام غائبة أبداً , ومجلات جنسيّة مثيرة ومحرّمة".

اختار الكاتب الوصف كحالة تعبيرية يعالجُ فيها مركزية الوعي المنظور بملهاة قدرته على توصيل الصورة الذكية للقارئ على طبيعتها، وهو يصب العلاقة العاطفية بين مختلفين الجنس وظاهر علاقته الاجتماعية المنضبطة، بواسطة مراعاة حركية اللغة المبصرة في مبنى النص الأدبي، لذلك أجاز الائتلاف في تصوير المدن والبحار ووسائط النقل والطيور وجعلها تنسجم مع السياق العام للنص، حيث أنه منح التشابك الوصفي لغة تستنطق الأشياء كي تفضي إلى مسار حركية الصورة المعاينة لما حولها، حتى أنه أفاض لمرونة التشبيه وجعله أكثر تمثيلاً في الكشف عن الدلالة الذي يلتئم وعيَّها ضمن المأخذ التصويري في حركة الأبطال غير المعلومين، ولذا فالراوي أصبح مشمولا بطبعه وشكله وابتكاره بالحد الذي يمول الأحداث من ذاته العارفة حيثما تكثر المشاهدة، لكن في هذه القصة بان اسم البطلة "جانيت" وهي تختصر الزمن بعلاقاتها الممهورة بالجنس، الذي أدت نتائجه على أنها حملت جنينا في احشائها أربعة مرات واجهضتهم، وتمر تلك الملهاة على حياتها وهي تنتقل من حضن ذكوري إلى آخر، حتى جاء أحدهم وهو البطل الذاتي، تعرفَ عليها في ملهى الفهد الليلي وأحسن معاملتها، بعد أن تفجرت الفحولة في رأسه فلم يضيع وقته حتى تدنى منها بعد أن احتوته بجمالها، وبدوره قدم لها كرم النجاعة، بينما هي قدمت له مأساتها مع الرجال ممن قبله، وفي صباح غير معلوم رحلت ولم تعد تلك الأمنية عند صاحبنا الذاتي واضحة، خاصة بعد أن وجد سلوكها ما قبله يشكل امتداداً لما بعده، لأنها تسعى للبحث عن حرية أوسع مما يعتقد هو.
أحلام جامحة
"أحذت كأسين من الشاي الساخن، وجلسنا في كافتيريا الجامعة، سأبني بيتا ومدينة وزورقا وأقدّمها خاتما مفروشا بحبات المطر لصديقتي التي أخذت تقرأ الإعلانات المعلّقة الملوّنة في الكافتيريا عن المواسم والقبب والنضال.
قالت: هيّا تكلّم حدّثني ماذا تريد مني؟
لم أكن حقا أعرف ماذا أريد من هذه السنبلة النقيّة ، إلاّ أن وجهها الدافئ كان يحاصرني فتتكسر رغبتي، ويضيع الكلام فتجدني ألوذ صامتا بقولها الذي هزني: "ماذا تريد مني؟ عيني أقدمها لك".
بدأت أرتجف وقد شحب وجهي، وتلعثمت في نفسي، دارت أفكاري، ودارت الكافتيريا, وفجأة وجدت نفسي هامسا: أريد فقط أن أرى حلمة ثديك.. ولم أصدّق نفسي لهذه الرغبة التي انفجرت بشكل وقح ومن دون مقدمات.
قالت: وحياة عينيك ستراها. وتساءلت مشدوها: كيف أن رجلا شرقيا وامرأة شرقية يختصران طريق الألف ميل بخطوة واحدة؟ وقلت: متى؟
قالت: متى تشاء، فكّرت جادا في أن أطلّق زوجتي التي لم أشاهدها إلا ليلة الدخلة، وكنت مستعدا أن أصفع مدير الجامعة إكراما لعينيها, وعميد الكلية الذي رسّبني ثلاث مرات في مادة الأدب الأجنبي المعاصر".
في هذه القصة القصيرة جدا نحط رحالنا على جنح قصة شاب مكبوت في شهوته المتفجرة في عينيه، وما تعدى فهو طالب خجول غير مجتهد رسبَ أو رُسِبَ في مادة الأدب الأجنبي مرتين، لكنه كما يبدو في هذه المرة تجرأ بعد أن وجد الفتاة السنبلة كما اسماها في الكافتيريا تقرأ لوحة الإعلانات، فتاة لا نعرف اسمها لكنه ركز عليها طويلا فأحست به، كانت أكثر شجاعة منه بعد أن سألته ما يريد منها، كان طلبه بريئا، يريد حلمة نهدها ربما هو عطش للثمها، وبدون تردد وافقته على طلبه وتركت له تحديد الوقت، إذن فالفتاة بدت وكأنها صاحبة تجربة مع الرجال وقد تكون سبق وأن وزعت مشاعرها على أسرة ذكورية تمتع مناطق الشهوة لعلها تُشبع رغباتها الآسرة، وكأنها تجد هذه الحرية الفردية طريقا تتحدى بها المجتمع الاسلامي الذكوري المتخلف بطبعه، والذي جعل من المرأة سلعة رخيصة تباع لغاية الجنس متى شاءوا، وكما يقال: "لكل فعل رد فعل" وما كان من الفتاة التي اشتهاها الطالب التي أخذت تعرض نفسها بسهولة لتنفيذ مباحه بقولها " متى تشاء " بعد أن وجدت الطلب حميميا وإنشائيا، فهي لا ترى أن حلمة نهدها صعبة على أن يراها أو يرضعها الطالب البريء، فهي متعة الفحولة ومتعة انوثتها، وحلمتها مبغى يتيح لها جنون الشهوة، إذن لمَ تمنعها عنه.
يعتبر القاص والروائي الناقد د. محمد عبد الرحمن يونس واحداَ من الذين حققوا بصمة عطاء فكري أدبي باقتدار مقروء جيدا، بعد أنْ أذاع في أهمية متناوله الأدبي مساحة نوعية، وللذي يعرفه فهو متميز في نفسه عن سائر معاصريه، بوازع لغته السادرة التي تكسب الكلام ملاحة الفصيح المعرفي بملهى بيان مبعثها، وموسوعيته الثقافية تليق باحترافية المبدع، شأنه شأن المحدثين في جمالية النص حيث جعل من الجملة القصية مسوقة لما قبلها من أجل تأكيد الملقحة العضوية في مفهوم الكلام الدال على تأويل المضامين، ولي أن أقول أنه مطمئن ومقنع في علمه ومؤلفاته التي أفاد نتاجها في استخراج المباني المفيدة لأجيال استفادت وأفادت من ثرائه الفكري الخصب، ولي أن أقر بشموليته الإبداعية في ترتيب مباهج اللغة وتركيباتها العلمية. وفيما يلي اصداراته التي عبرت عن منتجه النوعي.



صدر للمؤلف:
1ـ آخر تحليقة لنورس مهاجر( قصص قصيرة)، دار سعاد الصباح ، القاهرة 1991م.
ـ الطبعة الثانية، دار مكتبة الأسرة، القاهرة، 1996م.
2 ـ ملكية والنورس ووهران( قصص قصيرة)، دار المنارة، سورية، 1993م
3ـ رقص سماح على أنغام زرياب( قصص قصيرة)، دار النافذة، بيروت 1994م.
4ـ اللوتس(قصص قصيرة)، دار الكنوز الأدبيّة، بيروت 1995م.
5_ تأثير ألف ليلة وليلة في المسرح العربيّ الحديث و المعاصر( دراسات نقدية)، دار الكنوز الأدبية، بيروت 1995م. ( بالاشتراك). مع د. منذر رديف العاني ورجاء إبراهيم سليمان، وعبد الكريم شعبان) .
6ـ ولاّدة بنت المستكفي في فاس( رواية) ، دار الكنوز الأدبيّة ، بيروت 1997م.
7 ـ الجنس والسلطة في ألف ليلة وليلة ، مؤسسة الانتشار الأدبي، لندن 1998م.
8ـ رحلة بكين ـ ملامح من الصين المعاصرة، دار السويدي، أبو ظبي، المؤسسة العربية للدراسات والنشر، بيروت، الطبعة الأولى 2004م.
9 ـ الاستبداد السلطوي والفساد الجنسي في ألف ليلة وليلة، الدار العربية للعلوم ـ ناشرون، بيروت/ مكتبة مدبولي، القاهرة، الطبعة الأولى 2007م.
10 ـ المدينة في ألف ليلة وليلة ـ ملامحها الثقافية والاجتماعية والسياسية ، وزارة الثقافة، دمشق، الطبعة الأولى 2008م.
11 ـ نساء القصر في ألف ليلة وليلة ـ الفكر والسلوك، منشورات دار مجلة مقاربات ، المغرب، فاس، الطبعة الأولى 2010م.
12 ـ مقاربات في مفهوم الأسطورة شعرا وفكرا، ( دراسات نقدية)، نادي الباحة الأدبي بالسعودية/ و مؤسسة الانتشار الأدبي، بيروت، الطبعة الأولى عام 2011م.
13 ــــــ الأسطورة، مصادرها وبعض المظاهر السلبية في توظيفها، دار الألمعية للطباعة والنشر ، الجزائر، الطبعة الأولى 2014م.
14 ــــــــ من اللاذقية إلى بكين، الصين في ظل سياسة الإصلاح والانفتاح، دار الألمعية للطباعة والنشر ، الجزائر، الطبعة الأولى 2014م.

الفهرس
تقديم الدكتور جمال بوطيب
أحلام ملكية بنت الأخضر في وهران
الأشاوس
الأم
المنقار والبؤبؤ
النملة
بوابات المدينة
جانيت
ذكريات ومواجع على ضفاف عدن
سفر ومواجع
شتاءات في المنفى
قلائد مدينتنا
كوابيس
ملاحات في عيون حالمة
وضبطني البحر
أحلام جامحة



* عن الحوار المتمدن
 
أعلى